مقدمة
خلاصة كتاب العثمانية
خلاصة نقض كتاب العثمانية
من كتاب فضل هاشم على عبد شمس
من كتاب حجج النبوة
من كتاب الحجاب
كتاب التربيع والتدوير
من كتاب استحقاق الإمامة
من رسالته في صناعات القواد
من كتابه في النساء
من رسالته في الشارب والمشروب
من رسالته في مدح النبيذ
من رسالته في بني أمية
من كتابه في العباسية
من رسائله الخاصة
مقدمة
خلاصة كتاب العثمانية
خلاصة نقض كتاب العثمانية
من كتاب فضل هاشم على عبد شمس
من كتاب حجج النبوة
من كتاب الحجاب
كتاب التربيع والتدوير
من كتاب استحقاق الإمامة
من رسالته في صناعات القواد
من كتابه في النساء
من رسالته في الشارب والمشروب
من رسالته في مدح النبيذ
من رسالته في بني أمية
من كتابه في العباسية
من رسائله الخاصة
رسائل الجاحظ
رسائل الجاحظ
وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
تأليف
الجاحظ
خلاصة كتاب العثمانية
قال أبو عثمان:
قالت العثمانية: أفضل الأمة وأولاها بالإمامة أبو بكر بن أبي قحافة؛ لإسلامه على الوجه الذي لم يسلم عليه أحد في عصره. وذلك أن الناس اختلفوا في أول الناس إسلاما، فقال قوم: أبو بكر، وقال قوم: زيد بن حارثة، وقال قوم: خباب بن الأرت ... وإذا تفقدنا أخبارهم وأحصينا أحاديثهم وعددنا رجالهم ونظرنا في صحة أسانيدهم، كان الخبر في تقدم إسلام أبي بكر أعم ورجاله أكثر وأسانيده أصح، وهو بذاك أشهر واللفظ فيه أظهر، مع الأشعار الصحيحة والأخبار المستفيضة في حياة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبعد وفاته. وليس بين الأشعار والأخبار فرق إذا امتنع في مجيئها وأصل مخرجها التباعد والاتفاق والتواطؤ ... ولكن ندع هذا المذهب جانبا ونضرب عنه صفحا، اقتدارا على الحجة ووثوقا بالفلج والقوة، ونقتصر على أدنى نازل في أبي بكر، وننزل على حكم الخصم فنقول:
إنا وجدنا من يزعم أنه (يعني عليا) أسلم قبل زيد وخباب، ووجدنا من يزعم أنهما أسلما قبله. وأوسط الأمور أعدلها، وأقربها من محبة الجميع ورضا المخالف أن نجعل إسلامهم كان معا ؛ إذ الأخبار متكافئة والآثار متساوية على ما يزعمون، وليست إحدى القضيتين أولى في صحة العقل من الأخرى. ثم نستدل على إمامة أبي بكر بما ورد فيه من الحديث وبما أبانه به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من غيره.
قالوا: فمما روي من تقدم إسلامه ما حدث به أبو داود بسنده،
1
عن أبي هريرة قال: قال أبو بكر: أنا أحقكم بهذا الأمر - يعني الخلافة - ألست أول من صلى؟!
وروى عباد بن صهيب عن يحيى بن عمير عن محمد بن المنكدر، أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: إن الله بعثني بالهدى ودين الحق إلى الناس كافة، فقالوا: كذبت، وقال أبو بكر: صدقت.
وروى يعلى بن عبيد قال: جاء رجل إلى ابن عباس فسأله: من كان أول الناس إسلاما؟ فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت:
إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة
فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا
الثاني التالي المحمود مشهده
وأول الناس منهم صدق الرسلا
وقول أبي محجن:
سبقت إلى الإسلام والله شاهد
وكنت حبيبا بالعريش مشهرا
وقول كعب بن مالك:
سبقت أخا تيم إلى دين أحمد
وكنت لدى الغيران في الكهف صاحبا
وروى ابن أبي شيبة بسنده عن النخعي قال: أبو بكر أول من أسلم.
وعن عمرو بن عنبسة قال: أتيت النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو بعكاظ، فقلت له: من بايعك على هذا الأمر؟ فقال: بايعني حر وعبد. فلقد رأيتني يومئذ وأنا رابع الإسلام.
قال بعض أصحاب الحديث: يعني بالحر أبا بكر، وبالعبد بلالا.
وروى الليث بن سعد بسنده عن أبي أمامة قال: حدثني عمرو بن عنبسة أنه سأل النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو بعكاظ فقال له: من تبعك؟ فقال: تبعني حر وعبد، أبو بكر وبلال.
وعن أسيد بن صفوان صاحب النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: لما قبض أبو بكر جاء علي بن أبي طالب فقال: رحمك الله أبا بكر، كنت أول الناس إسلاما.
وعن عكرمة مولى ابن عباس قال: إذا لقيت الهاشميين قالوا : علي بن أبي طالب أول من أسلم، وإذا لقيت الذين يعلمون قالوا: أبو بكر أول من أسلم.
قال أبو عثمان: قال العثمانية: فإن قال قائل: فما بالكم لم تذكروا علي بن أبي طالب في هذه الطبقة، وقد تعلمون كثرة مقدميه والرواية فيه؟! قلنا: قد علمنا الرواية الصحيحة والشهادة القائمة أنه أسلم وهو حدث غرير وطفل صغير، فلم نكذب الناقلين، ولم نستطع أن نلحق إسلامه بإسلام البالغين؛ لأن المقلل زعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين، والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين! فالقياس أن يؤخذ الأوسط بين الروايتين وبالأمر بين الأمرين؟! وإنما يعرف حق ذلك من باطله بأن تحصي سنيه التي ولي فيها الخلافة وسني عثمان وسني عمر وسني أبي بكر ومقام النبي
صلى الله عليه وسلم
بالمدينة ومقامه بمكة عند إظهار الدعوة، فإن فعلنا ذلك صح أنه أسلم وهو ابن سبع سنين، فالتاريخ المجمع عليه أنه قتل في شهر رمضان سنة أربعين.
فإن قالوا: فلعله وهو ابن سبع سنين أو ثماني سنين قد بلغ من فطنته وذكائه وصحة لبه وصدق حدسه وانكشاف العواقب له - وإن لم يكن جرب الأمور ولا فاتح الرجال ولا نازع الخصوم - ما يعرف به جميع ما يجب على البالغ معرفته والإقرار به؟! قيل لهم: إنما نتكلم على ظواهر الأحوال وما شاهدنا عليه طبائع الأطفال! فإنا وجدنا حكم ابن سبع سنين أو ثمان - ما لم يعلم باطن أمره وخاصة طبعه - حكم الأطفال. وليس لنا أن نزيل ظاهر حكمه، والذي نعرف من حال أبناء جنسه، بلعل وعسى؟! لأنا وإن كنا لا ندري لعله قد كان ذا فضيلة في الفطنة، فلعله قد كان ذا نقص فيها! هذا على تجويز أن يكون علي في الغيب قد أسلم وهو ابن سبع أو ثمان إسلام البالغ! غير أن الحكم على مجرى أمثاله وأشكاله الذين أسلموا وهم في مثل سنه! إذا كان إسلام هؤلاء عن تربية الحاضن وتلقين القيم ورياضة السائس. فأما عند التحقيق فإنه لا يجوز لمثل ذلك؛ لأنه لو كان أسلم وهو ابن سبع أو ثمان وعرف فضل ما بين الأنبياء والكهنة وفرق ما بين الرسل والسحرة وفرق ما بين خبر النبي والمنجم، وحتى عرف كيد الأريب وموضع الحجة ونقد التمييز، وكيف يلبس على العقلاء وتستمال عقول الدهماء، وعرف الممكن في الطبع من الممتنع، وما يحدث بالاتفاق مما يحدث بالأسباب، وعرف قدر القوى وغاية الحيلة ومنتهى التمويه والخديعة، وما لا يحتمل أن يحدثه إلا الخالق سبحانه، وما يجوز على الله في حكمته مما لا يجوز، وكيف التحفظ من الهوى والاحتراس من الخداع، لكان كونه على هذه الحال - وهذا مع فرط الصبا والحداثة وقلة التجارب والممارسة - خروجا من العادة ومن المعروف مما عليه تركيب هذه الخلقة.
وليس يصل أحد إلى معرفة نبي وكذب متنبئ حتى تجتمع فيه هذه المعارف التي ذكرناها والأسباب التي وصفناها وفصلناها. ولو كان علي على هذه الصفة ومعه هذه الخاصية لكان حجة على العامة وآية تدل على النبوة! ولم يكن الله عز وجل ليخصه بمثل هذه الأعجوبة إلا وهو يريد أن يحتج بها ويجعلها قاطعة لعذر الشاهد وحجة على الغائب. ولولا أن الله أخبر عن يحيى بن زكريا أنه آتاه الحكم صبيا، وأنه أنطق عيسى في المهد، ما كانا في الحكم إلا كسائر الرسل وما عليه جميع البشر، فإذا لم ينطق لعلي بذلك قرآن ولا جاء الخبر به مجيء الحجة القاطعة والمشاهدة القائمة فالمعلوم عندنا في الحكم أن طباعه كطباع عميه حمزة والعباس، وهما أمس بمعدن جماع الخير منه! أو كطباع جعفر وعقيل من رجال قومه وسادة رهطه! ولو أن إنسانا ادعى مثل ذلك لأخيه جعفر أو لعميه حمزة والعباس ما كان عندنا في أمره إلا مثل ما عندنا فيه.
ولو لم يعرف باطل هذه الدعوى من آثر التقوى وتحفظ من الهوى إلا بترك علي ذكر ذلك لنفسه والاحتجاج به على خصمه - وقد نازع الرجال وناوأ الأكفاء وجامع أهل الشورى وولى عليه - لكان كافيا. ومتى لم تصح هذه الدعوى في أيامه ولم يذكرها أهل عصره، فهي عن ولده أعجز ومنهم أضعف. ولم ينقل إلينا ناقل أن عليا احتج بذلك في موقف ولا ذكره في مجلس ولا قام به خطيبا ولا أدلى به واثقا، لا سيما وقد رضيه الرسول
صلى الله عليه وسلم
عندكم مفزعا ومعلما وجعله للناس إماما! ولا ادعى له أحد ذلك في عصره كما لم يدعه لنفسه حتى يقول إنسان واحد به: الدليل على إمامته أن النبي
صلى الله عليه وسلم
دعاه إلى الإسلام أو كلفه التصديق قبل بلوغه ليكون ذلك آية للناس في عصره وحجة له ولولده من بعده! فهذا كان أشد على طلحة والزبير وعائشة في كل ما ادعاه من فضائله وسوابقه وذكر قرابته؟!
فلو أن عليا كان بالغا حيث أسلم لكان إسلام أبي بكر وزيد بن حارثة وخباب بن الأرت أفضل من إسلامه؛ لأن إسلام المقتضب الذي لم يعتد به ولم يعوده ولم يمرن عليه أفضل من الناشئ الذي ربي فيه ونشأ عليه وحبب إليه؛ وذلك لأن صاحب التربية يبلغ حيث بلغ وقد أسقط إلفه عنه مؤنة الروية والخاطر وكفاه علاج القلب واضطراب النفس، وزيد وخباب وأبو بكر يعانون من كلفة النظر ومؤنة التأمل ومشقة الانتقال من الدين الذي قد طال إلفهم له ما هو غير خاف!
ولو كان علي حيث أسلم بالغا مقتضبا كغيره ممن عددنا لكان إسلامهم أفضل من إسلامه؛ لأن من أسلم وهو يعلم أن له ظهرا كأبي طالب وردءا كبني هاشم وموضعا في بني عبد مناف، ليس كالحليف والمولى والتابع والعسيف
2
وكالرجل من عرض قريش؟! أولست تعلم أن قريشا خاصة وأهل مكة عامة لم يقدروا على أذى النبي
صلى الله عليه وسلم
ما كان أبو طالب حيا؟ وأيضا فإن أولئك اجتمع عليهم مع فراق الإلف مشقة الخاطر، وعلي كان بحضرة الرسول يشاهد الأعلام في كل وقت ويحضر منزل الوحي. فالبراهين له أشد انكشافا والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا، وعلى قدر الكلفة والمشقة يعظم الفضل ويكثر الأجر.
ولأبي بكر فضيلة في إسلامه، أنه كان قبل إسلامه كثير الصديق عريض الجاه ذا يسار وغنى، يعظم لماله ويستفاد من رأيه، فخرج من عز الغنى وكثرة الصديق إلى ذل الفاقة وعجز الوحدة. وهذا غير إسلام من لا حراك به ولا عز له، تابع غير متبوع؛ لأن من أشد ما يبتلى الكريم به السب بعد التحية والضرب بعد الهيبة والعسر بعد اليسر ...! ثم كان أبو بكر داعية من دعاة الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وكان يتلوه في جميع أحواله، فكان الخوف إليه أشد والمكروه نحوه أسرع، وكان ممن تحسن مطالبته ولا يستحيا من إدراك الثأر عنده؛ لنباهته وبعد ذكره، والحدث صغير يزدرى ويحتقر لصغر سنه وخمول ذكره.
وكان أبو بكر من المفتونين المعذبين بمكة قبل الهجرة، فضربه نوفل بن خويلد المعروف بابن العدوية مرتين حتى أدماه، وشده مع طلحة بن عبيد الله في قرن وجعلهما في الهاجرة عمير بن عثمان بن مرة بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة؛ ولذلك كانا يدعيان: القرينين. ولو لم يكن له غير ذلك لكان لحاقه عسيرا وبلوغ منزلته شديدا، ولو كان يوما واحدا لكان عظيما ... وعلي بن أبي طالب رافه وادع، ليس بمطلوب ولا طالب ... وليس أنه لم يكن في طبعه الشهامة والنجدة وفي غريزته البسالة والشجاعة! ولكنه لم يكن قد تمت أداته ولا استكملت آلته، ورجال الطلب وأصحاب الثأر يغمضون ذا الحداثة ويزدرون بذي الصبا والغرارة إلى أن يلحق بالرجال ويخرج من طبع الأطفال.
ولأبي بكر مراتب لا يشركه فيها علي ولا غيره، وذلك قبل الهجرة. فقد علم الناس أن عليا إنما ظهر فضله وانتشر صيته وامتحن ولقي المشاق منذ يوم بدر، وأنه إنما قاتل في الزمان الذي استوى فيه أهل الإسلام وأهل الشركة وطمعوا في أن يكون الحرب بينهم سجالا، وأعلمهم الله تعالى أن العاقبة للمتقين. وأبو بكر كان قبل الهجرة معذبا مطرودا مشردا في الزمان الذي ليس بالإسلام وأهله نهوض ولا حركة؛ ولذلك قال أبو بكر في خلافته: طوبى لمن مات في نأنأة الإسلام. يقول: في ضعفه.
وإن بين المحنة في الدهر الذي صار فيه أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
مقرنين لأهل مكة ومشركي قريش ومعهم أهل يثرب أصحاب النخيل والآطام والشجاعة والصبر والمواساة والإيثار والمحاماة والعدد الدثر والفعل الجذل، وبين الدهر الذي كانوا فيه بمكة يفتنون ويشتمون ويضربون ويشردون ويجوعون ويعطشون، مقهورين لا حراك بهم وأذلاء لا عز لهم وفقراء لا مال عندهم، ومستخفين لا يمكنهم إظهار دعوتهم، لفرقا واضحا ... ولقد كانوا في حال أحوجت لوطا وهو نبي إلى أن قال:
لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم : «عجبت من أخي لوط كيف قال:
أو آوي إلى ركن شديد
وهو يأوي إلى الله تعالى!» ... ثم لم يكن ذلك يوما ولا يومين ولا شهرا ولا شهرين ولا عاما ولا عامين، ولكن السنين بعد السنين! وكان أغلظ القوم وأشدهم محنة بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أبو بكر؛ لأنه أقام بمكة ما أقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثلاث عشرة سنة، وهو أوسط ما قالوا في مقام النبي
صلى الله عليه وسلم .
فإن احتج محتج لعلي بالمبيت على الفراش، فبين الغار والفراش فرق واضح! لأن الغار وصحبة أبي بكر للنبي
صلى الله عليه وسلم
قد نطق به القرآن فصار كالصلاة والزكاة وغيرهما مما نطق به الكتاب، وأمر علي ونومه في الفراش، وإن كان ثابتا صحيحا، إلا أنه لم يذكر في القرآن، وإنما جاء مجيء الروايات والسير، وهذا لا يوازن هذا ولا يكايله.
وفرق آخر، وهو أنه لو كان مبيت علي على الفراش جاء مجيء كون أبي بكر في الغار، لم يكن له في ذلك كبير طاعة؛ لأن الناقلين نقلوا أنه
صلى الله عليه وسلم
قال له: نم؛ فلن يخلص إليك شيء تكرهه. ولم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في صحبته إياه وكونه معه في الغار مثل ذلك، ولا قال له: أنفق وأعتق؛ فإنك لن تفتقر ولن يصل إليك مكروه!
ومن جحد كون أبي بكر صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقد كفر؛ لأنه جحد نص الكتاب. ثم انظر إلى قوله تعالى:
إن الله معنا
من الفضيلة لأبي بكر؛ لأنه شريك رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في كون الله تعالى معه! وإنزال السكينة. قال كثير من الناس إنه في الآية مخصوص بأبي بكر؛ لأنه كان محتاجا إلى السكينة لما تداخله من رقة الطبع البشري، والنبي
صلى الله عليه وسلم
كان غير محتاج إليها لأنه يعلم أنه محروس من الله تعالى فلا معنى لنزول السكينة عليه. وهذه فضيلة ثالثة لأبي بكر.
وإن كان المبيت على الفراش فضيلة، فأين هي من فضائل أبي بكر أيام مكة من عتق المعذبين وإنفاق المال وكثرة المستجيبين، مع فرق ما بين الطاعتين؛ لأن طاعة الشاب الغرير والحدث الصغير الذي في عز صاحبه عزه ليست كطاعة الحليم الكبير الذي لا يرجع تسويد صاحبه (إلا) إلى رهطه وعشيرته.
وعلى أنا لو نزلنا إلى ما يريدونه جعلنا الفراش كالغار، وخلصت فضائل أبي بكر في غير ذلك عن معارض.
ثم الذي لقي أبو بكر في مسجده الذي بناه على بابه في بني جمح، فقد كان بنى مسجدا يصلي فيه ويدعو الناس إلى الإسلام، وكان له صوت رقيق ووجه عتيق، وكان إذا قرأ بكى، فيقف عليه المارة من الرجال والنساء والصبيان والعبيد. فلما أوذي في الله ومنع من ذلك المسجد استأذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الهجرة فأذن له، فأقبل يريد المدينة، (فاعترضه) الكناني فعقد له جوارا وقال: والله لا أدع مثلك يخرج من مكة. فرجع إليها وعاد لصنيعه في المسجد، فمشت قريش إلى جاره الكناني وأجلبوا عليه فقال له: دع المسجد وادخل بيتك واصنع فيه ما بدا لك!
وحين رد أبو بكر جوار الكناني وقال: لا أريد جارا سوى الله! لقي من الأذى والذل والاستخفاف والضرب ما بلغكم. وهذا موجود في جميع السير. وكان آخر ما لقي هو وأهله في أمر الغار وقد طلبته قريش وجعلت فيه مائة بعير كما جعلت في النبي
صلى الله عليه وسلم ، فلقي أبو جهل أسماء بنت أبي بكر فسألها فكتمته، فلطمها حتى رمت قرطا كان في أذنها.
ثم الذي كان من دعائه إلى الإسلام وحسن احتجاجه حتى أسلم على يديه طلحة والزبير وسعد وعثمان وعبد الرحمن؛ لأنه ساعة أسلم دعا إلى الله وإلى رسوله.
وقالت أسماء بنت أبي بكر: ما عرفت أبي إلا وهو يدين بالدين ولقد رجع إلينا يوم أسلم فدعانا إلى الإسلام، فما رمنا حتى أسلمنا وأسلم أكثر جلسائه. ولذلك قالوا: من أسلم بدعاء أبي بكر أكثر ممن أسلم بالسيف. ولم يذهبوا في ذلك إلى العدد بل عنوا الكثيرة في القدر؛ لأنه أسلم على يديه خمسة من أهل الشورى كلهم يصلح للخلافة، وهم أكفاء علي ومنازعوه الرياسة والإمامة، فهؤلاء أكثر من جميع الناس.
ثم أعتق أبو بكر بعد ذلك جماعة من المعذبين في الله، وهم ست رقاب منهم: بلال وعامر بن فهيرة وزبيرة النهدية وابنتها، ومر بجارية يعذبها عمر بن الخطاب فابتاعها منه وأعتقها، وأعتق أبا عيسى، فأنزل الله فيه:
فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى
إلى آخر السورة.
وقد علمتم ما صنع أبو بكر في ماله، وكان ماله أربعين ألف درهم، فأنفقه في نوائب الإسلام وحقوقه. ولم يكن خفيف الظهر قليل العيال والنسل فيكون فاقد جميع اليسارين! بل كان ذا بنين وبنات وزوجة وخدم وحشم، ويعول والديه وما ولدا. ولم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
قبل ذلك مشهورا فيخاف العار في ترك مواساته، فكان إنفاقه على الوجه الذي لا نجد في غاية الفضل مثله، ولقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «ما نفعني مال كما نفعني مال أبي بكر».
وقد تعلمون ما كان يلقى أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
ببطن مكة من المشركين، وحسن صنيع كثير منهم كصنيع حمزة حين ضرب أبا جهل بقوسه ففلق هامته! وأبو جهل يومئذ سيد البطحاء ورئيس الكفر وأمنع أهل مكة. ولقد علمتم أن الزبير سل سيفه واستقبل به المشركين لما أرجف أن محمدا قد قتل، وأن عمر بن الخطاب قال حين أسلم: لا يعبد الله سرا بعد اليوم، وأن سعدا ضرب بعض المشركين بلحي جمل فأراق دمه. فكل هذه الفضائل لم يكن لعلي بن أبي طالب فيها ناقة ولا جمل. وقد قال الله تعالى:
لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا ، فإذا كان الله تعالى قد فضل من أنفق قبل الفتح لأنه لا هجرة بعد الفتح على من أنفق بعد الفتح، فما ظنكم بمن أنفق من قبل الهجرة ومن لدن مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى الهجرة وإلى ما بعد الهجرة؟!
والحجة العظمى للقائلين بتفضيل علي قتله الأقران وخوضه الحروب. وليس له في ذلك كبير فضيلة؛ لأن كثرة القتل والمشي بالسيف إلى الأقران لو كان من أشد المحن وأعظم الفضائل وكان دليلا على الرياسة والتقدم، لوجب أن يكون للزبير وأبي دجانة ومحمد بن مسلمة وابن عفراء والبراء بن مالك من الفضل ما ليس لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ! لأنه لم يقتل بيده إلا رجلا واحدا، ولم يحضر الحرب يوم بدر ولا خالط الصفوف وإنما كان معتزلا عنهم في العريش ومعه أبو بكر. وأنت ترى الرجل الشجاع قد يقتل الأقران ويجندل الأبطال وفوقه من العسكر من لا يقتل ولا يبارز، وهو الرئيس أو ذو الرأي والمستشار في الحرب؛ لأن للرؤساء من الاكتراث والاهتمام وشغل البال والعناية والتفقد ما ليس لغيرهم؛ ولأن الرئيس هو المخصوص بالمطالبة وعليه مدار الأمور وبه يستبصر المقاتل ويستنصر وباسمه ينهزم العدو، ولو لم يكن له إلا أن الجيش لو ثبت وفر هو لم يغن ثبوت الجيش كله وكانت الدبرة عليه، ولو ضيع القوم جميعا وحفظ هو لانتصر وكانت الدولة له؛ ولهذا لا يضاف النصر والهزيمة إلا إليه. ففضل أبي بكر بمقامه في العريش مع رسول الله يوم بدر أعظم من جهاد علي ذلك اليوم وقتله أبطال قريش!
على أن مشي الشجاع بالسيف إلى الأقران ليس على ما توهمه من لا يعلم باطن الأمر؛ لأن معه في حال مشيه إلى الأقران بالسيف أمورا أخرى لا يبصرها الناس وإنما يقضون على ظاهر ما يرون من إقدامه وشجاعته، فربما كان سبب ذلك الهوج، وربما كان الغرارة والحداثة، وربما كان الإحراج والحمية، وربما كان لمحبة النفج والأحدوثة، وربما كان طباعا كطباع القاسي والرحيم والسخي والبخيل!
فصاحب النفس المختارة المعتدلة يكون قتاله طاعة وفراره معصية؛ لأن نفسه معتدلة كالميزان في استقامة لسانه وكفتيه، فإذا لم يكن كذلك كان إقدامه طباعا وفراره طباعا.
ووجه آخر، أن عليا لو كان كما يزعم شيعته، ما كان له بقتل الأقران كبير فضل ولا عظيم طاعة؛ لأنه قد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين.» فإذا كان قد وعده بالبقاء بعده فقد وثق بالسلامة من الأقران وعلم أنه منصور عليهم وقاتلهم، فعلى هذا يكون جهاد طلحة والزبير أعظم طاعة منه! ...
ثم قصد الناصرون لعلي والقائلون بتفضيله إلى الأقران الذين قتلهم فأطروهم وغلوا فيهم، وليسوا هناك، فمنهم: عمرو بن عبد ود، زكوه أشجع من عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارس وبسطام بن قيس! وقد سمعنا بأحاديث الفجار وما كان بين قريش ودوس وحلف الفضول، فما سمعنا لعمرو بن عبد ود ذكرا في ذلك!
وقد أكثروا في الوليد بن عتبة بن ربيعة قتيله يوم بدر، وما علمنا الوليد حضر حربا قط قبلها ولا ذكر فيها!
وقد ثبت أبو بكر مع النبي
صلى الله عليه وسلم
يوم أحد كما ثبت علي، فلا فخر لأحدهما على صاحبه في ذلك اليوم!
ولأبي بكر في ذلك اليوم مقام مشهود: خرج ابنه عبد الرحمن فارسا مكفرا في الحديد يسأل المبارزة ويقول: أنا عبد الرحمن بن عتيق! فنهض إليه أبو بكر يسعى بسيفه، فقال له النبي: شم سيفك وارجع إلى مكانك ومتعنا بنفسك.
على أن أبا بكر وإن لم تكن آثاره في الحرب كآثار غيره، فقد بذل الجهد وفعل ما يستطيعه وتبلغه قوته، وإذا بذل المجهود فلا حال أشرف من حاله.
خلاصة نقض كتاب العثمانية
لأبي جعفر الإسكافي
قال أبو جعفر الإسكافي:
لولا ما غلب على الناس من الجهل وحب التقليد لم نحتج إلى نقد ما احتجت به العثمانية؛ فقد علم الناس كافة أن الدولة والسلطان لأرباب مقالتهم، وعرف كل أحد علو أقدار شيوخهم وعلمائهم وأمرائهم وظهور كلمتهم وقهر سلطانهم وارتفاع التقية عنهم، والكرامة والجائزة لمن روى الأخبار والأحاديث في فضل أبي بكر، وما كان من تأكيد بني أمية لذلك وما ولده المحدثون من الأحاديث طلبا لما في أيديهم، فكانوا لا يألون جهدا في طول ما ملكوا أن يخملوا ذكر علي عليه السلام وولده ويطفئوا نورهم ويكتموا فضائلهم ومناقبهم وسوابقهم ويحملوا على سبهم ولعنهم على المنابر، فلم يزل السيف يقطر من دمائهم مع قلة عددهم وكثرة عدوهم فكانوا بين قتيل وأسير وشريد وهارب ومستخف ذليل وخائف مترقب، حتى إن الفقيه والمحدث والقاص والمتكلم ليتقدم إليه ويتوعد بغاية الإيعاد وأشد العقوبة ألا يذكروا شيئا من فضائلهم ولا يرخصوا لأحد أن يطيف بهم، وحتى بلغ من تقية المحدث أنه إذا ذكر حديثا عن علي عليه السلام كنى عن ذكره فقال: قال رجل من قريش، وفعل رجل من قريش، ولا يذكر عليا ولا يتفوه باسمه.
ثم رأينا جميع المختلفين قد حاولوا نقض فضائله ووجهوا الحيل والتأويلات نحوها، من خارجي مارق، وناصبي حنق، ونابت مستبهم، وناشئ معاند، ومنافق مكذب، وعثماني حسود يعترض فيها ويطعن، ومعتزلي قد نظر في الكلام وأبصر علم الاختلاف وعرف الشبه ومواضع الطعن وضروب التأويل، قد التمس الحيل في إبطال مناقبه وتأول مشهور فضائله، فمرة يتأولها بما لا يحتمل، ومرة يقصد أن يضع من قدرها بقياس منتقض، ولا يزداد مع ذلك إلا قوة ورفعة ووضوحا واستنارة. وقد علمت أن معاوية ويزيد ومن كان بعدهما من بني مروان أيام ملكهم - وذلك نحو ثمانين سنة - لم يدعوا جهدا في حمل الناس على شتمه ولعنه وإخفاء فضائله وستر مناقبه وسوابقه. روي عن عبد الله بن ظالم
1
أنه قال: لما بويع لمعاوية أقام المغيرة بن شعبة خطباء يلعنون عليا، فقال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ألا ترون إلى هذا الرجل الظالم يأمر بلعن رجل من أهل الجنة؟! وروي عن عبد الرحمن بن الأخنس أنه كان يقول: شهدت المغيرة بن شعبة خطب، فذكر عليا فنال منه. وعن رباح بن الحارث قال: بينما المغيرة بن شعبة بالمسجد الأكبر وعنده ناس إذ جاءه رجل يقال له قيس بن علقمة، فاستقبل المغيرة فسب عليا. وعن علي بن الحسين قال: قال لي مروان: ما كان في القوم أدفع عن صاحبنا من صاحبكم! قلت: فما بالكم تسبونه على المنابر؟ قال: إنه لا يستقيم لنا الأمر إلا بذلك. وعن ابن أبي سيف قال: خطب مروان والحسن جالس، فنال من علي، فقال الحسن: ويلك يا مروان، أهذا الذي تشتم شر الناس؟ قال: لا، ولكنه خير الناس. وقال عمر بن عبد العزيز: كان أبي يخطب فلا يزال مستمرا في خطبته حتى إذا سار إلى ذكر علي وسبه تقطع لسانه واصفر وجهه وتغيرت حاله، فقلت له في ذلك فقال: أوقد فطنت لذلك! إن هؤلاء لو يعلمون من علي ما يعلمه أبوك ما تبعنا منهم رجل. وقام رجل من ولد عثمان إلى هشام بن عبد الملك يوم عرفة فقال: إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب. وعن أشعث بن سوار قال: سب عدي بن أرطأة عليا على المنبر، فبكى الحسن البصري وقال: لقد سب هذا اليوم رجل إنه لأخو رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في الدنيا والآخرة. وقال إسماعيل بن إبراهيم: كنت أنا وإبراهيم بن يزيد جالسين في الجمعة مما يلي أبواب كندة، فخرج المغيرة فخطب، فحمد الله ثم ذكر ما شاء أن يذكر، ثم وقع في علي، فضرب إبراهيم على فخذي وركبتي ثم قال: أقبل علي فحدثني فإنا لسنا في جمعة، ألا تسمع ما يقول هذا؟
وقال ابن لعامر بن عبد الله بن الزبير لولده: يا بني، لا تذكر عليا إلا بخير؛ فإن بني أمية لعنوه على منابرهم ثمانين سنة فلم يزده الله بذلك إلا رفعة، إن الدنيا لم تبن شيئا قط إلا رجعت على ما بنت فهدمته، وإن الدين لم يبن شيئا قط وهدمه. وعن أبي بكر بن عبد الله الأصبهاني قال: كان لبني أمية دعي يقال له خالد بن عبد الله
2
لا يزال يشتم عليا، فلما كان يوم جمعة وهو يخطب الناس قال: والله إن كان رسول الله ليستعمله وإنه ليعلم ما هو ولكنه كان ختنه. وقد نعس سعيد بن المسيب ففتح عينيه ثم قال: ويحكم! ما قال هذا الخبيث؟ رأيت القبر انصدع ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: كذبت يا عدو الله. وعن السدي قال: بينما أنا بالمدينة عند أحجار الزيت إذ أقبل راكب على بعير فوقف فسب عليا فحف به الناس ينظرون إليه، فبينا هو كذلك إذ أقبل سعد بن أبي وقاص فقال: اللهم إن كان سب عبدا لك صالحا فأر المسلمين خزيه. فما لبث أن نفر به بعيره فسقط فاندقت عنقه. وعن أبي عبد الله الجدلي قال: دخلت على أم سلمة رحمها الله فقالت لي: أيسب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيكم وأنتم أحياء؟ قلت: وأنى يكون هذا؟ قالت: أليس يسب علي ومن يحبه؟! وعن الزهري قال: قال ابن عباس لمعاوية: ألا تكف عن شتم هذا الرجل؟ قال: ما كنت لأفعل حتى يربو عليه الصغير ويهرم فيه الكبير. فلما ولي عمر بن عبد العزيز كف عن شتمه، فقال الناس: ترك السنة! قال: وقد روي عن ابن مسعود - إما موقوفا عليه وإما مرفوعا - كيف أنتم إذا شملتكم فتنة يربو عليها الصغير ويهرم فيها الكبير، يجري عليها الناس فيتخذونها سنة، فإذا غير منها شيء قيل: غيرت السنة؟
قال أبو جعفر: وقد تعلمون أن بعض الملوك ربما أحدثوا قولا أو دينا لهوى فيحملون الناس على ذلك حتى لا يعرفون غيره، كنحو ما أخذ الناس الحجاج بن يوسف بقراءة عثمان وترك قراءة ابن مسعود وأبي بن كعب، وتوعد على ذلك بدون ما صنع هو وجبابرة بني أمية وطغاة بني مروان بولد علي عليه السلام وشيعته، وإنما كان سلطانه نحو عشرين سنة، فما مات الحجاج حتى اجتمع أهل العراق على قراءة عثمان ونشأ أبناؤهم ولا يعرفون غيرها لإمساك الآباء عنها وكف المعلمين عن تعليمها، حتى لو قرأت عليهم قراءة عبد الله وأبي ما عرفوها ولظنوا بتأليفها الاستكراه والاستهجان لإلف العادة وطول الجهالة؛ لأنه إذا استولت على الرعية الغلبة وطالت عليهم أيام التسلط وشاعت فيهم المخافة وشملتهم التقية اتفقوا على التخاذل والتساكت، فلا تزال الأيام تأخذ من بصائرهم وتنقص في ضمائرهم وتنقض من مرائرهم حتى تصير البدعة التي أحدثوها غامرة للسنة التي كانوا يعرفونها. ولقد كان الحجاج ومن ولاه كعبد الملك والوليد ومن كان قبلهما وبعدهما من فراعنة بني أمية على إخفاء محاسن علي - عليه السلام - وفضائله وفضائل ولده وشيعته وإسقاط أقدارهم أحرص منهم على إسقاط قراءة عبد الله وأبي؛ لأن تلك القراءات لا تكون سببا لزوال ملكهم وفساد أمرهم وانكشاف حالهم، وفي اشتهار فضل علي وولده وإظهار محاسنهم بوارهم وتسليط حكم الكتاب المنبوذ عليهم، فحرصوا واجتهدوا في إخفاء فضائله، وحملوا الناس على كتمانها وسترها، وأبى الله أن يزيد أمره وأمر ولده إلا استنارة وإشراقا، وحبهم إلا شغفا، وشدة ذكرهم إلا انتشارا وكثرة، وحجتهم إلا وضوحا وقوة، وفضلهم إلا ظهورا، وشأنهم إلا علوا، وأقدارهم إلا إعظاما، حتى أصبحوا بإهانتهم إياهم أعزاء، وبإماتتهم ذكرهم أحياء، وما أرادوا به وبهم من الشر تحول خيرا، فانتهى إلينا من ذكر فضائله وخصائصه ومزاياه وسوابقه ما لم يتقدمه السابقون ولا ساواه فيه القاصدون ولا يلحقه الطالبون. ولولا أنها كانت كالقبلة المنصوبة في الشهرة، وكالسنن المحفوظة في الكثرة، لم يصل إلينا منها في دهرنا حرف واحد؛ إذ كان الأمر كما وصفناه.
قال: فأما ما احتج به الجاحظ بإمامة أبي بكر بكونه أول الناس إسلاما، فلو كان هذا احتجاجا صحيحا لاحتج به أبو بكر يوم السقيفة، وما رأيناه صنع ذلك؛ لأنه أخذ بيد عمر ويد أبي عبيدة بن الجراح وقال للناس: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا منهما من شئتم. ولو كان هذا احتجاجا صحيحا لما قال عمر: كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله شرها. ولو كان احتجاجا صحيحا لادعى واحد من الناس لأبي بكر الإمامة في عصره أو بعد عصره بكونه سبق إلى الإسلام، وما عرفنا أحدا ادعى له ذلك. على أن جمهور المحدثين لم يذكروا أن أبا بكر أسلم إلا بعد عدة من الرجال منهم علي بن أبي طالب وجعفر أخوه وزيد بن حارثة وأبو ذر الغفاري وعمرو بن عنبسة السلمي وخالد بن سعيد بن العاص وخباب بن الأرت. وإذا تأملنا الروايات الصحيحة والأسانيد القوية الوثيقة وجدناها كلها ناطقة بأن عليا عليه السلام أول من أسلم.
فأما الرواية عن ابن عباس أن أبا بكر أولهم إسلاما، فقد روي عن ابن عباس خلاف ذلك بأكثر مما رووا وأشهر، فمن ذلك أنه قال: أول من صلى من الرجال علي عليه السلام.
وقال: فرض الله تعالى الاستغفار لعلي عليه السلام في القرآن على كل مسلم بقوله تعالى:
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، فكل من أسلم بعد علي فهو يستغفر لعلي.
وقال: السباق ثلاثة: سبق يوشع بن نون إلى موسى، وسبق صاحب يس إلى عيسى، وسبق علي بن أبي طالب إلى محمد
صلى الله عليه وسلم . فهذا قول ابن عباس في سبق علي إلى الإسلام، وهو أثبت من حديث الشعبي وأشهر. على أنه قد روي عن الشعبي خلاف ذلك، قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لعلي: هذا أول من آمن بي وصدقني وصلى معي.
قال: فأما الأخبار الواردة بسبقه إلى الإسلام المذكورة في الكتب الصحاح والأسانيد الموثوق بها، فمنها ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: أول شيء علمته من أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أني قدمت مكة مع عمومة لي وناس من قومي، وكان في أنفسنا شراء عطر فأرشدنا إلى العباس بن عبد المطلب، فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم، فبينا نحن عنده جلوس إذ أقبل رجل من باب الصفا وعليه ثوبان أبيضان وله وفرة إلى أنصاف أذنيه جعدة أشم أقنى أدعج العينين كث اللحية براق الثنايا أبيض تعلوه حمرة كأنه القمر ليلة البدر، وعلى يمينه غلام مراهق أو محتلم حسن الوجه، تقفوهما امرأة قد سترت محاسنها، حتى قصدوا نحو الحجر فاستلمه واستلمه الغلام ثم استلمته المرأة، ثم طاف بالبيت سبعا والغلام والمرأة يطوفان معه، ثم استقبل الحجر فقام ورفع يديه وكبر، وقام الغلام إلى جانبه وقامت المرأة خلفهما فرفعت يديها وكبرت، فأطال القنوت ثم ركع وركع الغلام والمرأة ثم رفع رأسه فأطال ورفع الغلام والمرأة معه يصنعان مثل ما يصنع. فلما رأينا شيئا ننكره ولا نعرفه بمكة أقبلنا على العباس فقلنا: يا أبا الفضل، إن هذا الدين ما كنا نعرفه فيكم؟ قال: أجل والله. قلنا: فمن هذا؟ قال: هذا ابن أخي، هذا محمد بن عبد الله، وهذا الغلام ابن أخي أيضا، هذا علي بن أبي طالب، وهذه المرأة زوجة محمد، هذه خديجة بنت خويلد، والله ما على وجه الأرض أحد يدين بهذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة.
وعن عفيف بن قيس الكندي قال: كنت في الجاهلية عطارا، فقدمت مكة فنزلت على العباس بن عبد المطلب، فبينا أنا جالس عنده أنظر إلى الكعبة وقد تحلقت الشمس في السماء أقبل شاب كأن في وجهه القمر حتى رمى ببصره إلى السماء فنظر إلى الشمس ساعة، ثم أقبل حتى دنا من الكعبة فصف قدميه يصلي، فخرج على أثره فتى كأن وجهه صفيحة يمانية
3
فقام عن يمينه، فجاءت امرأة متلففة في ثيابها فقامت خلفهما، فأهوى الشاب راكعا فركعا معه، ثم أهوى إلى الأرض ساجدا فسجدا معه، فقلت للعباس: يا أبا الفضل، أمر عظيم! فقال: أمر والله عظيم! أتدري من هذا الشاب؟ قلت: لا. قال: هذا ابن أخي، هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، أتدري من هذا الفتى؟ قلت: لا. قال: هذا ابن أخي، هذا علي بن أبي طالب بن عبد المطلب، أتدري من المرأة؟ قلت: لا. قال: هذه ابنة خويلد بن أسد بن عبد العزى، هذه خديجة زوج محمد هذا، وإن محمدا هذا يذكر أن إلهه إله السماء والأرض أمره بهذا الدين، فهو عليه كما ترى، ويزعم أنه نبي وقد صدقه على قوله علي ابن عمه هذا الفتى وزوجته خديجة هذه المرأة، والله ما أعلم على وجه الأرض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة. قال عفيف: فقلت له: فما تقولون أنتم؟ قال: ننتظر الشيخ ما يصنع - يعني أبا طالب أخاه.
وعن معقل بن يسار قال: كنت أوصل النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال لي: هل لك أن تعود فاطمة؟ قلت: نعم يا رسول الله. فقام يمشي متوكئا (علي) وقال: أما إنه سيحمل ثقلها غيرك ويكون أجرها لك. قال: فوالله لكأنه لم يكن علي من ثقل النبي
صلى الله عليه وسلم
شيء، فدخلنا على فاطمة فقال لها عليه الصلاة والسلام: كيف تجدينك؟ قالت: لقد طال أسفي واشتد حزني، وقال لي النساء: زوجك أبوك فقيرا لا مال له! فقال لها: أما ترضين أني زوجتك أقدم أمتي سلما وأكثرهم علما وأفضلهم حلما؟ قالت: بلى، رضيت يا رسول الله.
وعن جعفر بن محمد عن آبائه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لما زوج فاطمة دخل النساء عليها فقلن: يا بنت رسول الله، خطبك فلان وفلان فردهم عنك وزوجك فقيرا لا مال له! فلما دخل عليها أبوها رأى ذلك في وجهها، فسألها فذكرت له ذلك، فقال: يا فاطمة، إن الله أمرني فأنكحتك أقدمهم سلما وأكثرهم علما وأعظمهم حلما، وما زوجتك إلا بأمر من السماء، أما علمت أنه أخي في الدنيا والآخرة؟!
وعن السدي: أن أبا بكر وعمر خطبا فاطمة فردهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وقال: لم أومر بذلك. فخطبها علي فزوجه إياها وقال لها: زوجتك أقدم الأمة إسلاما. وذكر تمام الحديث. قال: وقد روى هذا الخبر جماعة من الصحابة منهم: أسماء بنت عميس، وأم أيمن، وابن عباس، وجابر بن عبد الله.
وعن أبي رافع قال: أتيت أبا ذر بالربذة أودعه، فلما أردت الانصراف قال لي ولأناس معي: ستكون فتنة، فاتقوا الله، وعليكم بالشيخ علي بن أبي طالب فاتبعوه، فإني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول له: أنت أول من آمن بي، وأول من يصافحني يوم القيامة، وأنت الصديق الأكبر، وأنت الفاروق الذي يفرق بين الحق والباطل، وأنت يعسوب المؤمنين، والمال يعسوب الكافرين، وأنت أخي ووزيري وخير من أترك بعدي تقضي ديني وتنجز موعودي.
وعن عباد بن عبد الله الأسدي قال: سمعت علي بن أبي طالب يقول: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها غيري إلا كذاب، وقد صليت قبل الناس سبع سنين.
وروت معاذة بنت عبد الله العدوية قالت: سمعت عليا يخطب على منبر البصرة ويقول: أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن يؤمن أبو بكر، وأسلمت قبل أن يسلم.
وروى حبة بن جوين العرني أنه سمع عليا يقول: أنا أول رجل أسلم مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم .
وعن حكيم مولى زاذان قال: سمعت عليا يقول: صليت قبل الناس سبع سنين، وكنا نسجد ولا نركع، وأول صلاة ركعنا فيها صلاة العصر، فقلت: يا رسول الله ما هذا؟ قال: أمرت به.
وعن جابر بن عبد الله قال: صلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوم الاثنين، وصلى علي يوم الثلاثاء وبعده. وعن أنس بن مالك: استنبئ النبي
صلى الله عليه وسلم
يوم الاثنين، وأسلم علي يوم الثلاثاء وبعده.
وروى أبو رافع أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
صلى أول صلاة صلاها غداة الاثنين، وصلت خديجة آخرتها ويومها ذلك، وصلى علي يوم الثلاثاء غداة ذلك اليوم.
قال: وقد روي بروايات مختلفة كثيرة متعددة عن زيد بن أرقم وسلمان الفارسي وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك: أن عليا أول من أسلم.
وروى سلمة بن كهيل عن رجاله أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: أولكم ورودا على الحوض أولكم إسلاما، علي بن أبي طالب.
وعن ابن عباس قال: سمعت عمر بن الخطاب وهو يقول: كفوا عن علي بن أبي طالب؛ فإني سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيه خصالا لو أن خصلة منها في جميع آل الخطاب كان أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، كنت ذات يوم وأبو بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة مع نفر من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نطلبه، فانتهينا إلى باب أم سلمة فوجدنا عليا متكئا على نجاف الباب، فقلنا: أردنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال: هو في البيت، رويدكم! فخرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فسرنا حوله، فاتكأ على علي وضرب بيده على منكبه فقال: أبشر يا علي بن أبي طالب، إنك مخاصم وإنك تخصم الناس بسبع لا يجاريك أحد في واحدة منهن: أنت أول الناس إسلاما وأعلمهم بأيام الله.
وروى أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: لقد صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين، وذلك أنه لم يصل معي رجل فيها غيره.
قال أبو جعفر:
فأما ما رواه الجاحظ من قوله
صلى الله عليه وسلم : «إنما تبعني حر وعبد.» فإنه لم يسم في هذا الحديث أبا بكر وبلالا، وكيف وأبو بكر لم يشتر بلالا إلى بعد ظهور الإسلام بمكة! فلما أظهر بلال إسلامه عذبه أمية بن خلف، ولم يكن ذلك حال إخفاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الدعوة ولا في ابتداء أمر الإسلام. وقد قيل إنه عليه الصلاة والسلام إنما عنى بالحر علي بن أبي طالب، وبالعبد زيد بن حارثة.
وعن الشعبي قال: قال الحجاج للحسن، وعنده جماعة من التابعين، وذكر علي بن أبي طالب: ما تقول أنت يا حسن؟ فقال: ما أقول! هو أول من صلى إلى القبلة وأجاب دعوة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وإن لعلي منزلة من ربه وقرابة من رسوله، وقد سبقت له سوابق لا يستطيع ردها أحد! فغضب الحجاج غضبا شديدا وقام عن سريره فدخل بعض البيوت وأمر بصرفنا. قال الشعبي: وكنا جماعة ما منا إلا من نال من علي مقاربة للحجاج، غير الحسن بن أبي الحسن رحمه الله.
وعن محمد بن عبيد الله قال: قال رجل للحسن: ما لنا لا نراك تثني على علي وتقرظه؟ قال: كيف وسيف الحجاج يقطر دما؟ إنه لأول من أسلم، وحسبكم بذلك.
قال: فهذه الأخبار. وأما الأشعار المروية فمعروفة كثيرة منتشرة، فمنها قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مجيبا للوليد بن عقبة بن أبي معيط:
وإن ولي الأمر بعد محمد
علي وفي كل المواطن صاحبه
وصي رسول الله حقا وصنوه
وأول من صلى ومن لان جانبه
وقول خزيمة بن ثابت في هذا:
وصي رسول الله من دون أهله
وفارسه مذ كان في سالف الزمن
وأول من صلى من الناس كلهم
سوى خيرة النسوان والله ذو منن
4
وقول أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس حين بويع أبو بكر:
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف
عن هاشم ثم منها عن أبي حسن
أليس أول من صلى لقبلتهم
وأعلم الناس بالأحكام والسنن
وقول أبي الأسود الدؤلي يهدد طلحة والزبير:
وإن عليا لكم مصحر
يماثله الأسد الأسود
أما إنه أول العابدين
بمكة والله لا يعبد
وقول سعيد بن قيس الهمداني يرتجز بصفين:
هذا علي وابن عم المصطفى
أول من أجابه فيما روى
هو الإمام لا يبالي من غوى
وقول زفر بن يزيد بن حذيفة الأسدي:
فحوطوا عليا وانصروه فإنه
وصي وفي الإسلام أول أول
وإن تخذلوه والحوادث جمة
فليس لكم عن أرضكم متحول
قال: والأشعار كالأخبار إذا امتنع في مجيء القبيلين التواطؤ والاتفاق كان ورودهما حجة. فأما قول الجاحظ: فأوسط الأمور أن نجعل إسلامهما معا، فقد أبطل بهذا ما احتج به لإمامة أبي بكر؛ لأنه احتج بالسبق وقد عدل الآن عنه.
قال أبو جعفر: ويقال لهم لسنا نحتاج من ذكر سبق علي عليه السلام إلا إلى مجامعتكم إيانا على أنه أسلم قبل الناس، ودعواكم أنه أسلم وهو طفل دعوى غير مقبولة إلا بحجة. فإن قلتم: ودعواكم أنه أسلم وهو بالغ دعوى غير مقبولة إلا بحجة، قلنا: قد ثبت إسلامه بحكم إقراركم، ولو كان طفلا لكان في الحقيقة غير مسلم؛ لأن اسم الإيمان والإسلام والكفر والطاعة والمعصية إنما يقع على البالغين دون الأطفال والمجانين، وإذا أطلقتم وأطلقنا عليه اسم الإسلام فالأصل في الإطلاق الحقيقة. كيف وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : أنت أول من آمن بي وأنت أول من صدقني؟ وقال لفاطمة: زوجتك أقدمهم سلما، أو قال إسلاما. فإن قالوا: إنما دعاه النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى الإسلام على جهة العرض لا التكليف، قلنا: قد وافقتمونا على الدعاء، وحكم الدعاء حكم الأمر والتكليف، ثم ادعيتم أن ذلك كان على وجه العرض، وليس لكم أن تقبلوا معنى الدعاء إلا لحجة.
فإن قالوا: لعله كان على وجه التأديب والتعليم كما يعتمد مثل ذلك مع الأطفال! قلنا: إن ذلك إنما يكون إذا تمكن الإسلام بأهله أو عند النشوء عليه والولادة فيه، فأما في دار الشرك فلا يقع مثل ذلك، لا سيما إذا كان الإسلام غير معروف ولا معتاد بينهم. على أنه ليس في سنة النبي
صلى الله عليه وسلم
دعاء أطفال المشركين إلى الإسلام والتفريق بينهم وبين آبائهم قبل أن يبلغوا الحلم. وأيضا فمن شأن الطفل اتباع أهله وتقليد أبيه والمضي على منشئه ومولده. وقد كانت منزلة النبي
صلى الله عليه وسلم
حينئذ منزلة ضيق وشدة ووحدة، وهذه منازل لا ينتقل إليها إلا من ثبت الإسلام عنده بحجة ودخل اليقين قلبه بعلم ومعرفة.
فإن قالوا: إن عليا كان يألف النبي
صلى الله عليه وسلم
فوافقه على طريق المساعدة له! قلنا: إنه وإن كان يألفه أكثر من أبويه وإخوته وعمومته وأهل بيته، لم يكن الإلف ليخرجه عما نشأ عليه، ولم يكن الإسلام مما غذي به وكرر على سمعه؛ لأن الإسلام هو خلع الأنداد والبراءة ممن أشرك بالله، وهذا لا يجتمع في اعتقاد طفل. ومن العجب قول العباس لعفيف بن قيس: ننتظر الشيخ وما يصنع! فإذا كان العباس وحمزة ينتظران أبا طالب ويصدران عن رأيه، فكيف يخالفه ابنه ويؤثر القلة على الكثرة ويفارق المحبوب إلى المكروه والعز إلى الذل والأمن إلى الخوف على غير معرفة ولا علم بما فيه؟
فأما قوله: إن المقلل يزعم أنه أسلم وهو ابن خمس سنين والمكثر يزعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين. فأول ما يقال في ذلك أن الأخبار جاءت في سنه يوم أسلم على خمسة أقسام، فجعلناها في قسمين:
القسم الأول:
الذين قالوا: أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة. عن شداد بن أوس قال: سألت خباب بن الأرت عن إسلام علي فقال: أسلم وهو ابن خمس عشرة سنة، ولقد رأيته يصلي قبل الناس مع النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو يومئذ بالغ مستحكم البلوغ. وعن الحسن: إن أول من أسلم علي بن أبي طالب وهو ابن خمس عشرة سنة.
