Tafiya A Lokacin Nuba
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Nau'ikan
توشكى غرب
ذهب رياض إلى وكيل البريد من أجل البنزين، بينما كان على الشاطئ أطفال يلعبون بمركب شراعي - لعبة - وأعطانا أحدهم بطيختين صغيرتين هدية، كانت على الشاطئ أيضا مجموعة من النساء ينقرن الأرض اللزجة بالفأس ويبذرن الحب، ثم يغطين الحفر بالطين يكومنه بأيدهن، وعلى مبعدة يسيرة من الشاطئ ثبت الأهالي بوصتين من القصب الكبير الذي ينمو طبيعيا مع الحشائش، وبين البوصتين ثبت حبل تتدلى منه خيوط السنانير لصيد السمك ليلا، وقد طلب منا بعض الأطفال البحث عن عمل في القاهرة.
علمنا أنه يوجد عرس وحفل زار فقررنا المبيت في توشكى. سرنا مع دليل من أهل المكان حوالي نصف ساعة إلى أن وصلنا النجع، مارين بحقول الذرة والكشرنجيج والنخيل ومنطقة حشائش واسعة، ثم منطقة رملية بنى عليها نجع أباشاب، وفي أحد المضايف كان يوجد جمع من الرجال يتحادثون، وأخبرهم الدليل عنا وسبب زيارتنا، فتشاوروا قليلا ثم أبدوا استعدادهم للتبكير بالحفل الراقص من احتفالات الزواج التي تستمر نحو أسبوع.
وبعد فترة طويلة - ربما ساعة أو أكثر - كنا وسط حلبة الرقص التي انتظمت حول المغني الذي جذب صوته فتيات وفتيانا آخرين، الفتيات والسيدات يلبسن الرداء الأسود الشفاف فوق الملابس الملونة، ويتحلين بزينتهن الذهبية، ويقفن صفا واحدا تشابكت أيديهن في بعض الخطوات، وأمامهن المغني مبارك ذو اللون الأبنوسي وضاربو الدفوف، ووراءهم صف الرجال والفتيان في مواجهة صف النساء المشاركات في الحفل، يبدأ مبارك «زغرودة» طويلة حادة، وترد عليه النساء بمثلها، ثم يسترسل في الغناء يمدح العروسين والحاضرين، وللرجال حركة معينة في الرقص ويشبكون أيديهم وينحنون قليلا للأمام مع خبط القدم في الأرض، ثم يصفقون، ثم تدخل إلى وسط الحلبة فتاة أو فتاتان تمسكان طرف الثوب وتتحركان بخطوات صغيرة إلى الوسط نحو الرجال، ثم يتراجعن إلى صف النساء في خفة ورقة، وجوههن إلى أسفل في شيء كبير من الأدب والخشوع، والرجال يصفقون ويدبون الأرض في مرح وانسجام.
قضينا الليلة في القارب وفي الصباح عدنا إلى النجع، حيث قابلنا الشيخ مختار حسن هاشم في دكانه الذي يحتوي على سلع مختلفة من الأقمشة وأصناف البقالة والسكر والسجائر، والشيخ مختار من سلالة الكشاف من عشيرة أو عائلة الكيخياب - ينطقون الخاء قريبة من الهاء فتصبح الكيهياب - في الطريق كان المنظر العام ريفيا؛ لاتساع الحقول وكثافة النبات في الجزء القريب من النهر، ثم مساحات تنمو فيها الحشائش طبيعيا تستخدم كمرعى للحيوانات، أما منظر الضفة الشرقية فكان غاية في الجمال: فهناك التلال العديدة الأشكال والألوان التي تنمو عند أقدامها أشجار مختلفة الخضرة، ويقول بعض السكان إن المناظر هنا مثل سويسرا؛ فالجبال الشرقية عليها بعض مسطحات من الرمال كأنها الثلوج على جبال الألب، ثم النيل الهادئ كأنه إحدى بحيرات سويسرا، ثم الخضرة الزاهية، ويبدو أن من شبه توشكى بسويسرا قد عمل فترة في سويسرا، ربما في السفارة المصرية.
