ساعة واحدة فأحسست بثقل تلك القيود، فكيف بمن قيدوا بها ثلاث سنوات؟ لا عجب إذا استحجرت قلوبهم.
وما مشهد الأم وأولادها بفظيع إلى جانب مشهد آخر شاهدته، هو ذا ولد مستلق على الرصيف، ألصقه الجوع بالدقعاء فظننته إذ رأيته ميتا، وهو ذا كلب قريب منه يصك عظما جريدا، فلما رآه الولد طفق يدب على بطنه ويديه حتى وصل إلى الكلب فنزع العظم من فمه وهو لا يبالي بنباحه، وسارع زحفا وهو يلتفت رعبا، كأنه خاف أن يراه أحد من الناس.
خرجت من المدينة ونفسي كنفس تلك الأم، وقلبي كقلب هذا الولد، وبين أنا سائر إلى الحرج رأيت في حقل على بضعة أمتار من الطريق ما ظننته لأول وهلة قطيعا من المعزى، فاقتربت منه فإذا هناك ثلاث نساء وولدان في قمصان سوداء بالية مجتمعون حول مزبلة يمدون إليها أيديهم فيبحثون فيها كالدجاج عن شيء يخففون به مضض الجوع، عفوا ربي! قد كفرت بك وأنكرت عنايتك الإلهية، وجدفت على اسمك وسمائك، أتضن على مثل هؤلاء من أبنائك حتى بالموت؟ أبشر خلقوا على شكلك ومثالك يقتاتون من المزابل؟ ويسابقون الكلاب على عظم جريد؟ لله من ذي المشاهد البشرية الفظيعة المريعة! لله من نكبة سودت يومنا! لله من جوع مسخ قومنا.
دخلت حرج الصنوبر واللعنة في قلبي وعلى لساني، نظرت إلى شمس المغيب من خلال الأغصان وفكرت بالبلاد التي ستشرق بعد بضعة ساعات فيها، أتشرق يا ترى في قلوب من هاجروا إليها فيسارعون بالنجدة، بالفرج، بالخلاص، قبل أن تنقرض أمتهم؟ أيموت الأطفال في الأسواق، أيسابق الصبيان الكلاب على العظام، أيقتات الناس من المزابل، وأبناؤك يا سوريا في مصر وباريس وأميركا يتنازعون ويتطاحنون ويستشهدون على صفحات الجرائد؟ أفي الذل والشدة أنت تترقبين الفرج مع كل شارقة وكل غاربة، وأبناؤك الأحرار يستمهلونك بين هم يتناقشون في الاحتلال والاستقلال؟ إن كل سوري حي الجنان والوجدان، ليود قبل كل شيء خلاص بلاده وإنقاذ البقية الباقية فيها.
عدت إلى المدينة تحت جنح الليل في أزقة كأنها المقابر، عفوا، إن المقابر تنور الأزهار وتغرد العصافير، وفي هذه الأزقة بيوت بل أكواخ تبكي فيها الأطفال وتنوح فيها النساء.
وصلت إلى ساحة الاتحاد فوجدتها خالية مظلمة، تعثرت هناك بكلب فتحرك قليلا ولم ينبح، الجوع والرعب يعقدان حتى ألسنة الكلاب، وما كدت أصل إلى وسط الساحة حتى رأيتني أمام مشنقة تدلت منها جثة في قميص بيضاء، فتراجعت مذعورا فإذا أنا بين عدد من المشانق، بل بين أصحابي وإخواني شهداء الحق والوطن والحرية، وقد استحال ظلام الليل نورا على وجوههم، عرفت معنى سكوت الناس في البلد، هو ذا مصدر الرعب السائد في قلوبهم، هو ذا مصدر البلاء المخيم على أنفسهم، وعرفت معنى تغيظ الشيخ وكلامه: جاءوا يهزءون بأحزاني ... كلاب ... خنازير ... إي مختار أفندي ... إي جرجي أفندي ... إي إخواني كنت في المدينة نهارا أبحث عنكم فها قد جمعني بكم الليل، جمعتني بكم نجوم السماء، ولكن النور الذي ينير وجوهكم حير فؤادي، فتلفت أستطلع مقامه فإذا في وسط المشانق صليب كبير يعلوها كلها، وعند الصليب امرأة في ثوب الحداد جاثية ترفع إلى المصلوب يديها.
أمي، أم أمتي! هي خالدة لا تموت، لا تموت وفي قلبها ذرة من الرجاء، لا تموت وإن أمست أرضها غابا من المشانق، لا تموت وفيها من أبنائها من يموتون شهداء الحق والوطن والحرية.
اقتربت منها وألقيت عليها السلام، جثوت قربها وطفقت أقبل يديها ورجليها، فنظرت إلي تسألني: من أنت؟
قلت: أنا أحد أبنائك من المهجر.
فقالت: لا بارك الله بأبنائي في المهجر. - ولكنهم اليوم يفكرون في خلاصك، يسعون في إنقاذك.
Shafi da ba'a sani ba