القسم الثاني:
الذين قالوا: إنه أسلم وهو ابن أربع عشرة سنة. عن حذيفة بن اليمان قال: كنا نعبد الحجارة ونشرب الخمر وعلي من أبناء أربع عشرة سنة قائم يصلي مع النبي
صلى الله عليه وسلم
ليلا ونهارا، وقريش يومئذ تسافه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما يذب عنه إلا علي. وعن جرير بن عبد الحميد قال: أسلم علي وهو ابن أربع عشرة سنة.
القسم الثالث:
الذين قالوا: أسلم وهو ابن إحدى عشرة سنة. عن محمد بن علي أن عليا حين أسلم كان ابن إحدى عشرة سنة. وعن محمد بن علي الباقر قال: أول من آمن بالله علي بن أبي طالب وهو ابن إحدى عشرة سنة، وهاجر إلى المدينة وهو ابن أربع وعشرين سنة.
القسم الرابع:
الذين قالوا: إنه أسلم وهو ابن عشر سنين. عن محمد بن إسحق قال: أول ذكر آمن وصدق بالنبوة علي بن أبي طالب وهو ابن عشر سنين، ثم أسلم زيد بن حارثة، ثم أسلم أبو بكر وهو ابن ست وثلاثين سنة، فيما بلغنا.
القسم الخامس:
الذين قالوا: إنه أسلم وهو ابن تسع سنين. عن الشعبي قال: أول من أسلم من الرجال علي بن أبي طالب وهو ابن تسع سنين، وكان له يوم قبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تسع وعشرون سنة.
قال أبو جعفر: فهذه الأخبار كما تراها. فإما أن يكون الجاحظ جهلها أو قصد العناد.
فأما قوله: فالقياس أن نأخذ بأوسط الأمرين من الروايتين فنقول إنه أسلم وهو ابن سبع سنين. فإن هذا تحكم منه ويلزمه مثله في رجل ادعى قبل رجل عشرة دراهم فأنكر ذلك وقال: إنما يستحق قبلي أربعة دراهم، فينبغي أن نأخذ الأمر المتوسط ويلزمه سبعة دراهم؟! ويلزمه في أبي بكر حيث قال قوم: كان كافرا، وقال قوم: كان إماما عادلا، أن نقول: أعدل الأقاويل أوسطها، وهو منزلة بين المنزلتين، فنقول: كان فاسقا ظالما! وكذلك في جميع الأمور المختلف فيها!
فأما قوله: وإنما يعرف حق ذلك من باطله بأن نحصي سني ولاية عثمان وعمر وأبي بكر وسني الهجرة ومقام النبي
صلى الله عليه وسلم
بمكة بعد الرسالة إلى أن هاجر. فيقال له: لو كانت الروايات متفقة على هذه التأريخات لكان لهذا القول مساغ! لكن الناس قد اختلفوا في ذلك، فقيل: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أقام بمكة بعد الرسالة خمس عشرة سنة، رواه ابن عباس. وقيل: ثلاث عشرة سنة، روي عن ابن عباس أيضا، وأكثر الناس يروونه. وقيل: عشر سنين، رواه عروة بن الزبير، وهو قول الحسن البصري وسعيد بن المسيب. واختلفوا في سن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فقال قوم: كان ابن خمس وستين سنة، وقيل كان ابن ثلاث وستين سنة، وقيل كان ابن ستين. واختلفوا في سن علي عليه السلام، فقيل: كان ابن سبع وستين، وقيل: كان ابن خمس وستين، وقيل: ابن ثلاث وستين، وقيل ابن ستين، وقيل: ابن تسع وخمسين.
فكيف يمكن مع هذه الاختلافات تحقيق هذه الحال؟ وإنما الواجب أن يرجع إلى إطلاق قولهم: أسلم علي. فإن هذا الاسم لا يكون مطلقا إلا على البالغ كما لا يطلق اسم الكافر إلا على البالغ. على أن ابن إحدى عشرة سنة يكون بالغا ويولد له الأولاد؛ فقد روت الرواة أن عمرو بن العاص لم يكن أسن من ابنه عبد الله إلا باثنتي عشرة سنة، وهذا يوجب أنه احتلم وبلغ في أقل من إحدى عشرة سنة. وروي أيضا أن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس كان أصغر من أبيه علي بن عبد الله بإحدى عشرة سنة. فيلزم الجاحظ أن يكون عبد الله بن العباس حين مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم
غير مسلم على الحقيقة ولا مثاب ولا مطيع بالإسلام لأنه كان يومئذ ابن عشر سنين. رواه هشيم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: توفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأنا ابن عشر سنين.
قال أبو جعفر:
هذا كله مبني على أنه أسلم وهو ابن سبع أو ثمان، ونحن قد بينا أنه أسلم بالغا ابن خمس عشرة سنة أو ابن أربع عشرة سنة. على أنا لو نزلنا على حكم الخصوم وقلنا ما هو الأشهر والأكثر من الرواية وهو أنه أسلم وهو ابن عشر، لم يلزم ما قاله الجاحظ؛ لأن ابن عشر قد يستجمع عقله ويعلم من مبادئ المعارف ما يستخرج به كثير من الأمور المعقولة، ومتى كان الصبي عاقلا مميزا كان مكلفا بالعقليات، وإن كان تكليفه بالشرعيات موقوفا على حد آخر وغاية أخرى. فليس بمنكر أن يكون علي عليه السلام وهو ابن عشر قد عقل المعجزة فلزمه الإقرار بالنبوة وأسلم إسلام عالم عارف لا إسلام مقلد تابع. وإن كان ما نسقه الجاحظ وعدده من معرفة السحر والنجوم والفصل بينهما وبين النبوة، ومعرفة ما يجوز في الحكمة مما لا يجوز، وما لا يحدثه إلا الخالق، والفرق بينه وبين ما يقدر عليه القادرون بالقدرة، ومعرفة التمويه والخديعة والتلبيس والمماكرة، شرطا في صحة الإسلام، لما صح إسلام أبي بكر ولا عمر ولا غيرهما من العرب! وإنما التكليف لهؤلاء بالجمل وبمبادئ المعارف لا بدقائقها والغامض منها. وليس يفتقر الإسلام إلى أن يكون المسلم قد فاتح الرجال وجرب الأمور ونازع الخصوم! وإنما يفتقر إلى صحة الغريزة وكمال العقل وسلامة الفطرة. ألا ترى أن طفلا لو نشأ في دار لم يعاشر الناس بها ولا فاتح الرجال ولا نازع الخصوم ثم كمل عقله وحصلت العلوم البديهية عنده لكان مكلفا بالعقليات؟
فأما توهمه أن عليا عليه السلام أسلم عن تربية الحاضن وتلقين القيم ورياضة السائس، فلعمري إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
كان حاضنه وقيمه وسائسه، ولكن لم يكن منقطعا عن أبيه أبي طالب، ولا عن إخوته طالب وجعفر وعقيل، ولا عن عمومته وأهل بيته، وما زال مخالطا لهم ممتزجا بهم مع خدمته لمحمد
صلى الله عليه وسلم ، فما باله لم يمل إلى الشرك وعبادة الأصنام لمخالطة إخوته وأباه وعمومته وأهله وهم كثير ومحمد
صلى الله عليه وسلم
واحد؟ وأنت تعلم أن الصبي إذا كان له أهل ذوو كثرة وفيهم واحد يذهب إلى رأي مفرد لا يوافقه عليه غيره منهم، فإنه يكون إلى ذوي الكثرة أميل وعن ذي الرأي الشاذ أبعد! وعلى أن عليا عليه السلام لم يولد في دار الإسلام، وإنما ولد في دار الشرك وربي بين المشركين وشاهد الأصنام وعاين بعينيه أهله ورهطه يعبدونها. فلو كان في دار الإسلام لكان في القول مجال ولقيل إنه ولد بين المسلمين، فإسلامه عن تلقين الظئر وعن سماع كلمة الإسلام ومشاهدة شعاره؛ لأنه لم يسمع غيره ولا خطر بباله سواه. فلما لم يكن ولد كذلك ثبت أن إسلامه إسلام المميز العارف بما دخل عليه. ولولا أنه كذلك لما مدحه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بذلك ولا أرضى ابنته فاطمة لما وجدت من تزويجه بقوله لها: زوجتك أقدمهم سلما، ولا قرن إلى قوله: وأكثرهم علما وأعظمهم حلما. والحلم العقل، وهذان الأمران غاية الفضل. فلولا أنه أسلم إسلام عارف عالم مميز لما ضم إسلامه إلى العلم والحلم اللذين وصفه بها، وكيف يجوز أن يمدحه بأمر لم يكن مثابا عليه ولا معاقبا به لو تركه؟ ولو كان إسلامه عن تلقين وتربية لما افتخر هو عليه السلام على رءوس الأشهاد ولا خطب على المنبر وهو بين عدو محارب وخاذل منافق فقال: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر والفاروق الأعظم، صليت قبل الناس سبع سنين، وأسلمت قبل إسلام أبي بكر، وآمنت قبل إيمانه. فهل بلغكم أن أحدا من أهل ذلك العصر أنكر ذلك أو عابه أو ادعاه لغيره أو قال له: إنما كنت طفلا أسلمت على تربية محمد
صلى الله عليه وسلم
لك وتلقينه إياك كما يتعلم الطفل الفارسية والتركية منذ يكون رضيعا، فلا فخر له في تعلم ذلك وخصوصا في عصر قد حارب فيه أهل البصرة والشام والنهروان وقد اعتورته الأعداء وهجته الشعراء؟ فقال فيه النعمان بن بشير:
لقد طلب الخلافة من بعيد
وسارع في الضلال أبو تراب
معاوية الإمام وأنت منها
على وتح بمنقطع السراب
وقال فيه أيضا بعض الخوارج:
دسسنا له تحت الظلام ابن ملجم
جزاء إذا ما جاء نفسا كتابها
أبا حسن خذها على الرأس ضربة
بكف كريم بعد موت ثوابها
وقال عمران بن حطان يمدح قاتله:
يا ضربة من تقي ما أراد بها
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره حينا فأحسبه
أوفى البرية عند الله ميزانا
فلو وجد هؤلاء سبيلا إلى دحض حجته فيما كان يفخر به من تقدم إسلامه لبدءوا بذلك وتركوا ما لا معنى له. وقد أوردنا ما مدحه الشعراء به من سبقه إلى الإسلام، فكيف لم يرد على هؤلاء الذين مدحوه بالسبق شاعر واحد من أهل حربه؟ ولقد قال في أمهات الأولاد قولا خالف فيه عمر فذكروه بذلك وعابوه، فكيف تركوا أن يعيبوه بما كان يفتخر به - مما لا فخر فيه عندهم - وعابوه بقوله في أمهات الأولاد؟
ثم يقال له: خبرنا عن عبد الله بن عمر وقد أجازه النبي
صلى الله عليه وسلم
يوم الخندق ولم يجزه يوم أحد، هل تميز ما ذكرته؟ وهل كان يعلم فرق ما بين النبي والمتنبئ ويفصل بين السحر والمعجزة إلى غيره مما عددت وفصلت؟ فإن قال: نعم، وتجاسر على ذلك، قيل له: فعلي عليه السلام بذلك أولى من ابن عمر؛ لأنه أذكى وأفطن بلا خلاف بين العقلاء، وأنى يشك في ذلك وقد رويتم أنه لم يميز بين الميزان والعود بعد طول السن وكثرة التجارب؟ ولم يميز أيضا بين إمام الرشد وإمام الغي، فإنه امتنع عن بيعة علي عليه السلام وطرق على الحجاج بابه ليلا ليبايع لعبد الملك كي لا يبيت تلك الليلة بلا إمام - زعم - لأنه روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية.» وحتى بلغ من احتقار الحجاج له واسترذاله حاله أن أخرج رجله من الفراش وقال: أصفق بيدك عليها؟! فذلك تمييزه بين الميزان والعود، وهذا اختياره في الأئمة؟! وحال علي عليه السلام في ذكائه وفطنته وتوقد حسه وصدق حدسه معلومة مشهورة، فإذا جاز أن يصح إسلام ابن عمر ويقال عنه إنه عرف تلك الأمور التي سردها الجاحظ ونسقها وأظهر فصاحته وتشادقه فيها، فعلي بمعرفة ذلك أحق وبصحة إسلامه أولى. وإن قال: لم يكن ابن عمر يعلم ويعرف ذلك، أبطل إسلامه وطعن في رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حيث حكم بصحة إسلامه وأجازه يوم الخندق؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان قال: لا أجيز إلا البالغ العاقل؛ ولذلك لم يجزه يوم أحد.
ثم يقال له: إن ما تقوله في بلوغ علي عليه السلام الحد الذي يحسن فيه التكليف العقلي، بل يجب، وهو ابن عشر سنين، ليس بأعجب من مجيء الولد لستة أشهر، وقد صحح ذلك أهل العلم واستنبطوه من الكتاب وإن كان خارجا عن التعارف والتجارب والعادة! وكذلك مجيء الولد لسنتين خارج أيضا عن التعارف والعادة، وقد صححه الفقهاء والناس. ويروى أن معاذا لما نهى عمر عن رجم الحامل تركها حتى ولدت غلاما قد نبتت ثنيتاه، فقال أبوه: ابني ورب الكعبة. فثبت ذلك سنة يعمل بها الفقهاء. وقد وجدنا العادة تقضي بأن الجارية تحيض لاثنتي عشرة سنة وأنه أقل سن تحيض فيه المرأة، وقد يكون في الأقل نساء يحضن لعشر ولتسع ، وقد ذكر ذلك الفقهاء، وقد قال الشافعي في اللعان: لو جاءت امرأة بحمل وزوجها صبي له دون عشر سنين، لم يكن ولدا له؛ لأن من لم يبلغ عشر سنين من الصبيان لا يولد له، وإن كان له عشر سنين جاز أن يكون الولد له، وكان بينهما لعان إذا لم يقر به. وقال الفقهاء أيضا: إن نساء تهامة يحضن لتسع سنين لشدة الحر ببلادهن.
قال أبو جعفر:
إن مثل الجاحظ - في فضله وعلمه - لا يخفى عليه كذب هذه الدعوى وفسادها، ولكنه يقول ما يقول تعصبا وعنادا. وقد روى الناس كافة افتخار علي عليه السلام بالسبق إلى الإسلام، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم
استنبئ يوم الاثنين وأسلم علي يوم الثلاثاء، وأنه كان يقول: صليت قبل الناس سبع سنين، وأنه ما زال يقول: أنا أول من أسلم، ويفتخر بذلك ويفتخر له به أولياؤه ومادحوه وشيعته في عصره وبعد وفاته، والأمر في ذلك أشهر من كل شهير، وقد قدمنا منه طرفا. وما علمنا أحدا من الناس - فيما خلا - استخف بإسلام علي عليه السلام ولا تهاون به ولا زعم أنه أسلم إسلام حدث غرير وطفل صغير. ومن العجب أن يكون مثل العباس وحمزة ينتظران أبا طالب وفعله ليصدرا عن رأيه ثم يخالفه علي ابنه لغير رغبة ولا رهبة، يؤثر القلة على الكثرة، والذل على العزة، من غير علم ولا معرفة بالعاقبة! وكيف ينكر الجاحظ والعثمانية أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
دعاه إلى الإسلام وكلفه التصديق؟! وروي في الخبر الصحيح أنه كلفه في مبدأ الدعوة قبل ظهور كلمة الإسلام وانتشارها بمكة أن يصنع له طعاما وأن يدعو له بني عبد المطلب، فصنع له الطعام ودعاهم له، فخرجوا ذلك اليوم ولم ينذرهم
صلى الله عليه وسلم
لكلمة قالها عمه أبو لهب. فكلفه اليوم الثاني أن يصنع مثل ذلك الطعام وأن يدعوهم ثانية، فصنعه ودعاهم، فأكلوا، ثم كلمهم
صلى الله عليه وسلم
فدعاهم إلى الدين ودعاه معهم لأنه من بني عبد المطلب، ثم ضمن لمن يوازره منهم وينصره على قوله أن يجعله أخاه في الدين ووصيه بعد موته وخليفته من بعده. فأمسكوا كلهم وأجابه هو وحده وقال: أنا أنصرك على ما جئت به وأوازرك وأبايعك. فقال لهم لما رأى منهم الخذلان ومنه النصر، وشاهد منهم المعصية ومنه الطاعة، وعاين منهم الإباء ومنه الإجابة: هذا أخي ووصيي وخليفتي من بعدي. فقاموا يسخرون ويضحون ويقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمره عليك! فهل يكلف عمل الطعام ودعاء القوم صغير غير مميز وغر غير عاقل؟ وهل يؤتمن على سر النبوة طفل ابن خمس سنين أو ابن سبع؟ وهل يدعى في جملة الشيوخ والكهول إلا عاقل لبيب؟ وهل يضع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يده في يده ويعطيه صفقة يمينه بالأخوة والوصية والخلافة إلا وهو أهل لذلك بالغ حد التكليف محتمل لولاية الله وعداوة أعدائه؟ وما بال هذا الطفل لم يأنس بأقرانه ولم يلصق بأشكاله ولم ير مع الصبيان في ملاعبهم بعد إسلامه وهو كأحدهم في طبقته وكبعضهم في معرفته؟ وكيف لم ينزع إليهم في ساعة من ساعاته فيقال: دعاه بعض الصبا وخاطر من خواطر الدنيا وحملته الغرة والحداثة على حضور لهوهم والدخول في حالهم؟ بل ما رأيناه إلا ماضيا على إسلامه مصمما في أمره محققا لقوله بفعله، قد صدق إسلامه بعفافه وزهده، ولصق برسول الله
صلى الله عليه وسلم
من بين جميع من بحضرته؛ فهو أمينه وأليفه في دنياه وآخرته. وقد قهر شهوته وجاذب خواطره، صابرا على ذلك نفسه لما يرجو من فوز العاقبة وثواب الآخرة. وقد ذكر هو في كلامه وخطبه بدء حاله وافتتاح أمره حيث أسلم لما دعا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الشجرة فأقبلت تخد الأرض فقالت قريش: ساحر خفي السحر، فقال علي عليه السلام: يا رسول الله، أنا أول من يؤمن بك، آمنت بالله ورسوله وصدقت بك فيما جئت به، وأنا أشهد أن الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تصديقا لنبوتك وبرهانا على صحة دعوتك. فهل يكون إيمان قط أصح من هذا الإيمان وأوثق عقدة وأحكم مرة؟ ولكن حنق العثمانية وغيظهم وعصبية الجاحظ وانحرافه مما لا حيلة فيه.
ثم لينظر المنصف وليدع الهوى جانبا ليعلم نعمة الله على علي عليه السلام بالإسلام حيث أسلم على الوضع الذي أسلم عليه، فإنه لولا الألطاف التي خص بها والهداية التي منحها لما كان إلا كبعض أقارب محمد
صلى الله عليه وسلم ، فقد كان ممازجا له كممازجته ومخالطا له كمخالطة كثير من أهله ورهطه، ولم يستجب منهم أحد إلا بعد حين، ومنهم من لم يستجب له أصلا؛ فإن جعفرا كان ملتصقا به ولم يسلم حينئذ، وكان عتبة بن أبي لهب ابن عمه وصهره زوج ابنته ولم يصدقه بل كان شديدا عليه، وكان لخديجة بنون من غيره ولم يسلموا حينئذ وهم ربائبه ومعه في دار واحدة، وكان أبو طالب أباه في الحقيقة وكافله وناصره والمحامي عنه ومن لولاه لم تقم له قائمة ومع ذلك لم يسلم - في أغلب الروايات - وكان العباس عمه وصنو أبيه وكالقرين له في الولادة والمنشأ والتربية ولم يستجب له إلا بعد حين طويل، وكان أبو لهب عمه وكدمه ولحمه ولم يسلم وكان شديدا عليه. فكيف ينسب إسلام علي عليه السلام إلى الإلف والتربية والقرابة واللحمة والتلقين والحضانة والدار الجامعة وطول العشرة والأنس والخلوة، وقد كان كل ذلك حاصلا لهؤلاء أو لكثير منهم ولم يهتد أحد منهم إذ ذاك؟ بل كانوا بين جحد وكفر، ومنهم من مات على كفره، ومن أبطأ وتأخر وسبق بالإسلام وجاء سكيتا وقد فاز بالمنزلة غيره. وهل يدل تأمل حال علي عليه السلام - مع الإنصاف - إلا على أنه أسلم لأنه شاهد الأعلام ورأى المعجزات وشم ريح النبوة ورأى نور الرسالة وثبت اليقين في قلبه بمعرفة وعلم ونظر صحيح لا بتقليد ولا حمية ولا رغبة ولا رهبة، إلا فيما يتعلق بأمور الآخرة ...؟!
قال أبو جعفر:
ينبغي أن ينظر أهل الإنصاف هذا الفصل، ويقفوا على قول الجاحظ والأصم في نصرة العثمانية واجتهادهما في القصد إلى فضائل هذا الرجل وتهجينها؛ فمرة يبطلان معناها ، ومرة يتوصلان إلى حط قدرها. فلينظر في كل باب اعترضا فيه أين بلغت حيلتهما وما صنعا في احتيالهما في قصصهما وسجعهما؟ أليس إذا تأملتها علمت أنها ألفاظ ملفقة بلا معنى وأنها عليهما شجى وبلاء؟ وإلا فما عسى أن تبلغ حيلة الحاسد ويغني كيد الكائد الشانئ لمن قد جل قدره عن النقص وأضاءت فضائله إضاءة الشمس؟
وأين قول الجاحظ من دلائل السماء وبراهين الأنبياء، وقد علم الصغير والكبير والعالم والجاهل ممن بلغه ذكر علي عليه السلام وعلم مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم
أن عليا لم يولد في دار الإسلام، ولا غذي في حجر الإيمان، وإنما استضافه النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى نفسه سنة القحط والمجاعة وعمره يومئذ ثماني سنين فمكث معه سبع سنين حتى أتاه جبريل بالرسالة فدعاه وهو بالغ كامل العقل إلى الإسلام، فأسلم بعد مشاهدة المعجزة وبعد إعمال النظر والفكرة. وإن كان قد ورد في كلامه أنه صلى سبع سنين قبل الناس كلهم، فإنما يعني ما بين الثمان والخمس عشر، ولم يكن حينئذ دعوة ولا رسالة ولا ادعاء نبوة، وإنما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يتعبد على ملة إبراهيم ودين الحنيفية ويتحنث ويجانب الناس ويعتزل ويطلب الخلوة وينقطع في جبل حراء، وكان علي عليه السلام معه كالتابع والتلميذ، فلما بلغ الحلم وجاءت النبي
صلى الله عليه وسلم
الملائكة وبشرته بالرسالة دعاه فأجابه عن نظر ومعرفة بالأعلام المعجزة. فكيف يقول الجاحظ أن إسلامه لم يكن مقتضبا! وإن كان إسلامه ينقص عن إسلام غيره في الفضيلة لما كان يمرن عليه من التعبد مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قبل الدعوة ليكونن طاعة كثير من المكلفين أفضل من طاعة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأمثاله من المعصومين! لأن العصمة عند أهل العدل لطف يمنع من اختص به من ارتكاب القبيح. فمن اختص بذلك اللطف كانت الطاعة عليه أسهل، فوجب أن يكون ثوابه أنقص من ثواب من أطاع مع (عدم) تلك الألطاف.
وكيف يقول الجاحظ إن إسلامه ناقص عن إسلام غيره، وقد جاء في الخبر أنه أسلم يوم الثلاثاء واستنبئ النبي
صلى الله عليه وسلم
يوم الاثنين؟ فمن هذه حاله لم تكثر حجج الرسالة على سمعه، ولا تواترت أعلام النبوة على مشاهدته، ولا تطاول الوقت عليه لتخف محنته ويسقط ثقل تكليفه، بل بان فضله وظهر حسن اختياره لنفسه؛ إذ أسلم في حال بلوغه وما عانى نوازع طبعه ولم يؤخر ذلك بعد سماعه.
وقد غمر الجاحظ في كتابه هذا أن أبا بكر كان قبل إسلامه مذكورا ورئيسا معروفا يجتمع إليه كثير من أهل مكة فينشدون الأشعار ويتذاكرون الأخبار ويشربون الخمر، وقد سمع دلائل النبوة وحجج الرسالة وسافر إلى البلدان ووصلت إليه الأخبار وعرف دعوى الكهنة وحيل السحرة، ومن كان كذلك كان انكشاف الأمور له أظهر والإسلام عليه أسهل والخواطر على قلبه أقل اعتلاجا، وكل ذلك عون لأبي بكر على الإسلام ومسهل إليه سبيله. ولذلك لما قال النبي
صلى الله عليه وسلم : أتيت بيت المقدس، سأله أبو بكر عن المسجد ومواضعه فصدقه وبان له أمره وخفت مؤنته لما تقدم من معرفته بالبيت. فخرج إذا إسلام أبي بكر على قول الجاحظ من معنى المقتضب. وفي ذلك رويتم عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا وكان له تردد ونبوة إلا ما كان من أبي بكر فإنه لم يتلعثم حتى هجم به اليقين إلى المعرفة والإسلام. فأين هذا وإسلام من خلي وعقله وألجئ إلى نظره مع صغر سنه واعتلاج الخواطر على قلبه ونشأته في ضد ما دخل فيه، والغالب على أمثاله وأقرانه حب اللعب واللهو؟ فلجأ إلى ما ظهر له من دلائل الدعوة ولم يتأخر إسلامه فيلزمه التقصير بالمعصية، فقهر شهوته وغالب خواطره وخرج من عادته وما كان غذي به لصحة نظره ولطافة فكره وغامض فهمه، فعظم استنباطه ورجح فضله وشرف قدر إسلامه، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب، ولا تنعم فيها بنعيم حدثا ولا كبيرا، وحمى نفسه عن الهوى، وكسر شرة حداثته بالتقوى، واشتغل بهم الدين عن نعيم الدنيا، وأشغل هم الآخرة قلبه ووجه إليه رغبته، فإسلامه هو السبيل الذي لم يسلم عليه أحد غيره.
وما سبيله في ذلك إلا كسبيل الأنبياء، ليعلم أن منزلته من النبي
صلى الله عليه وسلم
كمنزلة هارون من موسى، وأنه وإن لم يكن نبيا فقد كان في سبيل الأنبياء سالكا ولمنهاجهم متبعا. وكانت حاله كحال إبراهيم عليه السلام. فإن أهل العلم ذكروا أنه لما كان صغيرا جعلته أمه في سرب لم يطلع عليه أحد، فلما نشأ ودرج وعقل قال لأمه: من ربي؟ قالت: أبوك. قال: فمن رب أبي؟ فزبرته ونهرته، إلى أن طلع من السرب فرأى كوكبا فقال: هذا ربي، فلما أفل قال: لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغا قال: هذا ربي، فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون، إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين. وفي ذلك يقول الله جل ثناؤه:
وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين ، وعلى هذا كان إسلام الصديق الأكبر عليه السلام. لسنا نقول: إنه كان مساويا له في الفضيلة! ولكن كان مقتديا بطريقه على ما قال الله تعالى:
إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين .
وأما اعتلال الجاحظ بأن له ظهرا كأبي طالب وردأ كبني هاشم، فإنه يوجب عليه أن يكون محنة أبي بكر وبلال وثوابهما وفضل إسلامهما أعظم مما لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أبا طالب ظهره وبني هاشم ردؤه! وحسبك جهلا من معاند لم يستطع حط قدر علي عليه السلام إلا بحطه من قدر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ! ولم يكن أحد أشد على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من قراباته الأدنى منهم فالأدنى، كأبي لهب عمه، وامرأة أبي لهب وهي أم جميل بنت حرب بن أمية وإحدى أولاد عبد مناف، ثم ما كان من عقبة بن معيط وهو ابن عمه، وما كان من النضر بن الحارث وهو من بني عبد الدار بن قصي وهو ابن عمه أيضا، وغير هؤلاء ممن يطول تعداده. وكلهم كان يطرح الأذى في طريقه وينقل أخباره ويرميه بالحجارة ويرمي الكرش والفرث عليه. وكانوا يؤذون عليا عليه السلام كأذاه، ويجتهدون في غمه ويستهزئون به. وما كان لأبي بكر قرابة تؤذيه كقرابة علي، ولما كان بين علي وبين النبي
صلى الله عليه وسلم
من الاتحاد والإلف والاتفاق أحجم المنافقون بالمدينة عن أذى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خوفا من سيفه، وأنه صاحب الدار والجيش وأمره مطاع وقوله نافذ، فخافوا على دمائهم منه فاتقوه وأمسكوا عن إظهار بغضه وأظهروا بغض علي عليه السلام وشنآنه، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في حقه - في الخبر الذي روي في جميع الصحاح: «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق.» وقال كثير من أعلام الصحابة - كما روي في الخبر المشهور بين المحدثين: ما كنا نعرف المنافقين إلا ببغض علي بن أبي طالب. وأين كان ظهر أبي طالب عن جعفر وقد أزعجه الأذى عن وطنه حتى هاجر إلى بلاد الحبشة وركب البحر؟ أيتوهم الجاحظ أن أبا طالب نصر عليا وخذل جعفرا؟
قال أبو جعفر:
أما ما ذكر من كثرة المال والصديق واستفاضة الذكر وبعد الصيت وكبر السن، فكله عليه لا له؛ وذلك لأنه قد علم أن من سيرة العرب وأخلاقها حفظ الصديق والوفاء بالذمام والتهيب لذي الثروة واحترام ذي السن العالية، وفي كل هذا ظهر شديد وسند وثقة يعتمد عليها عند المحن؛ ولذلك كان المرء منهم إذا تمكن من صديقه أبقى عليه واستحيا منه وكان ذلك سببا لنجاته والعفو عنه. على أن علي بن أبي طالب إن لم يكن شهره سنه فقد شهره نسبه وموضعه من بني هاشم، وإن لم يستفض ذكره بلقاء الرجال وكثرة الأسفار استفاض بأبي طالب! فأنتم تعلمون أنه ليس تيم في بعد الصيت كهاشم، ولا أبو قحافة كأبي طالب، وعلى حسب ذلك يعلو ذكر الفتى على ذي السن ويبعد صيت الحدث على الشيخ. ومعلوم أيضا أن عليا على أعناق المشركين أثقل؛ إذ كان هاشميا، وإن كان أبوه حامي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
والمانع لحوزته، وعلي هو الذي فتح على العرب باب الخلاف واستهان بهم بما أظهر من الإسلام والصلاة وخالف رهطه وعشيرته وأطاع ابن عمه فيما لم يعرف من قبل ولا عهد له نظير، كما قال تعالى:
لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ، ثم كان بعد صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومشتكى حزنه وأنيسه في خلوته وجليسه وأليفه في أيامه كلها، وكل هذا يوجب التحريض عليه ومعاداة العرب له.
ثم أنتم - معاشر العثمانية - تثبتون لأبي بكر فضيلة بصحبة الرسول
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى يثرب ودخوله معه في الغار، فقلتم مرتبة شريفة وحالة جليلة؛ إذ كان شريكه في الهجرة وأنيسه في الوحشة! فأين هذه من صحبة علي له في خلوته وحيث لا يجد أنيسا غيره ليله ونهاره أيام مقامه بمكة يعبد الله معه سرا ويتكلف له الحاجة جهرا، ويخدمه كالعبد يخدم مولاه، ويشفق عليه ويحوطه، وكالولد يبر والده ويعطف عليه؟ ولما سئلت عائشة: من كان أحب الناس إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ قالت: أما من الرجال فعلي، وأما من النساء ففاطمة.
قال أبو جعفر:
أما القول فممكن، والدعوى سهلة، سيما على مثل الجاحظ، فإنه ليس على لسانه من دينه وعقله رقيب، وهو من دعوى الباطل غير بعيد. فمعناه نزر، وقوله لغو، ومطلبه سجع، وكلامه لعب ولهو. يقول الشيء وخلافه، ويحسن القول وضده، ليس له من نفسه واعظ، ولا لدعواه حد قائم. وإلا فكيف تجاسر على القول بأن عليا حينئذ لم يكن مطلوبا ولا طالبا؟ وقد بينا بالأخبار الصحيحة والحديث المرفوع السند أنه كان يوم أسلم بالغا كاملا منابذا بلسانه وقلبه لمشركي قريش، ثقيلا على قلوبهم، وهو المخصوص دون أبي بكر بالحصار في الشعب، وصاحب الخلوات برسول الله
صلى الله عليه وسلم
في تلك الظلمات، المتجرع لغصص المرار من أبي لهب وأبي جهل وغيرهما، والمصطلي لكل مكروه، والشريك لنبيه في كل أذى، قد نهض بالحمل الثقيل، وبان بالأمر الجليل. ومن الذي كان يخرج ليلا من الشعب على هيئة السارق ويخفي نفسه ويضائل شخصه حتى يأتي إلى من يبعثه إليه أبو طالب من كبراء قريش كمطعم بن عدي وغيره، فيحمل لبني هاشم على ظهره أعدال الدقيق والقمح، وهو على أشد خوف من أعدائهم كأبي جهل وغيره لو ظفروا به لأراقوا دمه. أعلي كان يفعل ذلك أيام الحصار في الشعب أم أبو بكر؟ وقد ذكر هو عليه السلام حاله يومئذ فقال في خطبة له مشهورة: «فتعاقدوا على ألا يعاملونا ولا يناكحونا، وأوقدت الحرب علينا نيرانها واضطررنا إلى جبل وعر، مؤمنا يرجو الثواب وكافرا يحامي عن الأصل.» ولقد كانت القبائل كلها اجتمعت عليهم وقطعوا عنهم المادة والميرة، فكانوا يتوقعون الموت جوعا صباحا ومساء، لا يرون وجها ولا فرجا، قد اضمحل عزمهم وانقطع رجاؤهم. فمن الذي خلص إليه مكروه تلك المحن بعد محمد
صلى الله عليه وسلم
إلا علي عليه السلام وحده؟ وما عسى أن يقول الواصف والمطنب في هذه الفضيلة من تقصي معانيها وبلوغ غاية كنهها وفضيلة الصابر عندها؟ ودامت هذه المحنة عليهم ثلاث سنين حتى انفرجت عنهم بقصة الصحيفة، والقصة مشهورة.
وكيف يستحسن الجاحظ لنفسه أن يقول في علي عليه السلام أنه قبل الهجرة كان وادعا رافها لم يكن مطلوبا ولا طالبا، وهو صاحب الفراش الذي فدا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بنفسه ووقاه بمهجته واحتمل السيوف ورضخ بالحجارة دونه؟ وهل ينتهي الواصف وإن أطنب، والمادح وإن أسهب، إلى الإبانة عن مقدار هذه الفضيلة والإيضاح بمزية هذه الخصيصة؟
فأما قوله: إن أبا بكر عذب بمكة، فإنا لا نعلم أن العذاب كان واقعا إلا بعبد أو عسيف أو لمن لا عشيرة له تمنعه! فأنتم في أبي بكر بين أمرين، تارة تجعلونه دخيلا ساقطا وهجينا رذيلا ومستضعفا ذليلا، وتارة تجعلونه رئيسا متبعا وكبيرا مطاعا! فاعتمدوا على أحد القولين لنكلمكم بحسب ما تختارونه لأنفسكم. ولو كان الفضل في الفتنة والعذاب لكان عمار وخباب وبلال وكل معذب بمكة أفضل من أبي بكر؛ لأنهم كانوا من العذاب في أكثر مما كان فيه، ونزل فيهم من القرآن ما لم ينزل فيه! كقوله تعالى:
والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا ، قالوا: نزلت في خباب وبلال. ونزل في عمار قوله:
إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان . وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يمر على عمار وأبيه وأمه وهم يعذبون، يعذبهم بنو مخزوم لأنهم كانوا حلفاءهم، فيقول: صبرا آل ياسر؛ فإن موعدكم الجنة. وكان بلال يقلب على الرمضاء وهو يقول: أحد أحد. وما سمعنا لأبي بكر في شيء من ذلك ذكرا. ولقد كان لعلي عليه السلام عنده يد غراء - إن صح ما رويتموه في تعذيبه - لأنه قتل نوفل بن خويلد وعمير بن عثمان يوم بدر. ضرب نوفلا فقطع ساقه، فقال: أذكرك الله والرحم! فقال: قد قطع الله كل رحم وصهر إلا من كان تابعا لمحمد. ثم ضربه أخرى ففاضت نفسه. وصمد لعمير بن عثمان التيمي فوجده يروم الهرب وقد ارتج عليه المسلك، فضربه على شراسيف صدره فصار نصفه الأعلى بين رجليه. وليس أن أبا بكر لم يطلب بثأره منهما ويجتهد، لكنه لم يقدر على أن يفعل فعل علي عليه السلام. فبان علي بفعله دونه.
قال أبو جعفر:
لا أشك أن الباطل خان أبا عثمان والخطأ أقعده، والخذلان أصاره إلى الحيرة، فما علم وعرف حتى قال ما قال، فزعم أن عليا عليه السلام قبل الهجرة لم يمتحن ولم يكابد المشاق، وأنه إنما قاسى مشاق التكليف ومحن الابتلاء منذ يوم بدر، ونسي الحصار في الشعب وما مني به منه، وأبو بكر وادع رافه يأكل ما يريد ويجلس مع من يحب مخلى سريه طيبة نفسه، ساكنا قلبه، وعلي يقاسي الغمرات ويكابد الأهوال ويجوع ويظمأ، ويتوقع القتل صباحا ومساء؛ لأنه كان هو المتوصل المحتال في إحضار قوت زهيد من شيوخ قريش وعقلائها سرا ليقيم به رمق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وبني هاشم وهم في الحصار ولا يأمن في كل وقت مفاجأة أعداء رسول الله
صلى الله عليه وسلم
له بالقتل كأبي جهل بن هشام وعقبة بن أبي معيط والوليد بن المغيرة وعتبة بن ربيعة وغيرهم من فراعنة قريش وجبابرتها. ولقد كان يجيع نفسه ويطعم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
زاده، ويظمئ نفسه ويسقيه ماءه، وهو كان المعلل له إذا مرض، والمؤنس له إذا استوحش. وأبو بكر بنجوة عن ذلك لا يمسه مما يمسهم ألم، ولم يلحقه مما يلحقهم مشقة، ولا يعلم بشيء من أخبارهم وأحوالهم إلا على سبيل الإجمال دون التفصيل ثلاث سنين محرمة معاملتهم ومناكحتهم ومجالستهم، محبوسين محصورين ممنوعين من الخروج والتصرف في أنفسهم. فكيف أهمل الجاحظ هذه الفضيلة ونسي هذه الخصيصة ولا نظير لها؟ ولكن لا يبالي الجاحظ بعد أن يسوغ له لفظه وتتسق له خطابته ما يضيع من المعنى ويرجع عليه من الخطأ.
فأما قوله: وعلموا أن العاقبة للمتقين، ففيه إشارة إلى معنى غامض قصده الجاحظ، يعني ألا فضيلة لعلي عليه السلام في الجهاد لأن الرسول كان أعلمه أنه منصور وأن العاقبة له، وهذا من دسائس الجاحظ وهمزاته ولمزاته، وليس بحق ما قاله؛ لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أعلم أصحابه جملة أن العاقبة لهم ولم يعلم واحدا منهم بعينه أنه لا يقتل، ولا عليا ولا غيره، وإن صح أنه كان أعلمه أنه لا يقتل فلم يعلمه أنه لا يقطع عضو من أعضائه، ولم يعلمه أنه لا يمسه ألم الجرح في جسده، ولم يعلمه أنه لا يناله الضرب الشديد! وعلى أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد أعلم أصحابه قبل يوم بدر وهو يومئذ بمكة أن العاقبة لهم كما أعلم أصحابه بعد الهجرة ذلك! فإن لم يكن لعلي والمجاهدين فضيلة في الجهاد وبعد الهجرة لإعلامه إياهم ذلك، فلا فضيلة لأبي بكر وغيره في احتمال المشاق قبل الهجرة لإعلامه إياه بذلك! فقد جاء في الخبر أنه وعد أبا بكر قبل الهجرة بالنصر، وأنه قال له: أرسلت إلى هؤلاء بالذبح وإن الله سيغنمنا أموالهم ويملكنا ديارهم. فالقول في الموضعين متساو ومتفق.
قال أبو جعفر:
ما نرى الجاحظ احتج لكون أبي بكر أغلظهم وأشدهم محنة إلا بقوله: لأنه أقام بمكة مدة مقام الرسول
صلى الله عليه وسلم
بها. وهذه الحجة لا تخص أبا بكر وحده؛ لأن عليا أقام معه هذه المدة وكذلك طلحة وزيد وعبد الرحمن وبلال وغيرهم، وقد كان الواجب عليه أن يخص أبا بكر وحده بحجة تدل على أنه كان أغلظ الجماعة وأشدهم محنة بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فالاحتجاج في نفسه فاسد. ثم يقال له: ما بالك أهملت أمر مبيت علي على الفراش بمكة ليلة الهجرة؟ هل نسيته أم تناسيته؟ فإنها المحنة العظيمة والفضيلة الشريفة التي متى امتحنها الناظر وأجال فكره فيها رأى تحتها فضائل متفرقة ومناقب متغايرة؛ وذلك أنه لما استقر الخبر عند المشركين أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مجمع على الخروج من بينهم للهجرة إلى غيرهم قصدوا معاجلته وتعاقدوا على أن يبيتوه في فراشه وأن يضربوه بأسياف كثيرة بيد كل صاحب قبيلة من قريش سيف منها ليضيع دمه بين الشعوب ويتفرق بين القبائل، ولا يطلب بنو هاشم بدمه قبيلة واحدة بعينها من بطون قريش، وتحالفوا على تلك الليلة واجتمعوا عليها. فلما علم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ذلك من أمرهم دعا أوثق الناس عنده وأمثلهم في نفسه وأبذلهم في ذات الله لمهجته وأسرعهم إجابة إلى طاعته، فقال له: إن قريشا قد تحالفت على أن تبيتني هذه الليلة، فامض إلى فراشي ونم في مضجعي والتف في بردي الحضرمي ليروا أني لم أخرج، وإني خارج إن شاء الله. فمنعه أولا من التحرز وإعمال الحيلة، وصده عن الاستظهار لنفسه بنوع من أنواع المكايد والجهات التي يحتاط بها الناس لنفوسهم، وألجأه إلى أن يعرض نفسه لظبات السيوف الشحيذة من أيدي أرباب الحنق والضغينة. فأجاب إلى ذلك سامعا مطيعا طيبة بها نفسه، ونام على فراشه صابرا محتسبا واقيا له بمهجته، ينتظر القتل. ولا نعلم فوق بذل النفس درجة يلتمسها صابر ولا يبلغها طالب، والجود بالنفس أقصى غاية الجود. ولولا أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
علم أنه أهل لذلك لما أهله، ولو كان عنده نقص في صبره أو في شجاعته أو في مناصحته لابن عمه واختير لذلك لكان من اختاره
صلى الله عليه وسلم
منقوصا في رأيه مضرا في اختياره، ولا يجوز أن يقول هذا أحد من أهل الإسلام، وكلهم مجمعون على أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
عمل الصواب وأحسن في الاختيار. ثم في ذلك إذا تأمل المتأمل وجوه من الفضل:
منها أنه وإن كان عنده في موضع الثقة، فإنه غير مأمون عليه ألا يضبط السر فيفسد التدبير بإفشائه تلك الليلة إلى من يلقاه من الأعداء.
ومنها أنه وإن كان ضابطا للسر ثقة عند من اختاره، فغير مأمون عليه الجبن عند مفاجأة المكروه ومباشرة الأهوال، فيفر من الفراش فيفطن لموضع الحيلة ويطلب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فيظفر به.
ومنها أنه وإن كان ثقة ضابطا للسر شجاعا نجدا، فلعله غير محتمل للمبيت على الفراش؛ لأن هذا أمر خارج عن الشجاعة إذ كان قد أقامه مقام المكتوف الممنوع، بل هو أشد مشقة من المكتوف الممنوع؛ لأن المكتوف الممنوع يعلم من نفسه أنه لا سبيل له إلى الهرب، وهذا يجد السبيل إلى الهرب وإلى الدفع عن نفسه ولا يهرب ولا يدافع.
ومنها أنه وإن كان ثقة عنده ضابطا للسر شجاعا محتملا للمبيت على الفراش، فإنه غير مأمون أن يذهب صبره عند العقوبة الواقعة والعذاب النازل بساحته حتى يبوح بما عنده ويصير إلى الإقرار بما يعلمه، وهو أنه أخذ طريق كذا، فيطلب فيؤخذ.
فلهذا قال علماء المسلمين: إن فضيلة علي تلك الليلة لا نعلم أحدا من البشر نال مثلها إلا ما كان من إسحق وإبراهيم عند استسلامه للذبح. ولولا أن الأنبياء لا يفضلهم غيرهم لقلنا إن محنة علي أعظم؛ لأنه قد روي أن إسحق تلكأ لما أمره أن يضطجع وبكى على نفسه، وقد كان أبوه يعلم أن عنده في ذلك وقفة؛ ولذلك قال له: فانظر ماذا ترى. وحال علي بخلاف ذلك لأنه ما تلكأ ولا تمنع ولا تغير لونه ولا اضطربت أعضاؤه. ولقد كان أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
يشيرون عليه بالرأي المخالف لما كان أمر به وتقدم فيه فيتركه ويعمل بما أشاروا به، كما جرى يوم الخندق في مصانعته الأحزاب بثلث تمر المدينة فإنهم أشاروا عليه بترك ذلك فتركه. وهذه كانت قاعدته معه وعادته بينهم. وقد كان لعلي أن يعتل بعلة وأن يقف ويقول: يا رسول الله، أكون معك أحميك من العدو وأذب بسيفي عنك، فلست مستغنيا في خروجك عن مثلي، ونجعل عبدا من عبيدنا في فراشك قائما مقامك يتوهم القوم برؤيته نائما في بردك أنك لم تخرج ولم تفارق مركزك. فلم يقل ذلك ولا تحبس ولا توقف ولا تلعثم؛ وذلك لعلم كل واحد منهما أن أحدا لا يصبر على ثقل هذه المحنة ولا يتورط هذه الهلكة إلا من خصه الله تعالى بالصبر على مشقتها والفوز بفضيلتها.
وله من جنس ذلك أفعال كثيرة، كيوم دعا عمرو بن عبد ود المسلمين إلى المبارزة فأحجم الناس كلهم عنه لما علموا من بأسه وشدته، ثم كرر النداء فقام علي فقال: أنا أبرز إليه! فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إنه عمرو! قال: نعم، وأنا علي! فأمره بالخروج إليه، فلما خرج قال
صلى الله عليه وسلم : برز الإيمان كله إلى الشرك كله. وكيوم أحد حيث حمى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من أبطال قريش وهم يقصدون قتله فقتلهم دونه حتى قال جبريل: يا محمد، إن هذه هي المواساة! فقال: إنه مني وأنا منه. فقال جبريل: وأنا منكما. ولو عددنا أيامه ومقاماته التي شرى فيها نفسه لله تعالى لأطلنا وأسهبنا.
قال أبو جعفر:
هذا فرق غير مؤثر؛ لأنه قد ثبت بالتواتر حديث الفراش فلا فرق بينه وبين ما ذكر في نص الكتاب ولا يجحده إلا مجنون أو غير مخالط لأهل الملة. أرأيت كون الصلوات خمسا؟ وكون زكاة الذهب ربع العشر؟ وكون خروج الريح ناقضا للطهارة؟ وأمثال ذلك مما هو معلوم بالتواتر حكمه، هل هو مخالف لما نص في الكتاب عليه من الأحكام؟ هذا مما لا يقوله رشيد ولا عاقل! على أن الله تعالى لم يذكر اسم أبي بكر في الكتاب، وإنما قال:
إذ يقول لصاحبه ، وإنما علمنا أنه أبو بكر بالخبر وما ورد في السير، وقد قال أهل التفسير: إن قوله تعالى:
ويمكر الله والله خير الماكرين
كناية عن علي لأنه مكر بهم، وأول الآية:
وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
أنزلت في ليلة الهجرة، ومكرهم كان توزيع السيوف على بطون قريش، ومكر الله تعالى هو منام علي على الفراش، فلا فرق بين الموضعين في أنهما مذكوران كناية لا تصريحا. وقد روى المفسرون كلهم أن قول الله تعالى:
من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله
أنزلت في علي ليلة المبيت على الفراش، فهذا مثل قوله تعالى:
إذ يقول لصاحبه
لا فرق بينهما.
قال أبو جعفر:
هذا هو الكذب الصراح والتحريف والإدخال في الرواية ما ليس منها، والمعروف المنقول أنه
صلى الله عليه وسلم
قال له: اذهب فاضطجع في مضجعي وتغش ببردي الحضرمي، فإن القوم سيفقدونني ولا يشهدون مضجعي، فلعلهم إذا رأوك يسكنهم ذلك حتى يصبحوا، فإذا أصبحت فاغد في أداء أمانتي. ولم ينقل ما ذكره الجاحظ، وإنما ولده أبو بكر الأصم وأخذه الجاحظ ولا أصل له. ولو كان هذا صحيحا لم يصل إليه منهم مكروه، وقد وقع الاتفاق على أنه ضرب ورمي بالحجارة قبل أن يعلموا من هو حتى تضور، وأنهم قالوا له: رأينا تضورك، فإنا كنا نرمي محمدا ولا يتضور. ولأن لفظة المكروه - إن كان قالها - إنما يراد بها القتل، فهب أنه أمن القتل كيف يأمن من الضرب والهوان ومن أن ينقطع بعض أعضائه وإن سلمت نفسه؟ أليس الله تعالى قال لنبيه:
بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ؟ ومع ذلك فقد كسرت رباعيته وشج وجهه وأدميت ساقه؛ وذلك لأنها عصمة من القتل خاصة، وكذلك المكروه الذي أومن علي منه - إن كان صح ذلك في الحديث - إنما هو مكروه القتل. ثم يقال له: وأبو بكر لا فضيلة له أيضا في كونه في الغار! لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال له:
لا تحزن إن الله معنا ، ومن يكن الله معه فهو آمن لا محالة من كل سوء، فكيف قلت: «ولم ينقل ناقل أنه قال لأبي بكر في الغار مثل ذلك؟» فكل ما يجيب به عن هذا فهو جوابنا عما أورده، فنقول له: هذا ينقلب عليك في النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى وعده بظهور دينه وعاقبة أمره! فيجب على قولك ألا يكون مثابا عند الله تعالى على ما يحتمله من المكروه ولا ما يصيبه من الأذى؛ إذ كان قد أيقن بالسلامة والفتح في عدته!
قال أبو جعفر:
إن أبا عثمان يجر على نفسه ما لا طاقة له به من مطاعن الشيعة، ولقد كان في غنية عن التعلق بما تعلق به؛ لأن الشيعة تزعم أن هذه الآية بأن تكون طعنا وعيبا على أبي بكر أولى من أن تكون فضيلة ومنقبة له؛ لأنه لما قال:
لا تحزن ، دل على أنه قد كان حزن وقنط وأشفق على نفسه، وليس هذا من صفات المؤمنين الصابرين، ولا يجوز أن يكون حزنه طاعة لأن الله تعالى لا ينهى عن الطاعة؛ فلو لم يكن ذنبا لم ينه عنه. وقوله:
إن الله معنا
أي إن الله عالم بحالنا وما نضمره من اليقين أو الشك، كما يقول الرجل لصاحبه: لا تضمرن سوءا ولا تنوين قبيحا؛ فإن الله تعالى يعلم ما نسره وما نعلنه. وهذا مثل قوله تعالى:
ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا
أي هو عالم بهم. وأما السكينة، فكيف يقول إنها ليست راجعة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
وبعدها قوله:
وأيده بجنود لم تروها ؟ أترى المؤيد بالجنود كان أبا بكر أم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ وقوله: إنه مستغن عنها، ليس بصحيح. ولا يستغنى أحد عن ألطاف الله وتوفيقه وتأييده وتثبيت قلبه. وقد قال الله تعالى في قصة حنين:
وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين، ثم أنزل الله سكينته على رسوله . وأما الصحبة فلا تدل إلا على المرافقة والاصطحاب لا غير، وقد تكون حيث لا إيمان كما قال الله تعالى:
قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك ، ونحن وإن كنا نعتقد إخلاص أبي بكر وإيمانه الصحيح السليم وفضيلته التامة إلا أنا لا نحتج له بمثل ما احتج به الجاحظ من الحجج الواهية، ولا نتعلق بما يجر علينا دواهي الشيعة ومطاعنها!
