وما الذي وفق بيني وبين الكنيسة؟ لم أكن عندئذ أعلم، ولا أنا أعلم الآن، على أن هيكلي اليوم ومسيحي قائمان في غابة الصنوبر بين الأزهار.
وسواء كان محب الطبيعة شاعرا أو فيلسوفا يلبي دعوة الأزهار التي تنور كل سنة عند محراب إيمانه، والطبيعة لا تذهل ولا تغير عادتها فلئن كنا في أقصى بلدان العالم فهي تسمعنا أبدا صوتها، وإلا فلماذا - وأنا أقاسي الموت كل مرة - أجتاز المحيط لأزور وطني؟
أميركا أيضا أرض ميلادي، ميلادي الثاني، وهو أرفع في نفسي من وطني الأول، وفيها أيضا أجدني في قلب الطبيعة آمنا مستأنسا، فهذه الأقاحي من أجمل ما تصنعه التربة والحرارة والغيث، إلا أن جمالها عندي يشوبه ألم الذكرى، فالأقاحي التي عرفت دلال حبي في صباي، والتي دعت تمتمة قلبي المملوء أوهاما، هي أذكى رائحة وأبهى طلعة وشكلا، وها هنا جنات تفوق ينابيعها وبراعة يد الإنسان فيها جمال الطبيعة، إلا أني كيفما أتجه النظر في محاسنها، لا أرى بعين المخيلة إلا رسم حوض الريحان الذي كان لأمي.
وها هنا ينبت أيضا زهر المسيح، وهو أنمى وأجمل من النباتات النحيفة التي تطلع من بين شقوق الصخور في بلادي وفي ثقوبها وظلالها، إلا أني حين أتصورها يحملني الخيال إلى حقول الفتوة فأراني راكضا حافيا في تلال لبنان، مصعدا طورا في هضابه وقد كستها الأزهار، وطورا نازلا لأقطب في الوادي (يوم الجمعة العظيمة) طاقة أحملها خاشعا إلى الكنيسة وأضعها عند قدمي المصلوب العزيز.
وما أعلى الشربين في وطني الثاني وما أجمله وما أعظمه، ولكن صنوبر لبنان أقرب إلى قلبي، وللصنوبر فضل علي لا أجحده دانيا أو قصيا، فقد عشت في ظلاله ردحا أنتفع بغيثه ونفحاته الطيبة؛ لذلك لا أتحول عن حبي أشجار صباي وذكرى ألاعيب الطفولة وتلك السذاجة الطاهرة الأولى.
لله من غضب الآلهة، إن إلهة وطني لناقمة علي.
وإلا فما الذي ينبه الروح فينا ويستحوذ على قوانا العقلية ويقودنا بالعواطف إلى أمصار ندعوها الوطن أو مسقط الرأس؟ إني جاهل حائر فلا أعتبر الوطنية وجلها سياسي، ولا حب الوطن وكنهه الأنانية، ولم أكن قطعا وطنيا في أيهما ولا في ما حدده دجنسون
3
من الوطنية.
وفضلا عن ذلك أن وطنا لم تتحقق فيه الحريتان الشخصية والروحية لا يستحق الحب والإجلال، وأن المرء يستطيع أن يخدمه وهو في بلاد بعيدة عنه، ولقد عالجت وطني قريبا وبعيدا، وكنت في الحالين واحدا وكان الدواء واحدا، ولكن الداء عضال والشفاء التام قلما يكون.
Shafi da ba'a sani ba