ولو كان يستدير كالإنسان في نقطة؛ أي هو واقف في محله؛ لأمكنه فعلا أن يسدد إليه الإصابة، ولكنه لا يستطيع أن يستدير إلا إذا صنع بجسده دائرة كاملة، وحين يتم الدائرة ويتهيأ للانقضاض لا يجد المصارع هناك أيضا؛ إذ يكون الأخير قد انتظر حتى استدار الثور ثم غير من موقفه بطريقة على الثور فيها أن يصنع دائرة كاملة أخرى حول المصارع، دائرة المصارع مركزها، المصارع الذي ينتظره حتى يقارب إكمال الدائرة ليندفع بسرعة وخفة وينحرف جانبا مغيرا من مركز الدائرة، مطالبا الثور أن يعود ليصنع دائرة جديدة وهكذا.
سلسلة من المواقف تكون سلسلة من الدوائر التي يدور فيها الثور محاولا في كل مرة أن يواجه المصارع ليسدد له طعناته بينما المصارع لا ينيله غرضه، بحيث كلما قارب الثور إتمام الدائرة والهجوم غير المصارع من موقفه قليلا لكي يتحتم على الثور أن يصنع دائرة أخرى ليواجهه، ولا يتحقق هدفه أبدا لأن المصارع يغير دائما من موقفه في اللحظة المناسبة.
ذلك هو الأساس أو المبدأ الذي منه تتشعب المباغتة في المصارعة، ويختلف الميتادور عن غيره، بحيث إن أبرعهم جميعا هو ذلك الذي يجعل الثور يتحرك أكثر وأقوى حركة في مقابل أقل حركة ممكنة منه.
ولذا كلما انتظر الميتادور حتى اللحظة الأخيرة لإكمال الدائرة ليغير موقفه أصبح على الثور أن يتحرك أكثر؛ إذ لا بد أن يصنع دائرة كاملة ثانية، في حين أنه لو تحرك في وقت مبكر ففي استطاعة الثور أن يوفر الجهد فلا يضيعه في إكمال الدائرة الأولى، ومن فوره يشرع في صنع الثانية. وكذلك كلما قربت المسافة بين موقف المصارع الأول وبين الموقف الذي ينتقل إليه، ضاقت الدائرة التي على الثور أن يصنعها، وبالتالي بذل جهدا أكبر كي يجعل كتلته الضخمة تلك تتحرك دائرة داخل هذا النطاق الضيق المحدود.
وهكذا يعتبر المصارع المثالي هو المصارع الذي يستطيع أن يتأخر في حركته إلى أن يكاد الثور يلامسه، وإذا تحرك مغيرا موقفه تحرك أقل مسافة، أو أروع وأروع حين لا يتحرك بالمرة، وحين يظل واقفا في مكانه بحيث تتضاءل المسافة التي يتحركها حتى يصبح الفرق بين مواجهة الثور بصدره ومواجهته له بجانبه.
إن الهدف من مرحلة الميوليتا كلها هو إرهاق الثور إلى درجة الاستسلام.
وهذه الحركات الدائرية المحدودة أشد إرهاقا للثور من أي جري منطلق في أنحاء الساحة؛ ولهذا فبعد بضع حركات كهذه يبلغ الإرهاق بالثور المطعون قبلا، النازف اللاهث المغروس في ظهره ستة أعلام تنخر عظمه وتؤلمه، يبلغ الإرهاق به إلى حد أن يكف عن الهجوم أصلا ويقف في مكانه لا يتحرك، وحينئذ تصل ثقة الميتادور بنفسه وبما ألحقه بالثور من إرهاق حد أن يغادره موليا إياه ظهره محييا الجمهور الذي تدوي الساحة بهتافاته.
وكنت قد رأيت مرحلة الميوليتا تمر بهذه الخطوات أو معظمها. رأيت الثور يدخلها كتلة حياة تنفجر بالحركة والوحشية والنشاط، وبطريقة يبدو وكأنها ستظل هكذا إلى الأبد وكأن لا شيء هناك قادر على النيل منها. ويظل الأمر كذلك إلى أن يدخل الثور فخ الدوائر اللانهائية، ولا تكاد تمضي بضع دقائق عليه فيها حتى ينقلب لهثه إلى فحيح مسموع وزبد، وحتى يمتد لسانه شبرا من فمه تعبا وإجهادا، وحتى يكاد يسقط من تلقاء نفسه إعياء. بضع دقائق فقط يتولى هو بنفسه قتل نفسه فيها تعبا وإرهاقا، وتتكفل رغبته الغاشمة البدائية في مهاجمة كل أحمر أمامه، تلك التي تدفعه للجري المهلك حاشرا نفسه داخل دوائر أضيق فأضيق ساعيا وراء سراب العباءة الحمراء، تتكفل هذه كلها بإحالته من كتلة حياة متفجرة إلى حياة خامدة، إلى مجرد حيوان متعب لاهث لا فرق بينه وبين الكلب أو الخنزير. رأيت هذا يحدث للثور الأول والثاني والثالث، أما هذا الثور الرابع ومع صاحبي الميتادور؛ فقد رأيت ما لا يكاد يصدق.
الفصل الحادي عشر
كان الشاب ينصب فخ الدائرة بإحكام ويظل كأعتى ميتادور إلى آخر ومضة في اللحظة، إلى حين تمس قرون الثور العباءة وتشتبك بها أحيانا، وأحيانا تمزقها قبل أن يتحرك جانبا ليتفادى من الهجمة من ناحية، وليصنع من نفسه هدفا آخر لهجمة ثانية، وبالكاد لا يتحرك متبعا في هذا أخطر القواعد مجازفا بنفسه، متهورا في اتباعها؛ وكل هذا ليستنفد طاقة غريمه بسرعة، وليجبره على التحرك بكتلته الضخمة داخل نطاق أضيق دائرة ممكنة إلى درجة كان ضيقها يشل حركة الثور أحيانا، وهو يضغط نفسه ويقترب بنصفه الخلفي من نصفه الأمامي اقترابا تتداخل معه أطرافه، وكل هذا ليصغر من حجمه كي يصنع بحجمه الصغير أصغر دائرة. إنها ليست عملية إجهاد فقط؛ إنها جهاد عارم القسوة والعذاب لكأنك تعتصر نفسك بجبروت ضاغطا جسدك ليتداخل وتختصر حجمه، وتفعل هذا كي تنطلق وبأقصى سرعة تتحرك حركة دائرية يبلغ ضيق دائرتها حد أنك بالكاد تستطيع أن تتحرك، فما بالك بأن تتحرك في سرعة وانقضاض؟
Shafi da ba'a sani ba