قال أبو جعفر:
أما كثرة المستجيبين، فالفضل فيها راجع إلى المجيب لا إلى المجاب. على أنا قد علمنا أن من استجاب لموسى أكثر ممن استجاب لنوح عليهما السلام، وثواب نوح أكثر بصبره على الأعداء ومقاساة خلافهم وعنتهم. وأما إنفاق المال، فأين محنة الغنى من محنة الفقر؟ وأين يعتدل إسلام من أسلم وهو غني إن جاع أكل وإن أعيا ركب وإن عري لبس، قد وثق بيساره واستغنى بماله واستعان على نوائب الدنيا بثروته، ممن لا يجد قوت يومه وإن وجد لم يستأثر به فكان الفقر شعاره؟ وفي ذلك قيل: الفقر شعار المؤمن. وقال الله تعالى لموسى: «يا موسى، إذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحبا بشعار الصالحين.» وفي الحديث: «إن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام.» وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يقول: «اللهم احشرني في زمرة الفقراء.» ولذلك أرسل الله محمدا
صلى الله عليه وسلم
فقيرا، وكان بالفقر سعيدا، فقاسى محنة الفقر ومكابدة الجوع حتى شد الحجر على بطنه. وحسبك بالفقر فضيلة في دين الله لمن صبر عليه؛ فإنك لا تجد صاحب الدنيا يتمناه لأنه مناف لمال الدنيا وأهلها، وإنما هو شعار أهل الآخرة. وأما طاعة علي عليه السلام وكون الجاحظ زعم أنها كانت لأن في عز محمد عزه وعز رهطه بخلاف طاعة أبي بكر، فهذا يفتح عليه أن يكون جهاد حمزة كذلك، وجهاد عبيدة بن الحارث، وهجرة جعفر إلى الحبشة، بل لعل محاماة المهاجرين من قريش على رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كانت لأن في دولته دولتهم وفي نصرته استجداد ملك لهم، وهذا يجر إلى الإلحاد ويفتح باب الزندقة ويفضي إلى الطعن في الإسلام والنبوة.
قال أبو جعفر:
قد بينا فضيلة المبيت على الفراش على فضيلة الصحبة في الغار بما هو واضح لمن أنصف، ونزيد ههنا تأكيدا بما لم نذكره فيما تقدم، فنقول:
إن فضيلة المبيت على الفراش على الصحبة في الغار لوجهين:
أحدهما:
أن عليا عليه السلام قد كان أنس بالنبي
صلى الله عليه وسلم
وحصل له بمصاحبته قديما أنس عظيم وإلف شديد، فلما فارقه عدم ذلك الأنس وحصل عليه أبو بكر، فكان ما يجده علي من الوحشة وألم الفرقة موجبا زيادة ثوابه؛ لأن الثواب على قدر المشقة.
وثانيهما:
أن أبا بكر كان يؤثر الخروج من مكة، وقد كان خرج من قبل فرد، فازداد كراهية للمقام. فلما خرج مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وافق ذلك هوى قلبه ومحبوب نفسه، فلم يكن له في الفضيلة ما يوازي فضيلة من احتمل المشقة العظيمة وعرض نفسه لوقع السيوف ورأسه لرضح الحجارة؛ لأنه على قدر سهولة العبادة يكون نقصان الثواب.
قال أبو جعفر:
كيف كانت بنو جمح تؤذي عثمان بن مظعون وتضر به وهو فيهم ذو سطوة وقدر وتترك أبا بكر يبني مسجدا يفعل فيه ما ذكرتم، وأنتم الذين رويتم عن ابن مسعود أنه قال: ما صلينا ظاهرين حتى أسلم عمر بن الخطاب؟ والذي تذكرونه من بناء المسجد كان قبل إسلام عمر، فكيف هذا؟! وأما ما ذكرتم من رقة صوته وعتق وجهه، فكيف يكون ذلك وقد روى الواقدي وغيره أن عائشة رأت رجلا من العرب خفيف العارضين، معروق الخدين، غائر العينين، أجنى لا يمسك إزاره، فقالت : ما رأيت أشبه بأبي بكر من هذا؟! فلا نراها دلت على شيء من الجمال في صفته.
قال أبو جعفر:
هذا الكلام وهجر السكران سواء في تقارب المخرج واضطراب المعنى. وذلك أن قريشا لم تقدر على أذى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأبو طالب حي يمنعه، فلما مات طلبته لتقتله، فخرج تارة إلى بني عامر وتارة إلى ثقيف، وتارة إلى بني شيبان، ولم يكن يتجاسر على المقام بمكة إلا مستترا حتى أجاره مطعم بن عدي. ثم خرج إلى المدينة فبذلت فيه مائة بعير لشدة حنقها عليه حين فاتها فلم تقدر عليه. فما بالها بذلت في أبي بكر مائة بعير أخرى وقد كان رد الجوار وبقي بينهم فردا لا ناصر له ولا دافع عنه يصنعون به ما يريدون؟ إما أن يكونوا أجهل البرية كلها، أو يكون العثمانية أكذب جيل في الأرض وأوقحه وجها، وهذا مما لم يذكر في سيرة ولا روي في أثر ولا سمع به بشر ولا سبق الجاحظ به أحد.
قال أبو جعفر:
ما أعجب هذا القول إذ تدعي العثمانية لأبي بكر الرفق في الدعاء وحسن الاحتجاج، وقد أسلم ومعه في منزله ابنه عبد الرحمن فما قدر أن يدخله في الإسلام طوعا برفقه ولطف احتجاجه ولا كرها بقطع النفقة عنه وإدخال المكروه عليه، ولا كان لأبي بكر عند ابنه عبد الرحمن من القدر ما يطيعه فيما يأمره به ويدعوه إليه. كما روي أن أبا طالب فقد النبي
صلى الله عليه وسلم
يوما - وكان يخاف عليه من قريش أن يغتالوه - فخرج ومعه ابنه جعفر يطلبانه، فوجده قائما في بعض شعاب مكة يصلي وعلي معه عن يمينه، فلما رآهما أبو طالب قال لجعفر: تقدم وصل جناح ابن عمك، فقام جعفر عن يسار محمد
صلى الله عليه وسلم ، فلما صاروا ثلاثة تقدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وتأخر الأخوان، فبكى أبو طالب وقال:
إن عليا وجعفرا ثقتي
عند ملم الخطوب والنوب
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما
أخي لأمي من بينهم وأبي
والله لا أخذل النبي ولا
يخذله من بني ذو حسب
فتذكر الرواة أن جعفرا أسلم منذ ذلك اليوم؛ لأن أباه أمره بذلك وأطاع أمره. وأبو بكر لم يقدر على إدخال ابنه عبد الرحمن في الإسلام حتى أقام بمكة على كفره ثلاث عشرة سنة وخرج يوم أحد في عسكر المشركين ينادي: أنا عبد الرحمن بن عتيق، هل من مبارز؟ ثم مكث بعد ذلك على كفره حتى أسلم عام الفتح، وهو اليوم الذي دخلت فيه قريش في الإسلام طوعا وكرها ولم يجد أحد منها إلى ترك ذلك سبيلا. وأين كان رفق أبي بكر وحسن احتجاجه عند أبيه أبي قحافة وهما في دار واحدة؟ هلا رفق ودعاه إلى الإسلام فأسلم؟ وقد علمتم أنه بقي على الكفر إلى يوم الفتح فأحضره ابنه عند النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو شيخ كبير رأسه كالثغامة فنفر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
منه وقال: «غيروا هذا.» فخضبوه، ثم جاءوا به مرة أخرى فأسلم. وكان أبو قحافة فقيرا مدقعا سيئ الحال، وأبو بكر عندهم كان مثريا فائض المال فلم يمكنه استمالته إلى الإسلام بالنفقة والإحسان. وقد كانت امرأة أبي بكر أم عبد الله ابنه - واسمها نملة بنت عبد العزى بن أسعد عبد ود العامرية - لم تسلم، وأقامت على شركها بمكة وهاجر أبو بكر وهي كافرة، فلما نزل قوله تعالى:
ولا تمسكوا بعصم الكوافر
فطلقها أبو بكر. فمن عجز عن ابنه وأبيه وامرأته فهو عن غيرهم من الغرباء أعجز. ومن لم يقبل منه أبوه وابنه وامرأته لا برفق واحتجاج ولا خوفا من قطع النفقة عنهم وإدخال المكروه عليهم، فغيرهم أقل قبولا منه وأكثر خلافا عليه.
أخبرونا من هذا الذي أسلم في ذلك اليوم من أهل بيت أبي بكر إذا كانت امرأته لم تسلم، وابنه عبد الرحمن لم يسلم، وأبو قحافة لم يسلم، وأخته أم فروة لم تسلم، وعائشة لم تكن قد ولدت في ذلك الوقت لأنها ولدت بعد مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم
بخمس سنين، ومحمد بن أبي بكر ولد بعد مبعث الرسول بثلاث وعشرين سنة لأنه ولد في حجة الوداع، وأسما بنت أبي بكر التي قد روى الجاحظ هذا الخبر عنها كانت يوم مبعث رسول الله بنت أربع سنين، وفي رواية من يقول بنت سنتين. فمن الذي أسلم من أهل بيته يوم أسلم؟! نعوذ بالله من الجهل والكذب والمكابرة. وكيف أسلم سعد والزبير وعبد الرحمن بدعاء أبي بكر وليسوا من رهطه ولا من أترابه ولا من جلسائه ولا كانت بينهم قبل ذلك صداقة متقدمة ولا أنس وكيد؟ وكيف ترك أبو بكر عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة لم يدخلهما في الإسلام برفقه وحسن دعائه، وقد زعمتم أنهما كانا يجلسان إليه لعلمه وطريف حديثه؟ وما باله لم يدخل جبير بن مطعم في الإسلام وقد ذكرتم أنه أدبه وخرجه ومنه أخذ جبير العلم بأنساب قريش ومآثرها؟ فكيف عجز عن هؤلاء الذين عددناهم وهم منه بالحال التي وصفنا ودعا من لم يكن بينه وبينه أنس ولا معرفة إلا معرفة عيان؟ وكيف لم يقبل منه عمر بن الخطاب وقد كان شكله وأقرب الناس شبها به في أغلب أخلاقه؟ وإن رجعتم إلى الإنصاف لتعلمن أن هؤلاء لم يكن إسلامهم إلا بدعاء الرسول
صلى الله عليه وسلم
لهم وعلى يديه أسلموا. ولو فكرتم في حسن التأتي في الدعاء ليصحن لأبي طالب في ذلك - على شركه - أضعاف ما ذكرتموه لأبي بكر؛ لأنكم رويتم أن أبا طالب قال لعلي: يا بني الزمه، فإنه لن يدعوك إلا إلى خير. وقال لجعفر: صل جناح ابن عمك. فأسلم بقوله. ولأجله أصفق بنو عبد مناف على نصرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بمكة من بني مخزوم وبني سهم وبني جمح، ولأجله صبر بنو هاشم على الحصار في الشعب، وبدعائه وإقباله على محمد
صلى الله عليه وسلم
أسلمت امرأته فاطمة بنت أسد، فهو أحسن رفقا وأيمن نقيبة من أبي بكر وغيره، وما منعه عن الإسلام - إن ثبت أنه لم يسلم - إلا تقية. وأبو بكر لم يكن له إلا ابن واحد وهو عبد الرحمن فلم يمكنه أن يدخله في الإسلام ولا أمكنه إذ لم يقبل منه الإسلام أن يجعله كبعض مشركي قريش في قلة الأذى لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وفيه أنزل:
والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين . وإنما يعرف حسن رفق الرجل وتأتيه بأن يصلح أولا أمر بيته وأهله ثم يدعو الأقرب فالأقرب؛ فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لما بعث كان أول من دعا زوجته خديجة، ثم مكفوله وابن عمه عليا، ثم مولاه زيدا، ثم أم أيمن خادمته، فهل رأيتم أحدا ممن كان يأوي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم يسارع؟ وهل التاث عليه أحد من هؤلاء؟ فهكذا يكون حسن التأتي والرفق في الدعاء. هذا ورسول الله مقل وهو من جملة عيال خديجة حين بعثه الله تعالى، وأبو بكر عندكم كان موسرا وكان أبوه مقترا، وكذلك ابنه وامرأته أم عبد الله، والموسر في فطرة العقول أولى أن يتبع من المقتر. وإنما حسن التأتي والرفق في الدعاء ما صنعه مصعب بن عمير لسعد بن معاذ لما دعاه، وما صنع سعد بن معاذ ببني عبد الأشهل لما دعاهم، وما صنع بريدة بن الخصيب بأسلم لما دعاهم، قالوا: أسلم بدعائه ثمانون بيتا من قومه. وأسلم بنو عبد الأشهل بدعاء سعد في يوم واحد. وأما من لم يسلم ابنه ولا امرأته ولا أبوه ولا أخته بدعائه فهيهات أن يوصف ويذكر بالرفق في الدعاء وحسن التأتي والأناة.
أما بلال وعامر بن فهيرة فإنما أعتقهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم - روى ذلك الواقدي وابن إسحق وغيرهما - وأما باقي مواليهم الأربعة فإن سامحناكم في دعواكم لم يبلغ ثمنهم في تلك الحال لشدة بغض مواليهم لهم إلا مائة درهم أو نحوها، فأي فخر في هذا؟ وأما الآية فإن ابن عباس قال في تفسيرها:
فأما من أعطى واتقى، وصدق بالحسنى، فسنيسره لليسرى
أي لأن يعود، وقال غيره: نزلت في مصعب بن عمير.
أخبرونا على أي نوائب الإسلام أنفق هذا المال، وفي أي وجه وضعه! فإنه ليس بجائز أن يخفى ذلك ويدرس حتى يفوت حفظه وينسى ذكره، وأنتم فلم تقفوا على شيء أكثر من عتقه - بزعمكم - ست رقاب لعلها لا يبلغ في ثمنها في ذلك العصر مائة درهم. وكيف يدعى له الإنفاق الجليل وقد باع من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعيرين عند خروجه إلى يثرب وأخذ منه الثمن في مثل تلك الحال؟ وروى ذلك جميع المحدثين. وقد رويتم أيضا أنه كان حيث كان بالمدينة غنيا موسرا، ورويتم عن عائشة أنها قالت: «هاجر أبو بكر وعنده عشرة آلاف درهم.» وقلتم إن الله تعالى أنزل فيه:
ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى ، قلتم: هي في أبي بكر ومسطح بن أثاثة. فأين الفقر الذي زعمتم أنه أنفق حتى تخلل بالعباءة؟ وقد رويتم أن لله تعالى في سمائه ملائكة قد تخللوا بالعباء، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم
رآهم ليلة الإسراء فسأل جبريل عنهم فقال: «هؤلاء ملائكة تأسوا بأبي بكر بن أبي قحافة صديقك في الأرض فإنه سينفق عليك ماله حتى يخلل عباءه في عنقه.» وأنتم أيضا رويتم أن الله تعالى لما أنزل آية النجوى فقال:
يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم
الآية، لم يعمل بها إلا علي بن أبي طالب وحده مع إقراركم بفقره وقلة ذات يده، وأبو بكر في الحال الذي ذكرنا من السعة أمسك عن مناجاته فعاتب الله المؤمنين في ذلك فقال:
أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم ، فجعله سبحانه ذنبا يتوب عليهم منه، وهو إمساكهم عن تقديم الصدقة، فكيف سخت نفسه بإنفاق أربعين ألفا وأمسك عن مناجاة الرسول وإنما كان يحتاج فيها إلى إخراج درهمين؟ وأما ما ذكر من كثرة عياله ونفقته عليهم فليس في ذلك دليل على تفضيله؛ لأن نفقته على عياله واجبة، مع أن أرباب السير ذكروا أنه لم يكن ينفق على أبيه شيئا وأنه كان أجيرا لابن جدعان على مائدته يطرد عنها الذباب.
إننا لا ننكر فضل الصحابة وسوابقهم، ولسنا كالإمامية الذين يحملهم الهوى على جحد الأمور المعلومة، ولكننا ننكر تفضيل أحد من الصحابة على علي بن أبي طالب، ولسنا ننكر غير ذلك، وننكر تعصب الجاحظ للعثمانية وقصده إلى فضائل هذا الرجل ومناقبه بالرد والإبطال. وأما حمزة فهو عندنا ذو فضل عظيم ومقام جليل، وهو سيد الشهداء الذين استشهدوا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وأما فضل عمر فغير منكر، وكذلك الزبير وسعد. وليس فيما ذكر ما يقتضي كون علي مفضولا لهم أو لغيرهم، إلا قوله: «وكل هذه الفضائل لم يكن لعلي فيها ناقة ولا جمل.» فإن هذا من التعصب البارد والحيف الفاحش. وقد قدمنا من آثار علي قبل الهجرة وما له إذ ذاك من المناقب والخصائص ما هو أعظم وأشرف من جميع ما ذكر لهؤلاء. على أن أرباب السير يقولون إن الشجة التي شجها سعد وإن السيف الذي سله الزبير هو الذي جلب الحصار في الشعب على النبي
صلى الله عليه وسلم
وبني هاشم، وهو الذي سير جعفرا وأصحابه إلى الحبشة. وسل السيف في الوقت الذي لم يؤمر المسلمون فيه بسل السيف غير جائز. قال تعالى:
ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله ، فتبين أن التكليف له أوقات، فمنها وقت لا يصلح فيه سل السيف ومنها وقت يصلح فيه ويجب. فأما قوله تعالى:
لا يستوي منكم من أنفق ، فقد ذكرنا ما عندنا من دعواهم لأبي بكر إنفاق المال. وأيضا فإن الله تعالى لم يذكر إنفاق المال مفردا، وإنما قرن به القتال، ولم يكن أبو بكر صاحب قتال وحرب، فلا تشمله الآية. وكان علي صاحب قتال وإنفاق قبل الفتح: أما قتاله فمعلوم بالضرورة، وأما إنفاقه فقد كان على حسب حاله وفقره، وهو الذي «أطعم الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا»، وأنزلت فيه وفي زوجته وابنيه سورة كاملة من القرآن، وهو الذي ملك أربعة دراهم فأخرج منها درهما سرا ودرهما علانية ليلا ثم أخرج منها في النهار درهما سرا ودرهما علانية فأنزل فيه قوله تعالى:
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية ، وهو الذي قدم بين يدي نجواه صدقة دون المسلمين كافة، وهو الذي تصدق بخاتمه وهو راكع فأنزل الله فيه:
إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون .
لقد أعطي أبو عثمان مقولا وحرم معقولا، إن كان يقول هذا على اعتقاد وجد، ولم يذهب به مذهب اللعب واللهو، أو على طريق التفاصح والتشادق وإظهار القوة والسلاطة وذلاقة اللسان وحدة الخاطر والقوة على جدال الخصوم. ألم يعلم أبو عثمان أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان أشجع البشر، وأنه خاض الحروب وثبت في المواقف التي طاشت فيها الألباب وبلغت القلوب الحناجر؟ فمنها يوم أحد ووقوفه بعد أن فر المسلمون بأجمعهم ولم يبق معه إلا أربعة: علي والزبير وطلحة وأبو دجانة، فقاتل ورمى بالنبل حتى فنيت نبله وانكسرت سية قوسه وانقطع وتره، فأمر عكاشة بن محصن أن يوترها، فقال: يا رسول الله لا يبلغ الوتر، فقال: أوتر ما بلغ. قال عكاشة: فوالذي بعثه بالحق لقد أوترت حتى بلغ وطويت منه شبرا على سية القوس، ثم أخذها فما زال يرميهم حتى نظرت إلى قوسه قد تحطمت. وبارز أبي بن خلف فقال له أصحابه: إن شئت عطف عليه بعضنا! فأبى وتناول الحربة من الحارث بن الصمة ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير، قالوا: فتطايرنا عنه تطاير الشعارين، فطعنه بالحربة فجعل يخور كما يخور الثور. ولو لم يدل على ثباته حين انهزم أصحابه وتركوه إلا قوله:
إذ تصعدون ولا تلوون على أحد والرسول يدعوكم في أخراكم ، فكونه
صلى الله عليه وسلم
في أخراهم وهم يصعدون ولا يلوون هاربين دليل على أنه ثبت ولم يفر. وثبت يوم حنين في تسعة من أهله ورهطه الأدنين، وقد فر المسلمون كلهم والنفر التسعة محدقون به: العباس آخذ بحكمة بغلته، وعلي بين يديه مصلت سيفه، والباقون حول بغلته يمنة ويسرة، وقد انهزم المهاجرون والأنصار، وكلما فروا أقدم هو
صلى الله عليه وسلم
وصمم مستقدما يلقى السيوف والنبال بنحره وصدره، ثم أخذ كفا من البطحاء وحصب المشركين وقال: شاهت الوجوه. والخبر المشهور عن علي وهو أشجع البشر: كنا إذا اشتد البأس وحمي الوطيس اتقينا برسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولذنا به. فكيف يقول الجاحظ أنه ما خاض الحروب ولا خالط الصفوف! وأي فرية أعظم من فرية من نسب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى الإحجام واعتزال الحرب! ثم أي مناسبة بين أبي بكر ورسول الله في هذا المعنى ليقيسه وينسبه إلى رسول الله صاحب الجيش والدعوة ورئيس الإسلام والملة والملحوظ بين أصحابه وأعدائه بالسيادة وإليه الإيماء والإشارة، وهو الذي أحنق قريشا والعرب وورى أكبادهم بالبراءة من آلهتهم وعيب دينهم وتضليل أسلافهم، ثم وترهم فيما بعد بقتل رؤسائهم وأكابرهم؟ وحق لمثله إذا تنحى عن الحرب واعتزلها أن يتنحى ويعتزل؛ لأن ذلك شأن الملوك والرؤساء إذ كان الجيش منوطا بهم وببقائهم، فمتى هلك الملك هلك الجيش، ومتى سلم الملك أمكن أن يبقى عليه ملكه وإن عطب جيشه بأن يستجد جيشا آخر؛ ولذلك نهى الحكماء أن يباشر الملك الحرب بنفسه، وخطئوا الإسكندر لما بارز فور ملك الهند ونسبوه إلى مجانبة الحكمة ومفارقة الصواب والحزم. فليقل لنا الجاحظ: أي مدخل لأبي بكر في هذا المعنى؟ ومن الذي كان يعرفه من أعداء الإسلام ليقصده بالقتل؟ وهل هو إلا واحد من عرض المهاجرين حكمه حكم عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان وغيرهما؟ بل كان عثمان أكثر منه صيتا وأشرف منه مركبا والعيون إليه أطمح والعدو عليه أحنق وأكلب. ولو قتل أبو بكر في بعض تلك المعارك هل كان يؤثر قتله في الإسلام ضعفا أو يحدث وهنا، أو يخاف على الملة لو قتل أبو بكر في بعض تلك الحروب أن تندرس وتعفى آثارها وتنطمس منارها، ليقول الجاحظ إن أبا بكر كان حكمه حكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في مجانبة الحروب واعتزالها؟ نعوذ بالله من الخذلان. وقد علم العقلاء كلهم ممن له بالسير معرفة وبالآثار وبالأخبار ممارسة حال حروب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كيف كانت وحاله عليه الصلاة والسلام فيها كيف كان، ووقوفه حيث وقف، وحربه حيث حارب، وجلوسه في العريش يوم جلس، وأن وقوفه
صلى الله عليه وسلم
وقوف رئاسة وتدبير، ووقوف ظهر وسند يتعرف أمور أصحابه ويحرس صغيرهم وكبيرهم بوقوفه من ورائهم وتخلفه عن التقدم في أوائلهم؛ لأنهم متى علموا أنه في أخراهم اطمأنت قلوبهم ولم تتعلق بأمره نفوسهم فيشتغلوا بالاهتمام به عن عدوهم ولا يكون لهم فئة يلجئون إليها وظهرا يرجعون إليه، ويعلمون أنه متى كان خلفهم تفقد أمورهم وعلم مواقفهم وآوى كل إنسان مكانه في الحماية والنكاية وعند النازلة في الكر والحملة، فكان وقوفه حيث وقف أصلح لأمرهم، وأحمى وأحرس لبيضتهم، ولأنه المطلوب من بينهم؛ إذ هو مدبر أمورهم ووالي جماعتهم. ألا ترون أن موقف صاحب اللواء موقف شريف، وأن صلاح الحرب في وقوفه، وأن فضيلته في ترك التقدم في أكثر حالاته؟ فللرئيس حالات: الأولى: حالة يتخلف ويقف آخرا ليكون سندا وقوة وردأ وعدة، وليتولى تدبير الحرب ويعرف مواضع الخلل. والحالة الثانية: يتقدم فيها في وسط الصف ليقوي الضعيف ويشجع الناكس. وحالة ثالثة: وهي إذا اصطدم الفيلقان وتكافح السيفان، اعتمد ما يقتضيه الحال من الوقوف حيث يستصلح، أو من مباشرة الحرب بنفسه، فإنها آخر المنازل وفيها تظهر شجاعة الشجاع النجد وفسالة الجبان المموه. فأين مقام الرئاسة العظمى لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأين منزلة أبي بكر ليسوي بين المنزلتين ويناسب بين الحالتين؟ ولو كان أبو بكر شريكا لرسول الله في الرسالة وممنوحا من الله بفضيلة النبوة، وكانت قريش والعرب تطلبه كما تطلب محمدا
صلى الله عليه وسلم ، لكان للجاحظ أن يقول ذلك. فأما وحاله حاله، وهو أضعف المسلمين جنانا وأقلهم عند العرب ترة، لم يرم قط بسهم ولا سل سيفا ولا أراق دما، وهو أحد الأتباع غير مشهور ولا معروف ولا طالب ولا مطلوب، فكيف يجوز أن يجعل مقامه ومنزلته مقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومنزلته؟ ولقد خرج ابنه عبد الرحمن مع المشركين يوم أحد فرآه أبو بكر فقام مغيظا عليه فسل من السيف مقدار إصبع يروم البروز إليه، فقال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر، شم سيفك وأمتعنا بنفسك. ولم يقل له «وأمتعنا بنفسك» إلا لعلمه بأنه ليس أهلا للحرب وملاقاة الرجال، وأنه لو بارز لقتل.
وكيف يقول الجاحظ: لا فضيلة لمباشرة الحروب ولقاء الأقران وقتل أبطال الشرك؟ وهل قامت عمد الإسلام إلا على ذلك؟ وهل ثبت الدين واستقر إلا بذلك؟ أتراه لم يسمع قول الله تعالى:
إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ! والمحبة من الله تعالى هي إرادة الثواب، فكل من كان أشد ثبوتا في هذا الصف وأعظم قتالا كان أحب إلى الله، ومعنى الأفضل هو الأكثر ثوابا. فعلي عليه السلام إذا هو أحب المسلمين إلى الله؛ لأنه أثبتهم قدما في الصف المرصوص، لم يفر قط بإجماع الأمة، ولا بارزه قرن إلا قتله. وأتراه لم يسمع قول الله تعالى:
وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ، وقوله:
إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ! ثم قال سبحانه مؤكدا لهذا البيع والشراء:
ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم ، وقال الله تعالى:
ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح . فمواقف الناس في الجهاد على أحوال، وبعضهم في ذلك أفضل من بعض، فمن دلف إلى الأقران واستقبل السيوف والأسنة كان أثقل على أكتاف الأعداء لشدة نكايته فيهم ممن وقف في المعركة وأعان ولم يقدم، وكذلك من وقف في المعركة وأعان ولم يقدم إلا أنه بحيث تناله السهام والنبل أعظم عناء وأفضل ممن وقف حيث لا يناله ذلك. ولو كان الضعيف والجبان يستحقان الرئاسة بقلة بسط الكف وترك الحرب، وأن ذلك يشاكل فعل النبي
صلى الله عليه وسلم ، لكان أوفر الناس حظا في الرئاسة وأشدهم لها استحقاقا حسان بن ثابت! وإن بطل فضل علي في الجهاد لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان أقلهم قتالا - كما زعم الجاحظ - ليبطلن على هذا القياس فضل أبي بكر في الإنفاق؛ لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان أقلهم مالا! وأنت إذا تأملت أمر العرب وقريش ونظرت السير وقرأت الأخبار عرفت أنها كانت تطلب محمدا
صلى الله عليه وسلم
وتقصد قصده وتروم قتله، فإن أعجزها وفاتها طلبت عليا وأرادت قتله؛ لأنه كان أشبههم بالرسول حالا وأقربهم منه قربا وأشدهم عنه دفعا، وأنهم متى قصدوا عليا فقتلوه أضعفوا أمر محمد
صلى الله عليه وسلم
وكسروا شوكته؛ إذ كان أعلى من ينصره في البأس والقوة والشجاعة والنجدة والإقدام والبسالة. ألا ترى إلى قول عتبة بن ربيعة يوم بدر وقد خرج هو وأخوه شيبة وابنه الوليد بن عتبة فأخرج إليهم الرسول نفرا من الأنصار فاستنسبوهم فانتسبوا لهم فقالوا: ارجعوا إلى قومكم، ثم نادوا: يا محمد، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. فقال النبي
صلى الله عليه وسلم
لأهله الأدنين: قوموا يا بني هاشم فانصروا حقكم الذي آتاكم الله على باطل هؤلاء، قم يا علي، قم يا حمزة، قم يا عبيدة؟ ألا ترى ما جعلت هند بنت عتبة لمن قتله يوم أحد لأنه اشترك هو وحمزة في قتل أبيها يوم بدر؟ ألم تسمع قول هند ترثي أهلها:
ما كان لي عن عتبة من صبر
أبي، وعمي، وشقيق صدري
أخي الذي كان كضوء البدر
بهم كسرت يا علي ظهري
وذلك لأنه قتل أخاها الوليد بن عتبة وشرك في قتل أبيها عتبة، وأما عمها شيبة فإن حمزة تفرد بقتله. وقال جبير بن مطعم لوحشي مولاه يوم أحد: إن قتلت محمدا فأنت حر، وإن قتلت عليا فأنت حر، وإن قتلت حمزة فأنت حر. فقال: أما محمد فسيمنعه أصحابه، وأما علي فرجل حذر كثير الالتفات في الحرب، ولكني سأقتل حمزة. فقعد له وزرقه بالحربة فقتله.
ولما قلنا من مقاربة حال علي في هذا الباب لحال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ومناسبتها إياه ما وجدناه في السير والأخبار من إشفاق رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وحذره عليه ودعائه له بالحفظ والسلامة، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوم الخندق وقد برز علي إلى عمرو ورفع يديه إلى السماء بمحضر من أصحابه: «اللهم إنك أخذت مني حمزة يوم أحد، وعبيدة يوم بدر، فاحفظ اليوم علي عليا، رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين.» ولذلك ضن به عن مبارزة عمرو حين دعا عمرو الناس إلى نفسه مرارا في كلها يحجمون ويقدم علي فيسأله الإذن له في البراز، حتى قال له رسول الله
صلى الله عليه وسلم : إنه عمرو! فقال: وأنا علي! فأدناه وقبله وعممه بعمامته وخرج معه خطوات كالمودع له القلق لحاله المنتظر لما يكون منه، ثم لم يزل
صلى الله عليه وسلم
رافعا يديه إلى السماء مستقبلا لها بوجهه والمسلمون صموت حوله كأنما على رءوسهم الطير حتى ثارت الغبرة وسمعوا التكبير من تحتها فعلموا أن عليا قتل عمرا، فكبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكبر المسلمون تكبيرة سمعها من وراء الخندق من عساكر المشركين؛ ولذلك قال حذيفة بن اليمان: لو قسمت فضيلة علي بقتل عمرو يوم الخندق بين المسلمين بأجمعهم لوسعتهم. وقال ابن عباس في قوله تعالى:
وكفى الله المؤمنين القتال ، قال: بعلي بن أبي طالب.
فيقال للجاحظ: فعلى أيها كان مشي علي بن أبي طالب إلى الأقران بالسيف؟ فأيما قلت من ذلك بانت عداوتك لله تعالى ولرسوله، وإن كان مشيه ليس على وجه مما ذكرت وإنما كان على وجه النصرة والقصد إلى المسابقة إلى ثواب الآخرة والجهاد في سبيل الله وإعزاز الدين، كنت بجميع ما قلت معاندا وعن سبيل الإنصاف خارجا وفي إمام المسلمين طاعنا. وإن تطرق مثل هذا الوهم على علي ليتطرقن مثله على أعيان المهاجرين والأنصار أرباب الجهاد والقتال الذين نصروا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بأنفسهم ووقوه بمهجهم وفدوه بأبنائهم وآبائهم، فلعل ذلك كان لعلة من العلل المذكورة! وفي ذلك الطعن في الدين وفي جماعة المسلمين! ولو جاز أن يتوهم هذا في علي وفي غيره لما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حكاية عن الله تعالى لأهل بدر: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.» ولا قال لعلي: «برز الإيمان كله إلى الشرك كله.» ولا قال: «أوجب طلحة.» وقد علمنا ضرورة من دين الرسول
صلى الله عليه وسلم
تعظيمه لعلي تعظيما دينيا لأجل جهاده ونصرته. فالطاعن فيه طاعن في رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذ زعم أنه قد يكون جهاده لا لوجه الله تعالى بل لأمر آخر من الأمور التي عددها وبعثه على التفوه بها إغواء الشيطان وكيده والإفراط في عداوة من أمر الله بمحبته ونهى عن بغضه وعداوته. أترى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
خفي عليه من أمر علي ما لاح للجاحظ والعثمانية فمدحه وهو غير مستحق للمدح؟!
فيقال له: فلعل إنفاق أبي بكر - على ما تزعم 40 ألف درهم - لا ثواب له؛ لأن نفسه ربما تكون غير معتدلة؛ لأنه قد يكون مطبوعا على الجود والسخاء. ولعل خروجه مع النبي
صلى الله عليه وسلم
يوم الهجرة إلى الغار لا ثواب له فيه؛ لأن أسبابه كانت مهيجة ودواعيه غالبة محبة الخروج وبغض المقام. ولعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في دعائه إلى الإسلام وإكبابه على الصلوات الخمس في جوف الليل وتدبيره أمر الأمة لا ثواب له فيه؛ لأنه قد تكون نفسه غير معتدلة بل يكون في طباعه الرئاسة وحبها والعبادة والالتذاذ بها! ولقد نعجب من مذهب أبي عثمان أن المعارف ضرورية وأنها تقع طباعا، ومن قوله بالتولد وحركة الحجر بالطبع، حتى رأينا من قوله ما هو أعجب منه، فزعم أنه ربما يكون جهاد علي وقتله المشركين لا ثواب له فيه لأنه فعله طبعا! وهذا أطرف من قوله في المعرفة وفي التولد.
هذا راجع على الجاحظ في النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى قال له:
والله يعصمك من الناس ، فلم يكن له في جهاده كبير طاعة أو كثير طاعة! وكثير من الناس يروي عنه
صلى الله عليه وسلم : «اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر.» فوجب أن يبطل جهادهما! وقد قال للزبير: «ستقاتل عليا وأنت ظالم له.» فأشعره بذلك أنه لا يموت في حياة رسول الله
صلى الله عليه وسلم . وقال في الكتاب العزيز:
وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده ، قالوا: نزلت في طلحة. فأعلمه بذلك أنه يبقى بعده، فوجب ألا يكون لهما كبير ثواب في الجهاد! والذي صح عندنا من الخبر وهو قوله: «ستقاتل بعدي الناكثين.» أنه قاله لما وضعت الحرب أوزارها ودخل الناس في دين الله أفواجا ووضعت الجزية ودانت العرب قاطبة.
أمر عمرو بن عبد ود أشهر وأكثر من أن يحتج له، فليتلمح كتب المغازي والسير ولينظر ما رثته به شعراء قريش لما قتل. فمن ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في مغازيه، قال: وقال مسافع بن عبد مناف بن زهرة بن حذافة بن جمح يبكي عمرو بن عبد الله بن عبد ود حين قتله علي بن أبي طالب مبارزة لما جزع المزار (أي قطع الخندق):
عمرو بن عبد كان أول فارس
جزع المزار وكان فارس مليل
سمح الخلائق ماجد ذو مرة
يبغي القتال بشكة لم ينكل
ولقد علمتم حين ولوا عنكم
أن ابن عبد منهم لم يعجل
حتى تكنفه الكماة وكلهم
يبغي القتال له وليس بمؤتل
ولقد تكنفت الفوارس فارسا
بجنوب سلع غير نكس أميل
سأل النزال هناك فارس غالب
بجنوب سلع ليته لم ينزل
فاذهب علي ما ظفرت بمثلها
فخرا ولو لاقيت مثل المعصل
نفسي الفداء لفارس من غالب
لاقى حمام الموت لم يتحلحل
أعني الذي جزع المزار ولم يكن
فسلا وليس لدى الحروب بزمل
وقال هبيرة بن أبي وهب المخزومي يعتذر من فراره عن علي بن أبي طالب وتركه عمرا يوم الخندق ويبكيه:
لعمرك ما وليت ظهري محمدا
وأصحابه جبنا ولا خيفة القتل
ولكنني قلبت أمري فلم أجد
لسيفي غناء إن وقفت ولا نبلي
وقفت فلما لم أجد لي مقدما
صددت كضرغام هزبر إلى شبل
ثنا عطفه عن قرنه حين لم يجد
مجالا وكان الحزم والرأي من فعلي
فلا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا
فقد مت محمود الثنا ماجد الفعل
ولا تبعدن يا عمرو حيا وهالكا
فقد كنت في حرب العدا مرهف النصل
فمن لطراد الخيل يقرع بالقنا
وللبذل يوما عند قرقرة البزل
هنالك لو كان ابن عبد وزارها
لفرجها عنهم فتى غير ما وغل
كفتك عليا لن ترى مثل موقف
وقفت على شلو المقدم كالفحل
فما ظفرت كفاك يوما بمثلها
أمنت بها ما عشت من زلة النعل
وقال هبيرة بن أبي وهب يرثي عمرا ويبكيه:
لقد علمت عليا لؤي بن غالب
لفارسها عمرو إذا ناب نائب
وفارسها عمرو إذا ما يسوقه
علي وإن الموت لا شك طالب
عشية يدعوه علي وإنه
لفارسها إذ حام عنه الكتائب
فيا لهف نفسي أن عمرا لكائن
بيثرب لا زالت هناك المصائب
لقد أحرز العليا علي بقتله
وللخير يوما لا محالة جالب
وقال حسان بن ثابت الأنصاري يذكر عمرا:
أمسى الفتى عمرو بن عبد ناظرا
كيف العبور وليته لم ينظر
ولقد وجدت سيوفنا مشهورة
ولقد وجدت جيادنا لم تقصر
ولقد لقيت غداة بدر عصبة
ضربوك ضربا غير ضرب الحسر
أصبحت لا تدعى ليوم عظيمة
يا عمرو أو لجسيم أمر منكر
وقال حسان أيضا:
لقد شقيت بنو جمح بن عمرو
ومخزوم وتيم ما تقيل
وعمرو كالحسام فتى قريش
كأن جبينه سيف صقيل
فتى من نسل عامر أريحي
تطاوله الأسنة والنصول
دعاه الفارس المقدام لما
تكشفت المقانب والخيول
أبو حسن فقنعه حساما
جرازا لا أفل ولا نكول
فغادره مكبا مسلحبا
على عفراء لا بعد القتيل
فهذه الأشعار فيه، بل بعض ما قيل فيه. وأما الآثار والأخبار فموجودة في كتب السير وأيام الفرسان ووقائعهم، وليس أحد من أرباب هذا العلم يذكر عمرا إلا قال: كان فارس قريش وشجاعها. وإنما قال له حسان: «ولقد لقيت غداة بدر عصبة.» لأنه شهد مع المشركين بدرا وقتل قوما من المسلمين ثم فر مع من فر ولحق بمكة. وهو الذي كان قال وعاهد الله عند الكعبة ألا يدعوه أحد إلى واحدة من ثلاث إلا أجابه. وآثاره في أيام الفجار مشهورة تنطق بها كتب الأيام والوقائع، ولكنه لم يذكر مع الفرسان الثلاثة وهم عتيبة وبسطام وعامر؛ لأنهم كانوا أصحاب غارات ونهب وأهل بادية، وقريش أهل مدينة وساكنو مدر وحجر لا يرون الغارات ولا ينهبون غيرهم من العرب، وهم مقتصرون على المقام ببلدتهم وحماية حرمهم؛ فلذلك لم يشتهر اسمه كاشتهار هؤلاء. ويقال له: إذا كان عمرو كما تذكر ليس هناك، فما باله لما جزع الخندق في ستة فرسان هو أحدهم فصار مع أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
على أرض واحدة وهم ثلاثة آلاف ودعاهم إلى البراز مرارا لم ينتدب أحد منهم للخروج إليه ولا سمح منهم أحد بنفسه حتى وبخهم وقرعهم وناداهم: «ألستم تزعمون أنه من قتل منا فإلى النار ومن قتل منكم فإلى الجنة؟ أفلا يشتاق أحدكم أن يذهب إلى الجنة أو يقدم عدوه إلى النار؟» فجبنوا كلهم ونكلوا وملكهم الرعب والوهل؟ فإما أن يكون هذا أشجع الناس كما قد قيل عنه، أو يكون المسلمون كلهم أجبن العرب وأذلهم وأفشلهم! وقد روى الناس كلهم الشعر الذي أنشده لما نكل القوم بجمعهم عنه وأنه جال بفرسه واستدار وذهب يمنة ثم ذهب يسرة ثم وقف تجاه القوم فقال:
ولقد بححت من الندا
ء لجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشي
ع وقفة القرن المناجز
وكذاك إني لم أزل
متسرعا نحو الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى
والجود من خير الغرائز
فلما برز إليه علي أجابه فقال له:
لا تعجلن فقد أتا
ك مجيب صوتك غير عاجز
ذو نية وبصيرة
يرجو الغداة نجاة فائز
إني لأرجو أن أقيم
عليك نائحة الجنائز
من ضربة تفنى ويبقى
ذكرها عند الهزاهز
ولعمري لقد سبق الجاحظ بما قاله بعض جهال الأنصار لما رجع رسول الله من بدر وقال فتى من الأنصار شهد معه بدرا: إن قتلنا إلا عجائز صلعا! فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم : لا تقل ذلك يا ابن أخ، أولئك الملأ.
كل من دون أخبار قريش وآثار رجالها وصف الوليد بالشجاعة والبسالة، وكان مع شجاعته أيدا يصارع الفتيان فيصرعهم. وليس لأنه لم يشهد حربا قبلها ما يجب أن يكون بطلا شجاعا؛ فإن عليا لم يشهد قبل بدر حربا وقد رأى الناس آثاره فيها.
أما ثباته يوم أحد فأكثر المؤرخين وأرباب السير ينكرونه، وجمهورهم يروي أنه لم يبق مع النبي
صلى الله عليه وسلم
إلا علي وطلحة والزبير وأبو دجانة. وقد روي عن ابن عباس أنه قال: ولهم خامس وهو عبد الله بن مسعود. ومنهم من أثبت سادسا وهو المقداد بن عمرو. وروى يحيى بن سلمة بن كهيل قال: قلت لأبي: كم ثبت مع رسول الله يوم أحد؟ فقال: اثنان. قلت: من هما؟ قال: علي وأبو دجانة. وهب أن أبا بكر ثبت يوم أحد، كما يدعيه الجاحظ، أيجوز له أن يقول ثبت كما ثبت علي فلا فخر لأحدهما على الآخر، وهو يعلم آثار علي ذلك اليوم وأنه قتل أصحاب الألوية من بني عبد الدار منهم طلحة بن أبي طلحة الذي رآه رسول الله في منامه أنه مردف كبشا فأوله وقال: كبش الكتيبة فقتلته. فلما قتله علي مبارزة - وهو أول قتيل قتل من المشركين ذلك اليوم - كبر رسول الله وقال: هذا كبش الكتيبة. وما كان منه من المحاماة عن رسول الله وقد فر الناس وأسلموه، فتصمد له كتيبة من قريش فيقول: يا علي، اكفني هذه. فيحمل عليها فيهزمها ويقتل عميدها، حتى سمع المسلمون والمشركون صوتا من قبل السماء: «لا سيف إلا ذو الفقار، ولا فتى إلا علي.» وحتى قال النبي عن جبريل ما قال. أتكون هذه آثاره وأفعاله ثم يقول الجاحظ: لا فخر لأحدهما على صاحبه! ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين.
قال أبو جعفر:
ما كان أغناك يا أبا عثمان عن ذكر هذا المقام المشهور لأبي بكر، فإنه لو تسمعه الإمامية لأضافته إلى ما عندها من المثالب؛ لأن قول النبي له: «ارجع.» دليل على أنه لا يحتمل مبارزة أحد؛ لأنه إذا لم يحتمل مبارزة ابنه - وأنت تعلم حنو الابن على الأب وتبجيله له وإشفاقه عليه وكفه عنه - لم يحتمل مبارزة الغريب الأجنبي. وقوله له: «ومتعنا بنفسك» إيذان له بأنه كان يقتل لو خرج، ورسول الله كان أعرف به من الجاحظ. فأين حال هذا الرجل من حال الرجل الذي صلي بالحرب ومشى إلى السيف بالسيف فقتل السادة والقادة والفرسان والرجالة؟!
أما قوله إنه بذل الجهد، فقد صدق. وأما قوله: لا حال أشرف من حاله فقد أخطأ؛ لأن حال من بلغت قوته أضعاف قوته فأعملها في قتل المشركين أشرف من حال من نقصت قوته عن بلوغ الغاية. ألا ترى أن حال الرجل أشرف في الجهاد من حال المرأة، وحال البالغ الأيد أشرف من حال الصبي الضعيف؟
من كتاب فضل هاشم على عبد شمس
قال أبو عثمان:
إن أشرف خصال قريش في الجاهلية: اللواء والندوة والسقاية والرفادة وزمزم والحجابة، وهذه الخصال مقسومة في الجاهلية لبني هاشم وعبد الدار وعبد العزى، دون بني عبد شمس. على أن معظم ذلك صار شرفه في الإسلام إلى بني هاشم؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
لما ملك مكة صار مفتاح الكعبة بيده فدفعه إلى عثمان بن طلحة، فالشرف راجع إلى من ملك المفتاح لا إلى من دفع إليه. وكذلك دفع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى مصعب بن عمير (اللواء)، فالذي دفع اللواء إليه وأخذه مصعب من يديه أحق بشرفه وأولى بمجده، وشرفه راجع إلى رهطه من بني هاشم. قال: وكان محمد بن عيسى المخزومي أميرا على اليمن فهجاه أبي بن مدلج، فقال:
قل لابن عيسى المستغي
ث من السهولة بالوعورة
الناطق العوراء في
جل الأمور بلا بصيرة
ولد المغيرة تسعة
كانوا صناديد العشيرة
وأبوك عاشرهم كما
نبتت مع النخل الشعيرة
إن النبوة والخلا
فة والسقاية والمشورة
في غيركم فاكفف إلي
ك يدا مجذمة قصيرة
قال: فانبرى له (شاعر) من ولد كريز بن حبيب بن عبد شمس، وكان مع محمد بن عيسى باليمن، يهجو عنه ابن مدلج في كلمة له طويلة، قال فيها:
لا لواء يعد بابن كريز
لا ولا رفد بيته ذي السناء
لا حجاب وليس فيكم سوى ال
كبر وبغض النبي والشهداء
بين حاك ومخلج وطريد
وقتيل يلعنه أهل السماء
ولهم زمزم وجبرائي
ل ومجد السقاية الغراء
قال أبو عثمان: فالشهداء: علي وحمزة وجعفر. والحاكي والمخلج: هو الحكم بن أبي العاص، كان يحكي مشية رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فالتفت يوما فرآه فدعا عليه، فلم يزل مخلج المشية عقوبة من الله تعالى. والطريد: اثنان: الحكم بن أبي العاص ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاص، وهما جدا عبد الملك بن مروان من قبل أمه وأبيه، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
طرد معاوية بن المغيرة هذا من المدينة وأجله ثلاثا، فحيره الله ولم يزل يتردد في ضلاله حتى بعث في أثره عليا وعمارا فقتلاه. فأما القتلى فكثير، نحو: شيبة وعتبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، وحنظلة بن أبي سفيان، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن سعيد بن أمية، ومعاوية بن المغيرة، وغيرهم.
قال أبو عثمان: وكان اسم هاشم عمرا، وهاشم لقب. وكان أيضا يقال له: القمر، وفي ذلك يقول مطرود الخزاعي:
إلى القمر الساري المنير دعوته
ومطعمهم في الأزل من قمع الجزر
قال ذلك في شيء كان بينه وبين بعض قريش، فدعاه مطرود إلى المحاكمة إلى هاشم. وقال ابن الزبعرى:
كانت قريش بيضة فتفلقت
فالمح خالصه لعبد مناف
الرائشون وليس يوجد رائش
والقائلون هلم للأضياف
عمرو العلا هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
فعم - كما ترى - أهل مكة بالأزل والعجف وجعله الذي هشم لهم الخبز ثريدا، فغلب هذا اللقب على اسمه حتى صار لا يعرف إلا به. وليس لعبد شمس لقب كريم ولا اشتق له من صالح أعماله اسم شريف، ولم يكن لعبد شمس ابن يأخذ بضبعه ويرفع من قدره ويزيد في ذكره. ولهاشم عبد المطلب سيد الوادي غير مدافع، أجمل الناس جمالا وأظهرهم جودا وأكملهم كمالا، وهو صاحب الفيل والطير الأبابيل، صاحب زمزم وساقي الحجيج. وولد عبد شمس أمية بن عبد شمس، وأمية في نفسه ليس هناك وإنما ذكر بأولاده ولا لقب له. ولعبد المطلب لقب شهير واسم شريف: شيبة الحمد. قال مطرود الخزاعي في مدحه:
يا شيبة الحمد الذي تثنى له
أيامه من خير ذخر الذاخر
المجد ما حجت قريش بيته
ودعا هديل فوق غصن ناخر
والله لا أنساكم وفعالكم
حتى أغيب في سفاة القابر
وقال حذافة بن غانم العدوي وهو يمدح أبا لهب ويوصي ابنه خارجة بن حذافة بالانتماء إلى بني هاشم:
أخارج إما أهلكن فلا تزل
لهم شاكرا حتى تغيب في القبر
بني شيبة الحمد الكريم فعاله
يضيء ظلام الليل كالقمر البدر
لساقي الحجيج ثم للشيخ هاشم
وعبد مناف ذلك السيد الغمر
أبو عتبة الملقي إلي جواره
أغر هجان اللون من نفر غر
أبوهم قصي كان يدعى مجمعا
به جمع الله القبائل من فهر
فأبو عتبة هو أبو لهب بن عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم، وابناه عتبة وعتيبة. وقال العبدي حين احتفل في الجاهلية فلم يترك:
لا ترى في الناس حيا مثلنا
ما خلا أولاد عبد المطلب
وإنما شرف عبد شمس بأبيه عبد مناف بن قصي، وبني ابنه أمية بن عبد شمس. وهاشم شرف بنفسه وبأبيه عبد مناف وبابنه عبد المطلب. والأمر في هذا بين، وهو كما أوضحه الشاعر في قوله:
إنما عبد مناف جوهر
زين الجوهر عبد المطلب
قال أبو عثمان: ولسنا نقول إن عبد شمس لم يكن شريفا في نفسه، ولكن الشرف يتفاضل، وقد أعطى الله عبد المطلب في زمانه وأجرى على يديه وأظهر من كرامته ما لا يعرف مثله إلا لنبي مرسل، وإن في كلامه لأبرهة صاحب الفيل وتوعده إياه برب الكعبة وتحقيق قوله من الله تعالى ونصرة وعيده بحبس الفيل وقتل أصحابه بالطير الأبابيل وحجارة السجيل حتى تركوا كالعصف المأكول، لأعجب البرهانات وأسنى الكرامات، وإنما كان ذلك إرهاصا لنبوة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وتأسيسا لما يريد الله به من الكرامة، وليجعل ذلك البهاء متقدما له ومردودا عليه، وليكون أشهر في الآفاق وأجل في صدور الفراعنة والجبابرة والأكاسرة، وأجدر أن يقهر المعاند ويكشف غباوة الجاهل.
