إذا كنت أستحق التعزية وأنا في محفل الموت فلم لا أستحقها أيضا وأنا في محافل الحياة، لم لا أستحقها وأنا في القهاوي والملاهي أو المجالس الأدبية أو في مكتبي.
لا أنكر ما للإنسان من العواطف التي تميزه عن الحيوان في درجتي الترقي والانحطاط، فهو كتلة عواطف مختلفة، منها مستمدة من ينبوع الحب الدائم، ومنها باقية من آثار الكهوف والصحاري والأودية، ولهذه الكتلة قشرة غليظة تخفي ما تحتها وتبعده عن حاستي اللمس والنظر، ألا وهي قشرة العادات.
فالإنسان إذا كتلة عواطف مختلفة مغطاة بقشرة العادات والتقاليد السميكة، ويجب على الحسن من هذه العواطف أن يظهر في حالته الحقيقية، وكيف يتم ذلك إذا لم تنزع عنه القشرة التي تيبس وتذبل مع الزمان، فإبقاؤها في هذه الحالة فوق عواطفنا هو كإبقاء باقة من الزهور في إناء أسن فيه الماء. فالتحجر أو الذبول الذي يلحق بالقشرة ينتقل إلى العواطف كما يتصل فساد الماء بالزهور فتذوي، لذا تحتم علينا أن ننزع القشرة إذا أحببنا بقاء عواطفنا سالمة نقية مزهرة.
للعادات - كما للإنسان وللدول - أطوار مختلفة، أهم ما نراه ونراقبه منها طور النمو وطور البلوغ وطور الاضمحلال، ففي الأول تنشأ العادة وتنتشر بين الناس، وفي الثاني تتملك منهم وتستعبد النفس فيهم، وفي الثالث تظهر دلائل الاضمحلال إما في الحاكم وإما في المحكوم، إما في العادات وإما في عبيدها.
وقد تظهر غالبا في الاثنين معا إذا لم يكن هناك سبيل للوراثة، فكم ضعافا يذهبون فريسة عادات قبيحة؟ كثيرون كثيرون، وكم عقلاء جريئين ينتبهون وينبهون إلى أضرار تلك العادات ويحاولون إبطالها ؟ قليلون قليلون، نعم إن من يموتون عبيدا أرقاء لأكثر جدا من الذين يعشيون أحرارا ويظلون سادات أنفسهم، وما أولئك الكثيرون إلا هيئات مختلفة مملة لاصطلاحات قديمة معتلة.
هم صور جديدة بليدة لأجداد طوتهم الأيام وأنعشت قبورهم أمطار الأعوام، بل هم أرواح ميتة في قبور متحركة، وهل تعرف من قتلهم؟ العادات والاصطلاحات والتقاليد، وحبذا لو حاول القارئ أن يكون في هذه المناسبة من القاتلين فينجو عندئذ من القتل. وأكد أن العادات والتقاليد السقيمة تقتلك إذا لم تقتلها، ولا يجب أن يراك الإنسان في تابوتك أو يجس نبضك ليتأكد أنك ميت، فاقتل إذا ولا تخف، ليس كل قاتل مجرما.
أما العادات التي يجب إبطالها فكثيرة، أذكر منها الآن فروض التعزية المتملكة من السوريين، قد قلت في البدء إن مصيبتي ليست من الله ولا من الطبيعة بل هي من أصدقائي ومعارفي. لا مشاحة في أن السوريين يتأثرون أكثر من سواهم بحادثي الموت والفرح، فلا يسعهم إظهار حزنهم أو سرورهم إلا بالولولة والهتاف، بالبكاء والضجيج، وسبب ذلك واضح، يموت سقراطنا وعلى وجهه ابتسامة السرور والرضى والابتهاج، ويموت البربري من الخوف والرعب قبل أن يقرع بابه. زملاء الفيلسوف المحبون له ينشطون بموته ويستمد أصدقاؤه من ابتسامه الإلهي شيئا من الرجاء والتعزية، وأما أهل البربري فيملئون الفضاء ولولة وصراخا وعويلا، وهذا سبب واحد وللقارئ أن يتوسع ويزيد.
يموت السوري فيذيع أهله خبر موته فتتهافت المعارف والأصدقاء والأقارب إلى بيت الفقيد ليعزوا أهله «وليأخذوا بخاطرهم» كما يعبر عن هذا الواجب في لغة العامة، لا أشك أبدا بقصدهم الحسن ولا أسخر من عواطفهم الحقيقية، ولكن العادات التي تخفي القصد والكلام الذي يطلون به هذه العواطف فهذه والله البلية الكبرى، إذا كانوا يعنون «بأخذ الخاطر» سلب خاطر أهل الفقيد بخلابة اللسان وفصاحة الكلام فهم - والحق يقال - يفوزون لا بسلب الخاطر فقط بل بتعذيبه وتمزيقه إربا إربا.
الوعظ والنصيحة! نجنا يا رب منهما، نجنا من وعظ الثقلاء ونصائحهم، يظن من يذهب ليعزي أن من واجباته التفلسف في أسرار الكون وحكمة الخالق وجهل المخلوق وبطل الحياة ... إلخ، فيردد الكلام الذي ورثه عن أجداده من دون ما تدبر، وهو كلام فيه من التعزية قدر ما فيه من المعنى أو قدر ما في الميت من الحرارة. وما أجمل السكوت في مثل هذه الحالة. السكوت الذي يعبر عن كل شيء، فما أحيلاه.
قال أحد كتبة الفرنسيس «الكلام يخفي العواطف الحقيقية بدل أن يظهرها.» نعم، لا حاجة إلى اللغة في ساعة الموت أو في ساعة الفرح الشديد، اللغة تقصر عن إظهار ما في النفس كما يقصر البرق عن إظهار ما وراء الشمس والكواكب.
Shafi da ba'a sani ba