وهذه المرة حين دخل الفارس ووجه الطعنة إلى الثور المشغول بدفع قرونه في بطن الحصان، ماء الجمهور مرة أخرى اعتقادا منه أن الطعنة طالت، وأن في هذا إضعافا للثور أكثر من اللازم، والجمهور أبدا لا يريد هذا. إن الجمهور في مصارعة الثيران ليس مجرد متفرج على اللعبة. إن هناك رئيسا للفييستا أو الاحتفال يتولى الحكم والفصل، ولكن الجمهور دائما يتدخل، أولا مع الثور يحتج إذا كان ضعيفا، وأحيانا يمضي في احتجاجه مطالبا بتغيير الثور بأقوى منه. إنه يريد أن يظفر بأقصى متعة، وهو لا يفرق حينئذ بين الطرف الإنساني أو الحيواني في هذه اللعبة. كل ما يهمه أن يكون الطرفان قويين، وأن يكونا أيضا متعادلي القوة بحيث لا يحظى أحدهما بانتصار سهل على الآخر، وبحيث تطول المعركة وتصعب، وبحيث يحشد كل طرف لها أقصى ما لديه من طاقة وفن. ومصارعة الثيران قد تبدو للأجنبي لعبة يقتل فيها الرجل الثور، أو تحدث الكارثة ويقتل الثور الرجل، ولكن الجمهور الإسباني لا يأخذها هكذا أبدا، إنها عنده مباراة بكل ما تملكه الكلمة من معنى. مباراة بين القوة الحيوانية الوحشية الغاشمة من ناحية، والذكاء الإنساني والرشاقة وسرعة الإدراك والفطنة وسعة الحيلة من ناحية أخرى. مباراة بين شجاعة الحيوان اللاواعية وشجاعة الإنسان الواعية. مباراة بين الحياة في بدائيتها القوية وبينها في رقيها الذي أضعف قدرتها العضلية وقوى قدراتها العقلية، باختصار مباراة بين العضل والعقل.
ولهذا فعلى عكس ما نتصور مصارعي الثيران هم ليسوا ضخام الأجسام أو رياضيي القوام. إن كل المطلوب من أجسادهم أن تكون سريعة الحركة سريعة الاستجابة لإشارات العقل؛ ولهذا تجد معظمهم نحيفا هشا يبدو كالشاعر أو عازف البيانو، رقيقا كالنسمة، ولكنه لا بد أن يكون شجاعا. والشجاعة كلمة لا يمكن تحديد معناها بسهولة. إن الشجاعة لدى الثيران أن لا تتردد في مهاجمة كل ما يقع تحت بصرها، سواء أكانت ندا له أم لم تكن، سواء أقضى عليها أم قضت عليه، وتلك هي الشجاعة العمياء اللاواعية. الشجاعة الجاهلة. شجاعة الإنسان، والميتادور بالذات من نوع آخر؛ فهو يخاف الثور مثلما يخافه أي متفرج، بل ربما أكثر، ولكنه مطلوب منه ألا يجعل هذا الخوف يتحكم فيه! المطلوب أن يتحكم هو في الخوف بحيث يستغله كمولد للإرادة والذكاء والقدرة على التصرف، بحيث يستعمله ليشحذ كل حواسه ويحيل جسده إلى مركز راداري حساس باستطاعته أن يلتقط أوهى البوادر ويتصرف تجاهها أسلم التصرفات. فالخطورة في مصارعة الثيران تأتي مثلا من تأخر في تلقي بادرة، أو تلقيها في وقت مناسب، ولكن الرد عليها رد ليس هو المطلوب. إن أي خطأ تافه في هذه الحالة قد يؤدي إلى مصرعه. إنها امتحان خطير للانتباه والقدرة على وزن الاحتمالات بميزان دقيق ، وموهبة اختيار أفضلها.