وبعد، فمن يناهض أو يناضل رجالا ولدوا محمدا
صلى الله عليه وسلم ؟ ولو عزلنا ما أكرمه الله به من النبوة حتى نقتصر على أخلاقه ومذاهبه وشيمه لما وفى به بشري ولا عدله شيء. ولو شئنا أن نذكر ما أعطى الله عبد المطلب من تفجر العيون وينابيع الماء من تحت كلكل بعيره وأخفافه بالأرض القسي، وبما أعطى يوم المساهمة وعند المقارعة من الأمور العجيبة والخصال البائنة، لقلنا، ولكنا أحببنا ألا نحتج عليكم إلا بالموجود في القرآن الحكيم والمشهور في الشعر القديم الظاهر على ألسنة الخاصة والعامة ورواة الأخبار وحمال الآثار. قال: ومما هو مذكور في القرآن - عدا حديث الفيل - قوله تعالى:
لإيلاف قريش ، ولقد أجمعت الرواة على أن أول من أخذ الإيلاف لقريش هاشم بن عبد مناف. فلما مات قام أخوه المطلب مقامه، فلما مات قام عبد شمس مقامه، فلما مات قام نوفل مقامه - وكان أصغرهم. والإيلاف هو أن هاشما كان رجلا كثير السفر والتجارة، فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام، وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن نحو العباهلة باليمن واليكسوم من بلاد الحبشة ونحو ملوك الروم بالشام، فجعل لهم معه ربحا فيما يربح وساق لهم إبلا مع إبله فكفاهم مؤنة الأسفار على أن يكفوه مؤنة الأعداء في طريقه ومنصرفه، فكان في ذلك صلاح عام للفريقين، وكان المقيم رابحا والمسافر محفوظا. فأخصبت قريش بذلك وحملت معه أموالها وأتاها الخير من البلاد السافلة والعالية، وحسنت حالها وطاب عيشها. قال: وقد ذكر حديث الإيلاف الحارث بن الحنش السلمي، وهو خال هاشم والمطلب وعبد شمس، فقال:
إن أخي هاشما ليس أخا واحد
الآخذ الإيلاف والقائم للقاعد
قال أبو عثمان: وقيل إن تفسير قول تعالى:
وآمنهم من خوف
هو خوف من كان هؤلاء الإخوة يمرون به من القبائل والأعداء وهم مغتربون ومعهم الأموال، وهذا هو ما فسرنا به الإيلاف آنفا. وقد فسره قوم بغير ذلك، قالوا: إن هاشما جعل على رؤساء القبائل ضرائب يؤدونها إليه ليحمي بها أهل مكة؛ فإن ذؤبان العرب وصعاليك الأحياء وأصحاب الغارات وطلاب الطوائل كانوا لا يؤمنون على الحرم، لا سيما وناس من العرب كانوا لا يرون للحرم حرمة ولا للشهر الحرام قدرا، مثل طيء وخثعم وقضاعة وبعض بلحرث بن كعب. وكيفما كان الإيلاف فإن هاشما كان القائم به دون غيره من إخوته.
قال أبو عثمان: ثم حلف الفضول وجلالته وعظمته، وهو أشرف حلف كان في العرب كلها وأكرم عقد عقدته قريش في قديمها وحديثها قبل الإسلام. لم يكن لبني عبد شمس فيه نصيب. قال النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو يذكر حلف الفضول: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا لو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت.» ويكفي في جلالته وشرفه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
شهده وهو غلام. وكان عتبة بن ربيعة يقول: لو أن رجلا خرج مما عليه قومه لدخلت في حلف الفضول لما أرى من كماله وشرفه ولما أعلم من قدره وفضيلته. قال: ولفضل ذلك الحلف وفضيلة أهله سمي «حلف الفضول»، وسميت تلك القبائل «الفضول». فكان هذا الحلف في بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وبني زهرة وبني تيم بن مرة، تعاقدوا في دار ابن جدعان في شهر حرام قياما يتماسحون بأكفهم صعدا: ليكونن مع المظلوم حتى يؤدوا إليه حقه ما بل بحر صوفة، وفي التآسي في المعاش، والتساهم بالمال. وكانت النباهة في هذا الحلف للزبير بن عبد المطلب ولعبد الله بن جدعان. أما ابن جدعان فلأن الحلف عقد في داره، وأما الزبير فلأنه هو الذي نهض فيه ودعا إليه وحث عليه، وهو الذي سماه «حلف الفضول»؛ وذلك لأنه لما سمع الزبيدي المظلوم ثمن سلعته قد أوفى على أبي قبيس قبل طلوع الشمس رافعا عقيرته، وقريش في أنديتها، قائلا:
يا للرجال لمظلوم بضاعته
ببطن مكة نائي الحي والنفر
إن الحرام لمن تمت حرامته
ولا حرام لثوبى لابس الغدر
حمي وحلف ليعقدن حلفا بينه وبين بطون من قريش يمنعون القوي من ظلم الضعيف، والقاطن من عنف الغريب. ثم قال:
حلفت لنعقدن حلفا عليهم
وإن كنا جميعا أهل دار
نسميه الفضول إذا عقدنا
يعز به الغريب لدى الجوار
ويعلم من يطوف البيت أنا
أباة الضيم نهجر كل عار
فبنو هاشم هم الذين سموا ذلك الحلف «حلف الفضول»، وهم كانوا سببه والقائمين به دون جميع القبائل العاقدة له والشاهدة لأمره، فما ظنك بمن شهده ولم يقم بأمره؟
قال أبو عثمان: وكان الزبير بن عبد المطلب شجاعا أبيا وجميلا بهيا، وكان خطيبا شاعرا وسيدا جوادا، وهو الذي يقول:
ولولا الحمس لم يلبس رجال
ثياب أعزة حتى يموتوا
ثيابهم شمال أو عباء
بها دنس كما دنس الحميت
ولكنا خلقنا إذ خلقنا
لنا الحبرات والمسك الفتيت
وكأس لو تبين لهم كلاما
لقالت إنما لهم سبيت
تبين لنا القذى إن كان فيها
رصين الحلم يشربها هبيت
ويقطع نخوة المختال عنا
رقاق الحد ضربته صموت
بكف مجرب لا عيب فيه
إذا لقي الكريهة يستميت
قال: والزبير هو الذي يقول:
وأسحم من راح العراق مملأ
محيط عليه الخيش جلد مرائره
صبحت به طلقا يراح إلى الندى
إذا ما انتشى لم يختصره معاقره
ضعيف بجنب الكأس قبض بنانه
كليل على جلد النديم أظافره
قال: وبنو هاشم هم الذين ردوا على الزبيدي ثمن بضاعته، وكانت عند العاص بن وائل. وأخذوا للبارقي ثمن سلعته من أبي بن خلف الجمحي، وفي ذلك يقول البارقي:
ويأبى لكم حلف الفضول ظلامتي
بني جمح والحق يؤخذ بالغصب
وهم الذين انتزعوا من نبيه بن الحجاج قتول الحسناء بنت التاجر الخثعمي، وكان كابره عليها حين رأى جمالها، وفي ذلك يقول نبيه بن الحجاج:
وخشيت الفضول حين أتوني
قد أراني ولا أخاف الفضولا
إنني والذي يحج له شم
ط إياد وهللوا تهليلا
لبراء مني قتيلة يا للن
اس هل يبتغون إلا القتولا
وفيها أيضا يقول:
لولا الفضول وأنه
لا أمن من عدوائها
لدنوت من أبياتها
ولطفت حول خبائها
في كلمته التي يقول فيها:
حي البخيلة إذ نأت
منا على عدوائها
لا بالفراق تنيلنا
شيئا ولا بلقائها
حلت بمكة حلة
في مشيها ووطائها
في رجال كثير انتزعوا منهم الظلامات، ولم يكن يظلم بمكة إلا رجال أقوياء ولهم العدد والعارضة، منهم من ذكرنا قصته.
قال أبو عثمان: ولهاشم أخرى لا يعد أحد مثلها ولا يأتي بما يتعلق بها. وذلك أن رؤساء قبائل قريش خرجوا إلى حرب بني عامر متساندين، فكان حرب بن أمية على بني عبد شمس، وكان الزبير بن عبد المطلب على بني هاشم، وكان عبد الله بن جدعان على بني تيم، وكان هشام بن المغيرة على بني مخزوم. وكان على كل قبيلة رئيس منها، فهم متكافئون في التساند ولم يحقق واحد منهم الرئاسة على الجميع. ثم آب هاشم بما لا تبلغه يد متناول ولا يطمع فيه طامع؛ وذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «شهدت الفجار وأنا غلام فكنت أنبل فيه على عمومتي.» فنفى مقامه عليه الصلاة والسلام أن تكون قريش هي التي فجرت، فسميت تلك الحرب «حرب الفجار»، وثبت أن الفجور إنما كان ممن حاربهم. وصاروا بيمنه وبركته ولما يريد الله من إعزاز أمره وإعظام الغالبين العالين. ولم يكن الله ليشهده فجرة ولا غدرة! فصار مشهده نصرا وموضعه فيها حجة ودليلا.
قال أبو عثمان: وشرف هاشم متصل، من حيث عددت كان الشرف معه كابرا عن كابر. وليس بنو عبد شمس كذلك، فإن الحكم بن أبي العاص كان عاريا في الإسلام ولم يكن له سناء في الجاهلية. وأما أمية فلم يكن في نفسه هناك، وإنما رفعه أبوه، وكان مضعوفا وكان صاحب عهار، يدل على ذلك قول نفيل بن عدي جد عمر بن الخطاب حين تنافر إليه حرب بن أمية وعبد المطلب بن هاشم، فنفر عبد المطلب وتعجب من إقدام حرب عليه وقال له:
أبوك معاهر وأبوه عف
وذاد الفيل عن بلد حرام
وذلك أن أمية كان تعرض لامرأة من بني زهرة فضربه رجل منهم بالسيف، فأراد بنو أمية ومن تبعهم إخراج بني زهرة من مكة، فقام دونهم قيس بن عدي السهمي، وكانوا أخواله، وكان منيع الجانب شديد العارضة حمي الأنف أبي النفس، فقام دونهم وصاح: «أصبح ليل.» فذهبت مثلا. ونادى: «الآن الظاعن مقيم.» وفي هذه القصة يقول وهب بن عبد مناف بن زهرة:
مهلا أمي فإن البغي مهلكة
لا يكسبنك يوم شره ذكر
تبدو كواكبه والشمس طالعة
يصب في الكأس منه الصاب والمقر
1
قال أبو عثمان: وصنع أمية في الجاهلية شيئا لم يصنعه أحد من العرب، زوج ابنه أبا عمرو امرأته في حياته منه، فأولدها أبا معيط بن أبي عمرو بن أمية. والمقيتون في الإسلام هم الذين نكحوا نساء آبائهم بعد موتهم، فأما أن يتزوجها في حياة الأب ويبني عليها وهو يراه فإنه شيء لم يكن قط.
قال أبو عثمان: وقد أقر معاوية على نفسه ورهطه لبني هاشم حين قيل له: أيهما كان أسود في الجاهلية، أنتم أم بنو هاشم؟ فقال: كانوا أسود منا واحدا، وكنا أكثر منهم سيدا. فأقر وادعى، فهو في إقراره بالنقص مخصوم، وفي ادعائه الفضل خصيم. وقال جحش بن رئاب الأسدي حين نزل مكة بعد موت عبد المطلب: والله لأتزوجن ابنة أكرم أهل هذا الوادي ولأحالفن أعزهم. فتزوج أميمة بنت عبد المطلب وحالف أبا سفيان بن حرب. وقد يمكن أن يكون أعزهم ليس بأكرمهم، ولا يمكن أن يكون أكرمهم ليس بأعزهم . وقد أقر أبو جهل على نفسه ورهطه من بني مخزوم حين قال: تحاربنا نحن وهم حتى إذا صرنا كهاتين جاءنا نبي. فأقر بالتقصير ثم ادعى المساواة، ألا تراه كيف أقر أنه لم يزل يطلب شأوهم ثم ادعى أنه لحقهم؟ فهو مخصوم في إقراره، خصيم في دعواه. وقد حكم لهاشم دغفل بن حنظلة النسابة حين سأله معاوية عن بني هاشم فقال: هم أطعم للطعام وأضرب للهام. وهاتان خصلتان يجمعان أكثر الشرف.
قال أبو عثمان: والعجب من منافرة حرب بن أمية عبد المطلب بن هاشم وقد لطم حرب جارا لخلف بن أسعد جد طلحة الطلحات فجاء جاره فشكا ذلك إليه، فمشى خلف إلى حرب وهو جالس عند الحجر فلطم وجهه عنوة من غير تحاكم ولا تراض، فما انتطح فيه عنزان. ثم قام أبو سفيان بن حرب مقام أبيه بعد موته فحالفه أبو الأزيهر الدوسي، وكان عظيم الشأن في الأزد، وكان بينه وبين بني الوليد بن المغيرة محاكمة في مصاهرة كانت بين الوليد وبينه، فجاءه هشام بن الوليد وأبو الأزيهر قاعد في مقعد أبي سفيان بذي المجاز، فضرب عنقه، فلم يدرك به أبو سفيان عقلا ولا قودا في بني المغيرة. وقال حسان بن ثابت يذكر ذلك:
غدا أهل حصني ذي المجاز بسحرة
وجار ابن حرب لا يروح ولا يغد
كساك هشام بن الوليد ثيابه
فأبل وأخلق مثلها جددا بعد
قال أبو عثمان: فإن قالت أمية: لنا الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أربعة خلفاء في نسق، قلنا لهم: ولبني هاشم: هارون الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور بن محمد الكامل بن علي السجاد - كان يصلي كل يوم وليلة ألف ركعة فكان يقال له السجاد لعبادته وفضله، وكان أجمل قرشي على وجه الأرض وأوسمه، ولد ليلة قتل علي بن أبي طالب فسمي باسمه وكني بكنيته، فقال عبد الملك: لا والله لا أحتمل لك الاسم والكنية فغير أحدهما. فغير الكنية فصيرها أبا محمد - ابن عبد الله وهو البحر وهو حبر قريش وهو المفقه في الدين المعلم التأويل، ابن العباس ذي الرأي وحليم قريش، ابن شيبة الحمد وهو عبد المطلب سيد الوادي، ابن عمرو وهو هاشم هشم الثريد وهو القمر سمي بذلك لجماله ولأنهم كانوا يقتدون به ويهتدون برأيه، ابن المغيرة وهو عبد مناف بن زيد وهو قصي وهو مجمع. فهؤلاء ثلاثة عشر سيدا لم يخرم منهم واحد ولا قصر عن الغاية، وليس منهم واحد إلا وهو ملقب بلقب اشتق له من فعله الكريم، ومن خلقه الجميل، وليس منهم إلا خليفة أو موضع للخلافة أو سيد في قديم الدهر متبع أو ناسك مقدم أو فقيه بارع أو حليم ظاهر الركانة. وليس هذا لأحد سواهم. ومنهم خمسة خلفاء في نسق، وهم أكثر مما عدته الأموية. ولم يكن مروان كالمنصور؛ لأن المنصور ملك البلاد ودوخ الأقطار وضبط الأطراف اثنتين وعشرين سنة، وكانت خلافة مروان على خلاف ذلك كله وإنما بقي في الخلافة تسعة أشهر حتى قتلته امرأته عاتكة بنت يزيد بن معاوية حين قال لابنها خالد من بعلها الأول: يا ابن الرطبة. ولئن كان مروان مستوجبا لاسم الخلافة مع قلة الأيام وكثرة الاختلاف واضطراب البلدان فضلا عن الأطراف، فابن الزبير أولى بذلك منه؛ فقد كان ملك الأرض إلا بعض الأردن. ولكن سلطان عبد الملك وأولاده لما اتصل بسلطان مروان اتصل عند القوم ما انقطع منه وأخفي موضع الوهن عند من لا علم له. وسنو المهدي كانت سني سلامة، وما زال ملك عبد الملك في انتقاض وانتكات، ولم يكن ملك يزيد كملك هارون، ولا ملك الوليد كملك المعتصم.
قال أبو عثمان: وتفخر عليهم بنو هاشم بأن سني ملكهم أكثر ومدته أطول، فإنه قد بلغت مدة ملكهم إلى اليوم أربعا وتسعين سنة. ويفخرون أيضا عليهم بأنهم ملكوا بالميراث وبحق العصبة والعمومة، وأن ملكهم في مغرس نبوة، وأن أسبابهم غير أسباب بني مروان، بل ليس لبني مروان فيها سبب ولا بينهم وبينها نسب، إلا أن يقولوا إنا من قريش، فيساووا في هذا الاسم قريش الظواهر؛ لأن رواية الراوي: «الأئمة من قريش.» واقعة على كل قريش. وأسباب الخلافة معروفة وما يدعيه كل جيل معلوم، وإلى كل ذلك قد ذهب الناس؛ فمنهم من ادعاه لعلي لاجتماع القرابة والسابقة والوصية، فإن كان الأمر كذلك فليس لآل أبي سفيان ولا لآل مروان فيها دعوى، وإن كانت إنما تنال بالوراثة وتستحق بالعمومة وتستوجب بحق العصبة فليس لهم أيضا فيها دعوى، وإن كانت لا تنال إلا بالسوابق والأعمال والجهاد فليس لهم في ذلك قدم مذكور ولا يوم مشهور، بل كانوا إذ لم يكن لهم سابقة ولم يكن فيهم ما يستحقون به الخلافة ولم يكن فيهم ما يمنعهم منها أشد المنع لكان أهون ولكان الأمر عليهم أيسر. قد عرفنا كيف كان أبو سفيان في عداوة النبي
صلى الله عليه وسلم
وفي محاربته له وإجلابه عليه وغزوه إياه، وعرفنا إسلامه كيف أسلم وإخلاصه كيف أخلص، ومعنى كلمته يوم الفتح حين رأى الجنود وكلامه يوم حنين وقوله يوم صعد بلال على الكعبة فأذن، على أنه إنما أسلم على يدي العباس، والعباس هو الذي منع الناس من قتله وجاء به رديفا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وسأله فيه أن يشرفه وأن يكرمه وينوه به. وتلك يد بيضاء ونعمة غراء ومقام مشهود، ويوم حنين غير مجحود. فكان جزاء بني هاشم من بنيه أن حاربوا عليا، وسموا الحسن وقتلوا الحسين، وحملوا النساء على الأقتاب حواسر، وكشفوا عن عورة علي بن الحسين حين أشكل عليهم بلوغه كما يصنع بذراري المشركين إذا دخلت دورهم عنوة. وبعث معاوية بسر بن أرطاة إلى اليمن فقتل ابني عبيد الله بن العباس وهما غلامان لم يبلغا الحلم، وقتل عبيد الله بن زياد يوم الطف تسعة من صلب علي وسبعة من صلب عقيل؛ ولذلك قال ناعيهم:
عين جودي بعبرة وعويل
واندبي إن ندبت آل الرسول
تسعة كلهم لصلب علي
قد أصيبوا وسبعة لعقيل
ثم إن بني أمية تزعم أن عقيلا أعان معاوية على علي، فإن كانوا كاذبين فما أولاهم بالكذب، وإن كانوا صادقين فما جازوا عقيلا بما صنع. وضرب عنق مسلم بن عقيل صبرا وغدرا بعد الأمان، وقتلوا معه هانئ بن عروة لأنه آواه ونصره؛ ولذلك قال الشاعر:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري
إلى هانئ في السوق وابن عقيل
تري بطلا قد هشم السيف وجهه
وآخر يهوي من طمار قتيل
وأكلت هند كبد حمزة، فمنهم آكلة الأكباد، ومنهم كهف النفاق، ومنهم من نقر بين ثنيتي الحسين بالقضيب، ومنهم القاتل يوم الحرة عون بن عبد الله بن جعفر، ويوم الطف أبا بكر بن عبد الله بن جعفر، وقتل يوم الحرة أيضا من بني هاشم: الفضل بن عباد بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، والعباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب، وعبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب.
قال أبو عثمان: وقالت هاشم لأمية: قد علم الناس ما صنعتم بنا من القتل والتشريد لا لذنب أتيناه إليكم، ضربتم علي بن عبد الله بن عباس بالسياط مرتين على أن تزوج بنت عمه الجعفرية التي كانت عند عبد الملك، وعلى أن نحلتموه قتل سليط، وسممتم أبا هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، ونبشتم زيدا وصلبتموه وألقيتم رأسه في عرصة الدار توطأ بالأقدام وينقر دماغه الدجاج حتى قال القائل:
اطردوا الديك عن ذؤابة زيد
طالما كان لا تطأه الدجاج
وقال شاعركم أيضا:
صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة
ولم نر مهديا على الجذع يصلب
وقستم بعثمان عليا سفاهة
وعثمان خير من علي وأطيب
فروي أن بعض الصالحين من أهل البيت قال: اللهم إن كان كاذبا فسلط عليه كلبا من كلابك! فخرج يوما بسفر له فعرض له الأسد فافترسه. وقتلتم الإمام جعفر الصادق، وقتلتم يحيى بن زيد وسميتم قاتله ثائر مروان وناصر الدين. هذا إلى ما صنع سليمان بن حبيب بن المهلب - عن أمركم وقولكم - بعبد الله أبي جعفر المنصور قبل الخلافة، وما صنع مروان بإبراهيم الإمام أدخل رأسه في جراب نورة حتى مات. فإن أنشدتم:
أفاض المدامع قتلى كدى
وقتلى بكثوة لم ترمس
وبالزابيين نفوس ثوت
وأخرى بنهر أبي فطرس
أنشدنا نحن:
واذكروا مصرع الحسين وزيدا
وقتيلا بجانب المهراس
والقتيل الذي بنجران أمسى
ثاويا بين غربة وتناس
وقد علمتم حال مروان أبيكم وضعفه، وأنه كان رجلا لا فقه له ولم يعرف بالزهد ولا بالصلاح ولا برواية الآثار ولا بصحبة ولا ببعد همة، وإنما ولي رستاقا من رساتيق دار أبجرد لابن عامر ثم ولي البحرين لمعاوية. وقد كان جميع أصحابه ومن تابعه يبايع لعبد الله بن الزبير حتى رده عبيد الله بن زياد. وقال يوم مرج راهط والرءوس تندر عن كواهلها في طاعته:
وما ضرهم عند حين النفوس
أي غلامي قريش غلب
وهذا قول من لا يستحق أن يلي ربعا من الأرباع ولا خمسا من الأخماس، وهو أحد من قتلته النساء لكلمة كان حتفه فيها. وأما أبوه الحكم بن أبي العاص فهو طريد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولعينه والمتخلج في مشيته الحاكي لرسول الله والمتسمع عليه ساعة خلوته، ثم صار طريدا لأبي بكر وعمر، امتنعا عن إعادته إلى المدينة ولم يقبلا فيه شفاعة عثمان، فلما ولي أدخله فكان أعظم الناس شؤما عليه ومن أكبر الحجج في قتله وخلعه من الخلافة.
فعبد الملك أبو هؤلاء الملوك الذين تفتخر الأموية بهم أعرق الناس في الكفر؛ لأن أحد أبويه هذا والآخر من قبل أمه معاوية بن المغيرة بن أبي العاص كان النبي
صلى الله عليه وسلم
طرده من المدينة وأجله ثلاثا فحيره الله حين خرج وبقي مترددا متلددا حولها لا يهتدي لسبيله حتى أرسل في أثره عليا وعمارا فقتلاه. فأنتم أعرق الناس في الكفر، ونحن أعرق الناس في الإيمان، ولا يكون أمير المؤمنين إلا أولاهم بالإيمان وأقدمهم فيه.
قال أبو عثمان: وتفخر هاشم بأن أحدا لم يجد تسعين عاما لا طواعين فيها إلا منذ ملكوا. قالوا: لو لم يكن من بركة دعوتنا إلا أن تعذيب الأمراء لعمال الخراج بالتعليق والرهق والتجريد والتسهير والمسال والنورة والجورتين والعذراء والجامعة والتشطيب قد ارتفع لكان ذلك خيرا كثيرا. وفي الطاعون يقول العماني الراجز يذكر دولتنا:
قد رفع الله رماح الجن
وأذهب التعذيب والتجني
والعرب تسمي الطواعين رماح الجن. وفي ذلك يقول الشاعر:
لعمرك ما خشيت على أبي
رماح بني مقيدة الحمار
ولكني خشيت على أبي
رماح الجن أو إياك حار
يقوله بعض بني أسد للحرث الغساني الملك.
قال أبو عثمان: وتفخر هاشم عليهم بأنهم لم يهدموا الكعبة، ولم يحولوا القبلة، ولم يجعلوا الرسول دون الخليفة، ولم يختموا في أعناق الصحابة، ولم يغيروا أوقات الصلاة، ولم ينقشوا أكف المسلمين، ولم يأكلوا الطعام ويشربوا على منبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولم ينهبوا الحرم، ولم يطئوا المسلمات في دار الإسلام بالسباء.
قال أبو عثمان: ويفخر بنو العباس على بني مروان، وهاشم على عبد شمس، بأن الملك كان في أيديهم فانتزعوه منهم وغلبوهم عليه بالبطش الشديد وبالحيلة اللطيفة، ثم لم ينزعوه إلا من أيد أشجعهم شجاعة وأشدهم تدبيرا وأبعدهم غورا، ومن نشأ في الحروب وربي في الثغور ومن لا يعرف إلا الفتوح وسياسة الجنود، ثم أعطي الوفاء من أصحابه والصبر من قواده فلم يغدر منهم غادر ولا قصر منهم مقصر، كما قد بلغك عن حنظلة بن نباتة وعامر بن ضبارة ويزيد بن عمرو بن هبيرة، ولا من سائر قواده حتى أحبابه وكتابه، كعبد الحميد الكاتب، ثم لم يلقه ولا لقي تلك الحروب في عامة تلك الأيام إلا رجال ولد العباس بأنفسهم، ولا قام بأكثر الدولة إلا مشايخهم كعبد الله بن علي وصالح بن علي وداود بن علي وعبد الصمد بن علي، وقد لقيهم المنصور نفسه.
قال: وتفخر هاشم أيضا عليهم بقول النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو الصادق المصدق: «نقلت من الأصلاب الزاكية إلى الأرحام الطاهرة، وما افترقت فرقتان إلا كنت في خيرهما.» وقوله: «بعثت من خيرة قريش.» ومعلوم أن بني عبد مناف افترقوا فكانت هاشم والمطلب يدا وعبد شمس ونوفل يدا.
قال: وإن كان الفخر بكثرة العدد؛ فإنه من أعظم مفاخر العرب. فولد علي بن عبد الله بن العباس اليوم مثل جميع بني عبد شمس، وكذلك ولد الحسين بن علي بن أبي طالب. هذا مع قرب ميلادهما. وقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «شوهاء ولود خير من حسناء عقيم». وقال: «أنا مكاثر بكم الأمم.» وقد روى الشعبي عن جابر بن عبد الله أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قدم من سفر فأراد الرجال أن يطرقوا النساء ليلا فقال: «أمهلوا حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة، فإذا قدمتم فالكيس الكيس.» قالوا: ذهب إلى طلب الولد. وكانت العرب تفخر بكثرة الولد، وتمدح الفحل القبيس وتذم العاقر والعقيم. قال عامر بن الطفيل يعني نفسه:
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا
جبانا فما عذري لدى كل محضر
وقال علقمة بن علاثة يفخر على عامر: آمنت وكفر، ووفيت وغدر، وولدت وعقر. وقال الزبرقان:
فاسأل بني سعد وغيرهم
يوم الفخار فعندهم خبري
أي امرئ أنا حين يحضرني
رفد العطاء وطالب النصر
وإذا هلكت تركت وسطهم
ولدي الكرام ونابه الذكر
وقال طرفة بن العبد:
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد
ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وعادني
بنون كرام سادة لمسود
ومدح النابغة الذبياني ناسا فقال:
لم يحرموا طيب النساء وأمهم
طفحت عليك بناطق مذكار
وقال نهشل بن حري:
عل بني يشد الله عظمهم
والنبع ينبت قضبانا فيكتهل
ومكث الفرزدق زمانا لا يولد له فعيرته امرأته فقال:
وقالت أراه واحدا لا أخا له
يؤمله في الوارثين الأباعد
لعلك يوما أن تريني كأنما
بني حوالي الليوث الحوارد
فإن تميما قبل أن يلد الحصا
أقام زمانا وهو في الناس واحد
وقال آخر، وقد مات إخوته وملأ حوضه ليستقي فجاء رجل صاحب عشيرة وعترة فأخذ بضبعه فنحاه ثم قال لراعيه: اسق إبلك:
لو كان حوض حمار ما شربت به
إلا بإذن حمار آخر الأبد
لكنه حوض من أودى بإخوته
ريب المنون فأمسى بيضة البلد
لو كان يشكى إلى الأموات ما لقي ال
أحياء بعدهم من قلة العدد
ثم اشتكيت لأشكاني وأنجدني
قبر بسنجار أو قبر على فحد
وقال الأعشى وهو يذكر الكثرة:
ولست بالأكثر منهم حصا
وإنما العزة للكاثر
قال: وقد ولد رجال من العرب كل منهم يلد لصلبه أكثر من مائة، فصاروا بذلك مفخرا، منهم: عبد الله بن عمير الليثي، وأنس بن مالك الأنصاري، وخليفة بن بر السعدي، أتى على عامتهم الموت الجارف. ومات جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس عن ثلاث وأربعين ذكرا وخمس وثلاثين امرأة كلهم لصلبه، فما ظنك بمن مات من ولده في حياته وليس طبقة من طبقات الأسنان الموت إليها أسرع وفيها أعم وأفشى من سن الطفولية؟ وأمر جعفر بن سليمان قد عاينه عالم من الناس وعامتهم أحياء. وليس خبر جعفر كخبر غيره من الناس. قال الهيثم بن عدي: أفضى الملك إلى ولد العباس وجميع ولد العباس يومئذ من الذكور ثلاثة وأربعون رجلا، ومات جعفر بن سليمان وحده عن مثل هذا العدد من الرجال. وممن قرب ميلاده وكثر نسله حتى صار كبعض القبائل والعمائر: أبو بكر صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، والمهلب بن أبي صفرة، ومسلم بن عمرو الباهلي، وزياد بن عبيد أمير العراق، ومالك بن مسمع. وولد جعفر بن سليمان اليوم أكثر عددا من أهل هذه القبائل. وأربعة من قريش ترك كل واحد منهم عشرة بنين معروفين، وهم: عبد المطلب بن هاشم، والمطلب بن عبد مناف، وأمية بن عبد شمس، والمغيرة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وليس على ظهر الأرض هاشمي إلا من ولد عبد المطلب، ولا يشك أحد أن عدد الهاشميين شبيه بعدد الجميع. فهذا ما في الكثرة والقلة.
قال: وإن كان الفخر بنبل الرأي وصواب القول، فمن مثل عباس بن عبد المطلب وعبد الله بن العباس؟ وإن كان في الحكم والسؤدد وأصالة الرأي والغناء العظيم، فمن مثل عبد المطلب؟ وإن كان إلى الفقه والعلم بالتأويل ومعرفة التنزيل، وإلى القياس السديد وإلى الألسنة الحداد والخطب الطوال، فمن مثل علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس؟ قالوا: خطبنا عبد الله بن عباس خطبة بمكة أيام حصار عثمان لو شهدها الترك والديلم لأسلموا. وفي عبد الله بن العباس يقول حسان بن ثابت:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل
بملتقطات لا ترى بينها فصلا
شفى وكفى ما في النفوس فلم يدع
لذي إربة في القول جدا ولا هزلا
وهو البحر، وهو الحبر، وكان عمر يقول له في حداثته عند إجالة الرأي: «غص غواص.» وكان يقدمه على جلة السلف.
قال: وإن كان الفخر في البسالة والنجدة وقتل الأقران وجزر الفرسان، فمن كحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب؟ وكان الأحنف إذا ذكر حمزة قال: أليس. وكان لا يرضى أن يقول شجاع؛ لأن العرب كانت تجعل ذلك أربع طبقات: فتقول: شجاع، فإذا كان فوق ذلك قالت: بطل، فإذا كان فوق ذلك قالت: بهمة، فإذا كان فوق ذلك قالت: أليس. وقال العجاج: «أليس عن حوبائه سخي.» وهل أكثر ما يعد الناس من جرحاهما وصرعاهما إلا ساداتكم وأعلامكم؟ قتل حمزة وعلي عتبة والوليد، وقتلا شيبة أيضا شركا عبيدة بن الحارث فيه، وقتل علي حنظلة بن أبي سفيان. فأما آباء ملوككم من بني مروان فإنهم كما قال عبد الله بن الزبير لما أتاه خبر المصعب: إنا والله ما نموت جبحا كما يموت آل أبي العاص، والله ما قتل منهم قتيل في جاهلية ولا إسلام، وما نموت إلا قتلا، قعصا بالرماح وموتا تحت ظلال السيوف. قال أبو عثمان: كأنه لم يعد قتل معاوية بن المغيرة بن أبي العاص قتلا؛ إذ كان إنما قتل في غير معركة، وكذلك قتل عثمان بن عفان إذا كان إنما قتل محاصرا، ولا قتل مروان بن الحكم لأنه قتل خنقا، خنقته النساء! قال: وإنما فخر عبد الله بن الزبير بما في بني أسد بن عبد العزى من القتلى؛ لأن من شأن العرب أن تفخر بذلك كيف كانوا قاتلين أو مقتولين. ألا ترى أنك لا تصيب كثرة القتلى إلا في القوم المعروفين بالبأس والنجدة وبكثرة اللقاء والمحاربة، كآل أبي طالب، وآل الزبير، وآل المهلب؟ قال: وفي آل الزبير خاصة سبعة مقتولون في نسق، ولم يوجد ذلك في غيرهم: قتل عمارة وحمزة ابنا عبد الله بن الزبير يوم قديد في المعركة قتلهما الإباضية، وقتل عبد الله بن الزبير في محاربة الحجاج، وقتل مصعب بن الزبير بدير الجائليق في المعركة أكرم قتل، وبإزائه عبد الملك بن مروان، وقتل الزبير بوادي السباع منصرفه من وقعة الجمل، وقتل العوام بن خويلد في حرب الفجار، وقتل خويلد بن أسد بن عبد العزى في حرب خزاعة. فهؤلاء سبعة في نسق. قال: وفي بني أسد بن عبد العزى قتلى كثيرون غير هؤلاء: قتل المنذر بن الزبير بمكة، قتله أهل الشام في حرب الحجاج وهو على بغل ورد كان نفر به فأصعد به في الجبل، وإياه يعني يزيد بن مفرغ الحميري وهو يهجو صاحبكم عبيد الله بن زياد ويعيره بفراره يوم البصرة:
لابن الزبير غداة تدمر منذرا
أولى بكل حفيظة وزماع
وقتل عمرو بن الزبير، قتله أخوه عبد الله بن الزبير، وكان في جوار أخيه عبيدة بن الزبير فلم يغن عنه، فقال الشاعر يحرض عبيدة على قتل أخيه عبد الله بن الزبير ويعيره بإخفاره جوار عمرو أخيهما:
أعبيد لو كان المجير لولولت
بعد الهدوء برنة أسماء
أعبيد إنك قد أجرت وجاركم
تحت الصفيح تنبوبه الأصداء
اضرب بسيفك ضربة مذكورة
فيها أداء أمانة ووفاء
وقتل بجير بن العوام أخو الزبير بن العوام، قتله سعد بن صفح الدوسي جد أبي هريرة من قبل أمه بناحية اليمامة، وقتل معه أصرم وبعكك ابني العوام بن خويلد. وقد قتل منهم في محاربة النبي
صلى الله عليه وسلم
قوم متهورون، منهم: زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى، وكان شريفا، قتل يوم بدر. وأبوه الأسود كان المثل يضرب بعزته بمكة، وفيه قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وهو يذكر عاقر الناقة: «كان عزيزا منيعا كأبي زمعة.» ويكنى زمعة بن الأسود أبا حكيمة. وقتل الحرث بن الأسود بن المطلب يوم بدر أيضا، وقتل عبد الله بن حميد بن زهير بن الحرث بن الأسود بن المطلب بن أسد يوم بدر أيضا، وقتل نوفل بن خويلد يوم بدر أيضا قتله علي بن أبي طالب، وقتل يوم الحرة يزيد بن عبد الله بن زمعة بن الأسود ضرب عنقه مسرف بن عقبة صبرا، قال له: بايع لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية على أنك عبد قن له، قال: بل أبايعه على أني أخوه وابن عمه. فضرب عنقه. وقتل إسماعيل بن هبار بن الأسود ليلا، وكان دعي حيلة فخرج مصرخا لمن استصرخه فقتل فاتهم به مصعب بن عبد الله بن عبد الرحمن فأحلفه معاوية خمسين يمينا وخلى سبيله، فقال الشاعر:
ولا أجيب بليل داعيا أبدا
أخشى الغرور كما غر ابن هبار
باتوا يجرونه في الخبت منعفرا
بئس الهدية لابن العم والجار
وقتل عبد الرحمن بن العوام بن خويلد في خلافة عمر بن الخطاب في بعض المغازي، وقتل ابنه عبد الله يوم الدار مع عثمان. فعبد الله بن عبد الرحمن بن العوام بن خويلد قتيل ابن قتيل ابن قتيل ابن قتيل، أربعة في نسق. ومن قتلاهم: عيسى بن مصعب بن الزبير، قتل بين يدي أبيه بمسكن في حرب عبد الملك، وكان مصعب يكنى أبا عيسى، وعيسى كلاهما: موالي قريش كهلها وصميمها. ومنهم مصعب بن عكاشة بن مصعب بن الزبير، قتل يوم قديد في حرب الخوارج، وقد ذكره الشاعر:
قمن فاندبن رجالا قتلوا
بقديد ولنقصان العدد
ثم لا تعدلن فيها مصعبا
حين يبكى من قتيل بأحد
إنه قد كان فيها باسلا
صارما يقدم إقدام الأسد
ومنهم خالد بن عثمان بن خالد بن الزبير، خرج مع محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن فقتله أبو جعفر وصلبه. ومنهم عتيق بن عامر بن عبد الله بن الزبير قتل بقديد أيضا، وسمي عتيقا باسم جده أبي بكر الصديق.
قال: وإن كان الفخر والفضل في الجود والسماح، فمن مثل عبد الله بن جعفر بن أبي طالب؟ ومن مثل عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب؟ وقد اعترضت الأموية هذا الموضع فقالت: إنما كان عبد الله بن جعفر يهب مما كان معاوية ويزيد يهبانه له، فمن فضل جودنا جاد. قالوا: ومعاوية أول رجل في الأرض وهب ألف ألف درهم، وابنه يزيد أول من ضاعف ذلك، فإنه كان يجيز الحسن والحسين ابني علي في كل عام لكل واحد منهما بألف ألف درهم، وكذلك كان يجيز عبد الله بن العباس وعبد الله بن جعفر، فلما مات وقام يزيد وفد عليه عبد الله بن جعفر فقال له: إن أمير المؤمنين معاوية كان يصل رحمي في كل سنة بألف ألف درهم، قال: فلك ألفا ألف درهم! فقال: بأبي أنت وأمي! أما إني ما قلتها لابن أنثى قبلك! قال: فلك أربعة آلاف ألف درهم. وهذا الاعتراض ساقط؛ لأن ذلك إن صح لم يعد جودا ولا جائزة ولا صلة رحم، هؤلاء قوم كان يخافهم على ملكه ويعرف حقهم فيه وموقعهم من قلوب الأمة، فكان يدبر في ذلك تدبيرا ويريغ أمورا ويصانع عن دولته وملكه. ونحن لم نعد قط ما أعطى خلفاء بني هاشم قوادهم وكتابهم وبني عمهم جودا، فقد وهب المأمون للحسن بن سهل غلة عشرة آلاف ألف، فما عد ذلك منه مكرمة، وكذلك كل ما يكون داخلا في باب التجارة واستمالة القلوب وتدبير الدولة. وإنما يكون الجود ما يدفعه الملوك إلى الوفود والخطباء والشعراء والأشراف والأدباء والسمار ونحوهم، ولولا ذلك لكان الخليفة إذا وفى الجند أعطياتهم احتسب ذلك في جوده! فالعمالات شيء والإعطاء على دفع المكروه شيء، والتفضل والجود شيء.
ثم إن الذين أعطاهم معاوية ويزيد هو بعض حقهم، والذي فضل عليهما أكثر مما خرج منهما. وإن أريد الموازنة بين ملوك بني العباس وملوك بني أمية في العطاء افتضح بنو أمية وناصروهم فضيحة ظاهرة. فإن نساء خلفاء بني العباس أكثر معروفا من رجال بني أمية، ولو ذكرت معروف أم جعفر وحدها لأتى ذلك على جميع صنائع بني مروان، وذلك معروف. ولو ذكرت معروف الخيزران وسلسبيل لملأت الطوامير الكثيرة به، وما نظن خالصة مولاتهم إلا فوق أجواد أجوادهم. وإن شئت أن تذكر مواليهم وكتابهم فاذكر عيسى بن ماهان، وابنه عليا، وخالد بن برمك، وابنه يحيى، وابنيه جعفرا والفضل، وكاتبهم منصور بن زياد، ومحمد بن منصور فتى العسكر، فإنك تجد لكل واحد من هؤلاء ما يحيط بجميع صنائع بني عبد شمس.
فأما ملوك الأموية فليس منهم إلا من كان يبخل على الطعام - وكان جعفر بن سليمان كثيرا ما يذكر ذلك - وكان معاوية يبغض الرجل النهم على مائدته. وكان المنصور إذا ذكرهم يقول: كان عبد الملك جبارا لا يبالي ما صنع، وكان الوليد مجنونا، وكان سليمان همه بطنه وفرجه، وكان عمر أعور بين عميان، وكان هشام رجل القوم. وكان لا يذكر ابن عاتكة. ولقد كان هشام - مع ما استثناه به - يقال هو الأحول السراق، ما زال يدخل أعطيات الجند شهرا في شهر وشهرا في شهر حتى أخذ لنفسه مقدار رزق سنة، وأنشده أبو النجم العجلي أرجوزته التي أولها: «الحمد لله الوهوب المجزل.» فما زال يصفق بيديه استحسانا لها حتى صار إلى ذكر الشمس فقال: «والشمس في الأفق كعين الأحول.» فأمر بوجء عنقه وإخراجه. وهذا ضعف شديد وجهل عظيم. وقال خاله إبراهيم بن هشام المخزومي: ما رأيت من هشام خطأ قط إلا مرتين: حدا به الحادي مرة فقال:
إن عليك أيها البختي
أكرم من تمشي به المطي
فقال: صدقت! وقالت مرة: والله لأشكون سليمان يوم القيامة إلى أمير المؤمنين عبد الملك! وهذا ضعف شديد وجهل مفرط.
قال أبو عثمان: وكان هشام يقول: والله إني لأستحيي أن أعطي رجلا أكثر من أربعة آلاف درهم. ثم أعطى عبد الله بن الحسن أربعة آلاف دينار فاعتدها في جوده وتوسعه، وإنما اشترى بها ملكه وحصن بها عن نفسه وما في يديه. قال له أخوه مسلمة: أتطمع أن تلي الخلافة وأنت بخيل جبان؟ فقال: ولكني حليم عفيف. فاعترف بالجبن والبخل، وهل تقوم الخلافة مع واحد منهما؟ وإن قامت فلا تقوم إلا مع الخطر العظيم والتغرير الشديد، ولو سلمت من الفساد لم تسلم من العيب. ولقد قدم المنصور عليهم عمر بن عبد العزيز بقوله: أعور بين عميان. وزعمتم أنه كان ناسكا ورعا تقيا، فكيف وقد جلد خبيب بن عبد الله بن الزبير مائدة جلدة وصب على رأسه جرة من ماء بارد في يوم شات حتى كز فمات، فما أقر بدمه ولا خرج إلى وليه من حقه ولا أعطى عقلا ولا قودا، ولا كان خبيب ممن أتت عليه حدود الله وأحكامه وقصاصه فيقال كان مطيعا بإقامتها وأنه أزهق الحد نفسه؟ واحسبوا الضرب كان أدبا وتعزيرا، فما عذره في الماء البارد في الشتاء على إثر جلد شديد؟ ولقد بلغه أن سليمان بن عبد الملك يوصي فجاء حتى جلس على طريق من يجلس عنده أو يدخل إليه، فقال لرجاء بن حيوة في بعض ما يدخل وما يخرج من شأنه: نشدتك الله أن تذكرني لهذا الأمر وتشير بي في هذا الشأن، فوالله ما لي عليه من طاقة! فقال له رجاء: قاتلك الله، ما أحرصك عليها! ولما جاء الوليد بن عبد الملك بنعي الحجاج قال له الوليد: مات الحجاج يا أبا حفص؟ فقال: وهل كان الحجاج إلا رجلا منا أهل البيت؟ وقال في خلافته: لولا بيعة في أعناق الناس ليزيد بن عاتكة لجعلت هذا الأمر شورى بين صاحب الأعواص إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد الأشدق، وبين أحمس قريش القاسم بن محمد بن أبي بكر، وبين سالم بن عبد الله بن عمر. فما كان عليه من الضرر والحرج، وكان عليه من الوكف والنقص لو قال: بين علي بن عبد الله بن عباس، وعلي بن الحسين بن علي؟ على أنه لم يرد التيمي ولا العدوي، وإنما دبر الأمر للأموي. ولم يكن عنده أحد من هاشم يصلح للشورى، ثم دبر الأمر ليبايع لأخيه أبي بكر بن عبد العزيز من بعده حتى عوجل بالسم. وقدم عليه عبد الله بن حسن بن حسن، فلما رأى كماله وبيانه وعرف نسبه ومركبه وموضعه وكيف ذلك من قلوب المسلمين وفي صدور المؤمنين، لم يدعه يبيت بالشام ليلة واحدة، وقال له: الحق بأهلك فإنك لم تغنمهم شيئا هو أنفس منك ولا أرد عليهم من حياتك، أخاف عليك طواعين الشام، وستلحقك الحوائج على ما تشتهي وتحب. وإنما كره أن يروه ويسمعوا كلامه فلعله أن يبذر في قلوبهم بذرا ويغرس في صدورهم غرسا. وكان أعظم خلق الله قولا بالجبر حتى يتجاوز الجهمية ويربي على كل ذي غاية صاحب شنعة، وكان يصنع في ذلك الكتب مع جهله بالكلام وقلة اختلافه إلى أهل النظر. وقال له شوذب الخارجي: لم لا تلعن رهطك وتذكر أباك إن كانوا عندك ظلمة فجرة؟ فقال عمر: متى عهدك بلعن فرعون؟ قال: ما لي به عهد. قال: أفيسعك أن تمسك عن لعن فرعون ولا يسعني أن أمسك عن لعن آبائي؟! فرأى أنه قد خصمه وقطع حجته، وكذلك يظن كل من قصر عن مقدار العالم وجاوز مقدار الجاهل! وأي شبه لفرعون بآل مروان وآل أبي سفيان؟ هؤلاء قوم لهم حزب وشيعة وناس كثير يدينون بتفضيلهم وقد اعتورتهم الشبه في أمرهم، وفرعون على خلاف ذلك وضده لا شيعة له ولا حزب ولا نسل ولا موالي ولا صنائع ولا في أمره شبهة! ثم إن عمر ظنين في أمر أهله فيحتاج إلى غسل ذلك عنه بالبراءة منهم، وشوذب ليس بظنين في أمر فرعون، وليس الإمساك عن لعن فرعون والبراءة منه مما يعرفه الخوارج، فكيف استويا عنده؟! وشكا إليه رجل من رهطه دينا فادحا وعيالا كثيرا فاعتل عليه فقال له: هلا اعتللت على عبد الله بن الحسن؟ قال: ومتى شاورتك في أمري؟ قال: أومشيرا تراني؟ قال: وهل أعطيته إلا بعض حقه؟ قال: ولم قصرت عن كله؟! فأمر بإخراجه، وما زال إلى أن مات محروما منه. وكان عمال أهله على البلاد عماله وأصحابه. والذي حسن أمره وشبه على الأغبياء حاله أنه قام بعقب قوم قد بدلوا عامة شرائع الدين وسنن النبي
صلى الله عليه وسلم ، وكان الناس قبله من الظلم والجور والتهاون بالإسلام في أمر صغر في جنبه ما عاينوا منه وألفوه عليه، فجعلوه بما نقص من تلك الأمور الفظيعة في عداد الأئمة الراشدين. وحسبك من ذلك أنهم كانوا يلعنون عليا على منابرهم فلما نهى عمر عن ذلك عد محسنا. ويشهد لذلك قول كثير فيه:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف
بريا ولم تتبع مقالة مجرم
وهذا الشعر يدل على أن شتم علي قد كان لهم عادة حتى مدح من كف عنه. ولما ولي خالد بن عبد الله القسري مكة - وكان إذا خطب بها لعن عليا والحسن والحسين - قال عبيد الله بن كثير السهمي:
لعن الله من يسب عليا
وحسينا من سوقة وإمام
أيسب المطهرون جدودا
والكرام الآباء والأعمام
يأمن الطير والحمام ولا يأ
من آل الرسول عند المقام
طبت بيتا وطاب أهلك أهلا
أهل بيت النبي والإسلام
رحمة الله والسلام عليهم
كلما قام قائم بسلام
وقام عبد الله بن الوليد بن عثمان بن عفان - وكان ممن يتأله بزعمهم - إلى هشام بن عبد الملك وهو يخطب على المنبر بعرفة، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبي تراب. فقال هشام: ليس لهذا جئنا. ألا ترى أن ذلك يدل على أنه قد كان لعنه فيهم فاشيا ظاهرا؟ وكان عبد الله بن الوليد هذا يلعن عليا ويقول: قتل جدي جميعا: الزبير وعثمان. وقال المغيرة وهو عامل معاوية يومئذ لصعصعة بن صوحان: قم فالعن عليا! فقام فقال: إن أميركم هذا أمرني أن ألعن عليا، فالعنوه لعنه الله. وهو يضمر المغيرة.
وأما عبد الملك فحسبك من جهله تبديل شرائع الدين والإسلام وهو يريد أن يلي أمور أصحابها بذلك الدين بعينه! وحسبك من جهله أنه رأى من أبلغ التدبير في منع بني هاشم الخلافة أن يلعن علي بن أبي طالب على منابره ويرمى بالفجور في مجالسه، وهذا قرة عين عدوه وعير عين وليه، وحسبك من جهله قيامه على منبر الخلافة قائلا: إني والله ما أنا بالخليفة المستضعف، ولا بالخليفة المداهن، ولا بالخليفة المأفون. وهؤلاء سلفه وأئمته، وبشفعتهم قام ذلك المقام، وبتقدمهم وتأسيسهم نال تلك الرئاسة، ولولا القادة المتقدمة والأجناد المجندة والصنائع القائمة لكان أبعد خلق الله من ذلك المقام وأقربهم إلى الهلكة إن رام ذلك الشرف. وعنى بالمستضعف عثمان، وبالمداهن معاوية، وبالمأفون يزيد بن معاوية. وهذا الكلام نقض لسلطانه، وعداوة لأهله، وإفساد لقلوب شيعته. ولو لم يكن من عجز رأيه إلا أنه لم يقدر على إظهار قوته إلا بأن يظهر عجز أئمته، لكفاك ذلك منه ... فهذا ما ذكرته هاشم لأنفسها.
قالت أمية: لنا من نوادر الرجال في العقل والدهاء والأرب والنكر ما ليس لأحد، ولنا من الأجواد وأصحاب الصنائع ما ليس لأحد. زعم الناس أن الدهاة أربعة: معاوية بن أبي سفيان، وزياد، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة. فمنا رجلان ومن سائر الناس رجلان. ولنا في الأجواد: سعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، لم يوجد لهما نظير إلى الساعة. وأما نوادر الرجال في الرأي والتدبير: فأبو سفيان بن حرب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الملك بن مروان، ومسلمة بن عبد الملك. وعلى أنهم يعدون في الحلماء والرؤساء، فأهل الحجاز يضربون المثل في الحلم بمعاوية كما يضرب أهل العراق المثل فيه بالأحنف. فأما الفتوح والتدبير في الحرب فلمعاوية غير مدافع، وكان خطيبا مصقعا ومحربا مظفرا، وكان يجيد قول الشعر إذا آثر أن يقوله. وكان عبد الملك خطيبا حازما محربا مظفرا. وكان مسلمة شجاعا مدبرا وسائسا مقدما، وكثير الفتوح كثير الأدب. وكان يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا. وكان الوليد بن يزيد خطيبا شاعرا. وكان مروان بن الحكم وعبد الرحمن بن الحكم شاعرين. وكان بشر بن مروان شاعرا ناسبا وأديبا عالما. وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا وجيد الرأي أريبا كثير الأدب حكيما، وكان أول من أعطى التراجمة والفلاسفة وقرب أهل الحكمة ورؤساء أهل كل صناعة، وترجم كتب النجوم والطب والكيمياء والحروب والآداب والآلات والصناعات. وقالوا: وإن ذكرت البأس والشجاعة فالعباس بن الوليد بن عبد الملك، ومروان بن محمد، وأبوه محمد بن مروان بن الحكم وهو صاحب مصعب. وهؤلاء قوم لهم آثار بالروم لا تجهل وآثار بأرمينية لا تنكر، ولهم يوم العقر شهده مسلمة والعباس بن الوليد. قالوا: ولنا الفتوح العظام، ولنا فارس وخراسان، وأرمينية وسجستان، وأفريقية وجميع فتوح عثمان. فأما فتوح بني مروان فأكثر وأعم وأشهر من أن تحتاج إلى عد أو إلى شاهد، والذين بلغوا في ذلك الزمان أقصى ما يمكن صاحب خف وحافر أن يبلغه حتى لم يحتجر منهم إلا ببحر أو خليج بحر أو غياض أو عقاب أو حصون وصياصي ثلاثة رجال: قتيبة بن مسلم بخراسان، وموسى بن نصير بأفريقية، والقاسم بن محمد بن القاسم الثقفي بالسند والهند، وهؤلاء كلهم عمالنا وصنائعنا. ويقال: إن البصرة كانت صنائع ثلاثة رجال: عبد الله بن عامر، وزياد، والحجاج، فرجلان من أنفسنا والثالث صنيعتنا. قالوا: ولنا في الأجواد وأهل الأقدار: عبد الله بن خالد بن أسيد بن أمية، وأخوه خالد. وفي خالد يقول الشاعر:
إلى خالد حتى أنخنا بخالد
فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمل
ولنا سعيد بن خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وهو عقيد الندى، كان يسبت ستة أشهر ويفيق ستة أشهر، ويرى كحيلا من غير اكتحال، ودهينا من غير تدهين، وله يقول موسى شهوات:
أبا خالد أعني سعيد بن خالد
أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد
ولكنني أعني ابن عائشة الذي
أبو أبويه خالد ابن أسيد
عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى
فإن مات لم يرض الندى بعقيد
قالوا: وإنما تمكن فينا الشعر وجاد ليس من قبل أن الذين مدحونا ما كانوا غير من مدح الناس، ولكن لما وجدوا فينا مما يتسع لأجله القول ويصدق فيه القائل. قد مدح عبيد الله بن قيس الرقيات من الناس آل الزبير عبد الله ومصعبا وغيرهما، فكان يقول كما يقول غيره، فلما صار إلينا قال:
ما نقموا من بني أمية إلا
أنهم يحلمون إن غضبوا
وأنهم معدن الملوك فما
تصلح إلا عليهم العرب
وقال نصيب:
من النفر الشم الذين إذا انتجوا
أقرت لنجواهم لؤي بن غالب
يحيون بسامين طورا وتارة
يحيون عباسين شوس الحواجب
وقال الأخطل:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم
وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
قالوا: وفينا يقول شاعركم والمتشيع لكم الكميت بن زيد:
فالآن صرت إلى أمي
ة والأمور لها مصاير
وفي معاوية يقول أبو الجهم العدوي:
نقلبه لنخبر حالتيه
فنخبر منهما كرما ولينا
نميل على جوانبه كأنا
إذا ملنا نميل على أبينا
وفيه يقول:
تريغ إليه هوادي الكلا
م إذا ضل خطبته المهذر
قالوا: وإذا نظرتم في امتداح الشعراء عبد العزيز بن مروان عرفتم صدق ما نقوله.