عمدية توشكى هي إحدى كبريات النواحي النوبية، فقد كان سكان توشكى شرق وغرب 3139 شخصا عام 1960، نحو الثلث في الجانب الشرقي، أما توشكى غرب فكانت أوسع سهولا وامتدادا مع النيل يبلغ نحو 15كم، وامتداد إلى الداخل غربا، حيث الأرض سهلية لمسافة كبيرة؛ نتيجة لتباعد خط مناسيب 200 متر كثيرا إلى الغرب، مكونا شكلا هو أقرب ما يكون إلى الوادي الضحل الواسع - الذي شاعت تسميته الآن خور توشكى - وتتكون توشكى غرب من 25 نجعا، منها سبعة نجوع أنشأها في شمال توشكى مهاجرون من الكنوز عند التعلية الأولى لسد أسوان 1912، وقد اتخذ هؤلاء المهاجرون أسماء قراهم القديمة أسماء لنجوعهم الجديدة في توشكى - نجوع أمبركاب وكلابشة ومرواو وأبوهور وأمبركاب قبلي ... إلخ - ولهذا يقول البعض إن نحو خمسي سكان توشكى غرب هم من الكنوز.
أما سكان توشكى فهم نوبيون مختلطون بأنساب من الكشاف، حكام النوبة القدماء، وكان الكشاف - الذين هم من أصول مختلطة من الأتراك والأكراد والبشناق والمجر - يتزاوجون مع النوبيات ويتركونهن وأولادهم في قراهم مع الأخوال والأراضي التي يرثونها؛ لهذا فإن أنساب الكشاف منتشرة في أرجاء النوبة دون تركيز في مناطق محددة، وتظهر أسماء بعض النجوع مؤثرات الكشاف؛ مثل نجع أباشاب، كرباشية، أزجرجة - أحيانا أزمرجة - كيخياب. وبالرغم من اختلاف بعض سلالة الكشاف عن بقية النوبيين في ضخامة الجسد والرأس بالقياس إلى النوبيين ولون البشرة الأفتح قليلا - يقول بعض رحالة القرن الماضي إن بعضهم شقر البشرة زرق العيون - إلا أنهم يعيشون ويتعاملون مع جيرانهم تعامل الند للند دون تأثر بالأصول السلالية، ويقومون بنفس الأعمال من زراعة أو تجارة أو عمل خارج النوبة.
تجولنا في النجع وأول ملاحظة أن هناك زريبة جماعية في أول النجع، وذلك هو عكس بيوت العليقات والكنوز التي تشتمل على مكان للحيوان داخل الحوش مما يقتضي غالبا بابا خاصا لدخول الحيوانات، وربما يرجع ذلك إلى كثرة أعداد الحيوانات في الجنوب عن الشمال؛ وذلك لتوفر المساحات الرعوية والزراعية، ولا شك أن وجود الزريبة خارج البلدة يقتضي حراسة خاصة، ولو أن الأمن مستتب والأمانة مستقرة في النفوس كجزء متمم للشخصية النوبية.
والملاحظة الثانية أن البيوت غالبها مبني على نسق معماري متشابه، غالبا ملتصقة بعضها بالبعض الآخر في صفوف متوازية تترك طرقا واسعة بين الصف والآخر (انظر الجزء الخاص بالصور عن
شكل النجوع في الجنوب والشمال )، ومعنى هذا أنه يمكن تصور خطة للنجع مكونة من طرق متوازية تنتهي إلى ساحة رئيسية فيها الجامع والدكاكين - يوجد بنجع أباشاب خمسة دكاكين - والمضيفة العامة ومزيرة الماء، ثم الزريبة الجماعية التي توجد على جانب من الساحة في مواجهة الحقول، مثل هذه الخطة العمرانية تكاد تنعدم في بلاد الكنوز والعليقات لوجود العقبات التضاريسية والأودية التي تقطع تتابع استواء الأرض؛ مما يؤدي في الغالب إلى أبنية على مستويات متعددة، أما في بلاد النوبيين الرئيسية فإن استواء السطح هو السمة الغالبة، مثل توماس وعافية وجتة وتوشكى غرب - وربما أيضا بلانة وأدندان وهما من القرى التي لم نتمكن من زيارتها.
Shafi da ba'a sani ba