والناس لا يولدون هكذا. إن هذه الخصال لا بد لها من تدريب شاق طويل، ومع هذا فهو تدريب لا نهاية له ولا يمكن أن تصل فيه إلى درجة تصبح بعدها في أمان مطلق؛ فالمصارعة سلسلة مواقف يدركها المصارع ويتصرف إزاءها، والتدريب الطويل لا يفعل أكثر من أن ينمي لدى المصارع القدرة على ضبط أعصابه مثلا أمام الموقف، وعلى إدراك نوعه، وعلى السرعة في إيجاد الحل. إن التدريب لا ينمي سوى القواعد العامة، أما حلول كل موقف والتصرف إزاءه ببراعة، فصحيح أن التدريب الطويل يجعلك تلم بالكثير منها، ولكن المواقف في المصارعة نادرا ما تتشابه، بحيث إنك في كل جزء من الثانية تجد نفسك في موقف جديد لا بد أن تحله حلا جديدا نابعا من الموقف ذاته؛ لهذا فالمصارع يظل مهما بلغت شهرته وصيته محل اختبار في كل مرة تحتويه الساحة مع ثور. اختبار هو معرض فيه للفشل أو النجاح كما لو كان مبتدئا؛ ولهذا أيضا لا يوجد «كبير» في الميتادورات، كلهم صغار! واللحظة التي يكبر فيها أحدهم هي فقط اللحظة التي ينتصر فيها على هذا الثور أو ذاك، لحظة ينتهي كبره بانتهائها. حتى إذا ما دخل مباراة ثانية دخلها صغيرا من جديد، احتمالات نجاحه تتساوى مع احتمالات فشله! ولا بد له - مثله مثل الداخل للمرة الأولى - أن يتوقف قبل أن يدخل الساحة ويرسم - مبتهلا - علامة الصليب.
الفصل السابع
ارتفع المواء يلعن الفارس الذي كان لا يزال يدفع حربته أكثر وأكثر داخل ظهر الثور ويطالب بإنهاء عملية الطعن حتى لا تقل قوة الثور عما هي عليه كثيرا، وحتى يظل كامل السرعة والهياج؛ فكلما ظل هكذا أصبحت مهمة الميتادور شاقة، وتطلب الأمر منه أن يعتصر نفسه ليستخرج آخر قطرات فنه وقدراته.
وإحساس غريب ذلك الذي يتملك الجمهور في تلك اللحظات القصار التي تبدو طويلة كالساعات، اللحظات التي يستغرق فيها الثور في نطح الحصان، والتي في أثنائها يغرس الفارس وبكل قواه الحربة في ظهره. لحظات لا يسكت فيها الجمهور أبدا وكذلك لا يصدر ضجة، ولكن من بينه، ومن أفواه مجهولة وكأنما ليست أفواهه تظل تصدر طوال تلك اللحظات أصوات مكتومة فيها قلق وفيها ألم وفيها معاناة، فيها إحساس بالرفض وصرخات استغاثة لا تنبعث. بينما الأجساد جميعها وبلا استثناء تتململ وتتحرك في أمكنتها ضيقا ونفاد صبر. وبينا سيدات كثيرات يشحن بوجوههن بعيدا عن المشهد، تشترك عيون بقية السيدات مع الرجال في صب نظرات حنق وضيق واحتقار فوق الفارس الطاعن، ولا تنتهي هذه النظرات أو معانيها حتى بعد أن يكف الرجل عن فعلته، بل تظل الأصوات بلغتها المبهمة المكتومة تزجره وتطلب منه بكل ما تملك من اشمئزاز أن يغادر الدائرة الرملية إلى خارج الحلقة، مشيعا بكل ما تملك النظرات من استهجان. والرجل لا ذنب له، إنه كممثل دور الشرير في الرواية الذي يتحمل بلا جريرة وزر دوره، ودوره في المباراة لا يحسد عليه! ففي مهرجان البطولة هذا، بطولة الثيران وشجاعتها من ناحية، وبطولة الميتادورات وهي تقاتل الثيران وتحاربها وتحاورها وتصرعها من ناحية أخرى، يقتصر دوره هو على الاختباء داخل دروعه والتحصن فوق حصانه، وطعن الثور والإصرار على طعنه حتى تنهد قواه.
ومع هذا فهو يظل بعد خروجه يقطع الممر الفاصل بين الساحة والجمهور والحربة في يمناه، وقبعته الخطيرة فوق رأسه، بينما هو جالس في عظمة فوق سرج الحصان المنطوح العجوز (حثالة الأحصنة التي تختار لهذه المهمة؛ حتى إذا ما نفقت لا تكون الخسارة فيها جسيمة). يقطع الممر في عظمة دونها عظمة نابليون، ونظراته التي يواجه بها نظرات الجمهور في تحد وشموخ تدل على أن رأيه في دوره يختلف تماما عن رأي الناس فيه، معتقدا لا بد أنه المتباري الأساسي، وهو أول من يأخذ «حموة الموسى»، ويلتقي بالثور وهو في عنفوان قواه، معرضا نفسه رغم كل دروعه لأخطار جمة. كم يبدو شبهه في نظراته وتصوراته تلك قريبا - وبالذات ونحن في إسبانيا - من الخالد الذكر الدون كيشوت أو كيخوت كما ينطقونها هناك!