قالوا: وفي إرسال النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى أهل مكة عثمان واستعماله عتاب بن أسيد وهو ابن اثنين وعشرين سنة دليل على موضع المنعة ومن تهاب العرب وتعز قريش. وقال النبي
صلى الله عليه وسلم
قبل الفتح: «فتيان أضن بهما على النار: عتاب بن أسيد وجبير بن مطعم.» فولى عتابا وترك جبير بن مطعم. وقال الشعبي: لو ولد لي مائة ابن لسميتهم كلهم «عبد الرحمن» للذي رأيت في قريش من أصحاب هذا الاسم. ثم عد: عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام، وعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص. فأما عبد الرحمن بن عتاب فإنه صاحب الخيل يوم الجمل، وهو صاحب الكف والخاتم، وهو الذي مر به علي وهو قتيل فقال: لهفي عليك يعسوب قريش! هذا اللباب المحض من بني عبد مناف! فقال له قائل: لشد ما أبنته اليوم يا أمير المؤمنين! قال: إنه قام عني وعنه نسوة لم يقمن عنك.
قالوا: ولنا من الخطباء معاوية بن أبي سفيان، أخطب الناس قائما وقاعدا وعلى منبر وفي خطبة نكاح! وقال عمر بن الخطاب: ما يتصعدني شيء من الكلام كما تتصعدني خطبة النكاح. وقد يكون خطيبا من ليس عنده في حديثه ووصفه للشيء واحتجاجه في الأمر لسان بارع. وكان معاوية يجري مع ذلك كله.
قالوا: ومن خطبائنا يزيد بن معاوية، كان أعرابي اللسان بدوي اللهجة. قال معاوية - وخطب عنده خطيب فأجاد: لأرمينه بالخطيب الأشدق. يريد يزيد بن معاوية. ومن خطبائنا سعيد بن العاص، لم يوجد كتحبيره تحبير ولا كارتجاله ارتجال. ومنا عمرو بن سعيد الأشدق، لقب بذلك لأنه حيث دخل على معاوية وهو غلام بعد وفاة أبيه فسمع كلامه، فقال: إن ابن سعيد هذا لأشدق. وقال له معاوية: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي! قال: فبم أوصى إليك؟ قال: ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه.
قالوا: ومنا سعيد بن عمرو بن سعيد، خطيب ابن خطيب ابن خطيب. تكلم الناس عند عبد الملك قياما وتكلم قاعدا، قال عبد الملك: فتكلم وأنا والله أحب عثرته وإسكاته، فأحسن حتى استنطقته واستزدته. وكان عبد الملك خطيبا، خطب الناس مرة فقال: ما أنصفتمونا معشر رعيتنا، طلبتم منا أن نسير فيكم وفي أنفسنا سيرة أبي بكر وعمر في أنفسهما ورعيتهما، ولم تسيروا فينا ولا في أنفسكم سيرة رعية أبي بكر وعمر فيهما وفي أنفسهما، ولكل من النصفة نصيب. قالوا: فكانت خطبته نافعة.
قالوا: ولنا زياد وعبيد الله بن زياد، وكانا غايتين في صحة المعاني وجودة اللفظ، ولهما كلام كثير محفوظ.
قالوا: ومن خطبائنا سليمان بن عبد الملك، والوليد بن يزيد بن عبد الملك. ومن خطبائنا ونساكنا يزيد بن الوليد الناقص. قال عيسى بن حاضر: قلت لعمرو بن عبيد: ما قولك في عمر بن عبد العزيز؟ فكلح ثم صرف وجهه عني، قلت: فما قولك في يزيد الناقص؟ فقال: أو الكامل، قام بالعدل وعمل بالعدل وبذل نفسه وشرى وقتل ابن عمه في طاعة ربه، وكان نكالا لأهله، ونقص من أعطياتهم ما زادته الجبابرة، وأظهر البراءة من آبائه، وجعل في عهده شرطا ولم يجعله جزما. لا والله لكأنه ينطق عن لسان أبي سعيد - يريد الحسن البصري - قال: وكان الحسن من أنطق الناس. قالوا: وقد قرئ في الكتب القديمة: يا مبذر الكنوز، ويا ساجدا بالأسحار، كانت ولايتك رحمة وعليهم حجة. قالوا: هو يزيد بن الوليد. ومن خطبائنا ثم من ولد سعيد بن العاص: عمرو ابن خولة، كان ناسبا فصيحا خطيبا. وقال ابن عائشة الأكبر: ما شهد خطيبا قط إلا لجلج هيبة له ومعرفة بانتقاده. ومن خطبائنا عبد الله بن عامر، وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، وكانا من أكرم الناس وأبين الناس. كان مسلمة بن عبد الملك يقول: إني لأنحي كور عمامتي عن أذني لأسمع كلام عبد الأعلى. وكانوا يقولون: أشبه قريش نعمة وجهارة واقتدارا وبيانا بعمرو بن سعيد: عبد الأعلى بن عبد الله.
قالوا: ومن خطبائنا ورجالنا: الوليد بن عبد الملك، وهو الذي كان يقال له: «فحل بني مروان»، كان يركب معه ستون رجلا لصلبه. ومن ذوي آدابنا وعلمائنا وأصحاب الأخبار ورواة الأشعار والأنساب: بشر بن مروان أمير العراق.
قالوا: ومن أكثر نساك الملوك منا؟ منا معاوية بن يزيد بن معاوية، وهو الذي قيل له في مرضه الذي مات فيه: لو أقمت للناس ولي عهد؟ قال: ومن جعل لي هذا العهد في أعناق الناس! والله لولا خوف الفتنة لما أقمت عليها طرفة عين! والله لا أذهب بمرارتها وتذهبون بحلاوتها! فقالت له أمه: لوددت أنك حيضة. قال: أنا والله وددت ذلك.
قالوا: ومنا سليمان بن عبد الملك الذي هدم الديماس ورد المسيرين وأخرج المسجونين وترك القريب واختار عمر بن عبد العزيز، وكان سليمان جوادا خطيبا جميلا صاحب سلامة ودعة وحب للعافية وقرب من الناس حتى سمي المهدي، وقيلت الأشعار في ذلك.
قالوا: ولنا عمر بن عبد العزيز شبيه عمر بن الخطاب، قد ولده عمر وباسمه سمي، وهو أشج قريش المذكور في الآثار المنقولة، العدل في أشد الزمان، وظلف نفسه بعد اعتياد النعم حتى صار مثلا ومفخرا. وقيل للحسن: أما رويت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «لا يزداد الزمن إلا شدة والناس إلا شحا، ولا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق»؟ قال: بلى. قيل : فما بال عمر بن عبد العزيز وعدله وسيرته؟ فقال: لا بد للناس من متنفس. وكان مذكورا مع الخطباء ومع النساك ومع الفقهاء.
قالوا: ولنا ابنه عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز، كان ناسكا زكيا طاهرا، وكان من أتقى الناس وأحسنهم معونة لأبيه، وكان كثيرا ما يعظ أباه وينهاه.
قالوا: ولنا من لا نظير له في جميع أموره، وهو صاحب الأعواص إسماعيل بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص، وهو الذي قال فيه عمر بن عبد العزيز: لو كان إلي من الأمر شيء لجعلتها شورى بين القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله، وصاحب الأعواص.
قالوا: ومن نساكنا أبو حراب من بني أمية الصغرى، قتله داود بن علي. ومن نساكنا يزيد بن محمد بن مروان، كان لا يهدب ثوبا ولا يصبغه ولا يتخلق بخلوق ولا اختار طعاما على طعام، ما أطعم أكله، وكان يكره التكلف وينهى عنه. قالوا: ومن نساكنا أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان، أراد عمر أخوه أن يجعله ولي عهده لما رأى من فضله وزهده، فسما جميعا. ومن نساكنا عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان، كان يصلي كل يوم ألف ركعة، وكان كثير الصدقة، وكان إذا تصدق بصدقة قال: اللهم إن هذا لوجهك فخفف عني الموت. فانطلق حاجا ثم تصبح بالنوم، فذهبوا ينبهونه للرحيل فوجدوه ميتا، فأقاموا عليه المأتم بالمدينة، وجاء أشعب فدخل إلى المأتم وعلى رأسه كبة من الطين فالتدم مع النساء، وكان إليه محسنا. ومن نساكنا عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
قالوا: فنحن نعد من الصلاح والفضل ما سمعتموه، وما لم نذكره أكثر.
وأنتم تقولون: أمية هي الشجرة الملعونة في القرآن، وزعمتم أن الشجرة الخبيثة لا تثمر الطيب كما أن الطيب لا يثمر الخبيث. فإن كان الأمر كما تقولون فعثمان بن عفان ثمرة خبيثة، وينبغي أن يكون النبي
صلى الله عليه وسلم
دفع ابنتيه إلى خبيث؟ وكذلك يزيد بن أبي سفيان صاحب مقدمة أبي بكر الصديق على جيوش الشام؟ وينبغي لأبي العاص بن الربيع زوج زينب بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن يكون كذلك؟ وينبغي لمحمد بن عبد الله المدبج أن يكون كذلك، وإن ولدته فاطمة عليها السلام؛ لأنه من بني أمية؟ وكذلك عبد الله بن عثمان سبط رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الذي مات بعد أن شدن، نقر الديك عينه فمات؛ لأنه من بني أمية؟ وكذلك ينبغي أن يكون عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وإن كان النبي
صلى الله عليه وسلم
ولاه مكة أم القرى وقبلة الإسلام مع قوله
صلى الله عليه وسلم : «فتيان أضن بهما على النار: عتاب بن أسيد وجبير بن مطعم.» كذلك؟ وينبغي أن يكون عمر بن عبد العزيز شبيه عمر بن الخطاب، وكذلك معاوية بن يزيد بن معاوية، وكذلك يزيد الناقص؟ وينبغي ألا يكون النبي
صلى الله عليه وسلم
عد عثمان في العشرة الذين بشرهم بالجنة؟ وينبغي أن يكون خالد بن سعيد بن العاص شهيد يوم مرج الصفر والحبيس في سبيل الله ووالي النبي
صلى الله عليه وسلم
على اليمن ووالي أبي بكر على جميع أجناد الشام ورابع أربعة في الإسلام والمهاجر إلى أرض الحبشة، كذلك؟ وكذلك أبان بن سعيد بن العاص المهاجر إلى المدينة والقديم الإسلام والحبيس على الجهاد يجب أن يكون ملعونا خبيثا؟ وكذلك أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وهو بدري من المهاجرين الأولين، وكذلك أمامة بنت أبي العاص بن الربيع وأمها زينب بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ وكذلك أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
يخرجها في المغازي ويضرب لها بسهم ويصافحها؟ وكذلك فاطمة بنت أبي معيط من مهاجرة الحبشة؟
قالوا: ومما نفخر به وليس لبني هاشم مثله أن منا رجلا ولي أربعين سنة، منها عشرون سنة خليفة وهو معاوية بن أبي سفيان. ولنا أربعة إخوة خلفاء: الوليد وسليمان ويزيد وهشام بنو عبد الملك، وليس لكم إلا ثلاثة: محمد وعبد الله وأبو إسحق، أولاد هارون.
قالوا: ومنا رجل ولده سبعة من الخلفاء: وهو عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، أبوه يزيد ابن عاتكة خليفة، وجده عبد الملك خليفة، وأبو جده مروان بن الحكم خليفة، وجده من قبل عاتكة ابنة يزيد بن معاوية أبوها يزيد بن معاوية وهو خليفة، ومعاوية بن أبي سفيان وهو خليفة، فهؤلاء خمسة. وأم عبد الله هذا عاتكة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وحفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب، فهذان خليفتان. فهذه سبعة من الخلفاء ولدوا هذا الرجل.
قالوا: ومنا امرأة أبوها خليفة، وجدها خليفة، وابنها خليفة، وأخوها خليفة، وبعلها خليفة، فهؤلاء خمسة، وهي: عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان. أبوها يزيد بن معاوية خليفة، وجدها معاوية بن أبي سفيان خليفة، وابنها يزيد بن عبد الملك بن مروان خليفة، وأخوها معاوية بن يزيد خليفة، وبعلها عبد الملك بن مروان خليفة.
قالوا: ومن ولد المدبج محمد بن عبد الله الأصفر امرأة ولدها النبي
صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، وهي: عائشة بنت محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان، وأمها خديجة بنت عثمان بن عروة بن الزبير، وأم عروة أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر الصديق، وأم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وهو المدبج فاطمة بنت الحسين بن علي، وأم الحسين بن علي فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأم فاطمة بنت الحسين بن علي أم إسحق بنت طلحة بن عبيد الله، وأم عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان حفصة بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب.
قالوا: ولنا في الجمال والحسن ما ليس لكم، منا المدبج والديباج، قيل ذلك لجماله، ومنا المطرف، ومنا الأرجوان. فالمطرف وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان سمي المطرف لجماله، وفيه يقول الفرزدق:
نما الفاروق أنك وابن أروى
أبوك فأنت منصدع النهار
والمدبج هو الديباج، كان أطول الناس قياما في الصلاة، وهلك في سجن المنصور.
قالوا: ومنا ابن الخلائف الأربعة، دعي بذلك وشهر به، وهو المؤمل بن العباس بن الوليد بن عبد الملك. كان هو وأخوه الحارث ابني العباس بن الوليد من الفجاءة بنت قطري بن الفجاءة إمام الخوارج، وكانت سبيت فوقعت إليه، فلما قام عمر بن عبد العزيز أتت وجوه بني مازن وفيهم حاجب بن ذبيان المازني الشاعر، فقال حاجب:
أتيناك زوارا ووفدا إلى التي
أضاءت فلا يخفى على الناس نورها
أبوها عميد الحي جمعا وأمها
من الحنظليات الكرام حجورها
فإن تك صارت حين صارت فإنها
إلى نسب زاك كرام تغيرها
فبعث عمر بن عبد العزيز إلى العباس بن الوليد: إما أن تردها إلى أهلها وإما أن تتزوجها. قال قائل ذات يوم للمؤمل: يا ابن الخلائف الأربعة! قال: ويلك، من الرابع؟ قال: قطري. فأما الثلاثة فالوليد وعبد الملك ومروان، وأما قطري فبويع بالخلافة. وفيه يقول الشاعر:
وأبو نعامة سيد الكفار
قالوا: ومن أين صار محمد بن علي بن عبد الله بن العباس أحق بالدعوة والخلافة من سائر إخوته؟ ومن أين كان له أن يضعها في بنيه دون إخوته؟ وكيف صار بنو الأخ أحق بها من الأعمام! قالوا: إن يكن هذا الأمر إنما يستحق بالميراث فالأقرب إلى العباس أحق، وإن كان بالسن والتجربة فالعمومة بذلك أولى!
قالوا: فقد ذكرنا جملا من حال رجالنا في الإسلام. وأما الجاهلية، فلنا الأعياص، والعنابس، ولنا ذو العصابة أبو أحيحة سعيد بن العاص كان إذا أعتم لم يعتم بمكة أحد، ولنا حرب بن أمية رئيس يوم الفجار، ولنا أبو سفيان بن حرب رئيس أحد والخندق وسيد قريش كلها في زمانه. وقال أبو الجهم بن حذيفة العدوي لعمر حين رأى العباس وأبا سفيان على فراشه دون الناس: ما نرانا نستريح من بني عبد مناف على حال! قال عمر: بئس أخو العشيرة أنت! هذا عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهذا سيد قريش!
قالوا: ولنا عتبة بن ربيعة، ساد مملقا ولا يكون السيد إلا مترفا، لولا ما رأوا عنده من البراعة والنبل والكمال، وهو الذي تحاكمت بجيلة وكلب في منافرة جرير والفرافصة وتراهنوا بسوق عكاظ وضعوا الرهن على يده دون جميع من شهد على ذلك المشهد. وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم - ونظر إلى قريش مقبلة يوم بدر: إن يكن منهم عند أحد خير فعند صاحب الجمل الأحمر! وما ظنك بشيخ طلبوا له من جميع العسكر عند المبارزة بيضة فلم يقدروا على بيضة يدخل رأسه فيها؟ وقد قال الشاعر:
وإنا أناس يملأ البيض هامنا
قالوا: وأمية الأكبر صنفان: الأعياص والعنابس. قال الشاعر:
من الأعياص أو من آل حرب
أغر كغرة الفرس الجواد
سموا بذلك في حرب الفجار حين حفروا لأرجلهم الحفائر وثبتوا فيها وقالوا: نموت جميعا أو نظفر. وإنما سموا بالعنابس لأنها أسماء الأسود، وإنما سموا الأعياص لأنها أسماء الأصول. فالعنابس: حرب وأبو حرب، وسفيان وأبو سفيان، وعمرو. والأعياص: العيص وأبو العيص، والعاص وأبو العاص، وأبو عمرو. ولم يعقب من العنابس إلا حرب، وما عقب الأعياص إلا العيص؛ ولذلك كان معاوية يشكو القلة. قالوا: وليس لبني هاشم والمطلب مثل هذه القسمة، ولا مثل هذا اللقب المشهور.
قالت هاشم:
أما ما ذكرتم من الدهاء والنكر، فإن ذلك من أسماء فجار العقلاء، وليس من أسماء أهل الصواب في الرأي من العقلاء والأبرار. قد بلغ أبو بكر وعمر من التدبير وصواب الرأي والخبرة بالأمور العامة، وليس من أوصافهما ولا من أسمائهما أن يقال كانا داهيين ولا كانا مكيرين! وما عامل معاوية وعمرو بن العاص عليا قط بمعاملة إلا وكان علي أعلم بها منهما، ولكن الرجل الذي يحارب ولا يستعمل إلا ما يحل له أقل مذاهب في وجوه الحيل والتدبير من الرجل الذي يستعمل ما يحل وما لا يحل! وكذلك من حدث وأخبر، ألا ترى أن الكذاب ليس لكذبه غاية ولا لما يولد ويصنع نهاية؟ والصدوق إنما يحدث عن شيء معروف ومعنى محدود؟ ويدل على ما قلنا أنكم عددتم أربعة في الدهاء ليس واحد منهم عند المسلمين في طريق المتقين. ولو كان الدهاء مرتبة والمكر منزلة لكان تقدم هؤلاء الجميع السابقين الأولين عيبا شديدا في السابقين الأولين، ولو أن إنسانا أراد أن يمدح أبا بكر وعمر وعثمان وعليا ثم قال: الدهاة أربعة وعدهم، لكان قد قال قولا مرغوبا عنه؛ لأن الدهاء والمكر ليس من صفات الصالحين، وإن علموا من غامض الأمور ما يجهله جميع العقلاء! ألا ترى أنه قد يحسن أن يقال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أكرم الناس، وأحلم الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس. ولا يجوز أن يقال: كان أمكر الناس وأدهى الناس؟ وإن علمنا أن علمه قد أحاط بكل مكر وخديعة، وبكل أرب ومكيدة؟
وأما ما ذكرتم من جود سعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر، فأين أنتم من جود عبد الله بن جعفر وعبيد الله بن العباس، والحسن بن علي؟ وأين أنتم من جود خلفاء بني العباس كمحمد المهدي، وهارون، ومحمد بن زبيدة، وعبد الله المأمون، بل لعل جود بعض صنائع هؤلاء كبني برمك أعظم من جود الرجلين اللذين ذكرتموهما، بل من جميع ما جاء به خلفاء بني أمية.
وأما ما ذكرتم من حلم معاوية، فلو شئنا أن نجعل جميع ساداتنا حلماء لكانوا محتملين لذلك، ولكن الوجه في هذا ألا يشتق للرجل اسم إلا من أشرف أعماله وأكرم أخلاقه، وإلا أن يبين بذلك عند أصحابه حتى يصير بذلك اسما يسمى به ويصير معروفا به، كما عرف الأحنف بالحلم، وكما عرف حاتم بالجود، وكذلك هرم قالوا: هرم الجواد! ولو قلتم كان أبو العاص بن أمية أحلم الناس لقلنا ولعله يكون قد كان حليما ولكن ليس كل حلم يكون صاحبه به مذكورا ومن أشكاله بائنا. وإنكم لتظلمون خصومكم في تسميتكم معاوية بالحلم، فكيف من دونه؟ لأن العرب تقول: أحلم الحلمين ألا يتعرض ثم يحلم. ولم يكن في الأرض رجل أكثر تعرضا من معاوية! والتعرض هو السفه. فإن ادعيتم أن الأخبار التي جاءت في تعرضه كلها باطل، إن لقائل أن يقول: وكل خبر رويتموه في حلمه باطل ! ولقد شهر الأحنف بالحلم، ولكنه تكلم بكلام كثير يجرح في الحلم ويثلم في العرض. ولا يستطيع أحد أن يحكي عن العباس بن عبد المطلب ولا عن الحسن بن علي بن أبي طالب لفظا فاحشا ولا كلمة ساقطة ولا حرفا واحدا مما يحكى عن الأحنف ومعاوية! وكان المأمون أحلم الناس، وكان عبد الله السفاح أحلم الناس. وبعد، فمن يستطيع أن يصف هاشما أو عبد المطلب بالحلم دون غيره من الأخلاق والأفعال حتى يسميه بذلك ويخصه به دون كل شيء فيه من الفضل؟ وكيف وأخلاقهما متساوية وكلها في الغاية؟ ولو أن رجلا كان أظهر الناس زهدا وأصدقهم للعدو لقاء وأصدق الناس لسانا وأجود الناس كفا وأفصحهم منطقا، وكان بكل ذلك مشهورا، لمنع بعض ذلك من بعض، ولما كان له إلا اسم السيد المقدم والكامل المعظم، ولم يكن الجود أغلب على اسمه، ولا البيان ولا النجدة.
وأما ما ذكرتم من الخطابة والفصاحة والسؤدد والعلم بالأدب والنسب، فقد علم الناس أن بني هاشم في الجملة أرق ألسنة من بني أمية. كان أبو طالب والزبير شاعرين، وكان أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب شاعرا. ولم يكن في أولاد أمية بن عبد شمس لصلبه شاعر، ولم يكن في أولاد أمية إلا أن تعدوا في الإسلام العرجى من ولد عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن الحكم، فنعد نحن الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. وإن عددتم الخطابة والبيان والفصاحة لم تعدوا كعلي بن أبي طالب ولا كعبد الله بن العباس. ولنا من الخطباء: زيد بن علي بن الحسين، وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وجعفر بن الحسين بن الحسن، وداود بن علي بن عبد الله بن العباس، وداود وسليمان ابنا جعفر بن سليمان. قالوا: كان جعفر بن الحسين بن الحسن ينازع زيد بن علي بن الحسين في الوصية، وكان الناس يجتمعون ليستمعوا محاورتهما، وكان سليمان بن جعفر بن سليمان بن علي والي مكة، فكان أهل مكة يقولون: لم يرد علينا أمير إلا وسليمان أبين منه قاعدا وأخطب منه قائما. وكان داود إذا خطب اسحنفر فلم يرده شيء. قالوا: ولنا عبد الملك بن صالح بن علي كان خطيبا بليغا، وسأله الرشيد - وسليمان بن أبي جعفر وعيسى بن جعفر حاضران - فقال له: كيف رأيت أرض كذا؟ قال: مسافي ريح ومنابت شيح. قال: فأرض كذا؟ قال: هضبات حمر وربوات عفر. حتى أتى على جميع ما سأله عنه، فقال عيسى لسليمان: والله ما ينبغي لنا أن نرضى لأنفسنا بالدون من الكلام.
قالوا: وأما ما ذكرتم من نساك الملوك، فلنا علي بن أبي طالب وبزهده وبدينه يضرب المثل. وإن عددتم النساك من غير الملوك، فأين أنتم عن علي بن الحسين زين العابدين الذي كان يقال له: علي الخير وعلي الأغر وعلي العابد، وما أقسم على الله بشيء إلا وأبر قسمه؟ وأين أنتم عن علي بن عبد الله بن العباس؟ وأين أنتم عن موسى بن جعفر بن محمد؟ وأين أنتم عن علي بن محمد الرضا لابس الصوف طول عمره مع سعة أمواله وكثرة ضياعه وغلاته؟
وأما ما ذكرتم من الفتوح، فلنا الفتوح المعتصمية التي سارت بها الركبان وضربت بها الأمثال، ولنا فتوح الرشيد، ولنا الآثار الشريفة في قتل بابك الخرمي بعد أن دامت فتنته في دار الإسلام نحو ثلاثين سنة.
فأما الفقه والعلم والتفسير والتأويل، فإذا ذكرتموه لم يكن لكم فيه أحد وكان لنا فيه مثل علي بن أبي طالب، وعبد الله بن العباس، وزيد ومحمد ابني علي بن الحسين بن علي، وجعفر بن محمد الذي ملأ الدنيا علمه وفقهه، ويقال إن أبا حنيفة من تلامذته وكذلك سفيان الثوري، وحسبك بهما في هذا الباب؛ ولذلك نسب سفيان إلى أنه زيدي المذهب وكذلك أبو حنيفة. ومن مثل علي بن الحسين زين العابدين، وقال الشافعي في الرسالة في إثبات خبر الواحد: وجدت علي بن الحسين - وهو أفقه أهل المدينة - يعول على أخبار الآحاد. ومن مثل محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم الذي قرر علوم التوحيد والعدل حتى قالت المعتزلة: غلبنا الناس كلهم بأبي هاشم الأول!
وإن ذكرتم النجدة والبسالة والشجاعة، فمن مثل علي بن أبي طالب وقد وقع اتفاق أوليائه وأعدائه على أنه أشجع البشر؟ ومن مثل حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله؟ ومن مثل الحسين بن علي! قالوا يوم الطف: ما رأينا مكثورا قد أفرد من إخوته وأهله وأنصاره أشجع منه، كان كالليث المحرب يحطم الفرسان حطما، وما ظنك برجل أبت نفسه الدنية وأن يعطي بيده، فقاتل حتى قتل هو وبنوه وإخوته وبنو عمه بعد بذل الأمان لهم والتوثقة بالأيمان المغلظة، وهو الذي سن للعرب الإباء واقتدى بعده أبناء الزبير وبنو المهلب وغيرهم. ومن لكم مثل محمد وإبراهيم ابني عبد الله؟ ومن لكم مثل زيد بن علي، وقد علمتم كلمته التي قالها حيث خرج من عند هشام: ما أحب الحياة إلا من ذل. فلما بلغت هشاما قال: خارج ورب الكعبة. فخرج بالسيف ونهى عن المنكر ودعا إلى إقامة شعائر الله حتى قتل صابرا محتسبا. وقد بلغتكم شجاعة أبي إسحاق المعتصم ووقوفه في مشاهد الحروب بنفسه حتى فتح الفتوح الجليلة، وبلغتكم شجاعة عبد الله بن علي وهو الذي أزال ملك بني مروان وشهد الحروب بنفسه، وكذلك صالح بن علي وهو الذي تبع مروان بن محمد إلى مصر حتى قتله.
قالوا: وإن كان الفضل والفخر في تواضع الشريف وإنصاف السيد وسجاحة الخلق ولين الجانب للعشيرة والموالي، فليس لأحد من ذلك ما لبني العباس. ولقد سألنا طارق بن المبارك - وهو مولى لبني أمية وصنيعة من صنائعهم - فقلنا: أي القبيلين أشد نخوة وأعظم كبرياء وجبرية! أبنو مروان أم بنو العباس؟ فقال: والله لبنو المروان في غير دولتهم أعظم كبرياء من بني العباس في دولتهم. وقد كان أدرك الدولتين. ولذلك قال شاعرهم:
إذا تائه من عبد شمس رأيته
يتيه فرشحه لكل عظيم
وإن تاه تياه سواهم فإنما
يتيه لنوك أو يتيه للوم
ومن كلامهم: من لم يكن من بني أمية تياها فهو دعي.
قالوا: وإن كان الكبر مفخرا يمدح به الرجال ويعد من خصال الشرف والفضل، فمولانا عمارة بن حمزة أعظم كبرا من كل أموي كان ويكون في الدنيا، وأخباره في كبره وتيهه مشهورة متعالية.
قالوا: وإن كان الشرف والفخر في الجمال والكمال وفي البسطة في الجسم وتمام القوام، فمن كان كالعباس بن عبد المطلب! قالوا: رأينا العباس يطوف بالبيت وكأنه فسطاط أبيض. ومن مثل علي بن عبد الله بن العباس وولده، وكان كل واحد منهم إذا قام إلى جنب أبيه كان رأسه عند شحمة أذنه، وكانوا من أطول الناس، وإنك لتجد ميراث ذلك اليوم في أولادهم. ثم الذي رواه أصحاب الأخبار وحمال الآثار في عبد المطلب من التمام والقوام والجمال والبهاء، وما كان من لقب هاشم بالقمر لجماله ولأنهم يستضيئون برأيه، وكما رواه الناس أن عبد المطلب ولد عشرة كان الرجل منهم يأكل في المجلس الجذعة ويشرب الفرق وترد أنفهم قبل شفاههم، وأن عامر بن مالك لما رآهم يطوفون بالبيت كأنهم جمال جون قال: بهؤلاء تمنع مكة وتشرف مكة. وقد سمعتم ما ذكره الناس من جمال السفاح وحسنه، وكذلك المهدي، وابنه هارون الرشيد، وابنه محمد بن زبيدة إلى الواثق، وكان الحسن بن علي أصبح الناس وجها، كان يشبه برسول الله
صلى الله عليه وسلم . وكذلك عبد الله بن الحسن المحض.
وقالوا: ولنا ثلاثة في عصر كلهم يسمى عليا، وكلهم كان يصلح للخلافة بالفقه والنسك والمركب والرأي والتجربة والحال الرفيعة بين الناس: علي بن الحسين بن علي، وعلي بن عبد الله بن العباس، وعلي بن عبد الله بن جعفر. كل هؤلاء كان تاما كاملا بارعا جامعا. وكانت لبابة بنت عبد الله بن العباس عند علي بن عبد الله بن جعفر، قالت: ما رأيته ضاحكا قط ولا قاطبا، ولا قال شيئا احتاج إلى أن يعتذر منه، ولا ضرب عبدا قط ولا ملكه أكثر من سنة. قالوا: وبعد هؤلاء ثلاثة بنو عم، وهم بنو هؤلاء الثلاثة، وكلهم يسمى محمدا، كما أن كل واحد من أولئك يسمى عليا، وكلهم يصلح للخلافة بكرم النسب وشرف الخصال: محمد بن علي بن الحسين بن علي، ومحمد بن علي بن عبد الله بن العباس، ومحمد بن علي بن عبد الله بن جعفر. قالوا: كان محمد بن علي بن الحسين لا يسمع المبتلى الاستعاذة، وكان ينهى الجارية والغلام أن يقولا للمسكين: يا سائل، وهو سيد فقهاء الحجاز، ومنه ومن ابنه جعفر تعلم الناس الفقه، وهو الملقب بالباقر، باقر العلم، لقبه به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولم يخلق بعد، وبشر به ووعد جابر بن عبد الله برؤيته وقال: ستراه طفلا فإذا رأيته فأبلغه عني السلام. فعاش جابر حتى رآه وقال له ما وصي به. وتوعد خالد بن عبد الله القسري هشام بن عبد الملك في رسالة له إليه وقال: والله إني لأعرف رجلا حجازي الأصل شامي الدار عراقي الهوى! يريد محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
وأما ما ذكرتم من أمر عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فإنا نذكر فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وهي سيدة نساء العالمين، وأمها خديجة سيدة نساء العالمين، وبعلها علي بن أبي طالب سيد المسلمين كافة، وابن عمها جعفر ذو الجناحين وذو الهجرتين، وابناها حسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وجدها أبو طالب بن عبد المطلب أشد الناس عارضة وشكيمة وأجودهم رأيا وأشهمهم نفسا وأمنعهم لما وراء ظهره، منع النبي
صلى الله عليه وسلم
من جميع قريش ثم بني هاشم وبني المطلب، ثم منع بني إخوته من بني أخواته من بني مخزوم الذين أسلموا، وهو أحد الذين سادوا مع الإقلال، وهو مع هذا شاعر خطيب. ومن يطيق أن يفاخر بني أبي طالب وأمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم وهي أول هاشمية ولدت لهاشمي، وهي التي ربي رسول الله في حجرها وكان يدعوها: أمي، ونزل في قبرها وكان يوجب حقها كما يوجب حق الأم؟ من يستطيع أن يسامي رجالا ولدهم هاشم مرتين من قبل أبيهم ومن قبل أمهم؟ قالوا: ومن العجائب أنها ولدت أربعة كل منهم أسن من الآخر بعشر سنين: طالب وعقيل وجعفر وعلي. ومن الذي يعد من قريش أو من غيرهم ما يعده الطالبيون عشرة في نسق، كل واحد منهم عالم زاهد ناسك شجاع جواد طاهر زاك؟ فمنهم خلفاء، ومنهم مرشحون، ابن ابن ابن ابن هكذا إلى عشرة، وهم: الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي. وهذا لم يتفق لبيت من بيوت العرب ولا من بيوت العجم.
قالوا: فإن فخرتم بأن منكم اثنتين من أمهات المؤمنين: أم حبيبة بنت أبي سفيان وزينب بنت جحش، فزينب امرأة من بني أسد بن خزيمة ادعيتموها بالحلف لا بالولادة! وفينا رجل ولدته أمان من أمهات المؤمنين: محمد بن عبد الله بن الحسن المحض، ولدته خديجة أم المؤمنين، وأم سلمة أم المؤمنين، وولدته مع ذلك فاطمة بنت الحسين بن علي، وفاطمة سيدة نساء العالمين ابنة رسول الله، وفاطمة بنت أسد بن هاشم. وكان يقال: خير النساء الفواطم والعواتك. وهن أمهاته.
قالوا: ونحن إذا ذكرنا إنسانا فقبل أن نعد من ولده نأتي به شريفا في نفسه مذكورا بما فيه دون ما في غيره. قلتم: لنا عاتكة بنت يزيد، وعاتكة في نفسها كامرأة من عرض قريش ليس فيها في نفسها خاصة أمر تستوجب به المفاخرة. ونحن نقول: منا فاطمة، وفاطمة سيدة نساء العالمين، وكذلك أمها خديجة الكبرى. وإنما تذكران مع مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم اللتين ذكرهما النبي
صلى الله عليه وسلم
وذكر إحداهما في القرآن، وهن المذكورات من جميع نساء العالم من العرب والعجم. وقلتم: لنا عبد الله بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، ولده سبعة من الخلفاء. وعبد الله هذا في نفسه ليس هناك. ونحن نقول: منا محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، كلهم سيد، وأمه العالية بنت عبد الله بن العباس، وإخوته: داود وصالح وسليمان وعبد الله رجال كلهم أغر محجل، ثم ولد الرؤساء إبراهيم الإمام وأخويه أبا العباس وأبا جعفر ومن جاء بعدهما من خلفاء بني العباس. وقلتم: منا عبد الله بن يزيد، وقلنا: منا الحسين بن علي سيد شباب أهل الجنة وأولى الناس بكل مكرمة وأطهرهم طهارة، مع النجدة والبصيرة والفقه والصبر والحلم والأنف، وأخوه الحسن سيد شباب أهل الجنة وأرفع الناس درجة وأشبههم برسول الله خلقا وخلقا، وأبوهما علي بن أبي طالب وهو الذي ترك وصفه أبلغ في وصفه، وعمهما ذو الجناحين، وأمهما فاطمة، وجدتهما خديجة، وأخوالهما: القاسم وعبد الله وإبراهيم، وخالاتهما زينب ورقية وأم كلثوم، وجدتاهما: آمنة بنت وهب والدة رسول الله، وفاطمة بنت أسد بن هاشم، وجدهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم
المخرس لكل مفاخر والغالب لكل منافر. قل ما شئت واذكر أي باب شئت من الفضل فإنك تجدهم قد حازوه.
قالت أمية:
نحن لا ننكر فخر بني هاشم وفضلهم في الإسلام، ولكن لا فرق بيننا في الجاهلية إذ كان الناس في ذلك الدهر لا يقولون: هاشم وعبد شمس، ولا هاشم وأمية، بل كانوا لا يزيدون في الجميع على عبد مناف، حتى كان أيام تميزهم في أمر علي وعثمان في الشورى، ثم ما كان في أيام تحزبهم وحربهم مع علي ومعاوية. ومن تأمل الأخبار والآثار علم أنه ما كان يذكر فرق بين البيتين، وإنما يقال: بنو عبد مناف. ألا ترى أن أبا قحافة سمع رجة شديدة وأصواتا مرتفعة - وهو يومئذ شيخ كبير مكفوف - فقال: ما هذا؟ قالوا: قبض رسول الله. قال: فما صنعت قريش؟ قالوا: ولوا الأمر ابنك. قال: ورضيت بذلك عبد مناف؟ قالوا: نعم. قال: فلا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع ... ولم يقل أرضي بذلك بنو هاشم، أرضي بذلك بنو عبد شمس! وإنما جمعهم على عبد مناف؛ لأنه كذلك كان يقال. وهكذا قال أبو سفيان بن حرب لعلي وقد سخط إمارة أبي بكر: أرضيتم يا بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم؟! ولم يقل أرضيتم يا بني هاشم! وكذلك قال خالد بن سعيد بن العاص حين قدم من اليمن وقد استخلف أبو بكر: أرضيتم معشر بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم؟!
قالوا: وكيف يفرقون بين هاشم وعبد شمس وهما أخوان لأب وأم! ويدل أن أمرهما كان واحدا وأن اسمهما كان جامعا قول النبي
صلى الله عليه وسلم
وصنيعه حين قال: منا خير فارس في العرب: عكاشة بن محصن. وكان أسديا، وكان حليفا لبني عبد شمس - وكل من شهد بدرا من بني كثير بن داود وكانوا حلفاء بني عبد شمس - فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذاك منا يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: بل هو منا بالحلف. فجعل حليف بني عبد شمس حليف بني هاشم، وهذا بين لا يحتاج صاحب هذه الصفة إلى أكثر منه. قالوا: ولهذا نكح هذا البيت في هذا البيت، فكيف صرنا نتزوج بنات النبي وبنات بني هاشم على وجه الدهر إلا ونحن أكفاء وأمرنا واحد؟ وقد سمعتم إسحاق بن عيسى يقول لمحمد بن الحارث أحد بني عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد: لولا حي أكرمهم الله بالرسالة لزعمت أنك أشرف الناس. أفلا ترى أنه لم يقدم علينا رهطه إلا بالرسالة؟
قالت هاشم:
قلتم: لولا أنا كنا أكفاءكم لما أنكحتمونا نساءكم. فقد نجد القوم يستوون في حسب الأب ويفترقون في حسب الأنفس، وربما استووا في حسب أبي القبيلة كاستواء قريش في النضر بن كنانة، ويختلفون كاختلاف كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، وكاختلاف أبناء قصي عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى. والقوم قد يساوي بعضهم بعضا في وجوه ويفارقونهم في وجوه ويستجيزون بذلك القدر مناكحتهم وإن كانت معاني الشرف لم تتكامل فيهم كما تكاملت فيمن زوجهم. وقد يزوج السيد ابن أخيه وهو حارض ابن حارض، على وجه صلة الرحم، فيكون ذلك جائزا عندهم. ووجوه في هذا الباب كثيرة. فليس لكم أن تزعموا أنكم أكفاؤنا من كل وجه، وإن كنا قد زوجناكم وساويناكم في بعض الآباء والأجداد!
وبعد، فأنتم في الجاهلية والإسلام قد أخرجتم بناتكم إلى سائر قريش وإلى سائر العرب، أفتزعمون أنهم أكفاؤكم عينا بعين؟
وأما قولكم إن الحيين كان يقال لهما عبد مناف، فقد كان يقال لهما أيضا مع غيرهما من قريش وبنيها: بنو النضر. وقال الله تعالى:
وأنذر عشيرتك الأقربين ، فلم يدع النبي
صلى الله عليه وسلم
أحدا من بني عبد شمس، وكانت عشيرته الأقربون بني هاشم وبني عبد المطلب، وعشيرته فوق ذلك عبد مناف، وفوق ذلك قصي. ومن ذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لما أتي بعبد الله بن عامر بن كريز بن حبيب بن عبد شمس، وأم عامر بن كريز أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، قال: هذا أشبه بنا منه بكم. ثم تفل في فيه فازدرده، فقال: أرجو أن تكون مسقيا. فكان كما قال. ففي قوله: هو أشبه بنا منه بكم، خصلتان: إحداهما أن عبد شمس وهاشما لو كانا شيئا واحدا كما أن بني عبد المطلب شيء واحد لما قال هو بنا أشبه به منكم، والأخرى أن في هذا القول تفضيلا لبني هاشم على بني عبد شمس. ألا ترون أنه خرج خطيبا جوادا نبيلا وسيدا مسقيا له مصانع وآثار كريمة! لأنه قال: هو بنا أشبه به منكم؟ وأتي عبد المطلب بعامر بن كريز - وهو ابن ابنته أم حكيم البيضاء - فتأمله وقال: وعظام هاشم ما ولدنا ولدا أحرض منه. فكان كما قال. ولم يقل: وعظام عبد مناف؛ لأن شرف جده عبد مناف له فيه شركاء، وشرف هاشم أبيه خالص له.
وأما ما ذكرتم من قول أبي سفيان وخالد بن سعيد: أرضيتم معشر بني عبد مناف أن تلي عليكم تيم؟ فهذه الكلمة كلمة تحريض وتهييج، فكان الأبلغ فيما يريد من اجتماع قلوب الفريقين أن يدعوهم لأب وأن يجمعهم على واحد، وإن كانا مفترقين. وهذا المذهب سديد وهذا التدبير صحيح. قال معاوية بن صعصعة للأشهب بن رميلة وهو نهشلي، وللفرزدق بن غالب وهو مجاشعي، ولمسكين بن أنيف وهو عبدلي: أرضيتم معشر بني دارم أن يسب آباءكم ويشتم أعراضكم كلب بني كليب؟!
2
وإنما نسبهم إلى دارم الأب الأكبر المشتمل على آباء قبائلهم ليستووا في الحمية ويتفقوا على الأنف، وهذا في مثل هذا الموضع تدبير صحيح.
قالوا: ويدل على ما قلنا ما قاله الشعراء في هذا الباب قبل مقتل عثمان وقبل صفين. قال حسان بن ثابت لأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب:
وأنت منوط نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
ولم يقل: نيط في آل عبد مناف! وقال آخر:
ما أنت من هاشم في بيت مكرمة
ولا بني جمح الخضر الجلاعيد
ولم يقل: ما أنت من آل عبد مناف. وكيف يقولون هذا وقد علم الناس أن عبد مناف ولد أربعة: هاشما والمطلب وعبد شمس ونوفلا؟ وأن هاشما والمطلب كانا يدا واحدة، وأن عبد شمس ونوفلا كانا يدا واحدة. وكان مما أبطأ ببني نوفل عن الإسلام إبطاء إخوتهم من بني عبد شمس، وكان مما حث بني المطلب على الإسلام فضل محبتهم لبني هاشم؛ لأن أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
كان بينا، وإنما كانوا يمتنعون منه من طريق الحسد والبغضة، فمن لم يكن فيه هذه العلة لم يكن له دون الإسلام مانع؛ ولذلك لم يصحب النبي
صلى الله عليه وسلم
من بني نوفل أحد، فضلا عن أن يشهدوا معه المشاهد الكريمة، وإنما صحبه حلفاؤهم كيعلي بن منبه وعتبة بن غزوان وغيرهما. وبنو الحارث بن المطلب كلهم بدري: عبيدة وطفيل وحصين. ومن بني المطلب: مسطح بن أثاثة بدري. وكيف يكون الأمر كما قلتم وأبو طالب يقول لمطعم بن عدي بن نوفل في أمر النبي لما تمالأت قريش عليه:
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا
جزاء مسيء عاجلا غير آجل
أمطعم إما سامني القوم خطة
فإني متى أوكل فلست بآكلي
أمطعم لم أخذلك في يوم شدة
ولا مشهد عند الأمور الجلائل
ولقد قسم النبي
صلى الله عليه وسلم
قسمة فجعلها في بني هاشم وبني المطلب، فأتاه عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وجبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقالا له: يا رسول الله، إن قرابتنا منك وقرابة بني المطلب واحدة، فكيف أعطيتهم دوننا؟ فقال النبي: إنا لم نزل وبني المطلب كهاتين. وشبك بين أصابعه. فكيف تقولون كنا شيئا واحدا، وكان الاسم الذي يجمعنا واحدا؟
قالت هاشم:
وإن كان الفخر بالأيد والقوة واهتصار الأقران ومباطشة الرجال، فمن أين لكم كمحمد بن الحنفية! وقد سمعتم أخباره وأنه قبض على درع فاضلة فجذبها فقطع ذيلها ما استدار منه كله. وسمعتم حديث الأيد القوي الذي أرسله ملك الروم إلى معاوية يفخر به على العرب، وأن محمدا قعد له ليقيمه فلم يستطع فكأنما يحرك جبلا، وأن الرومي قعد ليقيمه محمد فرفعه فوق رأسه ثم جلد به الأرض. هذا مع الشجاعة المشهورة والفقه في الدين والحلم والصبر والفصاحة والعلم بالملاحم والإخبار عن الغيوب حتى ادعي له أنه المهدي. وقد سمعتم أحاديث أبي إسحاق المعتصم وأن أحمد بن أبي دواد عض ساعده بأسنانه أشد العض فلم يؤثر فيه، وأنه قال: ما أظن الأسنة ولا السهام تؤثر في جسده؟! وإن كان الفخر بالبشر وطلاقة الأوجه وسجاحة الأخلاق، فمن مثل علي بن أبي طالب وقد بلغ من سجاحة خلقه وطلاقة وجهه أن عيب بالدعابة؟ ومن الذي يسوي بين عبد شمس وهاشم في ذلك؟! كان الوليد جبارا، وكان هشام شرس الأخلاق، وكان مروان بن محمد لا يزال قاطبا عابسا، وكذلك كان يزيد بن الوليد الناقص. وكان المهدي بن المنصور أسرى خلق الله وألطفهم خلقا، وكذلك محمد الأمين وأخوه المأمون. وكان السفاح يضرب به المثل في السرو وسجاحة الخلق.
قالوا: ولنا من أفراد الرجال من ليس لكم مثله. منا يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، كان شجاعا جريا، وهو الذي ولي الموصل لأخيه السفاح فاستعرض أهلها حتى ساخت الأقدام في الدم. ومنا يعقوب بن إبراهيم بن عيسى بن أبي جعفر المنصور، كان شاعرا فصيحا، وهو المعروف بأبي الأسباط. ومنا محمد وجعفر ابنا سليمان بن علي، كانا أعظم من ملوك بني أمية وأجل قدرا وأكثر أموالا ومكانا عند الناس. وأهدى محمد بن سليمان من البصرة إلى الخيزران مائة وصيفة في يد كل واحدة منهن جام من ذهب وزنه ألف مثقال مملوء مسكا. وكان لجعفر بن سليمان ألفا عبد من السودان خاصة، فكم يكون - ليت شعري - غيرهم من البيض ومن الإماء! وما رؤي جعفر بن محمد راكبا قط إلا ظن أنه الخليفة. ومن رجالنا محمد بن السفاح، كان جوادا أيدا شديد البطش. قالوا: ما رؤي أخوان أشد قوة من محمد وريطة أخته ولدي أبي العباس السفاح، كان محمد يأخذ الحديد فيلويه فتأخذه هي فترده. ومن رجالنا محمد بن إبراهيم طباطبا صاحب أبي السرايا، كان ناسكا عابدا فقيها عظيم القدر عند أهل بيته وعند الزيدية. ومن رجالنا عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، وهو الذي شيد ملك المنصور وحارب ابني عبد الله بن حسن وأقام عمود الخلافة بعد اضطرابه، وكان فصيحا أديبا شاعرا. ومن رجالنا عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام، حج بالناس وولي الشام، وكان فصيحا خطيبا. ومن رجالنا عبد الله بن موسى الهادي، كان أكرم الناس، وجوادا ممدحا أديبا شاعرا. وأخوه علي بن موسى الهادي، كان أكرم الناس وأجود الناس، كان يلبس الثياب وقد حدد ظفره فيخرقها بظفره لئلا تعاد إليه. وعبد الله بن أحمد بن عبد الله بن موسى الهادي، كان أديبا ظريفا.
قالوا: وقلتم: لنا عاتكة بنت يزيد يكتنفها خمسة من الخلفاء. ونحن نقول: لنا زبيدة بنت جعفر يكتنفها ثمانية من الخلفاء: جدها المنصور خليفة، وعم أبيها السفاح خليفة، وعمها المهدي خليفة، وابن عمها الهادي خليفة، وبعلها الرشيد خليفة، وابنها الأمين خليفة، وابنا بعلها المأمون والمعتصم خليفتان.
قالوا: وأما ما ذكرتم من الأعياص والعنابس، فلسنا نصدقكم فيما زعمتموه أصلا لهذه التسمية، وإنما سموا الأعياص لمكان العيص، وأبي العيص، والعاص، وأبي العاص، وهذه أسماؤهم الأعلام ليست مشتقة من أفعال لهم كريمة ولا خسيسة. وأما العنابس فإنما سموا بذلك لأن حرب بن أمية كان اسمه عنبسة، وأما حرب فلقبه، ولما كان حرب أمثلهم سموا جماعتهم باسمه فقيل «العنابس» كما يقال «المهالبة» و«المناذرة»؛ ولهذا المعنى سمي أبو سفيان بن حرب: ابن عنبسة، وسمي سعيد بن العاص: ابن عنبسة. •••
وهذا آخر ما عثرت عليه من هذا الكتاب استخلصته بعد جهد وعناء.
من كتاب حجج النبوة
قال أبو عثمان:
الحمد لله الذي عرفنا نفسه وعلمنا دينه وجعلنا من الدعاة إليه والمحتجين له، فنحن نسأله تمام النعمة والعون على أداء شكره، وأن يوفقنا للحق برحمته، إنه ولي ذلك والقادر عليه والمرغوب إليه فيه، وصلى الله على محمد وسلم.
ثم إنا قائلون في الأخبار ومخبرون عن الآثار، ومفرقون بين أسباب الشبهة وأسباب الحجة، ثم مفرقون بين الحجة التي تلزم الخاصة دون العامة، ومخبرون عن الضرب الذي يكون الخاصة فيه حجة على العامة، وعن الموضع الذي يكون القليل فيه أحق بالحجة من الكثير، ولم شاع الخبر وأصله ضعيف، ولم خفي وأصله قوي، وما الذي يؤمن من فساده وتبديله مع تقادم عصره وكثرة الطاعنين فيه، وعن الحاجة إلى رواية الآثار وإلى سماع الأخبار، وعن أخلاق الناس وآبائهم ومذاهب أسلافهم، وعن سير الملوك قبلهم وما صنعت الأيام بهم، وعن شرائع أنبيائهم وأعلام رسلهم، وعن أدب حكمائهم وأقاويل أئمتهم وفقهائهم، وعن حالات من غاب عن أبصارهم في دهرهم، ولم كان الإخبار على الناس أخف من الكتمان، ولم كان الصمت أثقل عليهم من الكلام، وما الضرب الذي يقدرون على كتمانه وطيه والضرب الذي لا يقدرون إلا على إذاعته ونشره، ولم اجتمعت الأمم على الصدق في أمور واختلفت في غيرها، ولم حفظت أمورا ونسيت سواها، ولم كان الصدق أكثر من الكذب، ولم كان الصمت أثقل والقول أفضل. والعجب من ترك الفقهاء تمييز الآثار وترك المتكلمين القول في تصحيح الأخبار، وبالأخبار يعرف الناس النبي من المتنبي والصادق من الكاذب، وبها يعرفون الشريعة من السنة والفريضة من النافلة والحظر من الإباحة والاجتماع من الفرقة والشذوذ من الاستفاضة والرد من المعارضة والنار من الجنة وعامة المفسدة والمصلحة . فإذا نزلت الأخبار منازلها وقسمتها ذكرت حجج الرسول
صلى الله عليه وسلم
ودلائله وشرائعه وسننه، ثم جنست الآثار على أقدارها ورتبتها في مراتبها وقربت ذلك واختصرته وأوضحت عنه وبينته، حتى يستوي في معرفتها من قل سماعه وساء حفظه، ومن كثر سماعه وجاد حفظه، بالوجوه الجليلة والأدلة الاضطرارية.
