وسألت: ومن يسكن في هذا القصر الآن؟
قال المرشد الهندي: الباعوض فقط إنه مهجور منذ سنوات كثيرة.
ركبنا الفيلة وصعدنا الربوة العالية التي بني عليها قصر «عنبر» الشهير بالقصر البلوري، داخل القصر رأينا السقف والجدران بلورية تعكس الضوء كملايين النجوم والكواكب. لقد صنع «عنبر» داخل قصره سماء صناعية ليستمتع بضوء القمر والنجوم مع زوجاته ومحظياته دون حاجة إلى مغادرة القصر.
تجولت في المدينة بعد ذلك ورأيت تلك الأعداد الهائلة من الرجال والنساء والأطفال الذين يعيشون في بيوت الخيش أو الصفيح يتكدسون فيها وعلى الأرصفة كالذباب أو كأكوام القمامة. كنت أتساءل: كيف يمكن لحاكم من الحكام مهما تبلد عقله وإحساسه كيف يمكنه أن يعيش في كل تلك القصور، وأن ينفق من أموال هؤلاء الفقراء هذا الإنفاق الجنوني؟! كيف يفعل هذا دون أن يرتعش له جفن؟! ولم يكن خافيا علي أن المهراجا لم يكن الحاكم الوحيد الذي فعل هذا. كنت أعلم أن الحكام في كل زمان ومكان يفعلون هذا، وجميعهم أيضا لهم قصور وساحات كبيرة ومنصة عالية يقفون عليها ويخطبون ويتحدثون عن العدالة والمساواة والحق. •••
مدينة «أحماد أباد» في ولاية جوجردا على الساحل الغربي للهند لا توجد في خريطة الهند السياحية، إذا كنت سائحا وذاهبا إلى غرب الهند يقولون لك: اذهب إلى أودايبور وكاجيورا وبومباي وماندومجوا وغيرها. لا أحد يذكر لك أحماد أباد.
أحماد أباد ليس بها قصور مهراجا، ولا قلاع حمراء، ولا قبور من الرخام، ولا حدائق شهيرة، ولا بحيرات ساحرة، ولا أي شيء من تلك المناظر الخلابة، هي مدينة فقيرة متربة، هواؤها الساخن (رغم أنني زرتها في فبراير) محمل بالرمل الذي يتطاير من قاع النهر الضخم الذي يجف تماما في فصل الشتاء، ويصبح منخفضا رمليا واسعا، تنتشر فوقه أكواخ الخيش والصفيح، يعيش فيها العمال الموسميون الذين يشتغلون هذا الموسم في نقل الرمال من قاع النهر إلى لوريات «تاتا» الضخمة.
لكن أحماد أباد هي مهد رسالة غاندي، بدأ منها كفاحه مع الفقراء، وعاش فقيرا ومات فقيرا. دخلت بيته البسيط في أحماد أباد والذي عاش فيه وبدأ منه مسيرته الطويلة ضد الفقر وضد الظلم. لم أر في بيت غاندي إلا حاجياته الشخصية، حيث تركت في البيت (الذي أصبح متحفا) كما تركها غاندي قبل أن يقتل. رأيت المنضدة على شكل طبلية التي كان يجلس أمامها على الأرض يكتب أو يقرأ، إلى جوارها نظارته، وكتابه لا زال مفتوحا ، وقلمه وعصاه وقبقاب خشب وصندل وصحن وملعقة وتمثال صغير جدا لثلاث قطط معا. وهذا هو كل ما كان يملك غاندي في حياته وكل ما تركه من ممتلكات بعد وفاته.
وقفت لحظة أتأمل هذه الممتلكات الضئيلة لواحد من أكبر زعماء التاريخ، وأيقنت أن غاندي كان صادقا في رسالته وكان يستحق الزعامة ويستحق أن يكون قائدا لشعب الهند الكبير. أخذ عقلي يقارن بين ممتلكات غيره من الزعماء في البلاد الأخرى، الذين يدعون في حياتهم أنهم يناضلون من أجل الحق والمساواة والعدل فإذا بهم بعد الوفاة وقد امتلكوا الآلاف والملايين في البنوك داخل البلد وخارجه، وامتلك أبناؤهم وبناتهم وزوجاتهم بالمثل أو ما يزيد.
قلت لنفسي: إن الطريقة الوحيدة الممكنة للحكم على صدق نضال زعيم أو حاكم هو أن يعرف أملاكه وأمواله بعد وفاته، وأن نعرضها على الناس كما نعرض أملاك غاندي، وكنت أعرف بالطبع أن هذا أمر مستحيل وأنها ستكون فضيحة ما بعدها فضيحة.
اكتشفت وجود شيء آخر ضمن ممتلكات غاندي؛ إنه «النول» الصغير الذي كان يغزل عليه ملابسه وكان يصحبه معه في سفره خارج الهند، على الجدار صورة لغاندي وهو يغزل فوق باخرة كبيرة تحمله إلى إنجلترا. لم يكن غاندي يكترث بتلك العيون الزرقاء الأوروبية التي تنظر إليه في دهشة واستعلاء.
Shafi da ba'a sani ba