ولكن الحدة التي فاتتني من صاحب الدار لم تفتني من عامل المخزن، حين خرجت بالكتاب لتسليمه ورقة الإذن ببيعه - وأظنه كان متمصرا طال مقامه بالقاهرة - لأنه نظر في عنوان «الكائنات» وقال مازحا: «جاك كائنة!» وهي دعوة لا يعرفها غير المصريين أو المتمصرين، وإنما قالها ليقول إنني أفلحت في تهدئة غضب الدكتور وأعفيته من الجزاء الذي كان مستحقا له لو لم أقنع الدكتور ببراءة موظفيه من التقصير؛ لأنني قصدت أن ألقاه ابتداء، ولم يكن دخولي إلى مكتبه لخطأ من أولئك الموظفين. •••
ولا يحضرني تفصيل الحديث الموجز الذي سمعته من الدكتور صروف في تلك المقابلة الأولى، ولكنه دار على الإجمال حول فلسفة «ما وراء الطبيعة»، وعلقت بذهني كلمة منه لغرابتها أو لغرابة صدورها من «الفيلسوف يعقوب صروف»، وتلك هي قوله إنه لا يتقبل تلك الفلسفة، أو لا يهضم تلك الفلسفة، أو عبارة دارجة بمعنى هاتين العبارتين، على حد القائلين في التعبيرات الأوروبية الشائعة: «إنني لا أبتلع هذه الفلسفة».
وفوجئت - ولا غرابة - بذلك التصريح من رجل لم يشتهر في عالم الثقافة العربية يومئذ بما هو أشهر من صفة الفيلسوف، ولم نعلم أن أحدا غيره وغير زميله «فارس نمر» حصل على لقب «الدكتور في الفلسفة» من جامعة غربية، وإنما كنت أفهم في بداءة عهدي بالاطلاع على فلسفة «ما وراء الطبيعة» أنها هي الفلسفة كلها، أو هي الفلسفة في أهم مسائلها وقضاياها، فإن لم تكن هذه كذلك، فهي - على الأقل - شيء لا يصعب هضمه على «الفيلسوف » - بألف التعريف!
إلا أن الدكتور عرفني بتلك الكلمة العابرة بحقيقة رسالته في نهضة الثقافة العربية بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، فكان من الخطأ أن نفهم من تلقيبه بالدكتور في الفلسفة أنه فيلسوف كفلاسفة البحوث المنطقية النظرية، في قضايا الغيب المجهول ومشكلات «ماهية الوجود» على منهج أرسطو وابن سينا وابن رشد والغزالي ومحيي الدين، وإنما هو فيلسوف في نطاق العلوم التجريبية التي يقوم برهانها على الوقائع والمشاهدات، وإن تناولت مباحث التاريخ والأخلاق، ولا تقيم براهينها على الفروض والأقيسة من قبيل براهين الكائنات لإثبات الفضاء المحدود وغير المحدود.
وبعد أكثر من عشر سنوات، سمعت منه مثل هذا الرأي في فلسفة «ما وراء الطبيعة»، خلال حديث أذكر مناسبته ولا أذكر زمنه على التحديد، وقد كانت هذه المناسبة تعقيبا على مقال للآنسة «مي زيادة» حول فلسفة «برجسون» لم أقرها على كثير مما فيه، وكان الدكتور صروف يقرأ تعقيبي وهو يبتسم، ويقول بين آونة وأخرى: «يا رجل! أتتمرجل على بنت؟» فاستعدت منه المقال، وعلمت بعد ذلك أنه أطلع الآنسة على ملخص ذلك التعقيب!
وفي خلال المناقشة حول كلام الآنسة وتعقيبي عليه، علمت منه مرة أخرى أنه ينظر إلى الفلسفات التي على غرار فلسفة برجسون من ناحيتها العلمية التي تنطبق على قضايا الحياة الإنسانية، ولا تخوض وراء ذلك في أحاديث «الغيبيات» وفروض ما وراء الطبيعة، وأن فكرة التطور في كتابة برجسون تعنيه لأنها على اتصال بمذهب داروين، ولا أذكر أنني سمعت منه - يومئذ - كلاما يدل على التوسع في الاطلاع على مذهب الفيلسوف الفرنسي، ولا على مذاهب زملائه الأوروبيين في تلك الفترة.
وبعد سنوات أخرى قرأت خلاصة المناقشة التي دارت بين الدكتور صروف وبين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في مجلس علي مبارك باشا، فأكدت لي أصالة هذه النظرة إلى الفلسفة في رأي الدكتور صروف منذ زمن بعيد، وخلاصة هذه المناقشة أنهم تحدثوا في المجلس عن كاتب وصفته الصحف بالفيلسوف، فقال الدكتور: «إن الناس قد ابتذلوا هذه الكلمة حتى صاروا يطلقونها على غير أهلها .» ثم تساءل الحاضرون: «من يكون الفيلسوف إذن على المعنى الصحيح؟» قال الدكتور في رواية السيد رشيد رضا: «هو الذي يتقن جميع العلوم.» فقال الشيخ محمد عبده: «إذن لا يوجد على الأرض فيلسوف.» فعاد الدكتور يقول ما معناه: «إنه لا بد أن يتقن علما من العلوم ويلم بسائرها.» فقال الشيخ محمد عبده: «إن الذين يتعلمون على الطريقة الحديثة يخرجون من المدارس العالية وقبلها الثانوية، على إلمام بالعلوم ويتقنون بعضها، فما أكثر الفلاسفة بين الأطباء والمهندسين وسائر الطلاب بهذا المعنى!» ولما سئل الشيخ محمد عبده: «من يكون الفيلسوف إذن؟» قال: «إن الفيلسوف - كما يفهمه - هو الذي له رأي في العقليات والاجتماعيات يمكنه الاستدلال عليه والمدافعة عنه.»
ولم أزل ألقى الدكتور صروف بين آونة وأخرى إلى ما قبل وفاته بقليل، فأعرف منه في كل مقابلة صورة واحدة لم تتغير منذ رأيته للمرة الأولى: صورة فيلسوف له عقل عالم مشغول بالواقع من الخبرة العملية، وله مع هذا العقل العلمي قلب إنسان ودود يحب الخير للناس ويغتبط بتوفيقهم للنجاح.
وأذكر اغتباطه بتوفيق الناشئين إلى النجاح؛ لأن كتابه المترجم عن صمويل سمايلز باسم «سر النجاح» كان أول كتاب قرأته له، وأخبرته بإعجابي به حين سألني عن مؤلفاته، ولم أزل كلما زرته أسمع منه سؤالا واحدا قبل كل سؤال: «ماذا صنعت لنفسك ولمستقبلك؟» فوقر في نفسي أن كتاب «سر النجاح» لم يكن مجرد كتاب ترجمه وأضاف إليه ودل به على طريقته العلمية في تحقيق السير والأخلاق، ولكنه كان قبل ذلك ترجمانا لسجية الخير والمودة فيه، وعنوانا لرغبته في الحياة الناجحة ورغبته في تعليم الناشئين جميعا كيف ينجحون ويسعدون بالحياة.
كان يقول لي مازحا: «إياك أن تكون من شعراء شكوى الزمان ومعاتبة الإخوان، وحذار أن تحسب البؤس زينة للأديب وقسمة مقدورة للأذكياء!»
Shafi da ba'a sani ba