ولا بد أن خطأ كان قد وقع أو حدث؛ فقد سرت في المدرجات همهمة، ارتفعت داخلها أصوات سرعان ما لفتها نوبات دهشة واستغراب.
وزادت دهشتي حين بدأت الأنظار تتجه إلى ذلك الجزء من المدرج الذي كنا نجلس فيه. حركة جعلتني أفيق من الأحداث التي جرت وامتصت انتباهي، وأعود أفطن إلى وجود جارتي اللاتينية الفاتنة التي لا بد أن الأنظار تقصدها، وتقصدها لسبب ما.
ووجدت نفسي أقتحمها أنا الآخر بنظراتي.
كانت الحمرة هذه المرة ليست أبدا حمرة الخجل؛ حمرة قانية، حمرة دم محروق لا يزيده الزمن إلا سوادا، وكانت ملامحها جامدة أيضا ثابتة لا تتحرك، ووجهها قد انحرف ينظر إلى ناحية. نفس صورتها الأولى مع فارق أساسي واحد أن السبب فيها لم يكن الخجل؛ كان الغضب، غضب المدللين الجارف العنيد؛ فقد كان مفروضا بعد هذه التحية التي تلقتها منه في المرة الأولى أن يأتي إلى حيث تجلس هذه المرة ويحييها قبل أن يبدأ صراعه مع الثور، علنا وأمام الناس، ويقذف لها بقبعته مهديا إليها عمله «الفني» الخطير الذي يوشك الإقدام عليه. ولكن شيئا من هذا لم يحدث؛ فها هو يتجه إلى الساحة ومعه العباءة الحمراء دون أن يهدي إليها أو يهدي إلى أحد شيئا، وها هي جماهير المتفرجين، حتى المتفرجين، تتذكر ما كان يجب عليه عمله وتلتفت إليها، بينما هو - وكأنما لم تكن - ولا حدث بينهما شيء.
كانت إحدى يديها تقبض على باقة الزهور بشدة، بينما الأخرى تسحق زهرة اختارتها وأخرجتها من مكانها، ومضت تمزقها بأصبعيها ووجهها أسود بالاحمرار والغيظ، غير أن هذا لم يدم إلا للحظة تمالكت نفسها بعدها، أو على الأقل هذا ما بدا، ووضعت الزهور جانبا وارتكزت على الحاجز أمامها بكلتا ذراعيها وانصرفت تماما، أو هكذا بدا أيضا، إلى التفرج ومتابعة ما يدور في الساحة.
كنت أتمنى لو استجابت للضعف الأنثوي مرة وأسقطت دمعة؛ إذ ليس أجمل من أن ترى العناد المدلل وهو يتحطم أمامك رغما عنه وعن صاحبته.
ولكني لم أشأ أن أضيع الوقت في انتظار ظهور دمعتها، وعدت إلى الساحة.
مرحلة الميوليتا بالذات، قمة اللعبة وأروع ما فيها، مرحلة لها كيانها المستقل وخصائصها. الميتادور يكون قد اشترك مع زملائه فيما قبلها من مراحل وخبر الثور وعرف الكثير عنه، ولكنه لا يبدأ يعرفه معرفة حقيقية إلا هنا، حين تخلو الساحة تماما إلا منهما، حين تصبح عليه وحده مسئولية مواجهته؛ ولهذا فدقائقها الأولى مليئة بالتوتر والأعصاب المشدودة وكل الظواهر المصاحبة لبداية العمل الخطير، ولكنها مظاهر وظواهر لا تبدو إلا لعين خبيرة؛ فالمصارع يحرص بوعي شديد - ولعله العمل الواعي الوحيد الذي يقوم به المصارع عن إرادة وإدراك خلال تلك الدقائق - يحرص على إخفاء حالته تماما في ثوب الكبرياء الذي يرتديه، والبطء النسبي الذي يتحرك به. لكأنه يقدم لغريمه أول مرة ويحرص على أن يبدو أمامه على هيئة المترفع المتعالي الذي يتنازل ويقبل مصارعته. هكذا يبدو الميتادور وهو واقف وقفته التقليدية معوج العنق، رافعا ذقنه في شموخ، نافخا صدره، متراجعا برأسه إلى الوراء، داقا الأرض بقدمه دقات تتلوها وتسبقها أصوات منادية مستفزة يتحدى بها الثور أن يهاجمه كاشفا له الوجه الأحمر للعباءة ليثيره ويدعوه إلى الانقضاض.
والحقيقة لا تكون هناك حاجة لاستثارته أو دعوته؛ فهو المبادر دائما بالحركة، المندفع، يهاجم في كل اتجاه، المثير في غريمه كل ذلك الاضطراب الأول، والتوتر وشدة الأعصاب.
وكل هجمة من الثور تزيد من اضطرابه وضعف ثقته بنفسه.
Shafi da ba'a sani ba