ولم أرد في هذا الكتاب جمع حجج الرسول عليه السلام وتفصيلها والقول فيها لنقص مسها أو لوهن كان في أصلها من ناقليها والمخبرين عنها، أو لأن طعن الملحدين نهكها وفرق جماعتها ونقض قواها! ولكن لأمور سأذكرها وأحتج لها. وكيف تقصر الحجة عن بلوغ الغاية وتنقص عن التمام والله تعالى المتوكل بها ومسخر أصناف البرية لها ومهيج النفوس على إبلاغها! وقد أخبر بذلك عن نفسه في محكم كتابه عز ذكره حيث قال:
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون . وأدنى منازل الإظهار إظهار الحجة على من ضاده وخالف عليه. وقال عز ذكره:
يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون . وأخبر أنه أمر الأحمر والأسود، ولم يكن ليأمر الأقصى كما يأمر الأدنى، ويأمر الغائب على الحاضر، قال الله تعالى لنبيه عليه السلام:
وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا .
فأقول: إن كل منطيق محجوج، والحجة حجتان: عيان ظاهر، وخبر قاهر. فإذا تكلمنا في العيان وما يفرع منه، فلا بد من التعارف في أصله وفرعه منه، ولا بد من التصادق في أصله والتعارف في فرعه، فالعقل هو المستدل، والعيان والخبر هما علة الاستدلال وأصله، ومحال كون الفرع مع عدم الأصل، وكون الاستدلال مع عدم الدليل. والعقل مضمن بالدليل والدليل مضمن بالعقل، ولا بد لكل واحد منهما من صاحب، وليس لإبطال أحدهما وجه مع إيجاب الآخر. والعقل نوع واحد، والدليل نوعان: أحدهما شاهد عيان يدل على غائب، والآخر مجيء خبر يدل على صدق.
ثم رجع الكلام إلى الإخبار عن دلائل النبي
صلى الله عليه وسلم
وأعلامه والاحتجاج لشواهده وبرهاناته، فأقول: إن السلف الذين جمعوا القرآن في المصاحف بعد أن كان متفرقا في الصدور، والذين جمعوا الناس على قراءة زيد بعد أن كان غيرها مطلقا غير محظور، والذين حصنوه ومنعوه الزيادة والنقصان، لو كانوا جمعوا علامات النبي
صلى الله عليه وسلم
وبرهاناته ودلائله وآياته وصنوف بدائعه وأنواع عجائبه في مقامه وظعنه وعند دعائه واحتجاجه في الجمع العظيم وبحضرة العدد الكثير الذين لا يستطيع الشك في خبرهم إلا الغبي الجاهل والعدو المائل، لما استطاع اليوم أن يدفع كونها وصحة مجيئها لا زنديق جاحد ولا دهري معاند ولا متظرف ماجن ولا ضعيف مخدوع ولا حدث مغرور، ولكان مشهورا في عوامنا كشهرته في خواصنا، ولكان استبصار جميع أعياننا في حقهم كاستبصارهم في باطل نصاراهم ومجوسهم، ولما وجد الملحد موضع طمع في غبي يستميله وفي حدث يموه له، ولولا كثرة ضعفائنا مع كثرة الدخلاء فينا الذين نطقوا بألسنتنا واستعانوا بعقولنا على أغبيائنا وأغمارنا لما تكلفنا كشف الظاهر وإظهار البارز والاحتجاج للواضح. إلا أن الذي دعا سلفنا إلى ذلك الاتكال على ظهورها واستفاضة أمرها، وإذ كان ذلك كذلك فلم يؤت من أتي من جهالنا وأحداثنا وسفهائنا وخلعائنا إلا من قبل ضعف العناية وقلة المبالاة، ومن قبل الحداثة والغرارة، ومن قبل أنهم حملوا على عقولهم من دقيق الكلام قبل العلم بجليله ما لم تبلغه قواهم وتتسع له صدورهم وتحمله أقدارهم، فذهبوا عن الحق يمينا وشمالا. لأن من لم يلزم الجادة تخبط، ومن تناول الفرع قبل إحكام الأصل سقط، ومن خرق بنفسه وكلفها فوق طاقتها ولم ينل ما لا يقدر عليه تفلت منه ما كان يقدر عليه. فإذا كانوا كذلك فإنما أتوا من قبل أنفسهم ولم يؤتوا من سلفهم، أو لأن الله تبارك وتعالى صرف أسلافنا بنسيان أو غيره ليمتحن بذلك غيرهم في آخر الزمان، وليعرضهم لطاعته بالذب عن دينه والاحتجاج لنبيه
صلى الله عليه وسلم ، وليجري هذا الخير على أيديهم كما أجرى أكثر منه على أيدي أسلافهم؛ لئلا يبخس أحد خليقته من العلماء والفقهاء، ولأن يجعل فضله مقسما بين جميع الأولياء، وإن كان الأول أحق بالتقديم والآخر أحق بالتأخير للذي قدموا من الاحتمال وأعطوا من المجهود، ولأنهم أصل هذا الأمر ونحن فرعه، والأصل أحق بالقوة من الفرع، وهم السابقون ونحن التابعون، وهم الذين وطئوا لنا وكلفونا ما لم نكن لنكلفه أنفسنا، فتجرعوا دوننا المرار ومنحونا روح الكفاية، ولأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه
صلى الله عليه وسلم ، ولأن القرآن نطق بفضيلتهم والله تعالى أعلم بمن بعدهم. والذي جمع أسلافنا الذين جمعوا الناس على قراءة زيد دون أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود، والذين رأوا من قول عبد الله في المعوذتين وقول أبي في سورتي
1
العرب ومن تعلق الناس بالاختلاف فكانوا لا يزالون قد رأوا الرجل يروي الحرف الشاذ ويقرأ بالحرف الذي لا يعرفونه، فرأوا أن تحصينه لا يتم إلا بحمل الناس على المقروء عندهم المشهور فيما بينهم، وأنهم إن لم يشددوا في ذلك لم ينقطع الطمع ولم ينزجر الطير. لأن رجلا من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرة لتبين له في نظامها ومخرجها وفي لفظها وطبعها أنه عاجز عن مثلها، ولو تحدى بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها، وليس ذلك في الحرف والحرفين والكلمة والكلمتين! ألا ترى أن الناس قد كان يتهيأ في طبائعهم ويجري على ألسنتهم أن يقول رجل منهم: الحمد لله وإنا لله وعلى الله توكلنا وربنا الله وحسبنا الله ونعم الوكيل. وهذا كله في القرآن، غير أنه متفرق غير مجتمع. ولو أراد أنطق الناس أن يؤلف من هذا الضرب سورة واحدة طويلة أو قصيرة على نظم القرآن وطبعه وتأليفه ومخرجه لما قدر عليه، ولو استعان بجميع قحطان ومعد بن عدنان. ورأوا بفهمهم وبتوفيق الله تعالى لهم أن يحصنوه مما يشكل ويمكن أن يفتعل مثله من الحرف والحرفين والكلمة والكلمتين. وقد كانوا عرفوا الابتداع الكثير على البلغاء والشعراء وخافوا إن هم لم يتقدموا في ذلك أن يتطرقوا عليه كما تطرقوا على الرواية؛ لأنهم حين رأوا كثرة الرواية في غير ذوي السابقة ورأوا كثرة اختلافها والغرائب التي لا يعرفونها لم يكن لهم إلا تحصين الشيء الذي عليه مدار الأمر وإن كانوا يعلمون أن الله بالغ أمره. فعلى الأئمة أن تحوط هذه الأمة كما حاط السلف أولها، وأن يعملوا بظاهر الحيطة إذ كان على الناس الاجتهاد، وليس عليهم علم الغيوب. وإنما ذلك كنحو رجل أبصر نبيا يحيي الموتى فعرف صدقه، فلما انصرف سأله عنه بعض من لم ير ذلك ولا صح عنده فعليه ألا يكتمه وإن كان يعلم أن الله تعالى سيعلمه ذلك من قبل غيره وأنه عز ذكره سيسمعه صحته على حبه وكرهه. ورأوا أن قراءة زيد أحق بذلك؛ إذ كانت آخر العرض، ولأن الجمع الذين سمعوا آخر العرض أكثر ممن سمع أوله، فحملوا الناس على قراءة زيد دون أبي وعبد الله، وإن كان الكل حقا. إذ كان رب حق في بعض الزمان أقطع للقيل والقال وأجدر أن يميت الخلاف ويحسم الطمع، فتركوا حقا إلى حق العمل به أحق. ولو أن فقيها رأى إطباق العلماء على صوم يوم عرفة واستنكارهم الإفطار فيه فأفطر وأظهر ذلك ليعلمهم موضع الفريضة من النافلة، أو خاف أن يلحق الفرض على تطاول الأيام ما ليس فيه، كان مصيبا، ولكان قد ترك حقا إلى أحق منه. وللحق درجات، وللخلاف درجات، وللحرام درجات. ألا ترى أن لولي المقتول أن يقتل أو يصفح، وأنه إن قتل قتل بحق وإن صفح صفح بحق، والصفح أفضل من القتل. ولو أن رجلا أخرج ساكنا بيتا له أو اقتضى دينا له عند حلول أجله أو طلق زوجته وما دخل بها لكان ذلك له والحق فعل؟ وغير ذلك الحق أولى به؟ وكيف لا يكون أولى به وهو أحسن والثواب فيه أعظم وإلى سلامة الصدور أقرب؟ وقد يكون الأمران حسنين وأحدهما أحسن، وقد يكون الأمران قبيحين وأحدهما أقبح. وبعد، فعلى الناس طاعة الأئمة في كل ما أمروا به إلا فيما تبين أنه معصية، فأما غير ذلك فإنه واجب مفروض ولازم غير مدفوع. وعلموا أيضا أنهم لا يبقون إلى آخر الزمان وأن من يجيء بعدهم لا يقوم مقامهم ولا يفصل الأمور تفصيلهم، ولو عرفوا كمعرفتهم وأرادوا ذلك كإرادتهم لما أطيعوا كطاعتهم. وعلموا أن الأكاذيب والبدع ستكثر، وأن الفتن ستفتح، وأن الفساد سيفشو. فكرهوا أن يجعلوا للمتطرفين علة ولأهل الزيغ حجة، بل لا شك أنهم لو تركوا الناس عامة يقرءون على حرف فلان وكلما أجاز فيه فلان عن فلان لألحق قوم في آخر الزمان بهم من ليس منهم ولا يجري مجراهم ولا يجوز مجازهم.
فصل منه في الاحتجاج للجمع على قراءة زيد
ولو كان زيد من آل أبي العاص أو من عرض بني أمية لوجد ابن مسعود متعلقا، ولو كان بدل زيد عبد الرحمن بن عوف لوجد إلى القول سبيلا، ولو كان (غير) ابن مسعود رجلا من بني هاشم لوجد للطعن موضعا، ولو كان عثمان رضي الله تعالى عنه استبد بذلك الرأي على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وسعد وطلحة والزبير رحمهم الله وجميع المهاجرين والأنصار لوجد للتهمة مساغا. فأما والأمر كما وصفنا وبينا، فما الطاعن على عثمان إلا رجل أخطأ خطة الحق وعجل على صاحبه، ولكل بني آدم من الخطأ نصيب والله عز ذكره يغفر له ويرحمه. والذي يخطئ عثمان في ذلك فقد خطأ عليا وعبد الرحمن وسعدا والزبير وطلحة وما عليه الصحابة. ولو لم يكن ذلك رأي علي لغيره، ولو لم يمكنه التغيير لقال فيه، ولو لم يمكنه في زمن عثمان لأمكنه في زمن نفسه، وكان لا أقل من إظهار الحجة إن لم يملك تحويل الأمة، وكان لا أقل من التجربة إن لم يكن من النجح على ثقة، بل لم يكن لعثمان في ذلك ما لم يكن لجميع الصحابة وأهل القدم والقدوة. ومع أن الوجه فيما صنعوا واضح بل لا نجد لما صنعوا وجها غير الإصابة والاحتياط والإشفاق والنظر للعواقب وحسم طعن الطاعن. ولو لم يكن ما صنعوا لله تعالى فيه رضا لما اجتمع عليه أول هذه الأمة وآخرها. وإن أمرا اجتمعت عليه المعتزلة والشيعة والخوارج والمرجئة لظاهر الصواب واضح البرهان على اختلاف أهوائهم وبغيتهم لكل ما ورد عليهم. فإن قال قائل: هذه الروافض بأسرها تأبى ذلك وتنكره وتطعن فيه وترى تغييره! قلنا: إن الروافض ليست منا بسبيل؛ لأن من كان أذانه غير أذاننا وصلاته غير صلاتنا وطلاقه غير طلاقنا وعتقه غير عتقنا وحجته غير حجتنا وفقهاؤه غير فقهائنا وإمامه غير إمامنا وقراءته غير قراءتنا وحلاله غير حلالنا وحرامه غير حرامنا، فلا نحن منه ولا هو منا. ولأي شيء جانب عن قراءة ابن مسعود؟ فوالله ما كان أحد أفرط في العمرية منه ولا أشد على الشيعة منه! ولقد بلغ من حبه لعمر رضي الله تعالى عنه أن قال: لقد خشيت الله تعالى في حبي لعمر! فلم يحامون عنه وهو كان شجاهم لو أدركهم.
فصل منه : فأمن الله رجلا فارقهم ولزم الجماعة، فإن فيها الأنس والحجة، وترك الفرقة فإن فيها الوحشة والشبهة. والحمد لله الذي جعلنا لا نفرق بين أئمتنا كما جعلنا لا نفرق بين أنبيائنا.
فصل منه : والذي دعانا إلى تأليف حجج الرسول ونظمها وجمع وجوهها وتدوينها أنها متى كانت مجموعة منظومة نشط لحفظها وتفهمها من كان عسى ألا ينشط لجمعها ولا يقدر على نظمها وجمع متفرقها، وعلى اللفظ المؤثر عنها، ومن كان عسى ألا يعرف وجه مطلبها والوقوع عليها، ولعل بعض الناس يعرف بعضها ويجهل بعضها، ولعل بعضهم وإن كان قد عرفها بحقها وصدقها فلم يعرفها من أسهل طرقها وأقرب وجوهها، ولعل بعضهم أن يكون قد كان عرف فنسي أو تهاون بها فعمي، بل لا نشك أنها إذا كانت مجموعة محبرة مستقصاة مفصلة فإنها ستزيد في بصيرة العالم، ويجمع الكل لمن كان لا يعرف إلا البعض ويذكر الناس ويكون عدة على الطاعن، ولعل بعض من ألحد في دينه وعمي عن رشده وأخطأ موضع حظه أن يدعوه العجب بنفسه والثقة بما عنده إلى أن يلتمس قراءتها ليتقدم في نقضها وإفسادها فإذا قرأها فهمها وإذا فهمها انتبه من رقدته وأفاق من سكرته لعز الحق وذل الباطل ولإشراف الحجة على الشبهة، ولأن من تفرد بكتاب فقرأه ليس كمن نازع صاحبه وجافاه؛ لأن الإنسان لا يباهي بنفسه والحق بعد قاهر له، ومع التلاقي يحدث التباهي وفي المحافل يقل الخضوع ويشتد النزوع.
ثم رجع الكلام إلى حاجة الناس إلى استماع الأخبار والتفقه في تصحيح الآثار، فأقول: إن الناس قد استغنوا عن التكرير وكفوا مؤنة البحث والتنقير لقلة اعتبارهم، ومن قل اعتباره قل علمه، ومن قل علمه قل فضله، ومن قل فضله كثر نقصه، ومن قل علمه وفضله وكثر نقصه لم يحمد على خير أتاه ولم يذم على شر جناه ولم يجد طعم العز ولا سرور الظفر ولا روح الرجاء ولا برد اليقين ولا راحة الأمن. وكيف يشكر من لا يقصد، وكيف يلام من لا يتعمد، وكيف يقصد من لا يعلم، وما عسى أن يبلغ قدر سرور من لا يحس من السرور إلا بما سرت به حواسه ومسه جلده! وكيف يأتي أربح الأفعال وأبعد الشرين من ركب شراسة السباع وغباوة البهائم ثم لم يعط الآلة التي بها يستطيع التفرقة بين ما عليه وله والعلم بمصالحه ومفاسده فيقوى بها على عصيان طبائعه ومخالفة شهواته، وبها يعرف عواقب الأمور وما تأتي به الدهور، وفضل لذة القلب على لذة البدن، وأن سرور الجاهل لا يحسن في جنب سرور العالم، وأن لذة البهائم لا تعادل لذة الحكيم العالم. وأي سرور كسرور العز والرياسة واتساع المعرفة وكثرة صواب الرأي والنجح الذي لا سبب له إلا حسن النظر والتقدم في التدبير ثم العلم بالله وحده وأنك بعرض ولايته والجاه عنده وأنه الذي يرعاك ويكفيك، وأنك إذا عملت اليسير أعطاك الكثير، ومتى تركت له الفاني أعطاك الباقي، ومتى أدبرت عنه دعاك، ومتى رجعت إليه اجتباك، ويحمدك على حقك ويعطيك على نظرك لنفسك، ولا يغنيك إلا ليقيك، ولا يميتك إلا ليحييك، ولا يمنعك إلا ليعطيك، وأنه المبتدئ بالنعمة قبل السؤال والناظر لك في كل حال. وهذا كله لا ينال إلا بغريزة العقل، على أن الغريزة لا تنال ذلك بنفسها (بل) بما باشرته حواسها دون النظر والتفكر والبحث والتصفح، ولن ينظر ناظر ولا يفكر مفكر دون الحاجة التي تبعث على الفكرة وعلى طلب الحيلة؛ ولذلك وضع الله تعالى في الإنسان طبيعة الغضب وطبيعة الرضا والبخل والسخاء والجزع والصبر والرياء والإخلاص والكبر والتواضع والسخط والقناعة، فجعلها عروقا، ولن تفي قوة غريزة العقل لجميع قوى طبائعه وشهواته حتى يقيم ما اعوج منها ويسكن ما تحرك دون النظر الطويل الذي يشدها والبحث الشديد الذي يشحذها والتجارب التي تحنكها والفوائد التي تزيد فيها، ولن يكثر النظر حتى تكثر الخواطر، ولن تكثر الخواطر حتى تكثر الحوائج، ولن تبعد الروية إلا لبعد الغاية وشدة الحاجة.
ولو أن الناس تركوا وقدر قوى غرائزهم ولم يهاجوا بالحاجة على طلب مصلحتهم والتفكر في معاشهم وعواقب أمورهم وألجئوا إلى قدر خواطرهم التي تولدها مباشرة حواسهم دون أن يسمعهم الله خواطر الأولين وأدب السلف المتقدمين وكتب رب العالمين، لما أدركوا من العلم إلا اليسير ولما ميزوا من الأمور إلا القليل. ولولا أن الله تعالى أراد تشريف العالم وتربيته وتسويد العاقل ورفع قدره وأن يجعله حكيما وبالعواقب عليما لما سخر له كل شيء ولم يسخره لشيء ولما طبعه الطبع الذي يجيء منه أريب حكيم وعالم حليم، كما أنه - عز ذكره - لو أراد أن يكون الطفل عاقلا والمجنون عالما لطبعهم طبع العاقل ولسواهم تسوية العالم، كما أراد أن يكون السبع وثابا والحديد قاطعا والسم قاتلا والغذاء مقيما، فكذلك أراد أن يكون المطبوع على المعرفة عالما والمهيأ للحكمة حكيما وذو الدليل مستدلا وذو النعمة مستنفعا بها. فلما علم الله - تبارك وتعالى - أن الناس لا يدركون مصالحهم بأنفسهم ولا يشعرون بعواقب أمورهم بغرائزهم دون أن يرد عليهم آداب المرسلين وكتب الأولين والإخبار عن القرون والجبابرة الماضين، طبع كل قرن من الناس على إخبار من يليه ووضع القرن الثاني دليلا يعلم به صدق خبر الأول؛ لأن كثرة السماع للأخبار العجيبة والمعاني الغريبة مشحذة للأذهان ومادة للقلوب وسبب للتفكير وعلة للتنقير عن الأمور، وأكثر الناس سماعا أكثرهم خواطر، وأكثرهم خواطر أكثرهم تفكرا، وأكثرهم تفكرا أكثرهم علما، وأكثرهم علما أرجحهم عملا، كما أن أكثر البصراء رؤية للأعاجيب أكثرهم تجارب! ولذلك صار البصير أكثر خواطر من الأعمى، وصار البصير السميع أكثر خواطر من البصير الأصم. وعلى قدر شدة الحاجة تكون الحركة، وعلى قدر ضعف الحاجة يكون السكون. كما أن الراجي والخائف دائبان، والآيس والآمن وادعان. وإذا كان الله تعالى لم يخلق عباده في طبع عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا وآدم أبي البشر صلوات اللهم عليهم أجمعين، وخلقهم ناقصين وعن درك مصالحهم عاجزين، وأراد منهم العبادة وكلفهم الطاعة وترك العيان للأمل البعيد، وأرسل إليهم رسله وبعث فيهم أنبياءه وقال:
لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، ولم يشهد أكثر عباده حجج رسله عليهم السلام ولا أحضرهم عجائب أنبيائه ولا أسمعهم احتجاجهم ولا أراهم تدبيرهم، لم يكن بد من أن يطلع المعاينين على أخبار الغائبين، وأن يسخر أسماع الغائبين لأخبار المعاندين، وأن يخالف بين طبائع المخبرين وعلل الناقلين، ليدل السامعين ومن يحبب من الناس. على أن العدد الكثير المختلفي العلل المتضادي الأسباب المتفاوتي الهمم لا يتفقون على تخرص الخبر في المعنى الواحد، وكما لا يتفقون على تخرص الخبر في المعنى الواحد على غير التلاقي والتراسل إلا وهو حق فكذلك لا يمكن مثلهم في مثل عللهم التلاقي عليه والتراسل فيه، ولو كان تلاقيهم ممكنا وتراسلهم جائزا لظهر ذلك وفشا واستفاض وبدا، ولو كان ذلك أيضا ممكنا وكان قولا متوهما لبطلت الحجة ولنقضت العادة ولفسدت العبرة ولعادت النفس بعلة الأخبار جاهلة، ولكان للناس على الله أعظم الحجة وقد قال الله عز وجل:
لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
إذا كلفهم طاعة رسله وتصديق أنبيائه ورسله وكتبه والإيمان بجنته وناره ولم يضع لهم دليلا على صدق الأخبار وامتناع الغلط في الآثار، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
واعلم أن الله تعالى إنما خالف بين طبائع الناس ليوفق بينهم، ولم يحب أن يوفق بينهم فيما يخالف مصلحتهم؛ لأن الناس لو لم يكونوا مسخرين بالأسباب المختلفة وكانوا مجبرين في الأمور المتفقة والمختلفة لجاز أن يختاروا بأجمعهم الملك والسياسة، وفي هذا ذهاب العيش وبطلان المصلحة والبوار والتواء، ولو لم يكونوا مسخرين بالأسباب مرتهنين بالعلل لرغبوا عن الحجامة أجمعين وعن البيطرة والقصابة والدباغة. ولكن لكل صنف من الناس مزين عندهم ما هم فيه ومسهل ذلك عليهم. فالحائك إذا رأى تقصيرا من صاحبه أو سوء حذق أو خرقا قال له: يا حجام، والحجام إذا رأى تقصيرا من صاحبه قال له: يا حائك. ولذلك لم يجمعوا على إسلام أبنائهم في غير الحياكة والحجامة والبيطرة والقصابة. ولولا أن الله تعالى أراد أن يجعل الاختلاف سببا للاتفاق والائتلاف لما جعل واحدا قصيرا وآخر طويلا، وواحدا حسنا والآخر قبيحا، وواحدا غنيا وآخر فقيرا، وواحدا عاقلا وآخر مجنونا، وواحدا زكيا وآخر غبيا، ولكن خالف بينهم ليختبرهم، وبالاختبار يطيعون وبالطاعة يسعدون، ففرق بينهم ليجمعهم وأحب أن يجمعهم على الطاعة ليجمعهم على المثوبة. فسبحانه وتعالى ما أحسن ما أبلى وأولى وأحكم ما صنع وأتقن ما دبر؛ لأن الناس لو رغبوا كلهم عن عار الحياكة لبقينا عراة، ولو رغبوا بأجمعهم عن كد البناء لبقينا بالعراء، ولو رغبوا عن الفلاحة لذهبت الأقوات ولبطل أصل المعاش، فسخرهم على غير إكراه ورغبهم من غير دعاء. ولولا اختلاف طبائع الناس وعللهم لما اختاروا من الأشياء إلا أحسنها ومن البلاد إلا أعدلها ومن الأمصار إلا أوسطها، ولو كان كذلك لتناجزوا على طلب الواسط وتشاجروا على البلاد العليا ولما وسعهم بلد ولما تم بينهم صلح، فقد صار بهم التسخير إلى غاية القناعة. وكيف لا يكون كذلك وأنت لو حولت ساكني الآجام إلى الفيافي وساكني السهل إلى الجبال وساكني الجبال إلى البحار وساكني الوبر إلى المدر لأذاب قلوبهم الهم ولأتى عليهم فرط النزاع. وقد قيل: عمر الله البلدان بحب الأوطان. وقال عبد الله بن الزبير رحمه الله تعالى: ليس الناس بشيء من أقسامهم أقنع منهم بأوطانهم. وقال معاوية في قوم من اليمن رجعوا إلى بلادهم بعد أن أنزلهم من الشام منزلا خصيبا وفرض لهم في شئون العطاء: يصلون أوطانهم بقطيعة أنفسهم. وقال الله جل وعز:
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ، فقرن الضن بالأوطان إلى الضن بمهج النفوس. وليس على ظهرها إنسان إلا وهو معجب بعقله لا يسره أن له - بجميع ماله - ما لغيره، ولولا ذلك لماتوا كمدا ولذابوا حسدا. ولكن كل إنسان وإن كان يرى أنه حاسد في شيء فهو يرى أنه محسود في شيء.
ولولا اختلاف الأسباب لتنازعوا بلدة واحدة واسما واحدا وكنية واحدة؛ فقد صاروا - كما ترى - مع اختيار الأشياء المختلفة إلى الأسماء القبيحة والألقاب السمجة، والأسماء مبذولة والصناعات مباحة والمتاجر مطلقة ووجوه الطرق مخلاة، ولكنها مطلقة في الظاهر مقسمة في الباطن، وإن كانوا لا يشعرون بالذي دبره الحكيم من ذلك ولا بالمصلحة فيه. فسبحان من حبب إلى واحد أن يسمي ابنه محمدا وحبب إلى آخر أن يسميه شيطانا وحبب إلى آخر أن يسميه عبد الله وحبب إلى آخر أن يسميه حمارا؛ لأن الناس لو لم يخالف بين عللهم في اختيار الأسماء وجاز أن يجتمعوا على شيء واحد كان في ذلك بطلان العلامات وفساد المعاملات. وأنت إذا رأيت ألوانهم وشمائلهم واختلاف صورهم وسمعت لغاتهم ونغمهم علمت أن طبائعهم وعللهم المحجوبة الباطنة على حسب أمورهم الظاهرة. وبعض الناس وإن كانوا مسخرين للحياكة، فليس بمسخر للفسق والخيانة والأحكام والصدق والأمانة. وقد يسخر الملك لقوم بأسباب قديمة وأسباب حديثة فلا يزال ذلك الملك مقصورا عليهم ما دامت تلك الأسباب قائمة، فليس إذا كانوا للملك مسخرين وكان الناس لهم مسخرين بالجبرية والنخوة والفظاظة والقسوة ولطول الاحتجاب والاستتار وسوء اللقاء والتضييع. وقد يكون الإنسان مسخرا لأمر ومخيرا في آخر، ولولا الأمر والنهي لجاز التسخير في دقيق الأمور وجليلها وخفيها وظاهرها؛ لأن بني الإنسان إنما سخروا له إرادة العائدة عليهم ولم يسخروا للمعصية كما لم يسخروا للمفسدة. وقد تستوي الأسباب في مواضع وتتفاوت في مواضع. كل ذلك ليجمع الله تعالى لهم مصالح الدنيا ومراشد الدين. ألا ترى أن أمة قد اجتمعت على أن عيسى عليه السلام هو الله، وأمة قد اجتمعت على أنه ابن الله، وأمة اجتمعت على أن الآلهة ثلاثة عيسى أحدهم، ومنهم من يتذبذب، ومنهم من يتدهر، ومنهم من يتحول نسطوريا بعد أن كان يعقوبيا، ومنهم من أسلم بعد أن كان نصرانيا! ولست واجدا هذه الأمة مع اختلاف مذاهبها وكثرة تنقلها انتقلت مرة واختلفت مرة متعمدة أو ناسية في يوم واحد فجعلته وهو الجمعة يوم السبت، ولم تخطب في يوم جمعة بخطبة يوم خميس، ولا غلطت في كانون الأول فجعلته كانون الآخر، ولا بين الصوم والإفطار؛ لأن الباب الأول في باب الإمكان وتعديل الأسباب والامتحان، والباب الثاني داخل في باب الامتناع وتسخير النفوس وطرح الامتحان. وقد زعم ناس من الجهال ونفر من الشكاك - ممن يزعم أن الشك واجب في كل شيء إلا في العيان - أن أهل المنصورة وافوا مصلاهم يوم خميس على أنه يوم الجمعة في زمن منصوري، وأن أهل البحرين جلسوا عن مصلاهم يوم الجمعة على أنه يوم خميس في زمن أبي جعفر، فبعث إليهم وقومهم. وهذا لا يجوز ولا يمكن في أهل الأمصار ولا في العدد الكثير من أهل القرى؛ لأن الناس من بين صانع لا يأخذ أجرته ولا راحة له دون الجمعة، وبين تجار قد اعتادوا الدعة في الجمع والجلوس عن الأسواق، ومن بين معلم كتاب لا يصرف غلمانه إلا في الجمع، ومن بين معني بالجمع يتلاقى هناك مع المعارف والإخوان والجلساء، وبين معني بالجمع حرصا على الصلاة ورغبة في الثواب، ومن رجل عليه موعد ينتظره، ومن صيرفي يصرف ذلك اليوم سفاتجه وكتب أصحابه، ومن جندي فهو يعرف بذلك نوبته، وبعض كالسؤال والمساكين والقصاص الذين يمدون أعناقهم للجمعة انتظارا للصدقة والفائدة، في أمور كثيرة وأسباب مشهورة. ولو جاز ذلك في أهل البحرين والمنصورة لجاز ذلك على أهل البصرة والكوفة، ولو جاز ذلك في الأيام لكان في الشهور أجوز، ولو جاز ذلك في الشهور لكان في السنين أجوز ، وفي ذلك فساد الحج والصوم والصلاة والزكاة والأعياد. ولو كان ذلك جائزا لجاز أن يتفق الشعراء على قصيدة واحدة، والخطباء على خطبة واحدة، والكتاب على رسالة واحدة، بل جميع الناس على لفظة واحدة. وإنما نزلت لك حالات الناس وخبرتك عن طبائعهم وفسرت لك عللهم لتعلم أن العدد الكثير لا يتفقون على تخرص الخبر الواحد في المعنى الواحد في الزمن الواحد على غير التشاعر فيكون باطلا، وسأبين لك موضع اختلافهم واتفاقهم وأنه لم يخالف بينهم في بعض الوجوه إلا إرهاصا لمصلحتهم ولتصح أخبارهم. ألا ترى أن أحدا لم يبع قط سلعة بدرهم إلا وهو يرى أن ذلك الدرهم خير له من سلعته، ولم يشتر قط سلعة بدرهم إلا وهو يرى أن تلك السلعة خير له من درهمه، ولو كان صاحب السلعة يرى في سلعته ما يرى فيها صاحب الدرهم وكان صاحب الدرهم يرى في الدرهم ما يرى فيه صاحب السلعة ما اتفق بينهما شراء أبدا ولا بيع أبدا، وفي هذا جميع المفسدة وغاية الهلكة. فسبحان الذي حبب إلينا ما في أيدي غيرنا وحبب إلى غيرنا ما في أيدينا ليقع التبايع، وإذا وقع التبايع وقع الترابح، وإذا وقع الترابح وقع التعايش. ويدلك أيضا على اختلاف طبائعهم وأسبابهم أنك تجد الجماعة وبين أيديهم الفاكهة والرطب فلا تجد يدين تلتقيان على رطبة بعينها وكل واحد من الجميع يرى ما حواه الطبق غير أن شهوته وقعت على واحدة غير التي آثرها صاحبه، ولربما سبق الرجل إلى الواحدة وقد كان صاحبه يريدها في نفسه غير أن ذلك لا يكون إلا في الفرط، ولو كانت شهواتهم ودواعيهم تتفق على واحدة بعينها لكان في ذلك التمانع والتجاذب والمبادرة وسوء المخالطة والمؤاكلة. وكذلك هو في شهوة النساء والإماء والمراكب والكسا. وهذا كثير والعلم به قليل، وبأقل مما قلنا يعرف العاقل صواب مذهبنا، والله تعالى نسأل التوفيق. وهو الذي خالف بين طبائعهم وأسبابهم حتى لا يتفق على تخرص خبر واحد؛ لأن في اتفاق طبائعهم وأسبابهم في جهة الأخبار فساد أمورهم وقلة فوائدهم واعتبارهم، وفي فساد أخبارهم فساد متاجرهم والعلم بما غاب عن أبصارهم وبطلان المعرفة بأنبيائهم ورسلهم عليهم السلام ووعدهم ووعيدهم وأمرهم ونهيهم وزجرهم ورغبتهم وحدودهم وقصاصهم الذي هو حياتهم، والذي يعدل طبائعهم ويسوي أخلاقهم ويقوي أسبابهم والذي به يتمانعون من تواثب السباع وقلة احتراس البهائم وإضاعة الأعمار، وبه تكثر خواطرهم وتفكيرهم وتحسن معرفتهم.
ولم نقل إن العدد الكثير لا يجتمعون على الخبر الباطل كالتكذيب والتصديق، ونحن قد نجد اليهود والنصارى والمجوس والزنادقة والدهرية وعباد البددة يكذبون النبي
صلى الله عليه وسلم
وينكرون آياته وأعلامه، ويقولون لم يأت بشيء ولا بان بشيء. وإنما قلنا إن العدد الكثير لا يتفقون على نفي مثل إخبارهم أن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب التهامي الأبطحي عليه السلام خرج بمكة ودعا إلى كذا وأمر بكذا ونهى عن كذا وأباح كذا وجاء بهذا الكتاب الذي نقرؤه فوجب العمل بما فيه وأنه تحدى البلغاء والخطباء والشعراء بنظمه وتأليفه في المواضع الكثيرة والمحافل العظيمة فلم يرم ذلك أحد ولا تكلفه ولا أتى ببعضه ولا شبيه منه ولا ادعى أنه قد فعل، فيكون ذلك الخبر باطلا. وليس قول جمعهم إنه كان كاذبا معارضة لهذا الخبر إلا أن يسموا الإنكار معارضة، وإنما المعارضة مثل الموازنة والمكايلة، فمتى قابلونا بأخبار في وزن أخبارنا ومخرجها ومجيئها فقد عارضونا ووازنونا وكايلونا وقد تكافينا وتدافعنا. فأما الإنكار فليس بحجة كما أن الإقرار ليس بحجة، ولا تصديقنا النبي
صلى الله عليه وسلم
حجة على غيرنا ولا تكذيب غيرنا له حجة علينا، وإنما الحجة في المجيء الذي لا يمكن في الباطل مثله.
فإن قلت: وأي مجيء أثبت (من) خبر النصارى عن عيسى بن مريم عليه السلام! وذلك أنك لو سألت النصارى مجتمعين ومتفرقين لخبروك عن أسلافهم أن عيسى قد قال: إني إله؟
قلنا: قد علمنا أن نصارى عصرنا لم يكذبوا على القرن الذي كان قبلهم والذين كانوا يلونهم، ولكن الدليل على أن أصل خبرهم ليس كفرعه أن عيسى عليه السلام لو قال: «إني إله » لما أعطاه الله تعالى إحياء الموتى والمشي على الماء! على أن في عيسى عليه السلام دلالة في نفسه أنه ليس بإله وأنه عبد مدبر ومقهور ميسر. وليس خبرهم هذا إلا كإخبار النصارى عن آبائهم والقرن الذي يليهم أن بولس قد كان جاء بالآيات والعلامات، وكإخبار المانوية عن القرن الذي كان يليهم منهم أن ماني قد كان جاءهم بالآيات والعلامات، وكإخبار المجوس عن آبائهم والذين كانوا يلونهم أن زرادشت قد جاءهم بالآيات والعلامات. وقد علمنا أن هؤلاء النصارى لم يكذبوا على القرن الذي كان يليهم ولا الزنادقة ولا المجوس، ولكن الدليل على أصل خبرهم ليس كفرعه؛ لأن الله تعالى جل وعز لا يعطي العلامات من لا يعرفه؛ لأن بولس إن كان عنده أن عيسى عليه السلام إله فهو لا يعرف الله تعالى، بل لا يعرف الربوبية من العبودية والبشرية من الإلهية.
فصل منه : وللنصارى خاصة رياء عجيب وظاهر زهد، والناس أبطأ شيء عن التصفح وأسرع شيء إلى تقليد صاحب السن والسمت، وظاهر العمل أدعى لهم من العلم.
فصل منه على ذكرهم : وكل قوم بنوا على حب الأشكال والشغف بالرجال يشتد وجدهم به وحبهم له حتى ينقلب الحب عشقا والوجد صبابة، للمشاكلة التي بين النفوس، وعلى قدر ذلك يكون البغض والحقد؛ لأن النصارى حين جعلوا ربهم إنسانا مثلهم بخعت نفوسهم بإلاهيتهم له لتوهمهم الربوبية، وسمحت بالمودة لتوهمهم البشرية؛ فلذلك قدروا من العبادة على ما لم يقدر عليه سواهم، وبمثل هذا السبب صارت المشبهة منا أعبد ممن ينفي التشبيه، حتى ربما رأيت المشبه يتنفس من الشوق إليه ويشهق عند ذكر الزيارة ويبكي عند ذكر الرؤية ويغشى عليه عند ذكر رفع الحجب! وما ظنك بشوق من طمع في مجالسة ربه جل جلاله ومحادثة خالقه عز ذكره؟! ولقد غالت القوم غول ودعاهم أمر فانظر ما هو. وإن سألتني عنه خبرتك أنما هو نتيجة أحد أمرين: إما تقليد الرجال، وإما طلب تعظيمهم؛ ولذلك السبب لم ترض اليهود من إنكار حق عيسى بتكذيبه حتى طلبت قتله وصلبه والمثلة به، ثم لم ترض بذلك حتى زعمت أنه لغير رشدة، فلو كانت دون هذه المنزلة منزلة لما انتهت اليهود دون بلوغها، ولو كانت فوق ما قالت النصارى منزلة لما انتهت دون غايتها. وبذلك السبب صارت الرافضة أشد صبابة وتحرقا وأفرط غضبا وأدوم حقدا وأحسن تواصلا من غيرهم أيضا. ورب خبر قد كان فاشيا فدخل عليه من العلل ما منعه من الشهرة، ورب خبر ضعيف الأصل واهن المخرج قد تهيأ له من الأسباب ما يوجب الشهرة.
فصل منه : واعلم أن لأكثر الشعر ظعنا وحظوظا، كالبيت يحظى ويسير حتى يحظى صاحبه بحظه، وغيره من الشعر أجود منه. وكالمثل يحظى ويسير وغيره من الأمثال أجود. وما ضاع من كلام الناس وضل أكثر مما حفظ وحكي. واعتبر ذلك من نفسك وصديقك وجليسك. وأمر الأسباب عجيب، ومن ذلك قتل علي بن أبي طالب من السادة والقادة والحماة ما عسى لو ذكرته لاستكبرته واستعظمته، فأضرب الناس عن ذكرهم وجهلت العوام مواضعهم وأخذوا في ذكر عمرو بن عبد ود فرفعوه فوق كل فارس مشهور وقائد مذكور. وقد قرأت على العلماء كتاب الفجار الأول والثاني والثالث وأمر المطيبين والأحلاف ومقبل أبي أزيهر ومجيء الفيل وكل يوم جمع كان لقريش فما سمعت لعمرو هذا في شيء من ذلك ذكرا.
فإن قلت: إن نبل القاتل زيادة في نبل المقتول، فكل من قتله علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى عليه أنبل منه وأحق بالشهرة، ولكن أشعار ابن ود ومناقلة الصبيان في الكتاب هما اللتان أورثتاه ما ترى وتسمع.
فصل منه في أمر الأخبار : وإنما ذكرت هذا لتعلم أن الخبر قد يكون أصله ضعيفا ثم يعود قويا ويكون أصله قويا فيعود ضعيفا، للذي يعتريه من الأسباب ويحل به من الأعراض من لدن مخرجه وفصوله إلى أن يبلغ مدته ومنتهى أجله وغاية التدبير فيه والمصلحة عليه. فلما كان هذا مخوفا وكان غير مأمون على المتقادم منه، وضع الله تعالى لنا على رأس كل فترة علامة، وعلى غاية كل مدة أمارة، ليعيد قوة الخبر ويجدد ما قد هم بالدروس من أنباء المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين؛ لأن نوحا عليه السلام هو الذي جدد الأخبار التي كانت في الدهر الذي بينه وبين آدم عليه السلام حتى منعها الخلل وحماها النقصان بالشواهد الصادقة والأمارات القائمة. وليس أن أخبارهم وحججهم قد كانت درست وأخلت! بل حين همت بذلك وكادت، بعثه الله عز وجل بآياته لئلا تخلو الأرض من حججه؛ ولذلك سموا آخر الدهر الفترة، وبين الفترة والقطعة فرق، فاعرف ذلك. ثم بعث الله عز وجل إبراهيم عليه السلام على رأس الفترة الثانية التي كانت بينه وبين دهر نوح، وإنما جعلها الله تعالى أطول فترة كانت في الأرض لأن نوحا كان لبث في قومه يحتج ويخبر ويؤكد ويبين ألف سنة إلا خمسين عاما، ولأن آخر آياته كانت أعظم الآيات وهي الطوفان الذي أغرق الله تعالى به جميع أهل الأرض، غيره وغير شيعته، وإنما فار الماء من جوف تنور ليكون أعجب للآية وأشهر للقصة وأثبت للحجة. ثم ما زالت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بعضهم على أثر بعض في الدهر الذي بين إبراهيم وبين عيسى عليهما السلام، فلترادف حججهم وتظاهر أعلامهم وكثرة أخبارهم واستفاضة أمورهم ولشدة ما تأكد ذلك في القلوب ورسخ في النفوس وظهر على الألسنة لم يدخلها الخلل والنقص والفساد في الدهر الذي كان بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين عيسى عليه السلام، فحين همت بالضعف وكادت تنقص عن التمام وانتهت قوتها بعث الله تعالى محمدا
صلى الله عليه وسلم
فجدد أقاصيص آدم ونوح وموسى وهرون وعيسى ويحيى عليهم السلام وأمورا بين ذلك، وهو الصادق بالشواهد الصادقة، وأن الساعة آتية وأنه ختم الرسل عليهم السلام به، فعلمنا عند ذلك أن حجته ستبقى إلى مدتها وبلوغ أمر الله عز وجل فيها.
فصل منه : ثم رجع الكلام إلى القول في الأخبار فأقول: إن الناس موكلون بحكاية كل عجيب، وميسرون للإخبار عن كل عظيم، وليسوا للحسن أحكى منهم للقبيح، ولا لما ينفع أحكى منهم لما يضر، وعلى قدر كبر الشيخ تكون حكايتهم له واستماعهم منه. ألا ترى أن رجلا من الخلفاء لو ضرب عنق رجل من العظماء لما أمسى وفي عسكره أو بلدته جاهل ولا عالم إلا وقد استقر ذلك عنده وثبت في قلبه؛ لأن الناس بين حاسد فهو يحكي ذلك الذي دخل عليه من الثكل وقلة العدد، وبين واجد يعجب الناس، وبين واعظ معتبر، وبين قوم شأنهم الأراجيف بالفاسد والصالح. ولو كان ضرب عنقه في يوم عيد أو حلبة أو استمطار أو موسم لكان أشد لاستفاضته وأسرع لظهوره، ولو جاز أن يكتم الناس هذا وشبهه على الإيثار للكتمان وعلى جهة النسيان لكنا لا ندري لعله قد كان في زمن صفين والجمل والنهروان حرب مثلها أو أشد منها ولكن الناس آثروا الكتمان واتفقوا على النسيان. فإذا كان قتل الملك للرجل من العظماء بهذه المنزلة من قلوب الأعداء ومن قلوب الحكماء والغوغاء، فما ظنك بمن لو أبصروا رجلا قد أحياه بعد أن ضرب عنقه وأبان رأسه من جسده! أليس يكون تعجبهم من إحيائه أشد من تعجبهم من قتله؟! وكان يكون إخبارهم من خلفوا في منازلهم ومن ورد عليهم عن القتل ليكون سببا للإخبار عن الإحياء؛ إذ كان الأول صغيرا في جنب الثاني! فهذا يدل على أن أعلام الرسل عليهم الصلاة والسلام وآياتهم أحق بالظهور والشهرة والقهر للقلوب والأسماع من مخارجهم وشرائعهم. بل قد نعلم أن موسى عليه السلام لم يذكر ولم يشهر إلا لأعاجيبه وآياته، وكذلك عيسى عليه السلام، ولولا ذلك لما كانا إلا كغيرهما ممن لا يشعر بموته ولا مولده. وكيف تتقدم المعرفة بهما المعرفة بأعلامها وأعاجيبهما وأنت لم تسمع بذكرهما قط دون ما ذكر من أعلامهما! فإذا كان شأن الناس الإخبار عن كل عجيب وحكاية كل عظيم والإطراف بكل طريف وإيراد كل غريب من أمور دنياهم، فما لا يمتنع في طبائعهم ولا يخرج من قوى الخليقة في البطش والحيلة أحق بالإخبار والإذاعة وبالإظهار والإفاضة. هذا على أن يترك الطباع وما تولد عليه والنفوس وما تنتج والعلل وما يسخر، فكيف إن كان الله عز وجل قد خص أعلام أنبيائه وآيات رسله عليهم السلام من تهييج الناس على الإخبار عنها ومن تسخير الأسماع لحفظها بخاصة لم يجعلها لغيرها.
فصل منه : فإن قال قائل: إن الحجة لا تكون حجة حتى تعجز الخليقة وتخرج من حد الطاقة كإحياء الموتى والمشي على الماء وكفلق البحر وكإطعام الثمار في غير أوان الثمار وكإنطاق السباع وإشباع الكثير من القليل، وكل ما كان جسما مخترعا وجرما مبتدعا، وكالذي لا يجوز أن يتولاه إلا الخالق ولا يقدر عليه إلا الله عز وجل ذكره. فأما الأخبار التي هي أفعال العباد وهم تولوها وبهم كانت وبقولهم حدثت، فلا يجوز أن يكون حجة؛ إذ كان لا حجة إلا ما لا يقدر عليه الخليقة وما لا يتوهم من جميع البرية!
قلنا: إنا لم نزعم أن الأخبار حجة فيحتجوا علينا بها، وإنما زعمنا أن مجيئها حجة، والمجيء ليس هو أمرا يتكلفه الناس ويختارونه على غيره، ولو كان كذلك لكانوا متى أرادوه فعلوه وتهيئوا له، ولفعلوه في الباطل كما يجيء لهم في الحق. والمجيء أيضا ليس هو فعلا قائما فيستطيعوه أو يعجزوا عنه، وإنما هو أن الإنسان يعلم أنه إذا لقي البصريين فأخبروه أنهم قد عاينوا بمكة شيئا ثم لقي الكوفيين فأخبروه بمثل ذلك، أنهم قد صدقوا؛ إذ كان مثلهم لا يتواطأ على مثل خبرهم على جهلهم بالغيب وعلى اختلاف طبائعهم وهممهم وأسبابهم. فليس بين هذا وبين إحياء الموتى والمشي على الماء فرق؛ إذ كان الناس لا يقدرون عليه ولا يطمعون فيه. والمجيء إنما هو معنى معقول وشيء موهوم إذا كان وكيف يكون، ومعلوم أن الناس لا يمكنهم أن يقدروا عليه ولا يستطيعون فعله، وإنما مدار أمر الحجة على عجز الخليقة، فمتى وجدت أمرا ووجدت الخليقة عاجزة عنه فهي حجة، ثم لا عليك جوهرا كان أو عرضا أو موجودا أو متوهما أو معقولا، ألا ترى أن فلق البحر ليس هو من جنس اختراع الثمار؟ لأن الفلق هو انفراج أجزاء والثمار أجرام حادثة! وكذلك لو ادعى رجل أن الله عز وجل أرسله فجعل حجته علينا الإخبار بما أكلنا وادخرنا وأضمرنا لكان قد احتج علينا.
فإن قلت: إن المنجمين ربما أخبروا بالضمير وبالأمر المستور وببعض ما يكون.
قلنا: هناك فرق، فإن خطأ المنجمين كثير وصوابهم قليل، بل هو أقل من القليل. وأنتم لا تقدرون أن تقفوا من إخبار المرسلين عليهم السلام في كثير إخبارهم على خطأ واحد. والذي سهل قليل المنجمين طرافة ذلك منهم؛ لأنهم لو قالوا فأخطئوا أبدا لما كان عجبا، لأنه ليس بعجب أن يكون الناس لا يعلمون ما يكون قبل أن يكون، ومن أعجب العجب أن يوافق قولهم بعض ما يكون، وقد نجد المنجمين يختلفون في القضية الواحدة ويخطئون في أكثرها. وقد نجد الرسول يخبرهم عما يأكلون ويشربون ويدخرون ويضمرون في الأمور الكثيرة المعاني والمختلفة في الوجوه حتى لا يخطئ في شيء من ذلك. وليس في الأرض منجم ذكر شيئا أو وافق ضميرا إلا وأنت واجد بعض من يزجر قد يجيء بمثله وأكثر منه.
فإن قلت: إن الناس يكذبون في الإخبار عن الأعراب والكهان من كل جيل!
قلنا: فهم في إخبارهم عن المنجمين أكذب. وبعد، فالناس غير مستعظمين لكثرة كذب المنجمين وخطئهم وخدعهم، والناس يستعظمون اليسير من المرسلين عليهم والسلام. وكلما كان الرجل في عينك أعظم وكان عن الكذب أزجر كان كذبه عندك أعظم. وإنما المنجم عند العوام كالطبيب الذي إن قتل المريض علاجه كان عندهم أن القضاء هو الذي قتله، وإن برأ كان هو أبرأه. على أن صوابهم أكثر ودليلهم أظهر. وقد صار الناس لا يقتصرون للمنجمين على قدر ما يسمعون منهم دون أن يولدوا لهم ويضعوا الأعاجيب على ألسنتهم، وكل ملحد في الأرض (مبغض) للرسول طاعن عليه عائب له، يرى أن يصدق عليه كل كذاب يريد ذمه، وأن يكذب كل صادق يريد مدحه.
وبعد، فلو كان خبر المنجمين في الصواب كخبر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام الذي هو حجة لما كان خبر المنجمين حجة.