هذا الإحساس الغريب الذي يتملك الجمهور ساعة الطعن ليس تافه المضمون أبدا ؛ إذ كيف يتململ الجمهور ويحتج لطعن ثور هائج كان يلقي الرعب في قلبه، وكان يتمنى منذ اللحظات لو تتفتح الأرض عن قوة تستطيع مواجهته وكبح جماحه؟ إن معناه هنا أن الغاية في نظر الجمهور لا تبرر الوسيلة، وأن يحتمي فارس بالدروع ليطعن الثور المتوحش القاتل في ظهره وسيلة ليست شريفة من وسائل الحرب، والوسيلة في الحرب - في أي حرب - لا تقل أهميتها ومعناها عن الهدف من الحرب نفسها. إنه احتجاج ضد الخداع والجبن! إن للجمهور دورا آخر في المباراة، دورا مهما؛ أن يحافظ على «القيم» ويحرسها. ليس مهما في نظره لمن يكون النصر، المهم دائما وأولا كيف يأتي الانتصار.
والدليل هو ما حدث لهذا الثور نفسه حين مضت أدوار المصارعة التي وضح من خلالها أن الميتادور ليس بذي باع طويل في اللعبة. وحين جاءت اللحظة التي عليه أن يصرع الثور فيها، وصوب إليه الطعنة الأولى، لم يغمد السيف إلى آخره؛ ومعنى هذا أنه لم يحسن تقدير المسافة، أو صوب الطعنة وهو أبعد مما يجب خوفا على نفسه. وقابل الجمهور فشله الأول بالصمت مؤثرا أن يعطيه فرصة أخرى، وكان عليه أن يستخرج السيف من مكانه بواسطة سيف آخر له خطاف في نهايته ويعيد الكرة. وهذه المرة أيضا لم ينفذ إلى الصدر سوى نصف السيف، وبقي نصفه الآخر مع المقبض خارجا. وماء الجمهور ولكنه آثر أيضا أن يطيل في صبره. وطعن الميتادور الطعنة الثالثة، وغاص السيف هذه المرة إلى المقبض، وخرج الميتادورات يحيطون بالثور على هيئة حلقة في انتظار سقوطه وموته، ولكنه لم يسقط إذ يبدو أن الطعنة وإن كانت قد اخترقت الصدر إلا أنها لم تصب القلب أو أحد الأوعية الكبرى. وبدلا من هذا انطلق الثور فجأة مهاجما مندفعا في كل اتجاه، باحثا عما يصوب إليه قرنيه ويطعنه.
واهتزت «الأرينا» بتصفيق حاد، وعمتها موجة من الحماس الشديد للثور الذي رفض بإصرار أن يموت. وحاول الميتادور أن يستخرج السيف الغائب إلى المقبض ليعود يطعنه، ولكن محاولته قوبلت بمواء مستنكر عريض ، وصيحات غضب ، وصفير، جعلته يعدل عنها؛ إذ الجمهور حارس القيم وحاميها، لم يعد يهمه أن يصرع الميتادور الثور بطريقة فنية، أصبح المهم لديه أن الثور لا بد سيتألم ألما شديدا نتيجة للطعنات الثلاث الفاشلة، وليس من العدل أن يظل بطل كهذا يتألم، ولا بد من إراحته فورا وتخليصه من ألمه. بمعنى آخر كان على الميتادور أن يقتل الثور في الحال باستعمال طريقة «الديسكابيلو»، وذلك بطعنه في رقبته بسيف خاص، أو ببساطة أشد بذبحه، ولكنه ذبح بلا تكتيف أو اشتراك أحد، ذبحه وهو حي واقف شديد الخطر. وتتم العملية بأن يفرد الميتادور عباءته الحمراء فوق الأرض كي ينجذب إليها بصر الثور وانتباهه، ويستغل المصارع انشغال الثور بمهاجمتها ليصوب إلى رقبته طعناته بواسطة السيف الخاص، وهي عملية بشعة ما في ذلك شك، أكثر بشاعة من عملية الطعن التي يقوم بها الميتادور، والتي تثير تقزز الجمهور. فهنا لا يعود الأمر مباراة بين طرفين لكل منهما مؤهلات قوى مختلفة، هنا الأمر عملية قتل واضحة، الثور فيها منهك خائر القوى مطعون في صدره وظهره ينزف ويلهث، ولكن مع هذا لم يتنازل عن جرأته وإصراره على الحرب والمهاجمة والاستجابة لكل ما يثيره حتى وهو في أتعس حالاته؛ ولهذا فهو ينقض على العباءة مركزا فيها همه، بينما من وراء ظهره وبالخديعة يذبح ذبحا لا فن فيه ولا مهارة إلا مهارة الجزر والجزارين.
Shafi da ba'a sani ba