Tafiya A Lokacin Nuba
رحلة في زمان النوبة: دراسة للنوبة القديمة ومؤشرات التنمية المستقبلية
Nau'ikan
وما من مرة مررت تجاه منطقة العمل في السد العالي، إلا لفت أنظار الكثير من السياح وعلماء الآثار الأجانب الذين كانت تعج بهم النوبة في تلك الفترة، ففي يناير التالي 1963م كنت أركب البوستة متجها إلى كورسكو للقيام بأبحاث أخرى عن السكان والحضارة، وتصادف أن كان على الباخرة نفسها البعثة الأثرية النمساوية متجهة إلى سيالة في موسم عملها الثاني، وحين مرت البوستة بمنطقة السد العالي، كان يقف إلى جواري البروفيسور إيجارتنر أستاذ الأنثروبولوجيا الطبيعية «علم السلالات البشرية» في جامعة فيينا، وأخذ يسألني العديد من الأسئلة عن بناء السد والفوائد المرجوة من هذا العمل الجبار، أجبته قدر إمكاني دون أرقام كثيرة؛ لأنها أكثر مما تعي الذاكرة.
سألني عن موضوع الإطماء؛ أي ترسب الطمي الذي يحمله النهر في قاع بحيرة السد العالي سنة بعد أخرى، وهو ما يؤدي إلى تقليل سعة الخزان على مر السنين.
قلت له: إن موضوع الإطماء لا شك من الموضوعات التي تشغل بال المهندسين ورجال الري، ولا بد أن لديهم حسابات عن هذا الموضوع لمدة طويلة، ربما هي قرن من الزمان أو أكثر.
قال: هل يساوي قرن من التخزين وتوليد الطاقة كل الجهد المبذول والتكلفة العالية؟ وأحسبه كان صادقا في تساؤله دون إيحاء ماكر، شأنه شأن الفكر العلمي الناقد.
رددت السؤال بسؤال - وقد أخذت موقف الدفاع الوطني - هل ستعتبر السد العالي بعد قرن من الزمان عديم الفائدة؟
قال: هل هناك حل؟
قلت: قد لا تبدو الآن حلولا لمشكلة الإطماء، ولكن هل نعرف ما يقدمه العلم والتكنولوجيا في المستقبل؟ ثم إن مشكلة الإطماء ليست مشكلة السد العالي وحده؛ فالدول التي بنت سدودا على أنهارها الكبيرة، كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، تواجه هذه المشكلة أيضا. وأردفت أن في النمسا حقول بترول محدودة المخزون، فهل منع هذا النمسا أن تقيم صناعة بترولية محدودة أيضا؟ إن أحد مدارس الاقتصاد تقول باستخدام الموارد القائمة كلما أمكن ذلك؛ لأن لها قيمة اليوم، وربما يكتشف مورد جديد في المستقبل يجعل المورد القائم عديم الفائدة، فتضيع فرصة الإفادة منه، وذلك عكس مدرسة المحافظة على الموارد للمستقبل، المهم إيجاد صيغة مناسبة لاستخدام الموارد المتاحة مع محاولة تجنب الهدر؛ حفاظا عليها إذا كانت لها فائدة مستقبلية.
خريطة (2): مسار الرحلة النهرية في النوبة المصرية 1962.
والنيل هو أكبر مورد متجدد في مصر، ولا بد من الإفادة منه على أوجه متعددة، على ألا نصرفه في مشروعات قد تهدر إمكاناته في المستقبل، ولا شك أن تخزين المياه من أجل مزيد من زراعة الأراضي مع توليد الطاقة، هما أساس بناء السد العالي الذي ساعد على الرخاء في حينه، «وأنقذ مصر والسودان الشمالي فيما بعد من حرج ظروف الجفاف التي اجتاحت أفريقيا في الثمانينيات.» ثم حان وقت الشاي فانقطع الحديث مع بروفيسور إيجارتنر.
مرة أخرى نرجع إلى رحلتنا في سبتمبر 1962م، كنا على ظهر المركب «عمدا» نراقب بانوراما النوبة الشمالية بإمعان، مر المركب على نجوع عمدية دابود الواحد تلو الآخر، والمنظر لا يتغير كثيرا: حافات جرانيتية صلدة ومتهدلة، وبعضها يشرف تماما على النيل؛ مما يجعل مجرى الماء العظيم ينحني ويلتوي وينعطف بزوايا مختلفة، وإطار الخضرة ما زال يحف بأجزاء من الضفاف، والمساكن فوق الحافات الجبلية معظمها غير مطلي بالجير الأبيض الذي يميز الكثير من أبنية مناطق عديدة من النوبة، ومن ثم كان من الصعب تمييز البيوت؛ لأن لونها يقارب لون الصخور الداكنة حولها، وفوق هذا فإن المنطقة الشمالية تتميز بالأسقف القبابية أو الأسطوانية، فلم تكن هناك زوايا الجدار والسقف الأفقي، مما يزيد من تعتيم الرؤية وتبين المساكن، وبالمناسبة تأخذ هذه الأسقف القبابية في القلة كلما اتجهنا جنوبا، وتكاد ألا تظهر بعد العلاقي تماما، لتسود الأسقف المسطحة.
Shafi da ba'a sani ba