Tafiya A Lokacin Nuba
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Nau'ikan
قضينا الليلة في سيالة، وقد لاحظنا أن المنظر العام للسهل قد اختلف في مدة نحو ثمانية أيام؛ فالكثير من العشب انتهى باجتزازه أو بواسطة الحيوانات التي كانت مطلقة ترعاه، كذلك محصول الذرة كان قد جمع، والكثير من الكشرنجيج واللوبيا، وبذلك بدا السهل الفيضي أجرد فيه بقايا خضرة محترقة بعد أن كان مزهوا بخضرة يانعة!
عادت كوثر إلى البنات والسيدات في المساء تتحدث وتسجل أغاني معظمها معاد، باستثناء أغنية جديدة أخذت منحى أوبرالي تلقائيا؛ فهناك الفتيات والشابات يتغنين بمحاسن الانتقال إلى كوم أمبو، حيث يكن قريبات من المدن التي يعمل فيها أزواجهن بدلا من عزلتهن، وحيث لا يربطهن بالحياة الخارجية سوى البوستة الأسبوعية، وترد عليهن السيدات من كبار السن في صوت مخالف متخوف من الانتقال إلى مكان جديد ليس فيه الأمان والحرية التي اعتدنها وإمكانية تغير السلوكيات والخلقيات، وتدور المساجلة بين آمال الصغار وتقاليد الكبار على دق الدف وقطع معدنية أخرى، وهي بذلك تحكي مشاعر القوم إزاء موضوع خطير هو هجرة الوطن إلى المجهول!
وصباح الجمعة 28 سبتمبر تركنا سيالة على أمل الوصول في نفس اليوم إلى عائمات الألمان في كلابشة، وفي الثامنة إلا ربعا مررنا أمام المحرقة؛ الهواء شديد والموج كبير عن الأمس، يرتطم بجوانب اللنش وله رشاش عال أعطى رياض دشا جميلا وهو أمام عجلة القيادة. أسرع رياض باللنش إلى الجانب الغربي حيث الموج أقل قوة من الجانب الشرقي، وربما كان السبب أن جبل المحرقة يصد الرياح الشمالية فيرتد قويا على سطح النهر ويثير أمواجا قوية، أما الشاطئ الغربي فهو سهلي لا تزال حقول الذرة قائمة لم تحصد بعد، والأغنام والماعز السود تنتشر قرب ضفة النهر، والغالب أن النوبة كانت منذ يومين تحت تأثير منخفض جوي يتحرك ببطء، ويثير رياحا جنوبية ساخنة أو شمالية باردة حسب دورة الإعصار وحركته.
وفي هذه المنطقة بين محرقة غرب وقورتة، لاحظنا تجمع مجموعات كثيرة من طيور الماء: بجع أبيض، وفلامنجو ملون قرمزي الرأس والمنقار، وبط يضرب إلى لون البيج، وأبو قردان والطيور الصيادة للأسماك، وكلها بكميات كبيرة وأحجام مختلفة لم نشاهد لها مثيلا في شمال أو جنوب النوبة.
وفي سهل قورتة شاهدنا نحو ثلاثين بقرة ترعى معا، وهو أيضا أكبر رقم لتجمع الأبقار شاهدناه في كل النوبة، في التاسعة كانت الدكة على يسارنا بعد أن تركنا العلاقي على يميننا.
النهر والجو اليوم هو نقيض الأمس؛ حين كان سطح الماء شبه أملس، والهواء حارا جافا لدرجة لا تطاق. أما اليوم فالهواء شمالي بارد شديد، والنهر موجه عال سريع؛ مما اضطرنا إلى الاحتماء بالبر عند الدكة، وتناولنا إفطارا خفيفا، وتحركنا مرة أخرى في نحو العاشرة، فسواء كان الجو مناسبا أو غير مناسب، فإنه كان علينا أن نصل إلى كلابشة اليوم؛ لهذا قررنا أن نسير ببطء مع كثير من الحيطة كي نصل إلى هدفنا ولو متأخرا عن الغروب. المنظر العام منبسط على كلا جانبي النيل، ولكن الهواء العنيف يدفع أمواجا عالية ترسل رشاشا قويا علينا داخل اللنش. مررنا بكشتمنة وبعد قليل بدأت نجوع قرشة التلية في الظهور وفيما بينها أودية فاصلة، والسهل الفيضي العريض ممتلئ بالمسطحات المائية، والسواقي تنتشر على الضفة بمعدل تقريبي ساقية كل مائة متر، وعلى الضفة الغربية نجوع جرف حسين البيضاء المرتفعة على الحافة الهضبية المستمرة دون انقطاع مسافة عدة كيلومترات. هدأت الرياح قليلا وانتقلنا إلى البر الشرقي حتى وصلنا نجع البوستة الحادية عشرة والنصف. توجهنا إلى وكيل البوستة الأستاذ صالحين. شربنا الشاي وقدموا لنا دوكة طازجة للغداء، وطلب أهالي معارفنا أن نخبر عيسى وخضري ومرسي أن يزوروا النوبة في فرصة قريبة، وأن يكتبوا لأهاليهم عن أحوالهم.
تزودنا بالبنزين، وفي الواحدة والنصف تركنا قرشة وأصبح الهواء والموج أهدأ عن ذي قبل. مررنا بنجوع ماريا بمنازلها ذات الزخرف المعماري والأسقف القبابية، وفي الثانية والنصف مررنا بمعبد دندور أمام مرواو. رسونا إلى البر وتغدينا داخل اللنش، وبعد 40 دقيقة عدنا للتحرك نقصد الإفادة من الهدوء النسبي للرياح والأمواج.
قبل الرابعة بقليل وصلنا إلى نجوع عمدية أبوهور؛ النيل يضيق كثيرا، والهضبة الشرقية عالية ومستمرة لكيلومترات، والضفة الغربية أقل ارتفاعا واستمرارية وتتكون من مجموعات من التلال غير متصلة، وعندما دخلنا المنطقة هبت علينا رياح ساخنة قوية، وكان علينا أن ننتقل إلى الجانب الغربي الذي التجأت إليه المراكب المختلف. أثناء العبور عانينا الكثير من الأمواج العالية ورشاش الماء الطيني المستمر على نحو ما سبق ذكره - فصل
قراءة الماء - وقد استغرق عبور النهر نحو نصف ساعة؛ لأننا قطعنا النهر بزاوية ميل واسعة خوفا من تعرض جانب القارب لضربات الموج العنيفة والعالية.
استرحنا قليلا على الضفة الغربية وشاهدنا الكثير من السمك الطيار؛ أي الذي يقفز خارج الماء مسافة لا بأس بها. تحركنا مرة أخرى، وبعد فترة قليلة ظهرت خور رحمة، وهي نهاية أبوهور، وفي نحو الخامسة وصلنا إلى عوامات هوختيف أمام معبد كلابشة.
Shafi da ba'a sani ba