Wasiku na Jahiz
رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
Nau'ikan
قالوا: وقد يكون الرجل أفضل الناس ويلي عليه من هو دونه من الفضل حتى يكلفه الله تعالى طاعته وتقديمه إما للمصلحة، وإما للإشفاق من الفتنة كما ذكرنا وفسرنا، وإما للتغليظ في المحنة وتشديد البلوى والكلفة كما قال الله تعالى للملائكة:
اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ، والملائكة أفضل من آدم فقد كلفهم الله تعالى أغلظ المحن وأشد البلوى؛ إذ ليس في الخضوع أشد من السجود على الساجد، والملائكة أفضل من آدم لأن جبريل وميكائيل وإسرافيل عند الله تعالى من المقربين قبل خلق آدم بدهر طويل لما قدمت من العبادة واحتملت من ثقل الطاعة. وكما ملك الله تعالى طالوت على بني إسرائيل وفيهم يومئذ داود عليه السلام وهو نبيهم الذي أخبر الله عنه كما في القرآن بقوله تعالى:
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا . ثم صنيع النبي
صلى الله عليه وسلم
حين ولى زيد بن حارثة على جعفر الطيار يوم مؤتة، وولى أسامة على أكثر المهاجرين وفيهم أبو بكر وعمر وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وسعد بن أبي وقاص، ذوو أخطار وأقدار من البدريين والمهاجرين والسابقين الأولين.
فصل منه : ولو ترك الناس وقوى عقولهم وجماح طبائعهم وغلبة شهواتهم وكثرة جهلهم وشدة نزاعهم إلى ما يرديهم ويطغيهم حتى يكونوا هم الذين يحتجزون من كل ما أفسدهم بقدر قواهم، وحتى يقفوا على حد الضار والنافع، ويعرفوا فضل ما بين الداء والدواء والأغذية والسموم، كان قد كلفهم شططا وأسلمهم إلى عدوهم وشغلهم عن طاعته التي هي أجدى الأمور عليهم وأنفعها لهم، ومن أجلها عدل التركيب وسوى البنية وأخرجهم من حد الطفولة والجهل إلى حد البلوغ والاعتدال والصحة وتمام الأداة والآلة؛ ولذلك قال عز ذكره:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ولو أن الناس تركهم الله تعالى والتجربة وخلاهم وسبر الأمور وامتحان السموم واختبار الأغذية - وهم على ما ذكرنا من ضعف الحيلة وقلة المعرفة وغلبة الشهوة وتسلط الطبيعة مع كثرة الحاجة والجهل بالعاقبة - لأثرت فيهم السموم ولأفناهم الخلط ولأجهز عليهم الخبط ولتولدت الأدواء وترادفت الأسقام حتى تصير منايا قاتلة وحتوفا متلفة؛ إذ لم يكن عندهم إلا أخذها والجهل بحدودها ومنتهى ما يجوز منها والزيادة فيها وقلة الاحتراس من توليدها. فلما كان ذلك كذلك علمنا أن الله تعالى حيث خلق العالم وسكانه لم يخلقهم إلا لصلاحهم، ولا يجوز صلاحهم إلا بتنقيتهم، ولولا الأمر والنهي ما كان للتنقية وتعديل الفطرة معنى.
ولما أن كان لا بد للعباد من أن يكونوا مأمورين منهيين بين عدو عاص ومطيع ولي، علمنا أن الناس لا يستطيعون مدافعة طبائعهم ومخالفة أهوائهم إلا بالزجر الشديد والتوعد بالعقاب الأليم في الآجل بعد التنكيل في العاجل. إذ كان لا بد من أن يكون لكونهم مأمورين منهيين من العمل معجلا والجزاء الأكبر مؤجلا، وكان شأنهم إيثار الأدنى وتسويف الأقصى. وإذا كانت عقول الناس لا تبلغ جميع مصالحهم في دنياهم، فهم عن مصالح دينهم أعجز؛ إذ كان علم الدين مستنبطا من علم الدنيا، وإذا كان العلم مباشرة أو سببا بالمباشرة، وعلم الدين غامض لا يتخلص إلى معرفته إلا بالطبيعة الفائقة والعناية الشديدة مع تلقين الأئمة؛ ولأن الناس لو كانوا يبلغون بأنفسهم غاية مصالحهم في دينهم ودنياهم لكان إرسال الرسل قليل النفع يسير الفضل، وإذا كان الناس - مع منفعتهم بالعاجل وحبهم للبقاء ورغبتهم في النماء وحاجتهم إلى الكفاية ومعرفتهم بما فيها من السلامة - لا يبلغون بأنفسهم معرفة ذلك وإصلاحه، وعلم ذلك جلي ظاهر سببه متصل بعضه ببعض كدرك الحواس وما لاقاها، فهم عن التعديل والتجوير وتفصيل التأويل والكلام في مجيء الأخبار وأصول الأديان أعجز وأجدر ألا يبلغوا منه الغاية ولا ينالوا منه الحاجة؛ لأن علم الدنيا أمران: إما شيء يلي الحواس، وإما شيء يلي علم الحواس، وليس كذلك الدين.
