ولقد أوشكت ثورة مصطفى كامل أن تنحصر في الثورة على الاحتلال، ولا تنظر إلى تبديل شيء من النظم السياسية أو الاجتماعية، فلم يكن في نزعات نفسه ولو قبس ضعيف من الثورة على المساوئ الخديوية، ولم يختلف في كثير ولا قليل عن أبناء عصره في تعظيم الألقاب الرسمية واعتبارها «إنعامات» مشرفة لمن يتلقاها، بل كان على صلة بالقصر الخديوي في التوسط بين طلابها وبين الأمير لتوزيعها على من يتطلع إليها، ولا شك أنه كان أنظف الساسة الذين كانوا يومئذ يتوسطون مثل هذه الوساطة؛ لأنه كان ينفق منافعها على خدمة الدعوة الوطنية لحاجته إلى المال في هذه الدعوة، وبخل الخديو بالمال الكثير أو القليل بغير هذه الوسيلة، ولكن إيمان مصطفى كامل بشرف هذه الرتب والألقاب ربما كان أدعى إلى النقد من وساطته في توزيعها، فقد بلغ من إيمانه بها أنه لم يصدر «اللواء» يوم جاءه خبر الإنعام عليه بالباشوية من دار الخلافة إلا بعد تغيير «الكليشيه» الذي كان اسمه فيه متبوعا بلقب الباشوية.
جاء في الجزء الثالث من مذكرات أحمد شفيق باشا وهو أحد رؤساء الحاشية الخديوية:
إن الرتب أصبحت كالسلع السهلة، وكان لهذه التجارة وسطاء كثيرون، منهم: الشيخ علي يوسف، وحسين بك زكي، وأحمد بك العريس، وإبراهيم بك المويلحي، وهو مقيم بالآستانة، يأتي كل شتاء لأخذ بضاعته من مصر، وأحمد شوقي بك الشاعر، ومصطفى كامل، الذي كان ينفق ما يأخذه في الدعاية لقضية مصر.
ولا شك فيما قاله صاحب المذكرات من تخصيص مصطفى كامل بين سماسرة الرتب والنياشين بالإنفاق من منافعها على الدعاية الوطنية، ولا سيما الدعاية في العواصم الأوروبية، ولكن حرص الباشا على الوجاهة التي لا تقل عن وجاهة الأمراء ربما كلفته هناك أضعاف نفقة الدعاية.
ولم تخف دخائل هذه الأحوال على طائفة الصحفيين والمشتغلين بالسياسة الوطنية، ولكنها لم تغض من قدر الزعيم الشاب، ولم تشكك أحدا في إخلاصه لدعوته وغيرته على قضية بلاده، وبلوغه بالشعور الوطني مبلغ الهوى، الذي يملك على العاشق لبه ويجرد هواه للأوطان من تقدير الوطن، بحساب المبادئ والواجبات أو حساب المطالب والآمال، فقد كان مصطفى كامل من أكثر المجاهدين شفيعا إلى قلوب أنصاره وخصومه؛ لنزاهة أخطائه جميعا من شائبة الغرض الملتوي والنفاق الذميم.
إن الزعامة السياسية لا تخلو من أخطاء في الحياة العامة أو الحياة الخاصة، وربما كانت زعامة مصطفى كامل أقل الزعامات خطأ في أوائل دعوتها، ولست أذكر أنني تبينت هذه الأخطاء أو تبينت غيرها من الأخطاء السياسية بحثا وتفكيرا وإمعانا في تحقيق المطالب الوطنية وتحقيق أساليب العمل لها والوصول إليها؛ فإن هذا البحث جهد لا يطيقه عقل صبي في الخامسة عشرة أو شاب فيما دون العشرين؛ وهي سني يوم عملت في الصحافة اليومية، لا أذكر - إذن - أنني أحجمت عن الاشتراك في حزب مصطفى كامل بعد البحث المفصل والموازنة الواعية بين مقاصد الزعامات السياسية وطرائق الزعماء في ذلك الحين، ولكن الذي أذكره جيدا أنني كنت أقرأ مقالات مصطفى كامل وأسمع خطبه، فأحمد له غيرته وأعجب بصدقه في جهاده، ولكنني أراني أمام منهج من الكتابة والقول غير المنهج الذي أتلقى منه رسالة الفكر والعاطفة وتستجيب إليه بديهتي المتطلعة إلى الوعي والمعرفة، فإن ذلك الأسلوب «الخطابي الشعوري»، الذي كان له أبلع الأثر في جمهور مصطفى كامل، لم يكن هو ذلك الأسلوب المختار الذي عهدته فيما اطلعت إليه من كلام مقروء أو كلام مسموع.
ولعل أشهر الأمثلة للأسلوب «الخطابي الشعوري»، الذي كان ذريعة التأثير الكبرى في خطب مصطفى كامل؛ قوله في خطبة زيزينيا الكبرى، وهي أقوى خطبة وآخرها قبل وفاته، إذ يقول:
بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي، لك حياتي ووجودي، لك دمي ونفسي، لك عقلي ولساني، لك لبي وجناني، فأنت أنت الحياة، ولا حياة إلا بك يا مصر.
فإن هذا الإطناب وما شابهه لا يعطيني ما أتطلبه من الإقناع ولا من العبارة الأدبية عن العواطف، وإنما هو أشبه بدقات النفير تتكرر على وتيرة واحدة لتحتفظ بأعصاب السامعين في طبقة مشدودة من الانفعال والتنبه، سواء كان هذا الانفعال للوطنية أو لغيرها من العقائد الشعورية.
وأحسب أن قدرة مصطفى كامل على هذا النوع من التأثير كانت تطغى على كل قدرة خطابية فيه، ومنها القدرة على الإقناع؛ فلم تبلغ قدرته على الإقناع في كلام قرأته له أو سمعته عنه مبلغا يسوقه إلى الإعراب عنه، أو إعطائه نصيبا من أسباب التأثير إلى جانب الحركة الخطابية الشعورية، وأسميها «الحركة»؛ لأنها في الواقع أقرب إلى بواعث الحركة «اللاإرادية» من مجامع الأعصاب.
Shafi da ba'a sani ba