فإن قلت: ولم ذاك ؟ قلت: لأن من كثر صوابه على غير استدلال ومقايسة وعلى غير حساب وتجربة أو على نظر ومعاينة، لم يكن الأمر من قبل الوحي؛ لأنك لو قلت قصيدة في نفسك فحدثك بها رجل وأنت تعلم أنه ليس بمنجم وأنشدكها كلها، لعلمت أن ذلك لا يكون إلا بوحي. ومثل ذلك رجل اشتد وجع عينه فعالجه طبيب فبرئ، فلو جعل الطبيب ذلك حجة على نبوته لوجب علينا تكذيبه، ولو قال رجل من غير أن يمسه أو يدنو إليه: اللهم إن كنت صادقا عليك فاشفه الساعة! فبرئ من ساعته، لعلمنا أنه صادق. فإن قالوا: وما علمنا أن محمدا عليه الصلاة والسلام لم يكن منجما؟ قلنا: إن علمنا بذلك كعلمنا بأن العباس وحمزة وعليا وأبا بكر وعمر رضوان الله عليهم أجمعين لم يكونوا منجمين ولا أطباء متكهنين. وكيف يجوز أن يصير إنسان عالما بالنجوم من غير أن يختلف إلى المنجمين أو يختلفوا إليه أو يكون علم النجوم فاشيا في أهل بلاده أو يكون في أهله واحد معروف به، ولو بلغ إنسان في علم النجوم وليست معه علة من هذه العلل وكان ذلك يخفى لكان ذلك كبعض الآيات والعلامات! ومتى رأينا حاذقا بالكلام أو بالطب أو بالحساب أو بالغناء أو بالنجوم أو بالعروض خفي على الناس موضعه وسببه وجميع ما ذكرنا! فعناية الناس به وعداوتهم له وشهرته في نفسه دون محمد
صلى الله عليه وسلم . وهل نسب أحد قط لأحد إلا دون ما نسبه له رهطه وأداني أهله ومن معه في بيته وربعه؟ وما أعرف - يرحمك الله - المعاند والمسترشد والمصدق والمكذب ينكر أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
لم يكن منجما ولا طبيبا، وإذا قال الجاهل إنه قد كان يعلم الخط فخفي له ذلك، وتعلم الأسباب والقضاء في النجوم فخفي له ذلك، وتعلم البيان وقدر منه على ما يعجز أمثاله عنه وخفي ذلك، أليس مع قوله ما يعلم خلافه يعلم أنه قد سلم له أعجوبة كأعجوبة إبراء الأكمه والأبرص والمشي على الماء؟ إذ كان ذلك لا يجوز ولا يمكن في الطبائع والعقل والتجربة.
وافهم - يرحمك الله - ما أنا واصفه لك، هل يجد التارك لصديقه أنه لا يدري بزعمه لعله كان أعلم الخلق بالنجوم ناظرا لنفسه غير معاند لحجة عقله، وهو لم يجد أحدا قط برع في صناعة واحدة فخفي على الناس موضعه بكل ما حكينا وفسرنا؟ وأنت كيف تعلم أنه ليس في إخوانك من ليس بمنجم وأن فيهم من ليس بطبيب إلا بمثل ما يعرف به رهط النبي
صلى الله عليه وسلم
وآله منه! وكيف لم يشتهر ذلك، ولم لم يحتج به عليه! ولقد بلغ من إسرافهم في شتمه وإفراطهم عليه أن نافقوا وأحالوا؛ لأنهم كانوا يقولون له أنت ساحر وأنت مجنون، وإنما يقال للرجل ساحر لخلابته وحسن بيانه ولطف مكائده وجودة مداراته وتحببه، ويقال مجنون لضد ذلك كله.
فصل منه : وليس ينتفع الناس بالكلام في الأخبار إلا مع التصادق، ولا تصادق إلا مع كثرة السماع والعلم بالأصول؛ لأن رجلا لو نازع في الأخبار وفي الوعد والوعيد والخاص والعام والناسخ والمنسوخ والفريضة والنافلة والسنة والشريعة والاجتماع والفرقة، ثم حسنت نيته وناصح عن نفسه، لما عرف حقائق باطل دون أن يكون قد عرف الوجوه وسمع الجمل وعرف الموازنة وما كان في الطبائع وما يمتنع فيها، وكيف أيضا يقول في التأويل من لم يسمع بالتنزيل، وكيف يعرف صدق الخبر من لم يعرف سبب الصدق؟
واعلم أن من عود قلبه التشكك اعتراه الضعف، والنفس عزوف فما عودتها من شيء جرت عليه، والمتخير إلى تقوية قلبه ورد قوته عليه وإفهامه موضع رأيه وتوقيفه على الأمر الذي شغل صدره أحوج منه إلى المنازعة في فرق ما بين المجيء الذي يكذب مثله والمجيء الذي لا يكذب مثله. وسنتكلف من علاج دائه وترتيب إفهامه إن أعان على نفسه بما لا يبقى سببا للشك ولا علة للضعف، والله تعالى المعين على ذلك والمحمود عليه.
فصل منه : ومتى سمعنا نبي الله عليه السلام اتكل على عدالته وعلى معرفة قومه بقديم طهارته وقلة كذبه دون أن جاءهم بالعلامات والبرهانات؟ ولعمري لو لم نجد الحافظ ينسى والصادق يكذب والمؤمن يبدل لقد كان ما ذهبوا إليه وجها.
فصل منه في ذكر دلائل النبي
صلى الله عليه وسلم : وباب آخر يعرف به صدقه وهو إخباره عما يكون وإخباره عن ضمائر الناس وما يأكلون وما يدخرون، ولدعائه المستجاب الذي لا تأخير فيه ولا خلف له. وذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم
حين لقي من قريش والعرب ما لقي من شدة أذاهم له وتكذيبهم إياه واستعانتهم عليه بالأموال والرجال، دعا الله عز وجل أن يجدب بلادهم وأن يدخل الفقر في بيوتهم، فقال
صلى الله عليه وسلم : اللهم سنين كسني يوسف، اللهم اشدد وطأتك على مضر. فأمسك الله عز وجل عنهم المطر حتى مات الشجر وذهب الثمر وقلت المزارع وماتت المواشي وحتى اشتووا القد والعلهز. فعند ذلك وفد حاجب بن زرارة على كسرى يشكو إليه الجهد والأزل ويستأذنه في رعي السواد، وهو حين ضمنه عن قومه وأرهنه قوسه. فلما أصاب مضر خاصة الجهد ونهكهم الأزل وبلغت الحجة مبلغها وانتهت الموعظة منتهاها عاد بفضله
صلى الله عليه وسلم
على الذي بدأهم به فسأل ربه الخصب وإدرار الغيث، فأتاهم منه ما هدم بيوتهم ومنعهم حوائجهم، فكلموه في ذلك فقال: اللهم حوالينا ولا علينا. فأمطر الله عز وجل ما حولهم وأمسك عنهم. وكتب إلى كسرى يدعوه إلى نجاته وتخليصه من كفره، فبدأ باسمه على اسمه، فأنف من ذلك كسرى لشقوته وأمر بتمزيق الكتاب، فلما بلغه
صلى الله عليه وسلم
قال: اللهم مزق ملكه كل ممزق. فمزق الله جل وعز ملكه وجد أصله وقطع دابره؛ لأن كل ملك في الأرض وإن كان قد خرج من معظم ملكه فهو مقيم على بقية منه؛ وذلك أن الإسلام لم يترك ملكا بحيث تناله الحوافر والأخفاف والأقدام إلا أزاله عنه وأخرجه منه إلى عقاب يعتصم بها ومعاقل يأوي إليها أو طرده إلى خليج منيع لا يقطعه إلا السفن، فهم من بين هارب قد دخل في وجار أو اختفى في غيضة أو مقيم على فم شعب ورأس مضيق، قد سخت نفسه عن كل سهل وأسلم كل مرج، أو ملك لا قرار له وليس بذي مدر فيؤتى، وإنما أصحابه أكراد يطلبون النجعة أو كخوارج يطلبون الغرة. فأما أن يكون ملك يصمد لهم ويقيم بإزائهم ويغاديهم الحرب ويمسيهم ويساجلهم الظفر ويناهضهم، كما كانت ملوك الطوائف، وكالذي كان بين فارس والروم، فلا، وذلك لقوله تعالى:
هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .
فلم يرض أن أظهر دينه حتى جعل أهله الغالبين بالقدرة والظاهرين بالمنعة والآخذين الإتاوة. وكتب كسرى إلى فيروز الديلمي وهو من بقية أصحاب سيف بن ذي يزن: أن احمل إلي هذا العبد الذي بدأ باسمه قبل اسمي واجترأ علي ودعاني إلى غير ديني. فأتاه فيروز فقال: إن ربي أمرني أن أحملك إليه. فقال
صلى الله عليه وسلم : إن ربي خبرني أنه قد قتل ربك البارحة، فأمسك علي ريث ما يأتيك الخبر، فإن تبين لك صدقي وإلا فأنت على أمرك. فراع ذلك فيروز وهاله وكره الإقدام عليه والاستخفاف به. فإذا الخبر قد أتاه أن شيرويه قد وثب عليه في تلك الليلة فقتله. فأسلم وأخلص ودعا من معه من بقية الفرس إلى الله عز ذكره فأسلموا.
فصل منه : في ذكر النبي
صلى الله عليه وسلم
ثم إن الذي تقدمه
صلى الله عليه وسلم
من البشارات في الكتب المتقادمة في الأزمان المتباعدة والبلدان الموجودة بكل مكان على شدة عداوة أهلها وتعصب حامليها ومع قوة حسدهم وشدة بغيهم وما ذلك ببديع منهم ومن آبائهم، على أنهم أشبه بآبائهم منهم بأزمانهم، وكل الناس أشبه بأزمانهم منهم بآبائهم، وآباؤهم الذين قتلوا أنبياءهم عليهم السلام وتعنتوا رسلهم صلى الله عليهم حتى خلاهم الله عز وجل من يده وأفقدهم عصمته وتوفيقه. ولم أستدل على ذكره في التوراة والإنجيل والزبور وعلى صفته والبشارة به في الكتب إلا لأنك متى وجدت النصراني واليهودي يسلم بأرض الشام وجدته يعتل بأمور ويحتج بأشياء مثل الأمور التي يحتج بها من أسلم بالعراق، وكذلك من أسلم بالحجاز ومن أسلم باليمن من غير تلاق ولا تعارف ولا تشاعر، وكيف يتلاقون ويتراسلون وهم غير متعارفين ولا متشاعرين! ولو كانوا كذلك لظهر ذلك ولم ينكتم، كما حكينا قبل هذا، ولو قابلت بين أخبارهم واحتجاجهم مع كثرة الألفاظ واختلاف المعاني لوجدتها متساوية.
فصل منه : فإن قال قائل: لم كانت أعلام موسى عليه السلام في كثرتها مع غي بني إسرائيل ونقصان أحلام القبط في وزن أعلام محمد
صلى الله عليه وسلم
وفي قدرها مع أحلام قريش وعقول العرب؟ ومتى أحببت أن تعرف غي بني إسرائيل ونقص أحلام القبط ورجحان عقول العرب وأحلام كنانة فانظر بواديهم ورباعهم وانظر إلى بنيهم وبقاياهم كما نظرت إلى غي بني إسرائيل ونقص بني من مضى من القبط تعتبر ذلك وتعرف ما أقول. ثم انظر في الأشعار الصحيحة والخطب المعروفة والأمثال المضروبة والألفاظ المشهورة والمعاني المذكورة مما نقلته الجماعات عن الجماعات وكلام العرب ومعانيهم في الجاهلية، ثم تفقد وسل أهل العلم والخبرة عن بني إسرائيل فإن وجدت لهم مثلا سائرا كما تسمع للقبط والفرس فضلا عن العرب فقد أبطلنا فيما قلنا. وقد كان الرجل من العرب يقف المواقف وينشئ عدة أمثال كل واحد منها ركن يبنى عليه وأصل يتفرع منه. أو هل تسمع لهم بكلام شريف أو معنى يستحسنه أهل التجربة وأصحاب التدبير والسياسة أو حكم أو حكمة أو حذق في صناعة مع ترادف الملك فيهم وتظاهر الرسالة في رجالهم؟ وكيف لا تقضي عليهم بالغي والجهل ولم تسمع لهم بكلمة فاخرة أو معنى نبيه، لا ممن كان في المبدا ولا ممن كان في المحضر ولا من قاطني السواد ولا من نازلي الشام؟ ثم انظر إلى أولادهم مع طول لبثهم فينا وكونهم معنا، هل غير ذلك من أخلاقهم وشمائلهم وعقولهم وأحلامهم وآدابهم وفطنهم؟ فقد صلح بنا كثير من أمور النصارى وغيرهم، وليس النصارى كاليهود؛ لأن اليهود كلهم من بني إسرائيل إلا القليل. وبعد، فلم يضرب فيهم غيرهم؛ لأن مناكحهم مقصورة فيهم ومحبوسة عليهم قصورا، ولهم مؤداة إلى آخره، وعقول أسلافهم مردودة على أخلافهم، ثم اعتبر بقولهم لنبيهم عليه السلام:
اجعل لنا إلها كما لهم آلهة
حين مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم يعبدونها، وكقولهم:
أرنا الله جهرة ، وكعكوفهم على عجل صنع من حليهم يعبدونه من دون الله بعد أن أراهم من الآيات ما أراهم، وكقولهم:
فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون . فكان الذي جاء به موسى عليه السلام مع نقص بني إسرائيل والقبط مثل الذي جاء به محمد
صلى الله عليه وسلم
مع رجحان قريش والعرب. وكذلك وعد محمد عليه الصلاة والسلام بنار الأبد كوعيد موسى بني إسرائيل بإلقاء الهلاس على زروعهم والهم على أفئدتهم وتسليط الموتان على ماشيتهم وبإخراجهم من ديارهم وأن يظفر بهم عدوهم، فكان تعجيل العذاب الأدنى في استدعائهم واستمالتهم وردعهم عما يريد بهم وتعديل طبائعهم، كتأخير العذاب الشديد على غيرهم؛ لأن الشديد المؤخر لا يزجر إلا أصحاب النظر في العواقب وأصحاب العقول التي تذهب في المذاهب. فسبحان من خالف بين طبائعهم وشرائعهم ليتفقوا على مصالحهم في دنياهم ومراشدهم في دينهم. مع أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
مخصوص بعلامة لها في العقل موقع كموقع فلق البحر من العين، وذلك قوله لقريش خاصة وللعرب عامة مع ما فيها من الشعراء والخطباء والبلغاء والدهاة والحلماء وأصحاب الرأي والمكيدة والتجارب والنظر في العاقبة: إن عارضتموني بسورة واحدة فقد كذبت في دعواي وصدقتم في تكذيبي. ولا يجوز أن يكون مثل العرب في كثرة عددهم واختلاف عللهم والكلام كلامهم وهو سيد عملهم قد فاض بيانهم وجاشت به صدورهم وغلبتهم قوتهم عليه عند أنفسهم حتى قالوا في الحيات والعقارب والذئاب والكلاب والخنافس والجعلان والحمير والحمام وكل ما دب ودرج ولاح لعين وخطر على قلب، ولهم - بعد - أصناف النظم وضروب التأليف كالقصيد والرجز والمزدوج والمجانس والأسجاع والمنثور، وبعد فقد هجوه من كل جانب، وهاجى أصحابه شعراءهم، ونازعوا خطباءهم، وحاجوه في المواقف، وخاصموه في المواسم، وبادروه العداوة، وناصبوه الحرب، فقتل منهم وقتلوا منه وهو أثبت الناس حقدا وأبعدهم مطلبا وأذكرهم لخير أو لشر وأنفاهم له وأهجاهم بالعجز وأمدحهم بالقوة، ثم لا يعارضه معارض ولم يتكلف ذلك خطيب ولا شاعر! ومحال في التعارف ومستنكر في التصادق أن يكون الكلام أخصر عندهم وأيسر مؤنة عليهم، وهو أبلغ في تكذيبهم وأنقض لقوله، وأجدر أن يعرف ذلك أصحابه، فيجتمعوا على ترك استعماله والاستغناء به وهم يبذلون مهجهم وأموالهم ويخرجون من ديارهم في إطفاء أمره وفي توهين ما جاء به، ولا يقولون بل لا يقول واحد من جماعتهم: لم تقتلون أنفسكم وتستهلكون أموالكم وتخرجون من دياركم والحيلة في أمره يسيرة والمأخذ في أمره قريب؟ ليؤلف واحد من شعرائكم وخطبائكم كلاما في نظم كلامه كأقصر سورة يخذلكم بها وكأصغر آية دعاكم إلى معارضتها. بل لو نسوا ما تركهم حتى يذكرهم، ولو تغافلوا ما ترك أن ينبههم، بل لم يرض بالتنبيه دون التوقيف. فدل ذلك العاقل على أن أمرهم في ذلك لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكونوا عرفوا عجزهم وأن مثل ذلك لا يتهيأ لهم فرأوا أن الإضراب عن ذكره والتغافل عنه في هذا الباب - وإن قرعهم به - أمثل لهم في التدبير وأجدر ألا ينكشف أمرهم للجاهل والضعيف وأجدر أن يجدوا إلى الدعوى سبيلا وإلى اختداع الأنبياء سببا؛ فقد ادعوا القدرة بعد المعرفة بعجزهم عنه، وهو قوله عز ذكره:
وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا . وهل يذعن الأعراب وأصحاب الجاهلية للتقريع بالعجز والتوقيف على النقص ثم لا يبذلون مجهودهم ولا يخرجون مكنونهم وهم أشد خلق الله أنفة وأفرط حمية وأطلبه بطائلة، وقد سمعوه في كل منهل وموقف، والناس موكلون بالخطابات مولعون بالبلاغات، فمن كان شاهدا فقد سمعه ومن كان غائبا فقد أتاه به من لم يزوده! وإما أن يكون غير ذلك ولا يجوز أن يطبقوا على ترك المعارضة وهم يقدرون عليها؛ لأنه لا يجوز على العدد الكثير من العقلاء والدهاة والحكماء مع اختلاف عللهم وبعد هممهم وشدة عداوتهم على بذل الكثير وصون اليسير، وهذا من ظاهر التدبير ومن جليل الأمور التي لا تخفى على الجهال فكيف على العقلاء وأهل المعارف، فكيف على الأعداء؟ لأن تحبير الكلام أهون من القتال ومن إخراج المال. ولم يقل إن القوم قد تركوا مساءلته في القرآن والطعن فيه بعد أن كثرت خصومتهم في غيره! ويدلك على ذلك قوله عز وجل:
وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ، وقوله عز ذكره:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله ، وقوله تعالى ذكره:
وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ، ويدلك كثرة هذه المراجعة وطول هذه المناقلة على أن التقريع لهم بالعجز كان فاشيا، وأن عجزهم كان ظاهرا. ولم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
تحداهم بالنظم والتأليف ولم يكن أيضا أزاح علتهم حتى قال تعالى:
قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، وعارضوني بالكذب. لقد كان في تفصيله له وتركيبه وتقديمه له واحتجاجه ما يدعو إلى معارضته ومغالبته وطلب مساويه! ولو لم يكن تحداهم في كل ما قلنا وقرعهم بالعجز عما وصفنا، وهل هذا إلا تمديحه له وإكثاره فيه، لكان ذلك سببا موجبا لمعارضته ومغالبته وطلب تكذيبه؛ إذ كان كلامهم وهو سيد عملهم والمؤنة فيه أخف عليهم وقد بذلوا النفوس والأموال، وكيف ضاع منهم وسقط على جماعتهم نيفا وعشرين سنة مع كثرة عددهم وشدة عقولهم واجتماع كلمتهم، وهذا أمر جليل الرأي ظاهر التدبير.
فصل منه : في كراهة امتناعهم عن معارضة القرآن لعجزهم عنها: والذي منعهم من ذلك هو الذي منع ابن أبي العوجاء وإسحاق بن طالوت والنعمان بن المنذر وأشباههم من الأرجاس الذين استبدلوا بالعز ذلا وبالإيمان كفرا وبالسعادة شقوة وبالحجة شبهة، بل لا شبهة في الزندقة خاصة، فقد كانوا يصنعون الآثار ويولدون الأخبار ويبثونها في الأمصار، ويطعنون في القرآن ويسألون عن متشابهه وعن خاصه وعامه ويضعون الكتب على أهله، وليس شيء مما ذكرنا يستطيع دفعه جاهل غبي ولا معاند ذكي.
فصل منه : ولما كان أعجب الأمور عند قوم فرعون السحر ولم يكن أصحابه قط في زمان أشد استحكاما فيه منهم في زمانه، بعث الله موسى عليه السلام على إبطاله وتوهينه وكشف ضعفه وإظهاره ونقض أصله، لردع الأغبياء من القوم ولمن نشأ على ذلك من السفلة والطغام؛ لأنه لو كان أتاهم بكل شيء ولم يأتهم بمعارضة السحر حتى يفصل بين الحجة والحيلة لكانت نفوسهم إلى ذلك متطلعة ولاعتل به أصحاب الأشغال ولشغلوا به بال الضعيف، ولكن الله - تعالى جده - أراد حسم الداء وقطع المادة وألا يجد المبطلون متعلقا ولا إلى اختداع الضعفاء سبيلا، مع ما أعطى الله موسى عليه السلام من سائر البرهانات وضروب العلامات. وكذلك زمن عيسى عليه السلام كان الأغلب على أهله وعلى خاصة علمائه الطب، وكانت عوامهم تعظمهم على خواصهم، فأرسله الله عز وجل بإحياء الموتى؛ إذ كانت غايتهم علاج المرضى، وإبراء الأكمه؛ إذ كانت غايتهم علاج الرمد، مع ما أعطاه الله تعالى عز وجل من سائر العلامات وضروب الآيات؛ لأن الخاصة إذا بخعت بالطاعة وقهرتها الحجة وعرفت موضع العجز والقوة وفصل ما بين الآية والحيلة، كان أبخع للعامة وأجدر ألا يبقي في أنفسهم بقية. وكذلك دهر محمد
صلى الله عليه وسلم
كان أغلب الأمور عليهم وأحسنها عندهم وأجلها في صدورهم حسن البيان ونظم ضروب الكلام مع علمهم له وانفرادهم به، فحين استحكمت لغتهم وشاعت البلاغة فيهم وكثر شعراؤهم وفاق الناس خطباؤهم، بعثه الله عز وجل فتحداهم بما كانوا لا يشكون أنهم يقدرون على أكثر منه، فلم يزل يقرعهم بعجزهم وينقصهم على نقصهم حتى تبين ذلك لضعفائهم وعوامهم، كما تبين لأقويائهم وخواصهم، وكان ذلك من أعجب ما آتاه الله نبيا قط، مع سائر ما جاء به من الآيات ومن ضروب البرهانات. ولكل شيء باب ومأتى واختصار وتقريب، فمن أحكم الحكمة إرسال كل نبي بما يفحم أعجب الأمور عندهم ويبطل أقوى الأشياء في ظنهم.
فصل منه : في ذكر أخلاق النبي عليه الصلاة والسلام: وآية أخرى لا يعرفها إلا الخاصة، ومتى ذكرت الخاصة فالعامة في ذلك مثل الخاصة، وهي الأخلاق والأفعال التي لم تجتمع لبشري قط قبله، ولا تجتمع لبشري بعده. وذلك أنا لم نرو ولم نسمع لأحد قط كصبره، ولا كحلمه، ولا كوفائه، ولا كزهده، ولا كجوده، ولا كنجدته، ولا كصدق لهجته وكرم عشرته، ولا كتواضعه، ولا كعلمه، ولا كحفظه، ولا كصمته إذا صمت ولا كقوله إذا قال، ولا كعجيب منشئه، ولا كقلة تلونه، ولا كعفوه، ولا كدوام طريقته وقلة امتنانه. ولم نجد شجاعا قط إلا وقد جال جولة وفر فرة وانحاز مرة من معدودي شجعان الإسلام ومشهوري فرسان الجاهلية كفلان وفلان، وبعد فقد نصر النبي
صلى الله عليه وسلم
وهاجر معه قوم ولم نر كنجدتهم نجدة ولا كصبرهم صبرا، وقد كانت لهم الجولة والفرة، كما قد بلغك عن يوم أحد وعن يوم حنين وغير ذلك من الوقائع والأيام، فلا يستطيع منافق ولا زنديق ولا دهري أن يحدث أن محمدا
صلى الله عليه وسلم
جال جولة قط أو فر فرة قط أو خام عن غزوة أو هاب حرب من كاثره. •••
ثبتك الله بالحجة، وحصن دينك من كل شبهة، وتوفاك مسلما، وجعلك من الشاكرين. قد أعجبني - حفظك الله - استهداؤك العلم وفهمك له، وشغفك بالإنصاف وميلك إليه، وتعظيمك الحق وموالاتك فيه، ورغبتك عن التقليد وزرايتك عليه، ومواترة كتبك على بعد دارك وتقطع أسبابك وصبرك إلى أوان الإمكان، واتساعك عند تضايق العذر. وفهمت - حفظك الله - كتابك الأول وما حثثت عليه من تبادل العلم والتعاون على البحث والتحاب في الدين والنصيحة لجميع المسلمين. وقلت: اكتب إلي كتابا تقصد فيه إلى حاجات النفوس وإلى صلاح القلوب وإلى معتلجات الشكوك وخواطر الشبهات، دون الذي عليه أكثر المتكلمين من التطويل ومن التعمق والتعقيد ومن تكلف ما لا يجب وإضاعة ما يجب. وقلت: كن كالمعلم الرفيق والمعالج الشفيق الذي يعرف الداء وسببه والدواء وموقعه ويصبر على طول العلاج ولا يسأم كثرة الترداد. وقلت: اجعل تجارتك التي إياها تؤمل وصناعتك التي إياها تعتمد إصلاح الفاسد ورد الشارد. وقلت: ولا بد من استجماع الأصول ومن استيفاء الفروع ومن حسم كل خاطر وقمع كل ناجم وصرف كل هاجس ودفع كل شاغل حتى تتمكن من الحجة وتتهنأ بالنعمة وتجد رائحة الكفاية وتثلج ببرد اليقين وتفضي إلى حقيقة الأمر. وإن كان لا بد من عوارض العجز ولواحق التقصير، فالبر لها أجمل والضرر علينا في ذلك أيسر. وقلت: ابدأ بالأخف فالأخف، وبكل ما كان آنق في السمع وأحلى في الصدور، وبالباب الذي منه يؤتى الريض المتكلف والجسور المتعجرف وبكل ما كان أكثر علما وأنفذ كيدا. وسألتني بتفتيح الاستداد والعجلة إلى الاعتقاد وصفة الأناة ومقدارها ومقدمات العلوم ومنتهاها، وزعمت أن من اللفظ ما لا يفهم معناه دون الإشارة ودون معرفة السبب والهيئة دون إعارته وركته وتحديد واحتيازه. وقلت: فإن أنت لم تصور ذلك كله صورة تغني عن المشافهة، ويكتفى بظاهرها عن المراسلة، أحوجتنا إلى لقائك على بعد دارك وكثرة أشغالك وعلى ما تخاف من الضيعة وفساد المعيشة. فكتبت لك كتابا أجهدت فيه نفسي وبلغت منه أقصى ما يمكن مثلي في الاحتجاج للقرآن والرد على الطعان، فلم أدع فيه مسألة لرافضي ولا لحديثي ولا لحشوي، ولا لكافر مباد ولا لمنافق مقموع ولا لأصحاب النظام ولمن نجم بعد النظام ممن يزعم أن القرآن حق وليس تأليفه بحجة وأنه تنزيل وليس ببرهان ولا دلالة. فلما ظننت أني قد بلغت أقصى محبتك وأتيت على معنى صفتك أتاني كتابك تذكر أنك لم ترد الاحتجاج لنظم القرآن، وإنما أردت الاحتجاج لخلق القرآن، وكانت مسألتك مبهمة ولم أك أن أحدث لك فيها تأليفة، فكتبت لك أشق الكتابين وأثقلهما وأغمضهما معنى وأطولهما طولا، ولولا ما اعتللت به من اعتراض الرافضة واحتجاج القوم علينا بمذهب معمر وأبي كلدة وعبد الحميد وثمامة وكل من زعم أن أفعال الطبيعة مخلوقة على المجاز دون الحقيقة، وأن متكلمي الحشوية والنابتة قد صار لهم بمناظرة أصحابنا وبقراءة كتبنا بعض الفطنة، لما كتبت لك رغبة بك عن أقدارهم وضنا بالحكمة عن أغثارهم، وإنما يكتب على الخصوم الأكفاء وللأولياء على الأعداء، ولمن يرى للنظر حقا وللعلم قدرا وله في الإنصاف مذهب وإلى المعرفة سبب. وزعمت أنك لم تر في كتب أصحابنا إلا كتابا لا تفهمه أو كتابا وجدت الحجة على واضع الكتاب فيه أثبت. وقلت: وإياك أن تتكل على مقدار ما عندهم دون أن تعتصر قوى باطلهم وتوفيهم جميع حقوقهم وإذا تقلدت الإخبار عن خصمك فحطه كحياطتك لنفسك، فإن ذلك أبلغ في التعليم وآيس للخصوم. وقلت: وزعموا أنه يلزمك أن تزعم أن القرآن ليس بمخلوق إلا على المجاز، كما ألزم ذلك نفسه معمر وأبو كلدة وعبد الحميد وثمامة وكل من ذهب مذهبهم وقاس قياسهم. فتفهم - فهمك الله تعالى - ما أنا واصفه لك ومورده عليك:
اعلم أن القوم يلزمهم ما ألزموه أنفسهم، وليس ذلك إلا لعجزهم عن التخلص بحقهم وإلا لذهابهم عن قواعد قولهم وفروع أصولهم، فليس لك أن تضيف العجز الذي كان منهم إلى أصل مقالتهم وتحمل ذلك الخطأ على غيرهم، فرب قول شريف الحسب جيد المركب وافر العرض بريء من العيوب سليم من الأفن قد ضيعه أهله وهجنه المفترون عليه فألزموه ما لا يلزمه وأضافوا إليه ما لا يجوز عليه. ولو زعم القوم - على أصل مقالتهم - أن القرآن هو الجسم دون الصوت والتقطيع والنظم والتأليف، وأنه ليس بصوت ولا تقطيع ولا تأليف؛ إذ كان الصوت عندهم لا يخترع كاختراع الأجسام المصورة ولا يحتمل التقطيع كاحتمال الأجرام المتجسدة، والصوت عرض لا يحدث من جوهر إلا بدخول جوهر آخر عليه، ومحال أن يحدث إلا وهناك جسمان قد صك أحدهما صاحبه، ولا بد من مكانين مكان زال عنه ومكان زال إليه، ولا بد من هواء بين المصطكين، والجسم قد يحدث وحده ولا شيء غيره، والصوت على خلاف ذلك، والعرض لا يقوم بنفسه ولا بد من أن يقوم بغيره، والأعراض من أعمال الأجسام لا تكون إلا منها ولا توجد إلا بها وفيها، والجسم لا يكون إلا من جسم ولا يكون إلا من مخترع الأجسام وليست لكون الجسم له علة توجبه، ولا يحدث إذا حدث إلا اختيارا وإلا ابتداعا واختراعا، والصوت لا يكون إلا عن علة موجبة ولا يكون إلا توليدا ونتيجة، ولا يحدث إلا من جرمين كاصطكاك الحجرين وكقرع اللسان باطن الأسنان، وإلا من هواء يتضاغط وريح تختنق ونار تلتهب، والريح عندهم هواء تحرك، والنار عندهم ريح حارة، هكذا الأمر عندهم. فلو قالوا: لا يكون الشيء مخلوقا في الحقيقة دون المجاز على مجاري اللغة إلا وقد بان الله عز وجل باختراعه وتولاه بابتداعه، وكان منه على اختيار. والابتداع الذي يمكن تركه وإنشاء عقيبة بدلا منه على ما كان تولده ونتيجته من أجسام يستحيل أن يخلق من أفعالها ويحلها الله منها. والقرآن على غير ذلك جسم وصوت، وذو تأليف وذو نظم وتقطيع، وخلق قائم بنفسه مستغن عن غيره، ومسموع في الهواء ومرئي في الورق، ومفصل وموصل، ذو اجتماع وافتراق، ويحتمل الزيادة والنقصان والفناء والبقاء. وكل ما احتملته الأجسام ووصفت به الأجرام، كل ما كان كذلك، فمخلوق في الحقيقة دون المجاز. وتوسع أهل اللغة فلو كانوا قالوا ذلك لكانوا أصابوا في القياس ووافقوا أهل الحق وكانوا مع الجماعة ولم يضاهوا أهل الخلاف والفرقة ولم يفهموا أنفسهم بقول المشبهة، إذ كان ظاهر قولهم على التشبيه أدل وبه أشبه. ولا يجوز أن أذكر موضع موافقتي لهم ومخالفتي عليهم في صدر هذا الكتاب؛ لأن التدبير في وضع الكتاب والسياسة في تعليم الجهال أن يبدأ بالأوضح فالأوضح والأقرب فالأقرب وبالأصول قبل الفروع، حتى يكون آخر الكتاب لآخر القياس، وآخر الكلام لا يفهم - أرشدك الله تعالى - ولا يتوهم إلا على ترتيب الأمور وتقديم الأصول، فإذا رتبنا الأمور وقدمنا الأصول صارت أواخر المعاني في الفهم كأوائلها ودقيقها كجليلها، وقد علمنا أن بعض ما فيه الاختلاف بين من ينتحل الإسلام أعظم فرية وأشد بلية وأشنع كفرا وأكبر إثما من كثير مما أجمعوا على أنه كفر.
وبعد، فنحن لا نكفر إلا من أوسعناه حجة، ولم نمتحن إلا أهل التهمة، وليس كشف المتهم من التجسس ولا امتحان الظنين من هتك الستار، ولو كان كل كشف هتكا وكل امتحان تجسسا لكان القاضي أهتك الناس لستر وأشد الناس كشفا لعورة.
والذين خالفوا في العرش إنما أرادوا نفي التشبيه فغلطوا، والذين أنكروا أمر الميزان إنما كرهوا أن تكون الأعمال أجساما وأجراما غلاظا. فإن كانوا قد أصابوا فلا سبيل عليهم، وإن كانوا قد أخطئوا فإن خطأهم لا يتجاوز بهم إلى الكفر، وقولهم وخلافهم بعد ظهور الحجة تشبيه للخالق بالمخلوق، فبين المذهبين أبين فرق. وقد قال صاحبكم للخليفة المعتصم يوم جمع الفقهاء والمتكلمين والقضاة والمحصلين إعذارا وإنذارا: امتحنتني وأنت تعرف المحنة وما فيها من الفتنة، ثم امتحنتني من بين جميع هذه الأمة؟ قال المعتصم: أخطأت، بل كذبت ...! وجدت الخليفة قبلي قد حبسك وقيدك، ولو لم يكن حبسك على تهمة لأمضى الحكم فيك، ولو لم يخفك على الإسلام ما عرض لك! فسؤالي إياك عن نفسك ليس من المحنة ولا من طريق الاعتساف ولا من طريق كشف العورة؛ إذ كانت حالك هذه الحال وسبيلك هذه السبيل. وقيل للمعتصم في ذلك المجلس: ألا تبعث إلى أصحابه حتى يشهدوا إقراره ويعاينوا انقطاعه فينقض ذلك استبصارهم فلا يمكنه جحد ما أقر به عندهم؟ فأبى أن يقبل ذلك وأنكره عليهم وقال: لا أريد أن أوتى بقوم إن اتهمتهم سرت فيهم بسيرتي فيه، وإن بان لي أمرهم أنفذت حكم الله فيهم، وهم ما لم أوت بهم كسائر الرعية وكغيرهم من عوام الأمة، وما شيء أحب إلي من الستر، ولا شيء أولى بي من الأناة والرفق. وما زال به رقيقا وعليه رقيقا. ويقول: لأن أستحييك بحق أحب إلي من أن أقتلك بحق. حتى رآه يعاند الحجة ويكذب صراحا عند الجواب، وكان آخر ما عاند فيه وأنكر الحق وهو يراه أن أحمد بن أبي دواد قال له: أليس لا شيء إلا قديم أو حديث؟ قال: نعم. قال: أوليس القرآن شيئا؟ قال: نعم. قال: أوليس لا قديم إلا الله؟ قال: نعم. قال: فالقرآن إذا حديث! قال: ليس أنا متكلم. وكذلك كان يصنع في جميع مسائله حين كان يجيبه في كل ما سأل عنه حتى إذا بلغ المخنق والموضع الذي إن قال فيه كلمة واحدة برئ منه أصحابه قال: ليس أنا متكلم. فلا هو قال في أول الأمر: لا علم لي بالكلام، ولا هو حين تكلم فبلغ موضع ظهور الحجة خضع للحق. فمقته الخليفة وقال عند ذلك: أف لهذا الجاهل مرة والمعاند مرة. وأما الموضع الذي فيه واجه الخليفة بالكذب والجماعة بالقحة وقلة الاكتراث وشدة التصميم فهو حين قال له أحمد بن أبي دواد: أتزعم أن الله تعالى رب القرآن؟ قال: لو سمعت أحدا يقول ذلك لقلت! قال: أفما سمعت ذلك قط من حالف ولا سائل ولا من قاص ولا في شعر ولا في حديث؟ قال: فعرف الخليفة كذبه عند المسألة كما عرف عناده عند الحجة. وأحمد بن أبي دواد - حفظك الله تعالى - أعلم بهذا الكلام وبغيره من أجناس العلم من أن يجعل هذا الاستفهام مسألة ويعتمد عليها في مثل تلك الجماعة، ولكنه أراد أن يكشف لهم جرأته على الكذب كما كشف لهم جرأته في المعاندة. فعند ذلك ضربه الخليفة. وأية حجة لكم في امتحاننا إياكم وفي إكفارنا لكم وزعم يومئذ أن حكم كلام الله تعالى كحكم علمه، فكما لا يجوز أن يكون علمه محدثا ومخلوقا فكذلك لا يجوز أن يكون كلامه مخلوقا ومحدثا، فقال له: أليس قد كان الله يقدر أن يبدل آية مكان آية وينسخ آية بآية وأن يذهب بهذا القرآن ويأتي بغيره، وكل ذلك في الكتاب مسطور؟ قال: نعم. قال: فهل كان يجوز هذا في العلم؟ وهل كان جائزا أن يبدل الله علمه ويذهب به ويأتي بغيره؟ قال: لا. وقال له: روينا في تثبيت ما نقول الآثار وتلونا عليك الآية من الكتاب وأريناك الشاهد من العقول التي بها لزم الناس الفرائض وبها يفصلون بين الحق والباطل! فعارضنا أنت الآن بواحدة من الثلاث! فلم يكن ذلك عنده ولا استخزى من الكذب في هذا المجلس؛ لأن عدة من حضره أكثر من أن يطمع أحد أن يكون الكذب يجوز عليه، وقد كان صاحبكم هذا يقول: لا تقية إلا في دار الشرك. فلو كان ما أقر به من خلق القرآن كان منه على وجه التقية فقد أعملها في دار الإسلام وقد أكذب نفسه، وإن كان ما أقر به على الصحة والحقيقة فلستم منه وليس منكم. على أنه لم ير سيفا مشهورا ولا ضرب ضربا كثيرا ولا ضرب إلا بثلاثين سوطا مقطوعة الثمار مشعبة الأطراف حتى أفصح بالإقرار مرارا، ولا كان في مجلس ضيق ولا كانت حاله حالة مؤيسة ولا كان مثقلا بالحديد ولا خلع قلبه بشدة الوعيد، ولقد كان ينازع بألين الكلام ويجيب بأغلظ الجواب، ويرزنون ويخف ويحلمون ويطيش. وعبتم علينا إكفارنا إياكم واحتجاجنا عليكم بالقرآن والحديث، وقلتم تكفرونا على إنكار شيء يحتمل التأويل ويثبت بالأحاديث؟ فقد ينبغي لكم ألا تحتجوا في شيء من القدر والتوحيد بشيء من القرآن والحديث، وألا تكفروا واحدا خالفكم في شيء وأنتم أسرع الناس إلى إكفارنا وإلى عداوتنا والنصب لنا.
فصل : وأصحابنا - حفظك الله - إذا قاسوا خطأهم ومروا على غلطهم فإنما ينقضون به شيئا من العرض والجوهر وشيئا من قولهم في المعلوم والمجهول فقط، وهم قوم يكفيهم من التنبه أقله، ومن القول أيسره. وخطأ النابتة وقول الرافضة تشبيه مصرح، وكفر مجلح. فليس هذا الجنس من ذلك الجنس، والحمد لله.
وأما إخبارهم عن عيبنا إياهم حين لم يقولوا لإن الله تبارك وتعالى رب القرآن، وفينا من لا يقول إن الله تعالى رب الكفر والإيمان، فإنا لم نسألهم عن ذلك من جهة ما يتوهمون، وإنما سألناهم عنه بجحدهم ما يرون بأبصارهم ويسمعون بآذانهم في الأشعار المعروفة، وفي الخطب المشهورة، وفي الابتهال عند الدعاء، وعلى ألسنة العوام، وعند العهود والأيمان، وعند تعظيم القرآن، وما يسمعون من السؤال في الطرقات، ومن القصاص في المساجد، لا يرون عائبا ولا يسمعون زاريا. وليس أنا جعلنا هذا مسألة على من أنكر خلق القرآن، ولكنا أردنا أن نبين للضعفاء معاندتهم وفرارهم من البهت ومكابرتهم إذ سمعوا أنهم لم يسمعوا الناس يقولون: ورب القرآن، ورب يس، ورب طه، وأشباه ذلك. ولعمري أن لو سمعوا الناس يقولون عند أيمانهم وابتهالهم إلى ربهم على غير قصد إلى خلاف ولا وفاق: ورب الزنا والسرقة، ورب الكفر والكذب. كما سمعوهم وهم يقولون: ورب القرآن، ورب يس، ورب طه. ثم ألزمناهم خلق القرآن بمثل ما لهم علينا في خلق الزنا. لقد كان ذلك معارضة صحيحة وموازنة معروفة. وأما قولهم: إن معنا العامة والعباد والفقهاء وأصحاب الحديث، وليس معهم إلا أصحاب الأهواء ومن يأخذ دينه من أول الرجال؟ فأي صاحب تقوى - يرحمك الله - أبعد من الجماعة من الرافضة؟ وهم في هذا المعنى أشقياؤهم وأولياؤهم؛ لأن ما خالفوهم فيه صغير في جنب ما وافقوهم عليه. والذين سموهم أصحاب أهوائهم المتكلمون والمصلحون والمستصلحون وأصحاب الحديث، والعوام هم الذين يقلدون ولا يحصلون ولا يتخيرون. والتقليد مرغوب عنه في حجة العقل، منهي عنه في القرآن، قد عكسوا الأمور كما ترى ونقضوا العادات، وذلك أنا لا نشك أن من نظر وبحث وقابل ووزن أحق بالتبين وأولى بالحجة. وأما قولهم منا النساك والعباد! فعباد الخوارج وحدهم أكثر عددا من عبادهم، على قلة عدد الخوارج في جنب عددهم. على أنهم أصحاب نية وأطعم طعمة وأبعد من التكسب وأصدق ورعا وأقل زيا وأدوم طريقة وأبذل للمهجة وأقل جمعا ومنعا وأظهر زهدا وجهدا. ولعل عبادة عمرو بن عبيد تفي بعبادة عامة عبادهم. وأما قولهم: إن للقرآن قلبا وسناما ولسانا وشفتين، وأنه يقدس ويشفع ويمحل. فإن هذا كله قد يجوز أن يكون مثلا ويجوز أن يجعله الله كذلك إذا كان جسما، والله على ذلك قادر وهو له غير معجز ومنه غير مستحيل، وكل فعل لا يكون عيبا ولا ظلما ولا بخلا ولا كذبا ولا خطأ في التدبير، فهو جائز والتعجب منه غير جائز.
فصل منه : وما أكثر من يجيب في المسائل ويؤلف الكتب على قدر ما يسنح له في وهمه وعلى قدر ما يتصور له في حاله تلك لا يعمل على أصله ولا يشعر بالذي انبنى عليه ذلك الأصل، وإن كان ممن يعمل على أصل، وإنما صار علماؤنا إلى ما صاروا إليه لأنهم لا يقفون من القول في خلق القرآن على جواب مهذب ومذهب مصفى، وعلى قول مفروغ منه وعلى جوابات بأعيانها، فقد رددوا فيها النظر وامتحنوها بأغلظ المحن وقلبوها وتبطنوا معانيها بأبلغ التفكير وتعرفوا كل ما فيها واعتصروا جميع قواها وسهلوا سبلها وذبوا العناد عنها احتقارا منهم لمن خالفهم واتكالا على طول السلامة منهم وثقة بطول الظفر بهم. ومن تمام أمر صاحب الحق ألا يتكل على عجز الخصم وألا يعجب بظهوره على من لا حظ له في العلم. وعلى العلماء أن يخافوا دول العلم كما يخاف الملوك دول الملك. وقد رأيت البكرية والجبرية والفضيلية والشمرية وإنهم لأحقر عند المعتزلة من جعل، وما زالوا يستقون من علمائهم ويستمدون من كبرائهم ويدرسون كتبهم ويأخذون ألفاظهم في جميع أمورهم حتى رأيت شيبهم ونابتيهم يدعون أنهم أكفاء ويجمع بينهم في البلاء، والنابتة اليوم في التشبيه به مع الرافضة وهم دائبون في التألم من المعتزلة، عددهم كثير ونصبهم شديد والعوام معهم والحشو يطيعهم، الآن معك أمران: السلطان وميلهم إليه، وخوفهم منه. والعاقبة للمتقين.
من كتاب الحجاب
قال أبو عثمان:
أطال الله بقاك، وجعلني من كل سوء فداك، وأسعدك بطاعته، وتولاك بكرامته، ووالى إليك مزيده.
اعلم أنه يقال - أكرمك الله - إن السعيد من وعظ بغيره، وإن الحكيم من أحكمته تجاربه. وقد قيل: كفاك أدبا لنفسك ما كرهت من غيرك. وقيل: كفاك من سوء الفعل سماعه. وقيل: إن من يقظة الفهم للواعظ ما يدعو النفس إلى الحذر من الخطأ والعقل إلى تصفيته من القذى. وكانت الملوك إذا أتت ما يجل عن المعاتبة عليه ضربت لها الأمثال وعرض لها بالحديث. وقال الشاعر:
العبد يقرع بالعصا
والحر تكفيه الملامة
وقال آخر: «ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها.» وقال عبد المسيح المتلمس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
وما علم الإنسان إلا ليعلما
وقال بعضهم: في خفي التعريض ما أغنى عن شنيع التصريح.
وقد جمعت في كتابي هذا ما جاء في الحجاب من خبر وشعر ومعاتبة وعذل وتصريح وتعريض. وفيه ما كفى وبالله التوفيق. وقد قلت:
كفى أدبا لنفسك ما تراه
لغيرك شائنا بين الأنام
ما جاء في الحجاب والنهي عنه : روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: ثلاث من كن فيه من الولاة اضطلع بأمانته وأمره! إذا عدل في حكمه، ولم يحتجب دون غيره، وأقام كتاب الله في القريب والبعيد. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه وجه علي بن أبي طالب إلى بعض الوجوه، فقال له فيما أوصاه به: إني قد بعثتك وأنا بك ضنين، فابرز للناس، وقدم الوضيع على الشريف، والضعيف على القوي، والنساء قبل الرجال، ولا تدخلن أحدا يغلبك على أمرك، وشاور القرآن فإنه إمامك. وكان عمر بن الخطاب إذا استعمل عاملا شرط عليه أربعا: لا يركب برذونا، ولا يتخذ حاجبا، ولا يلبس كتانا، ولا يأكل درمكا. ويوصي عماله فيقول: إياكم والحجاب، واظهروا بالبراز، وخذوا الذي لكم وأعطوا الذي عليكم؛ فإن امرأ ظلم حقه مضض حتى يغدو به مع الغادين. وكتب عمر إلى معاوية وهو عامله على الشام:
أما بعد، فإني لم آلك في كتابي إليك ونفسي خيرا. إياك والاحتجاب دون الناس، وأذن للضعيف وأدنه حتى ينبسط لسانه ويجترئ قلبه، وتعهد الغريب فإنه إذا طال حبسه وضاق إذنه ترك حقه وضعف قلبه، وإنما أتوى حقه من حبسه. واحرص على الصلح بين الناس ما لم يستبن لك القضاء، وإذا حضر الخصمان بالبينة العادلة والأيمان القاطعة فأمض الحكم، والسلام. وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري: آس بين الناس في نظرك وحجابك وإذنك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك، واعلم أن أسعد الناس عند الله تعالى يوم القيامة من سعد به الناس، وأشقاهم من شقوا به.
وروى الهيثم بن عدي عن ابن عباس قال: قال لي عبيد الله بن أبي المخترق القيني: استعملني الحجاج على الفلوجة العليا، فقلت: أههنا دهقان يعاش بعقله ورأيه؟ فقيل لي: بلى، هنا جميل بن يصبهري. فقلت: علي به. فأتاني، فقلت: إن الحجاج استعملني على غير قرابة ولا دالة ولا وسيلة، فأشر علي! قال: لا يكون لك بواب حتى إذا تذكر الرجل من أهل عملك بابك لم يخف حجابك، وإذا حضرك شريف لم يتأخر عن لقائك، ولم يحكم مع شرفك حاجبك، وليطل جلوسك لأهل عملك تهبك عمالك، ويتقى مكانك، ولا يختلف لك حكم على شريف ولا وضيع. ليكن حكمك واحدا على الجميع يثق الناس بعقلك، ولا تقبل من أحد هدية؛ فإن صاحبها لا يرضى بأضعافها مع ما فيها من الشهرة!
من عهد إلى حاجبه : قال موسى الهادي لحاجبه: لا تحجب الناس عني فإن ذلك يزيل التزكية، ولا تلق إلي أمرا إذا كشفته وجدته باطلا؛ فإن ذلك يوقع (في) الهلكة. وقال بعض الخلفاء لحاجبه: إذا جلست فأذن للناس جميعا علي، وأبرز لهم وجهي وسكن عنهم الأحراس، واخفض الجناح، وأطل لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والمنطق، وارفع لهم الحوائج، وسو بينهم في المراتب، وقدهم على الكفاية والغناء لا على الميل والهوى. وقال آخر لحاجبه: إنك عيني التي أنظر بها، وجنتي التي أستنيم إليها، وقد وليتك بابي فما تراك صانعا برعيتي؟ قال: أنظر إليهم بعينك، وأحملهم على قدر منازلهم عندك، وأضعهم لك في إبطائهم عن بابك ولزومهم خدمتك مواضع استحقاقهم في رتبهم حيث وضعهم ترتيبك، وأحسن إبلاغك عنهم وإبلاغهم عنك. قال: قد وفيت بما عليك قولا إن وفيت به فعلا، والله ولي كفايتك ومعونتك.
وعهد أمير إلى حاجبه فقال: إن أداء الأمانة في الأعراض أوجب منها في الأموال؛ وذلك أن الأموال وقاية للأعراض، وليست الأعراض بوقاية للأموال. وقد ائتمنتك على أعراض الغاشين لبابي، وإنما أعراضهم أقدارهم، فصنها لهم ووفرها عليهم، وصن بذلك عرضي. فلعمري إن صيانتك أعراضهم صيانة لعرضي ووقايتك أقدارهم وقاية لقدري؛ إذ كنت الحظي بزين إنصافهم إن أنصفوا، والمبتلى بشين ظلمهم إن ظلموا في غشيانهم بابي وحضورهم فنائي، أوف كل امرئ قدره ولا تجاوز به حده، وتوق الجور في ذلك التوقي كله، أقبل على من تحجب بإبداء البشر وحلاوة العذر وطلاقة الوجه ولين القول وإظهار الود، حتى يكون رضاه عنك لما يرى من بشاشتك به وطلاقتك له كرضا من تأذن له عنك لما يمنحه من التكريم ويحويه من التعظيم، فإن المنع عند الممنوع في لين المقالة يكاد يكون كالنيل عند العظماء في نفع المقالة. أنه إلي حاجات كل من يغشى بابي من وجيه وخامل وذي هيئة وأخي رثاثة فيما يحضرون له بابي ويتعلقون به من إتياني، فربما بز مثله بمخبره من يروق العيون بمنظره. إنك إن نقصت الكريم ما يستحقه من مال لا يغضب بعد أن تستوهبه منه، وإن نقصته من قدره أسخطته أشد الإسخاط؛ إذ كان يريد دنياه ليصون بها قدره ولا يريد قدره ليتقي به دنياه، لكنه لتحيف عرضه أشد توقيا منه لتحيف ماله. إن المحجوب وإن كان عدلنا في حجابه كعدلنا على المأذون له في إذنه يتداخله انكسار إذا حجب ورأى غيره قد أذن له، فاختصه لذلك من بشاشتك به وطلاقتك له ما يتحلل به عنه انكساره. فلعمري لو عرف أن صوابنا في حجابه كصوابنا في الإذن لمن أذنا له ما احتجنا إلى ما أوصيناك به من اختصاصه بالبشر دون المأذون له. إن اجتمع في داري الأعلون والأوسطون والأدنون فدعوت بواحد منهم دون من يعلوه في القدر لأمر لا بد من الدعاء به له، فأظهر العذر له في ذلك لئلا تخبث نفس من علاه، فإن الناس تتغالب لمثل ذلك عليهم سوء الظنون، والواجب على من ساسهم التوقي على نفسه من سوء ظنونهم وعليه تقويم نفوسهم؛ إذ هو كالرأس يألم لألم الأعضاء، وهم كالأعضاء يألمون لألم الرأس.
قال المدائني: قال زياد بن أبيه لحاجبه: يا عجلان، قد وليتك بابي وعزلتك عن أربعة: طارق ليل فشر ما جاء به أو خير، ورسول صاحب الثغر فإنه إن تأخر ساعة بطل به عمل سنة، وهذا المنادي بالصلاة، وصاحب الطعام فإن الطعام إذا ترك برد وإذا أعيد عليه التسخين فسد.