فلما كان ذلك كذلك علمنا أنه لا بد للناس من إمام يعرفهم جميع مصالحهم، ووجدنا الأئمة ثلاثة: رسول، ونبي، وإمام. فالرسول نبي إمام، والنبي إمام وليس برسول، والإمام ليس برسول ولا نبي. وإنما اختلفت أسماؤهم ومراتبهم لاختلاف المقومات والطبائع، وعلى قدر ارتفاع بعضهم عن درجة بعض في العزم والتركيب، وبتغير الزمان يتغير الغرض وتتبدل الشريعة. فأفضل الناس الرسول، ثم النبي، ثم الإمام. فالرسول هو الذي يشرع شريعة ويبتدئ الملة ويقيم الناس على جمل مراشدهم؛ إذ كانت طبائعهم لا تحتمل في ابتداء الأمر أكثر من الجمل. ولولا أن في طاقة الناس قبول التلقين وفهم الإشارة لكانوا هملا ولتركوا نشرا وحشرا ولسقط عنهم الأمر والنهي، ولكنهم قد يفضلون بين الأمور إذا أوردت عليهم وكفوا مؤنة التجربة وعلاج الاستنباط، ولن يبلغوا بذلك القدر قدر المستغني بنفسه المستبد برأيه المكتفي بفطنته عن إرشاد الرسل وتلقين الأئمة. وإنما جاز أن يكون الرسول مرة عربيا ومرة عجميا وليس له بيت يخطره ولا شرف يشهر موضعه؛ لأنه حيث كان مبتدئ الملة ومخرج الشريعة كان ذلك أشهر من شرف الحسب المذكور وأنبه من البيت المقدم، ولأنه يحتاج من الأعلام والآيات والأعاجيب إلى الظاهر المعقول والواضح الذي لا يخيل أن يشتهر مثله في الآفاق ويستفيض في الأطراف حتى يصدع عقل الغبي ويضعف طبع العاقل وينقض عزم المعاند وينبه من طول الرقدة ويخضع الرقاب ويضرع الخدود حتى يتواضع له كل شرف وينحل له كل أنف، فلا يحتاج حاله معه إلى مال ولا قدره إلى حسب. وعلى قدر جهل الأمة وغباء عقولها وسوء رغبتها وخبث عادتها وغلظ محنتها وشدة حيرتها، تكون الآيات: كفلق البحر والمشي على الماء وإحياء الموتى وقصر الشمس عن جريها. ولأن النبي ليس برسول ولا مبتدئ ملة ولا منشئ شريعة، إنما هو للتأكيد والبشارة كبشارة النبي بالرسول الكائن على غابر الأيام وطول الدهر، وتوكيد المبشر يحتاج من الأعلام إلى دون ما يحتاج إليه المبتدئ لأصل الملة والمظهر لغرض الشريعة الناقل للناس عن الضلال القديم والعادة السيئة والجهل الراسخ؛ فلذلك اكتفي بشهرة أعلامه وشرائعه من شهرة بيته وشرف حسبه؛ لأنه لا ذكر إلا وهو خامل عند ذكره، ولا شرف إلا وهو وضيع عند شرفه.
فصل منه يحكي فيه قول من يجيز أكثر من إمام واحد : زعم قوم أن الإمامة لا تجب لرجل واحد بعينه من رهط واحد ولا لواحد من عرض الناس وإن كان أكثرهم فضلا وأعظمهم عن المسلمين غناء بعد أن يكون فردا في الإمامة لا ثاني له، وأن الناس إن تركوا أن يقيموا إماما واحدا جاز لهم ذلك، ولم يكونوا بتركه ضالين ولا عاصين ولا كافرين، فإن أقاموه كان ذلك رأيا رأوه وغير مضيق عليهم تركه، ولهم أن يقيموا اثنين، وجائز لهم أن يقيموا أكثر من ذلك، ولا بأس أن يكونوا عجما وموالي، ولكن لا بد من حاكم واحدا كان أو أكثر على حال. ولا يجوز أن يكون الرجل حاكما على نفسه وقائما عليها بالحدود. ولم يقل أحد البتة إن من الحكم والحاكم بدا، ولكنهم اختلفوا في جهاتهم ومعانيهم، وقالوا: وأي ذلك كان من إقامة الواحد والاثنين أو أكثر من ذلك، فعلى الناس الكف عن محارمهم وترك الأصل والتناجي فيما بينهم والتخاذل عند الحادثة تنوبهم من عدو يدهمهم من غيرهم أو خارب يخيف سبلهم من أهل دعوتهم، وعليهم فيما شجر بينهم إعطاء النصفة من أنفسهم بالغا ما بلغ في عسر الأمر ويسره، وعلى كل رجل في داره وبيته وقبيلته وناحيته ومصره إذا كان مأمونا ذا صلاح إذا ثبت عنده على أخيه أو صاحبه أو جاره أو حاشيته من خدمه حد أو حكم جناه جان عليهم على نفسه أو ظلم ركبه من غيره إقامة ذلك الحكم أو الحد عليه إذا أمكنه مستحقه، إلا أن يكون فوقه كاف قد أجزى عليه، وعلى المجترح للذنب الموجب على نفسه الحد والمستحق له إمضاء الحكم في بدنه وماله والإمكان من نفسه، وألا يعوذ بقوة ولا يروغ بحيلة ولا يسخط حكم التنزيل فيما نزل به وفيما هو بسبيله من مال أو غيره، وإنما يجب ذلك إذا كان على الفريقين من القيم والجاني يمكنه ما كلفه الله من ذلك، فإن أبى القيم إقامة الحق والحد على الجاني بعد استيجابه والإمكان من نفسه لإقامة الحد عليه فقد عصى الله تعالى، ولم يؤت في ذلك الأمر نفسه؛ لأن الله تعالى قد بينه له وأوجبه عليه وقرره حين أوضح له الحجة وقرب له الدلالة وطوقه المعرفة ومكنه من الفعل.
Shafi da ba'a sani ba