سبب الحجاب : الهيثم بن عدي قال: قال خالد بن عبد الله القسري لحاجبه: لا تحجبن عني أحدا إذا أخذت مجلسي؛ فإن الوالي لا يحتجب إلا عن ثلاث: إما رجل عي يكره أن يطلع على عيه، وإما رجل مشتمل على سوءة، أو رجل بخيل يكره أن يدخل عليه إنسان يسأله شيئا.
أنشدني محمود الوراق لنفسه في هذا المعنى:
إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه
ورد ذوي الحاجات دون حجابه
ظننت به إحدى ثلاث وربما
نزعت بظن واقع بصوابه
فقلت به مس من العي ظاهر
ففي إذنه للناس إظهار ما به
فإن لم يكن عي اللسان فغالب
من البخل يحمي ماله عن طلابه
فإن لم يكن هذا ولا ذا فريبة
يصر عليها عند إغلاق بابه
وأنشدني بعض المحدثين في ابن المدبر:
لولا مقارفة الريب
ما كنت ممن يحتجب
أو لا فعي منك أو
بخل على أهل الطلب
فاكشف لنا وجه الحج
اب ولا تبالي من عتب
من ينبغي أن يتخذ للحجاب : قال المنصور للمهدي: لا ينبغي أن يكون الحاجب جهولا ولا عييا ولا غبيا ولا ذهولا ولا متشاغلا ولا خاملا ولا محتقرا ولا جهما ولا عبوسا. فإنه إن كان جهولا أدخل على صاحبه الضرر من حيث يقدر المنفعة، وإن كان عييا لم يؤد إلى صاحبه ولم يؤد عنه، وإن كان غبيا جهل مكان الشريف فأحله غير منزلته وحط عن مرتبته وقدم الوضيع عليه وجهل ما عليه وما له، وإن كان ذهولا متشاغلا أخل بما يحتاج إليه صاحبه في وقته وأضاع حقوق الغاشين لبابه واستدعى الذم من الناس له وأذن عليه لمن لا يحتاج إلى لقائه ولا ينتفع بمكانه، وإذا كان خاملا محتقرا أحل الناس صاحبه في محله وقضوا عليه به، وإن كان جهما عبوسا تلقى كل طبقة من الناس بالمكروه، فترك أهل النصائح نصائحهم وأخل بذوي الحاجات في حوائجهم وقلت الغاشية لباب صاحبه فرارا من لقائه.
روى الهيثم بن عدي عن الشعبي أن عبد الملك بن مروان قال لأخيه عبد العزيز حين ولاه مصر: إن الناس قد أكثروا عليك، ولعلك لا تحفظ، فاحفظ عني ثلاثا. قال: قل يا أمير المؤمنين. قال: انظر من تجعل حاجبك ولا تجعله إلا عاقلا فهما مفهما، صدوقا لا يورد عليك كذبا، يحسن الأداء إليك والأداء عنك، ومر ألا يقف على بابك أحد من الأحرار إلا أخبرك حتى تكون أنت الآذن له أو المانع، فإن لم تفعل كان هو الأمير وأنت الحاجب، وإذا خرجت إلى أصحابك فسلم عليهم يأنسوا بك، وإذا هممت بعقوبة فتأن فيها فإنك على استدراكها قبل فوتها أقدر منك على انتزاعها بعد فوتها.
وقال سهل بن هارون للفضل بن سهل: إن الحاجب أحد وجهي الملك يعتبر عليه برأفته ويلحقه ما كان في غلظته وفظاظته، فاتخذ حاجبك سهل الطبيعة معروفا بالرأفة مألوفا منه البر والرحمة، وليكن جميل الهيئة حسن البسطة ذا قصد في نيته وصالح أفعاله، ومره فليضع الناس على مراتبهم وليأذن لهم في تفاضل منازلهم وليعط كلا بسطة من وجهه وليستعطف قلوب الجميع إليه حتى لا يغشى الباب أحد وهو يخاف أن يقصر به عن مرتبته ولا أن يمنع في مدخل أو مجلس أو موضع إذن شيئا يستحقه، ولا يمنع أحدا مرتبته وليضع كلا عند منزلته وتعهده، فإن قصر مقصر قام بحسن خلافته وبتزيين أمره.
وقال كسرى أنو شروان في كتابه المسمى «شاهي»: ينبغي أن يكون صاحب إذن الخاصة رجلا شريف البيت بعيد الهمة بارع الكرم متواضعا طلقا معتدل الجسم بهي المنظر لين الجانب، ليس ببذخ ولا بطر ولا مرح، لين الكلام طالبا للذكر الحسن مشتاقا إلى محادثة العلماء ومجالسة الصلحاء، محبا لكل ما زين عمله، معاندا للسعاة، مجانبا للكذابين، صدوقا إذا حدث، وفيا إذا وعد، متفهما إذا خوطب، مجيبا بالصواب إذا روجع، منصفا إذا عامل، آنسا مؤانسا، محبا للأخيار، شديد الحنو على المملكة، أديبا له لطافة في الخدمة وذكاء في الفهم وبسطة في المنطق ورفق في المحاورة وعلم بأقدار الرجال وأخطارها. وقال في حاجب العامة: ينبغي أن يكون حاجب العامة رجلا عبد الطاعة، دائم الحراسة للملكة، مخوف اليد حسن الكلام مروعا غير باطش إلا بالحق، لا أنيس ولا مأنوس ، دائم العبوس شديدا على المريب، غير مستخف بخاصة الملك ومن يهوى ويقربه من بطانته.
محل الحاجب وموضعه ممن يحجبه : قال عبد الملك لأخيه عبد العزيز حين وجهه إلى مصر: اعرف كاتبك وحاجبك وجليسك. فإن الغائب يخبره عنك كاتبك، والمتوسم يعرفك بحاجبك، والخارج من عقدك يعرفك بجليسك. وقال يزيد بن المهلب لابنه مخلد حين ولاه جرجان: استظرف كاتبك، واستعقل حاجبك. وقال الحجاج: حاجب الرجل وجهه، وكاتبه كله. وقال ابن أبي زرعة: قال رجل من أهل الشام لأبي الخطاب الحسن بن محمد الطائي يعاتبه في حجابه:
هذا أبو الخطاب بدر طالع
من دون مطلعه حجاب مظلم
ويقال وجه المرء حاجبه كما
بلسان كاتبه الفتى يتكلم
أدنيت من قبل اللقاء وبعده
أقصيت هل يرضى بذا من يفهم؟
وإذا رأيت من الكريم فظاظة
فإليه من أخلاقه أتظلم
وقال الفضل بن يحيى: إن حاجب الرجل عامله على عرضه، وإنه لا عوض لحر من نفسه، ولا قيمة عنده لحريته وقدره. وأنشدني ابن أبي كامل في هذا المعنى:
واعلمن إن كنت تجهله
أن عرض المرء حاجبه
فبه تبدو محاسنه
وبه تبدو معايبه
من عوتب على حجابه أو هجي به : روى إسحاق الموصلي عن ابن كناسة قال: أخبرت أن هانئ بن قبيصة وفد على يزيد بن معاوية فاحتجب عنه أياما، ثم إن يزيد ركب يوما فتلقاه هانئ فقال: يا يزيد، إن الخليفة ليس بالمحتجب المختلي ولا المتطرف المنتحي، ولا الذي ينزل على الغدران والفلوات ويخلو للذات والشهوات، وقد وليت أمرنا فأقم بين أظهرنا وسهل إذننا واعمل بكتاب الله فينا، فإن كنت قد عجزت عما ههنا فاردد علينا بيعتنا لنبايع من يعمل بذلك فينا ويقيمه لنا، ثم عليك بخلواتك وصيدك وكلابك! قال: فغضب يزيد وقال: والله لولا أن أسن بالشام سنة العراق لأقمت أودك. ثم انصرف وما هاجه بشيء وأذن له ولم تتغير منزلته عنده وترك كثيرا مما كان عليه.
الموصلي قال: كان سعيد بن سلم واليا على إرمينية، فورد عليه أبو دهمان الغلابي فلم يصل إليه إلا بعد حين، فلما وصل قال وقد مثل بين السماطين: والله إني لأعرف أقواما لو علموا أن سف التراب يقيم من أود أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم، إيثارا للتنزه عن العيش الرقيق الحواشي، والله إني لبعيد الوثبة بطيء العطفة، إنه والله ما يثنيني عليك إلا مثل ما يصرفني عنك، ولأن أكون مملقا مقربا أحب إلي من أن أكون مكثرا مبعدا، والله ما نسأل عملا لا نضبطه ولا مالا إلا ونحن أكثر منه، وإن الذي صار في يدك قد كان في يد غيرك فأمسوا والله حديثا إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فتحبب إلى عباد الله بحسن البشر ولين الحجاب فإن حب عباد الله موصول بحب الله وهم شهداء الله على خلقه وأمناؤه على من اعوج عن سبيله.
إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: استبطأني جعفر بن يحيى وشكا ذلك إلى أبي، فدخلت عليه - وكان شديد الحجاب - فاعتذرت إليه وأعلمته أنني أتيت إليه مرارا للسلام فحجبني نافذ غلامه. فقال لي وهو مازح: متى حجبك فنله. فأتيته بعد ذلك للسلام فحجبني، فكتبت إليه رقعة فيها:
جعلت فداءك من كل سوء
إلى حسن رأيك أشكو أناسا
يحولون بيني وبين السلام
فما إن أسلم إلا اختلاسا
وأنفذت أمرك في نافذ
فما زاده ذاك إلا شماسا
وسألت نافذا أن يوصلها ففعل، فلما قرأها ضحك حتى فحص برجليه وقال: لا تحجبه أي وقت جاء. فصرت لا أحجب.
وحجب أحمد بن أبي طاهر بباب بعض الكتاب فكتب إليه: ليس الحر من نفسه عوض، ولا من قدره خطر، ولا لبذل حريته ثمن، وكل ممنوع فمستغنى عنه بغيره، وكل مانع ما عنده ففي الأرض عوض عنه ومندوحة عنه. وقد قيل: أرخص ما يكون الشيء عند غلائه. وقال بشار: «والدر يترك من غلائه.» ونحن نعوذ بالله من المطامع الدنية والهمة القصيرة، ومن ابتذال الحرية، فإن نفسي والله أبية ما سقطت وراء همة، ولا خذلها ناصر عند نازلة، ولا استرقها طمع، ولا طبعت على طبع، وقد رأيتك وليت عرضك من لا يصونه، ووكلت ببابك من يشينه، وجعلت ترجمان كرمك من يكثر من أعدائك، وينقص من أوليائك، ويسيء العبارة عن معروفك، ويوجه وفود الذم إليك، ويضغن قلوب إخوانك عليك؛ إذ كان لا يعرف لشريف قدرا، ولا لصديق منزلة، ويزيل المراتب عن جهاتها ودرجاتها، فيحط العلي إلى مرتبة الوضيع، ويرفع الدنيء إلى مرتبة الرفيع، ويقبل الرشا، ويقدم على الهوى، وذلك إليك منسوب وبرأسك معصوب، يلزمك ذنبه ويحل عليك تقصيره. وقد أنشدني أبو علي البصير:
كم من فتى تحمد أخلاقه
وتسكن الأحرار في ذمته
قد كثر الحاجب أعداءه
وأحقد الناس على نعمته
وأنشدت لبعضهم:
يدل على سرو الفتى واحتماله
إذا كان سهلا دونه إذن حاجبه
وقد قيل ما البواب إلا كربه
إذا كان سهلا كان سهلا لصاحبه
وقال الطائي:
حشم الصديق عيونهم بحاثة
لصديقه عن صدقه ونفاقه
فلينظرن المرء من غلمانه
فهم خلائفه على أخلاقه
وقال آخر:
اعرف مكانك من أخي
ك ومن صديقك بالحشم
قال ابن أبي عيينة:
إن وجه الغلام يخبر عما
في ضمير المولى من الكتمان
فإذا ما جهلت ود صديق
فامتحن ما أردت بالغلمان
وقال آخر:
ومحنة الزائرين بينة
تعرف قبل اللقاء بالحشم
وأنشدني عبد الله بن أحمد المهر في علي بن الجهم:
أعلي دونك يا علي حجاب
يدنى البعيد ويحجب الأصحاب؟
هذا بإذنك أم برأيك أم رأى
هذا عليك العبد والبواب؟
إن الشريف إذا أمور عبيده
غلبت عليه فأمره مرتاب
أخذه من قول الطائي:
أبا جعفر وأصول الفتى
تدل عليه بأغصانه
أليس عجيبا بأن امرأ
رجاك لحادث أزمانه
فتأمر أنت بإعطائه
ويأمر فتح بحرمانه
ولست أحب الشريف الظري
ف يكون غلاما لغلمانه
وحجب ابن أبي طاهر بباب بعض الكتاب، فكتب إليه: إنه من لم يرفعه الإذن لم يضعه الحجاب، وأنا أرفعك عن هذه المنزلة وأربأ بقدرك عن هذه الخليقة، وما أحد أقام في منزله - عظم أو صغر قدره - إلا ولو حاول حجاب الخليفة عنه لأمكنه، فتأمل هذه الحالة وانظر إليها بعين النصفة تراها في أقبح صورة وأدنى منزلة. وقد قلت:
إذا كنت تأتي المرء تعظم حقه
ويجهل منك الحق فالهجر أوسع
ففي الناس أبدال وفي العز راحة
وفي اليأس عمن لا يواتيك مطمع
وإن امرأ يرضى الهوان لنفسه
حري بجدع الأنف والجدع أشنع
فدع عنك أفعالا يشينك فعلها
وسهل حجابا إذنه ليس ينفع
وحدثني عبد الله بن أبي مروان الفارسي قال: ركبت مع ثمامة بن أشرس إلى أبي عباد الكاتب في حوائج كتب إلي فيها أهل أرمينية من المعتزلة والشيعة، فأتيناه فأعظم ثمامة وأقعده في صدر المجلس وجلس قبالته - وعنده جماعة من الوجوه - فتحدثنا ساعة ثم كلمه ثمامة في حاجتي وأخرجت كتب القوم فقرأها - وقد كانوا كتبوا إلى أبي عباد كتبا وكانوا أصدقاءه أيام كونه بأرمينية - فقال لي: بكر إلي غدا حتى أكتب جواباتها إن شاء الله. فقلت: جعلني الله فداك، تأمر الحاجب إذا جئت أن يأذن لي. فغضب من قولي واستشاط مني فقال: متى حجبت أنا؟ أولي حاجب أو لأحد علي حجاب؟ قال عبد الله: وقد كنت أتيته فحجبني بعض غلمانه، فحلف بالأيمان المغلظة أن يقلع عيني من يحجبني، ثم قال: يا غلام، لا تبق في الدار غلاما ولا منقطعا إلينا إلا أحضرتمونيه الساعة. فأتى بغلمانه وهم نحو من ثلثمائة، فقال: أشر إلى من شئت منهم. فغمزني ثمامة. فقلت: جعلت فداك، لا أعرف الغلام بعينه. فقال: ما كان لي حاجب قط ولا احتجبت؛ وذلك لأنه سبق مني قول، لأني كنت وأنا بالري وقد مات أبي وخلف لي بها ضياعا فاحتجت إلى ملاقاة الرجال والسلطان فيما كان لنا، فكنت أنظر إلى الناس يدخلون ويصلون وكنت أحجب أنا وأقصى، فتتقاصر إلي نفسي ويضيق صدري، فآليت على نفسي إن صرت إلى أمر من السلطان ألا أحتجب أبدا.
وحدثني الزبير بن بكار قال: استأذن نافع بن جبير بن مطعم على معاوية فمنعه الحاجب فدق أنفه، فغضب معاوية - وكان جبير عنده - فقال معاوية: يا نافع، أتفعل هذا بحاجبي؟ قال: وما يمنعني منه وقد أساء أدبه وأسأت اختياره، ثم أنا بالمكان الذي أنا به منك؟ فقال جبير: فض الله فاك، ألا تقول وأنا بالمكان الذي أنا به من بني عبد مناف ...! فتبسم معاوية وأعرض عنه.
ووفد رجل من الأساورة على بعض ملوكهم فأقام ببابه حولا لا يصل إليه، فكلم الحاجب فأوصل له رقعة فيها أربعة أسطر، الأول فيه: الأمل والضرورة أقدماني عليك. وفي الثاني: ليس على المعدم صبر على المطالبة. وفي الثالث: رجوع بلا فائدة شماتة العدو والقريب. وفي الرابع: إما «نعم» مثمرة، وإما «لا» مؤيسة. ولا معنى للحجاب بينهما. فوقع تحت كل سطر منها. وأنشد الوليد بن عبيد البحتري في ابن المدبر يهجو غلامه بشرا:
وكم جئت مشتاقا على بعد غاية
إلى غير مشتاق وكم ردني بشر
فما باله يأبى دخولي وقد رأى
خروجي من أبوابه ويدي صفر
وأنشدت لبعضهم:
لعمري لئن حجبتني العبي
د ببابك ما يحجبوا القافية
سأرمي بها من وراء الحجا
ب جزاء قروض لكم وافية
تصم السميع وتعمي البصي
ر ويسأل من أجلها العافية
وأنشدني أحمد بن أبي فنن بن محمد بن حمدون بن إسماعيل:
ولقد رأيت بباب دارك جفوة
فيها لحسن صنيعة تكدير
ما بال دارك حين تدخل جنة
وبباب دارك منكر ونكير
وأنشدني أبو علي الدرهمي اليمامي في أبي الحسن علي بن يحيى:
لا يشبه الرجل الكريم نجاره
ذا اللب غير بشاشة الحجاب
وبباب دارك من إذا ما جئته
جعل التبرم والعبوس ثوابي
أوصيته بالإذن لي فكأنما
أوصيته متعمدا بحجابي
وأنشدني أبو علي البصير فيه أيضا:
في كل يوم لي ببابك وقفة
أطوي إليها سائر الأبواب
فإذا حضرت رغبت عنك فإنه
ذنب عقوبته على البواب
وأنشدني أبو علي اليمامي، وعاتب بعض أهل العسكر في حاجته فلم يأذن له الحاجب بعد ذلك، فكتب إليه:
صار العتاب يزيدني بعدا
ويزيد من عاتبته صدا
وإذا شكوت إليه حاجبه
أغراه ذاك فزادني ردا
وأنشدني العجيبي في بعض أهل العسكر يعاتبه في حجابه ويهجو حاجبه:
إنما يحسن المديح إذا ما
أنشد المادح الفتى الممدوحا
وأراني بباب دارك عمر
ت طويلا مقصى مهانا طريحا
إن بالباب حاجبا لك أمسى
منكر عنده ظريفا مليحا
ما سألناه عنك قط وإلا
رد من بغضه مردا قبيحا
وأنشدت لبعضهم في هجاء حاجب:
سأترك بابا أنت تملك إذنه
ولو كنت أعمى عن جميع المسالك
فلو كنت بواب الجنان تركتها
وحولت رحلي مسرعا نحو مالك
وكتب بعض الكتاب إلى الحسن بن وهب:
قد كنت أحسب أن طرفك ملني
ورميت منك بجفوة وعذاب
فإذا هواك على الذي قد كان لي
وإذا بليتنا من البواب
فاعلم - جعلت فداك - غير معلم
أن الأديب مؤدب الحجاب
قال رزين العروضي لجعفر بن محمد الأشعث:
إن كنت تحجبني للذئب مزدهيا
فقد لعمري أبوكم كلم الذيبا
فكيف لو كلم الليث الهصور إذا
تركتم الناس مأكولا ومشروبا
هذا السنيدي ما ساوى إتاوته
يكلم الفيل تصعيدا وتصويبا
اذهب إليك فما آسي عليك وما
ألفى ببابك طلابا ومطلوبا
المدائني قال: كان يزيد بن عمر الأسيدي على شرطة البصرة فأتاه الفرزدق في جماعة فوقف ببابه فأبطأ عليه إذنه، فقال - وكان عمر يلقب بالوقاح:
ألم يك من نكس الزمان على استه
وقوفي على باب الوقاح أسائله
فإن تك شرطيا فإني لغالب
إذا نزلت أركان فخ منازله
وقال أبو علي البصير، وحجبه محمد بن غسان، بعد أنس كان بينهما:
قد أتينا للوعد صدر النهار
فدفعنا من دون باب الدار
فأحطنا بكل ما غاب من شأ
نك عنا خبرا بلا استخبار
فإذا أنت قد وصلت صبوحا
بغبوق ودلجة بابتكار
وإذا نحن لا تخاطبنا الغلما
ن إلا بالجحد والإنكار
فانصرفنا وطالما قد تلقو
نا بأنس منهم وباستبشار
ذاك إذ كان مرة لك فينا
وطر فانقضى من الأوطار
حين كنا المقدمين على النا
س وكنا الشعار دون الدثار
كم تأنيت وانتظرت فأفني
ت تأني كله وانتظاري
فعليك السلام كنا من ال
أهل فصرنا من جملة الزوار
وله إليه أيضا:
قد أطلنا بالباب أمس القعودا
وجفينا به جفاء شديدا
وذممنا العبيد حتى إذا نح
ن بلونا المولى عذرنا العبيدا
وعلى موعد أتيناك معلو
م وأمر مؤكد تأكيدا
فأقمنا لا الإذن جاء ولا جا
ء رسول قال انصرف مطرودا
وصبرنا حتى رأينا قبيل الظهر
برذون بعضهم مردودا
واستقر المكان بالقوم وال
غلمان في ذاك يمنحونا صدودا
ويشيرون بالمضي فلما
أحرجوا جردوا لنا تجريدا
فانصرفنا في ساعة لو طرح
ت اللحم فيها نيئا كفيت الوقودا
فلعمري لو كنت تعتد لي ذن
با عظيما وكنت فظا حقودا
وطلبت المزيد لي في عذاب
فوق هذا لما وجدت مزيدا
كان ظني بك الجميل فألفي
تك من كل ما ظننت بعيدا
فعليك السلام تسليم من لا
يضمر الدهر بعدها أن يعودا
وله في أحمد بن داود البستي، وقصد إليه بكتاب إسحاق بن سعد الكاتب:
يا ابن سعد إن العقوبة لا تل
زم إلا من ناله الإعذار
وابن داود مستخف وقد
وافته مشحوذة عليه الشفار
فاهده للتي يكون له من
ها مفر ما دام ينجي الفرار
سامني أحمد بن داود أمرا
ما على مثله لدي اصطبار
لي إليه في كل يوم جديد
روحة ما أغبها وابتكار
ووقوف ببابه أمنع الإذ
ن عليه وتدخل الزوار
خطة من يقم عليها من النا
س ففيها ذل له وصغار
لو ينال الغنى لما كان في ذا
لك حظ يناله مختار
عزب الرأي فيه عنه وغر
ته أناة طويلة وانتظار
وحجب بباب بعض الكتاب فكتب إليه:
أقمت ببابك في جفوة
يلون لي قوله الحاجب
فيطمعني تارة في الوصو
ل وربتما قال لي راكب
فأعلم عند اختلاف الكلا
م وتخليطه أنه كاذب
وأعزم عزما فيأبى علي
إمضاءه رأيي الثاقب
وإني أراقب حتى يثوب
للحسن من رأيه ثائب
فإن تعتذر تلفني عاذرا
صفوحا وذاك هو الواجب
وإلا فإني إذا ما الحبا
ل رثت قواها لها قاضب
وقال لعلي بن يعقوب الكاتب وقد حجبه ببابه:
قد أتيناك للسلام فصادف
نا على غير ما عهدنا الغلاما
وسألناه عنك فاعتل بالنو
م وما كان منكرا أن تناما
غير أن الجواب كان جوابا
سيئا يعقب الصديق احتشاما
فانصرفنا نوجه العذر إلا
أن في مضمر القلوب اضطراما
يا ابن يعقوب لا يلومن إلا
نفسه بعد هذه من لاما
وقال لعلي بن يحيى المنجم وقد حجبه غلامه:
ليس يرضى الحر الكريم وإن
أقطعته الأرض أن يذل لعبد
فعليك السلام إلا على الطر
ق وحبي كما علمت وودي
وقال أبو هفان لعلي بن يحيى يعاتبه في حجابه:
أبا حسن وفنا حقنا
بحق مكارمك الوافية
أأحجب دونك شر الحجا
ب وتدخل دوني بنو العافية
أعوذ بفضلك من أن أسا
ء وأسأل ربي لك العافية
فإني امرؤ تتقيني الملو
ك وتدخل في حلفي الصافية
كتبت على نفس من رامني
ببعض الأذى للردى قافية
وأنشدت لبرقوق الأخطل، وقد حجب بباب بعض الكتاب:
قد حجبنا وكان خطبا جليلا
وقليل الجفاء ليس قليلا
لم أكن قبلها ثقيلا وهل يث
قل من خاف أن يكون ثقيلا
غير أني أظن لا زال هذا
الظن ينقاد أن يكون ملالا
أخذه من قول الآخر:
لما تحاجبت وقد خفت أن
تدنو من ودك بالمقبل
أقللت من إتيانكم إنه
من خاف أن يثقل لم يثقل
وأنشدني أبو عبد الرحمن العطوي:
لأبي بكر خليلي
حسن رأي في الحجاب
يا أبا بكر سقاك الل
ه من صوب السحاب
لن تراني بعدها من
بعدها قارع باب
إن ينب خطب ففي
الرسل بلاغ والكتاب
ولخالد الكاتب في جعفر بن محمود:
احتجب الكاتب في دهرنا
وكان لا يحتجب الكاتب
القوم يخلون بحجابهم
فينكح المحجوب والحاجب
ولأبي سعيد المخزومي في الحسن بن سهل:
ترهب بعدك الحسن بن سهل
وأغلق بابه دون المديح
كذبت له ولم أكذب عليه
كما كذب النصارى للمسيح
وأنشدني البلاذري في بعض كتاب أهل العسكر:
أيحجبني من ليس من دون عرسه
حجاب ولا من دون وجعائه ستر
ومن لو أمات الله أهون خلقه
عليه لأضحى قد تضمنه قبر؟
وأنشدني حبيب بن أوس في موسى بن إبراهيم أبو المغيث:
أمويس لا يغني اعتذارك طالبا
ودي فما بعد الهجاء عتاب
هب من له شيء يريد حجابه
ما بال لا شيء عليه حجاب؟
ما إن سمعت ولا أراني سامعا
يوما بصحراء عليها باب
من كان مفقود الحياء فوجهه
من غير بواب له بواب
ولآخر:
بخل الأمير بإذنه
فجلست في بيتي أميرا
وتركت إمرته له
والله محمود كثيرا
وأنشدني الزبير بن بكار لبعض الشعراء:
سأترك هذا الباب ما دام إذنه
على ما أرى حتى يلين قليلا
إذا لم نجد للإذن عندك سلما
وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا
الزبير بن بكار قال: وفد ابن عم لداود بن يزيد المهلبي عليه فحجبه وجعل يمطله بحاجته، فكتب إليه:
أبا سليمان وعدا غير مكذوب
اليأس أروح من آمال عرقوب
أرى حمامة مطل غير طائرة
حتى تنقب عن بعض الأعاجيب
لا تركبن بشعري غير مركبه
فيركب الشعر ظهرا غير مركوب
لئن حجبت فلم تأذن عليك فما
شعري إذا سار عن إذن بمحجوب
إن ضاق بابك عن إذن شددت غدا
رحلي إلى المطريين المناجيب
قوم إذا سئلوا رقت وجوههم
لا يستفيدون إلا للمواهيب
وللأحوص بن محمد الأنصاري في أبي بكر بن حزم:
أعجبت أن ركب ابن حزم بغلة
فركوبه فوق المنابر أعجب
وعجبت أن جعل ابن حزم حاجبا
سبحان من جعل ابن حزم يحجب
وأنشدت لابن حازم يعاتب رجلا في حجابه:
صحبتك إذ أنت لا تصحب
وإذ أنت لا غيرك المركب
وإذ أنت تفرح بالزائري
ن ونفسك نفسك تستحجب
وإذ أنت تكثر ذم الزما
ن ومشيك أضعاف ما تركب
فقلت كريم له همة
ينال فأدرك ما يطلب
وأصبحت عنك إذا ما أتي
ت دون الورى كلهم أحجب
وأنشدني أبو تمام الطائي:
ومحجب حاولته فوجدته
نجما عن الركب العفاة شسوعا
لما عدمت نواله أعدمته
شكري فرحنا معدمين جميعا
ووقف العتبي بباب إسماعيل بن جعفر يطلب إذنه، فأعلمه الحاجب أنه في الحمام، فقال:
وأمير إذا أراد طعاما
قال حجابه أتى الحماما
فيكون الجواب مني للحا
جب ما إن أردت إلا السلاما
لست آتيكم من الدهر إلا
كل يوم نويت فيه الصياما
إنني قد جعلت كل طعام
كان حلا لكم علي حراما
وأنشدني إسحاق بن خلف البصري له :
أيحجبني أبو الحسن
وهذا ليس بالحسن
وليس حجابه إلا
على الزيتون والجبن
وأنشدني بعضهم:
لا تتخذ بابا ولا حاجبا
عليك من وجهك بواب
أنت ولو كنت بدوية
عليك أبواب وحجاب
ولعلي بن جبلة في الحسن بن سهل:
اليأس عز والذلة الطمع
يضيق أمر يوما ويتسع
لا تستريبن إذن محتجب
إن لم تكن بالدخول تنتفع
أحق شيء بطول مهجره
من ليس فيه ري ولا شبع
قل لابن سهل فإنني رجل
إن لم تدعني فإنني أدع
اليأس مالي وجبتي كرم
والصبر وال علي لا الجزع
ولأبي تمام الطائي في أبي المغيث:
لا تكلفن وأرض وجهك وجهه
من غير منفعة مئونة حاجب
لا تمتهني بالحجاب فإنني
فطن البديهة عالم بمآربي
ولبعض الشعراء في العباس بن خالد، وخبرت أنه لابن الأعمش:
أتحجبني وليس لديك نيل
وقد ضيعت مكرمة ومجدا
وفي الآفاق أبدال ورزق
وفي الدنيا مراح لي ومغدا
وأنشدني أبو الخطاب لدعبل في غسان بن عباد:
لقطع الرمال ونقل الجبال
وشرب البحار التي تصطخب
وكشف الغطاء عن الجن أو
صعود السماء لمن يرتقب
وإحصاء لؤم سعيد لنا
أو الثكل في ولد منتخب
أخف على المرء من حاجة
تكلف غسانها مرتقب
له حاجب دونه حاجب
وحاجب حاجبه محتجب
ولمرواس بن حزام الأسدي في بشير بن جرير بن عبد الله:
أتيت بشيرا زائرا فوجدته
أخا كبرياء عالما بالمعاذر
فصد وأبدى غلظة وتجهما
وأغلق باب العرف عن كل زائر
حجابا لحر لا جوادا بماله
ولا صابرا عند اختلاف البواتر
وحجب أبو العتاهية بباب أحمد بن يوسف الكاتب فكتب إليه:
ألم تر أن الفقر يرجى له الغنى
وأن الغنى يخشى عليه من الفقر
فإن نلت تيها بالذي نلت من غنى
فإن غنائي بالتكرم والصبر
وله أيضا فيه:
إن أتيتك للسلام
تكلفا مني وحمقا
فصددت عني نخوة
وتجبرا ولويت شدقا
فلو ان رزقي في يدي
ك لما طلبت الدهر رزقا
ولأحمد بن أبي طاهر:
ليس العجيب بأن أرى لك حاجبا
ولأنت عندي من حجابك أعجب
فلئن حجبت لقد حجبت معاشرا
ما كان مثلهم ببابك يحجب
وله في بعض الكتاب:
ردني بالذل حاجبه
إذ رأى أني أطالبه
ليس كشخانا فأشتمه
إنما الكشخان صاحبه
وله أيضا في علي بن يحيى يعاتبه في بعض قصائده:
أصوابا تراه أصلحك الله
فما إن رأيته بصواب
صرت أدعوك من وراء حجاب
ولقد كنت حاجب الحجاب
أتى أبو العتاهية بباب أحمد بن يوسف الكاتب في حاجة فلم يؤذن له فقال:
لئن عدت بعد اليوم إني لظالم
سأصرف وجهي حيث تبغى المكارم
متى ينجح الغادي إليك بحاجة
ونصفك محجوب ونصفك نائم
ولآخر:
رأيتك تطردنا بالحجا
ب عنك يروقك طردا جميلا
ولكن في طمع الطامعي
ن والحر من ذا يفك العقولا
فهل لك في الإذن لي بالرحيل
فقد أبت النفس إلا الرحيلا
وحدثني أبو علي البصير قال: حدثني محمد بن غسان بن عباد قال: كنت بالرقة وكان بها موسوس يقول الشعر المحال والمنكسر، فغديته يوما معي احتسابا للثواب، فأتاني من غد وعندي جماعة من العمال فحجبه الغلام، فلما كان من غد وقف على الباب وصاح:
عليك إذن فإنا قد تغدينا
نعود للأكل إنا قد تعدينا
يا أكلة سلفت أبقت حرارتها
داء بقلبك ما صمنا وصلينا
قال: وما علمته قال شعرا على استواء غيره، ولكني وعظت به فوقع مكروهي على لسانه. وأنشدت لحماد عجرد يعاتب بعض الملوك:
إذا كنت مكتفيا بالحجا
ب دون اللمام تركت اللماما
وإلا فأوص هداك الملي
ك بوابكم بي وأوص الغلاما
فإن كنت أدخلت في الزائري
ن إما قعودا وإما قياما
وإن لم أكن منك أهلا لذاك
فلا لوم لست أحب الملاما
فإني أذم إليك الأنا
م أخزاهم الله ربي أناما
فإني وجدتهم كلهم
يميتون مجدا ويحيون ذاما
ولأبي الأسد الشيباني يعاتب أبا دلف في حجابه:
ليت شعري أضاقت الأرض عني
أم نفي من البلاد طريد
أم قدار أم الحبابة أم
أحمر لاقت به البلاء ثمود
أم أنا قانع بأدنى معاش
همتي القود والقليل الزهيد
مقولي قاطع وسيفي حسام
ويدي حرة وقلبي شديد
رب عز من رام من بابك اليو
م عليه عساكر وجنود
قد وجدناه داخلين غدوا
ورواحا وأنت عنه مذود
فاكفف اليوم من حجابك إذ
لست أميرا ولا خميسا تقود
لن يقيم العزيز في البلد الهو
ن ولا يكسد الأديب الجليد
كل من فر من هوان فإن
الرحب يلقاه والفضاء العتيد
ولعلي بن جبلة في بعض الملوك:
حجابك ضيق ونداك نزر
وإذنك قد يراد عليه أجر
وذل أن يقوم إليك حر
وتطلاب الثواب لديك نقر
وأنشدني الثمامي في أبي الصقر إسماعيل بن بلبل يعاتبه في حجابه:
لكل مؤمل جدوى كريم
على تأميله يوما ثواب
وأنت الحر ما خانتك نفس
ولا أصل إذا وقع انتساب
وشكري ظاهر ورجاي جزل
ففيم جزاي من ذل حجاب
وحقي أن تكافيني مزيدا
بشكري إذ به نزل الكتاب
وأنشدت لأبي مالك الأعرج:
علقت عيني بباب الدار منتظرا
منك الرسول فخلصها من الباب
لما رأيت رسولي لا سبيل له
إلى لقائك من دفع وحجاب
صانعت فيك بمثلي ما أؤمله
فيما لديك وهذا سعي خياب
ولبشار بن برد في عبيد الله بن قزعة:
إذا سئل المعروف أغلق بابه
فلم تلقه إلا وأنت كمين
كأن عبيد الله لم ير ماجدا
ولم يدر أن المكرمات تكون
فقل لأبي يحيى متى تدرك العلى
وفي كل معروف عليك يمين
وأنشدت لأبي زرعة - رجل من أهل الشام - في أبي الجهم بن سيف:
ولكن أبو الجهم إن جئته
لهيفا حجبت عن الحاجب
وليس بذي موعد صادق
ويبخل بالموعد الكاذب
وحجب سعيد بن حميد بباب الحسن بن مخلد فكتب إليه:
رب بشر يصير الحر عبدا
لك غالته جفوة الحجاب
وفتى ذي خلائق معجبات
أفسدتها خلائق البواب
وكريم قد قصرت بأيادي
ه عبيد تسيء بالآداب
لا أرى للكريم أن يشتري
الدنيا جميعا بوقفة في الباب
إن تركت العبيد والحكم فينا
صار فضل الرءوس للأذناب
فأحلوا أشكالهم رتب الفض
ل وحط الأحرار عفر التراب
وأنشدت لعبد الله بن العباس:
أنا بالباب واقف منذ أصبح
ت على السرج ممسكا بعناني
وبعين البواب كل الذي بي
ويراني كأنه لا يراني
وأنشدت لابن أبي عيينة المهلبي، واسمه عبد الله بن محمد، يعاتب رجلا من قومه:
أتيتك زائرا لقضاء حق
فحال الستر دونك والحجاب
ولست بساقط في قدر قوم
وإن كرهوا كما يقع الذباب
ورائي مذهبي عن كل ناء
بجانبه إذا عز الذهاب
وأنشدني ابن أبي فنن:
ما ضاقت الأرض على راغب
في طلب الرزق ولا راهب
بل ضاقت الأرض على صابر
أصبح يشكو جفوة الحاجب
من شتم الحاجب في ذنبه
فإنما يقصد للصاحب
فارغب إلى الله وإحسانه
لا تطلب الرزق من الطالب
قال المدائني: أتى عويف القوافي باب عمر بن عبد العزيز فحجب أياما، ثم استأذن له حبيش صاحب إذن عمر، فلما قام بين يديه قال:
أجبني أبا حفص لقيت محمدا
على حوضه مستبشرا بدعاكا
فقال عمر: أقول: لبيك وسعديك. فقال:
وأنت امرؤ كلتا يديك طليقة
شمالك خير من يمين سواكا
علام حجابي زادك الله رفعة
وفضلا وماذا للحجاب دعاكا؟
فقال: ليس ذاك إلا لخير. وأمر له بصلة.
وقال المدائني: أقام عبد العزيز بن زرارة الكلابي بباب معاوية حينا لا يؤذن له، ثم دخل عليه فقال:
دخلت على معاوية بن حرب
وكنت وقد يئست من الدخول
رأيت الحظ يستر كل عيب
وأيهات الحظوظ من العقول
قيل لحبة المدنية: ما الجرح الذي لا يندمل؟ قالت: حاجة الكريم إلى اللئيم ثم لا يجدي عليه. قيل لها: فما الذل؟ قالت: وقوف الشريف بباب الدنيء ثم لا يؤذن له. قيل لها: فما الشرف؟ قالت: اعتقاد المنن في أعناق الرجال تبقى للأعقاب في الأحقاب.
وقيل لعروة بن عدي بن حاتم وهو صبي في وليمة كانت لهم: قف بالباب فاحجب من لا تعرف وأدخل من تعرف. فقال: والله لا يكون أول شيء أستكفيه منع الناس من الطعام. وأنشدت لابن أبي عيينة المهلبي:
بلغة تحجب الفتى عن دناءة
وعقاب يخاف أو لا يخاف
هو خير من الركوب إلى با
ب حجاب عنوانه الانصراف
بئس للدولة التي ترفع ال
سفلة فيها وتسقط الأشراف
وأنشدت لموسى بن جابر الحنفي:
لا أشتهي يا قوم إلا مكرها
باب الأمير ولا دفاع الحاجب
ومن الرجال أسنة مذروبة
ومزندون شهودهم كالغائب
منهم أسود لا ترام ومنهم
مما قمشت وضم حبل الحاطب
وأنشدني بعض أصحابنا:
إني امرؤ لا أرى بالباب أقرعه
إذا تنمر دوني حاجب الباب
ولا ألوم امرأ في ود ذي شرف
ولا أطالب ود الكاره الآبي
وأنشدني ابن أبي فنن:
الموت أهون من طول الوقوف على
باب علي لبواب عليه يد
ما لي أقيم على ذل الحجاب كأن
قد ملني وطن أو ضاق بي بلد
وأنشدني الزبير بن بكار لجعفر بن الزبير:
إن وقوفي من وراء الباب
يعدل عندي قلعهم أنيابي
وأنشدت لمحمود الوراق:
شاد الملوك حصونهم وتحصنوا
من كل طالب حاجة أو راغب
عالوا بأبواب الحديد لعزها
وتنوقوا في قبح وجه الحاجب
فإذا تلطف للدخول عليهم
راج تلقوه بوعد كاذب
فاضرع إلى ملك الملوك ولا تكن
بادي الضراعة طالبا من طالب
وأنشدني أبو موسى المكفوف:
لن تراني لك العيون بباب
ليس مثلي يطيق ذل الحجاب
قاعدا في الخراب يحجب عنا
ما سمعنا إمارة في خراب
وأنشدني أبو قنبر الكوفي:
ولست بمتخذ صاحبا
يقيم على بابه حاجبا
إذا جئته قيل لي نائم
وإن غبت ألفيته عاتبا
ويلزم إخوانه حقه
وليس يرى حقهم واجبا
فلست بلاقيه حتى المما
ت إن أنا لم ألقه راكبا
وأنشدني أبو بكر محمد بن أحمد - من أهل رأس العين - لنفسه في بعض بني عمران بن محمد الموصلي:
أأبا الفوارس أنت أنت فتى الندى
شهدت بذاك ولم تزل قحطان
فلأي شيء دون بابك حاجب
من مسه يتخبط الشيطان
فإذا رآني مال عني معرضا
فكأنه من خوفه سرطان
من عاتب على حجابه والإذن لغيره : قال الأشهب بن رميلة:
وأبلغ أبا داود أني ابن عمه
وأن البعيثي من بني عم سالم
أتولج باب الملك من ليس أهله
وريش الذنابى تابع للقوادم؟
وقال عاصم الزماني من بني زمان:
أبلغ أبا مسمع عني مغلغلة
وفي العتاب حياة بين أقوام
أدخلت قبلي رجالا لم يكن لهم
في الحق أن يلجوا الأبواب قدامي
وقال هشام بن أبيض من بني عبد شمس:
وليس يزيدني حبي هوانا
علي ولا تراني مستكينا
فإن قدمتموا قبلي رجالا
أراني فوقهم حسبا ودينا
ألسنا عائدين إذا رجعنا
إلى ما كان قدم أولونا؟
فأرجع في أرومة عبشمي
يرى لي المجد والحسب السمينا
وقال دينار بن نعيم الكلبي:
وأبلغ أمير المؤمنين ودونه
فراسخ يطوى الطرف وهو حديد
بأني لدى عبد العزيز مدفع
يقدم قبلي راسب وسعيد
وإني لأدنى في القرابة منهما
وأشرف إن كنت الشريف تريد
وقال المدائني: أتى ابن فضالة بن عبد الله الغنوي باب قتيبة بن مسلم فأساء إذنه فقال:
كيف المقام أبا حفص بساحتكم
وأنت تكرم أصحابي وتجفوني
أراهم حين أغشى باب حجرتكم
يدعوهم النقرى دوني ويقصوني
كم من أمير كفاني الله سخطته
مذ ذاك أوليته ما كان يوليني
إني أبى لي أن أرضى بمنقصة
عم كريم وخال غير مأفون
خالي كريم وعمي غير مؤتشب
ضخم الجمالة أباء على الهون
وقال المدائني: كان مسلمة بن عبد الملك تزوج ابنة زفر بن الحارث الكلابي، وكان ببابه عاصم بن زيد الهلالي، والهذيل وكوثر ابنا زفر، فكان يأذن لهما قبل عاصم. فقال:
أمسلم قد منيتني ووعدتني
مواعد صدق إن رجعت مؤمرا
أيدعى هذيل ثم أدعى وراءه
فيا لك مدعى ما أذل وأحقرا
وكيف ولم يشفع لي الليل كله
شفيع وقد ألقى قناعا ومئزرا
فلست براض عنك حتى تحبني
كحبك صهريك الهذيل وكوثرا
وقال الأصحم - أحد بني سعد بن مالك بن صعصعة بن قيس بن ثعلبة - يذكر خالد بن عبد الله القسري وأبان بن الوليد البجلي، وحجبه خالد:
ومنزلة ليست بدار مثابة
أطال بها حبسي أبان وخالده
فإن أنا لم أترك بلادا هما بها
فلا ساغ لي من أعذب الماء بارده
إذا ما أتيت الباب صادفت عنده
بجيلة أمثال الكلاب تراصده
عليهم ثياب الخز تبكي كما بكت
كراسيه من لؤمه ووسائده
ويدعون قدامي ويجعل دوننا
من الساج مسمورا تئط حدائده
وقال المدائني: كان تميم بن راشد مولى باهلة حاجبا لقتيبة بن مسلم في خراسان، فكان يأذن لسويد بن هوبر النهشلي ومخفر بن حرب الكلابي قبل الحصين بن المنذر الرقاشي، فقال الحصين:
وإني لألقى من تميم وبابه
عناء ويدعو مخفرا وابن هوبرا
نزيعين من حيين شتى كأنما
يرى بهما البواب كسرى وقيصرا
وقال عبيد الله بن الحر الفاتك لعبد الله بن الزبير - وشكا إليه مصعبا وحجبه - فقال:
وأبلغ أمير المؤمنين نصيحتي
فلست على رأي قبيح أواربه
أفي الحق أن أجفى ويجعل مصعب
وزيرا له من كنت فيه أحاربه
وما لامرئ إلا الذي الله سائق
إليه وما قد خط في الزبر كاتبه
إذا ما أتيت الباب يدخل مسلم
ويمنعني أن أدخل الباب حاجبه
لقد رابني من مصعب أن مصعبا
أرى كل ذي غش لنا هو صاحبه
وقال يحيى بن نوفل لخالد بن عبد الله القسري، وقد حجبه:
فلو كنت عوتيا لأدنيت مجلسي
إليك أخا قسر ولكنني فحل
رأيتك تدني ناشئا ذا عجيزة
بمحجر عينيه وحاجبه كحل
فوالله ما أدري إذا ما خلوتما
وأرخيتما الأستار أيكما الفحل
وقال عمرو بن الوليد في عقبة بن أبي معيط:
أفي الحق أن ندنى إذا ما فزعتم
ونقصى إذا ما تأمنون ونحجب
ويجعل فوقي من يود لو انكم
شهاب بكفي قابس يتلهب
فإن أنتم داويتم الكلم ظاهرا
فمن لكلوم في الصدور تحوب
فقلت وقد أغضبتموني بفعلكم
وكنت امرأ ذا مرة حين أغضب
أما لي في أعداد قومي واحد
ولا عند قومي إن تعتبت معتب؟
المدائني قال: كتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج أن يستعمل سبع بن مالك على سجستان، فولاه إياها، فأتاه الضحاك بن هشام فلم ينله خيرا وأقصاه، فقال:
وما كنت أخشى يا ابن كبشة أن أرى
لبابك بوابا ولاستك منبرا
وما شجر الوادي دعوت ولا الحصى
ولكن دعوت الحرقتين وجحدرا
أخذنا بآفاق السماء فلم ندع
لعينيك في آفاقها الخضر منظرا
من مدح برفع الحجاب : قال أيمن بن خريم في بشر بن مروان:
ولو شاء بشر كان من دون بابه
طماطم سود أو صقالبة حمر
ولكن بشرا سهل الباب للتي
يكون له من دونها الحمد والشكر
بعيد مراد الطرف ما رد طرفه
حذار الغواشي باب دار ولا ستر
وله أيضا في عبد العزيز:
لعبد العزيز على قومه
وغيرهم منن ظاهرة
فبابك ألين أبوابهم
ودارك مأهولة عامرة
وكلبك أرأف بالمعتفين
من الأم بابنتها الزائرة
وكفك حين ترى السائلي
ن أندى من الليلة الماطرة
فمنك العطاء ومنا الثناء
بكل محبرة سائرة
ولآخر أيضا:
ما لي أرى أبوابهم مهجورة
وكأن بابك مجمع الأسواق
إني رأيتك للمكارم عاشقا
والمكرمات قليلة العشاق
وللتميمي:
يزدحم الناس على بابه
والمنهل العذب كثير الزحام
ولأشجع بن عمرو السلمي:
على باب ابن منصور
علامات من البذل
جماعات وحسب البا
ب جودا كثرة الأهل
وأنشدت لعمارة بن عقيل في خالد بن يزيد:
تأبى خلائق خالد وفعاله
إلا تجنب كل أمر عائب
وإذا حضرنا الباب عند غدائه
أذن الغداء برغم أنف الحاجب
وأنشدت لبعضهم:
أبلج بين حاجبيه نوره
إذا تغدى رفعت ستوره
ولثابت قطنة في يزيد بن المهلب:
أبا خالد زدت الحياة محبة
إلى الناس أن كنت الأمير المتوجا
وحق لهم أن يرغبوا في حياتهم
وبابك مفتوح لمن خاف أو رجا
يزيد الذي يرجو نداك تفضلا
وتؤمن ذا الإجرام إن كنت محرجا
فيمن أمل حجابه ولم يذم عليه : المدائني قال: حضر أبو سفيان بن حرب باب عثمان بن عفان فحجب عنه، فقال له رجل يغريه به: حجبك أمير المؤمنين يا أبا سفيان! فقال: لا عدمت من قومي من إذا شاء أن يحجبني حجبني. وأنشدني الطائي في إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
يا أيها الملك المأمول نائله
وجوده لمراعي جوده كثب
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا
إن السماء ترجى حين تحتجب
وله في مالك بن طوق:
قل لابن طوق رحى سعد إذا خبطت
حوادث الدهر أعلاها وأسفلها
أصبحت حاتمها جودا وأحنفها
حلما وكيسها علما ودغفلها
ما لي أرى القبة الفيحاء مقفلة
عني وقد طالما استفتحت مقفلها
كأنها جنة الفردوس معرضة
وليس لي عمل زاك فأدخلها
ولأبي عبد الرحمن العطوي في ابن المدبر:
إذا أنت لم ترسل وجئت فلم أصل
ملأت بعذر منك سمع لبيب
قصدتك مشتاقا فلم أر حاجبا
ولا ناظرا إلا بعين غضوب
كأني غريم مقتضى أو كأنني
طلوع رقيب أو نهوض حبيب
فقمت وقد فك الحجاب عزيمتي
على شكر سبط الراحتين وهوب
علي له الإخلاص ما ردع الهوى
أصالة رأي أو وقار مشيب
وأنشدني الخثعمي:
كيف ما شئت فاحتجب يا أبا الل
يث ومن شئت فاتخذ بوابا
أنت لو كنت دون أعراض قحطا
ن وأسبلت دونه الأبوابا
لرأيناك في مرايا أيادي
ك يقينا ولو أطلت الحجابا
وأنشدني البلاذري في عبيد الله بن يحيى بن خاقان:
قالوا اصطبارك للحجاب وذله
عار عليك مدى الزمان وعاب
فأجبتهم ولكل قول صادق
أو كاذب عند الكريم جواب
إني لأغتفر الحجاب لماجد
ليست له منن علي رغاب
قد يرفع المرء اللئيم حجابه
ضعة ودون العرف منه حجاب
والحر مبتذل النوال وإن بدا
من دونه ستر وأغلق باب
يقول حسن بن أحمد السندوبي جامع هذه الرسائل وكاشفها: قد نقلت هذه الرسالة عن الشهاب الخفاجي، وفي نفسي من نسبتها إلى الجاحظ شيء ربما بينته في قول خاص.
كتاب التربيع والتدوير
قال أبو عثمان:
كان أحمد بن عبد الوهاب مفرط القصر ويدعي أنه مفرط الطول. وكان مربعا وتحسبه لسعة جفرته واستفاضة خاصرته مدورا. وكان جعد الأطراف قصير الأصابع. وهو في ذلك يدعي السباطة والرشاقة، وأنه عتيق الوجه أخمص البطن معتدل القامة تام العظم. وكان طويل الظهر قصير عظم الفخذ، وهو مع قصر عظم ساقه يدعي أنه طويل الباد
1
رفيع العماد عادي القامة عظيم الهامة، قد أعطى البسطة في الجسم والسعة في العلم. وكان كبير السن متقادم الميلاد، وهو يدعي أنه معتدل الشباب حديث الميلاد. وكان ادعاؤه لأصناف العلم على قدر جهله بها، وتكلفه للإبانة عنها على قدر غباوته فيها. وكان كثير الاعتراض، لهجا بالمراء، شديد الخلاف، كلفا بالمجاذبة، متتايعا في العنود، مؤثرا للمغالبة، مع إضلال الحجة والجهل بموضع الشبهة، والخطرفة عند قصر الزاد، والعجز عند التوقف، والمحاكمة مع الجهل بثمرة المراء ومغبة فساد القلوب ونكد الخلاف، وما في الخوض من اللغو الداعي إلى السهو، وما في المعاندة من الإثم الداعي إلى النار، وما في المجاذبة من النكد، وما في المغالبة من فقدان الصواب. وكان قليل السماع غمرا وصحفيا غفلا،
2
لا ينطق عن فكر ويثق بأول خاطر ولا يفصل بين اعتزام الغمر واستبصار الحق. يعد أسماء الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلق منهم بسبب، وليس في يده من جميع الآداب إلا الانتحال لاسم الأدب.
فلما طال اصطبارنا حتى بلغ المجهود منا، وكدنا نعتاد مذهبه ونألف سبيله، رأيت أن أكشف قناعه وأبدي صفحته للحاضر والبادي وسكان كل ثغر وكل مصر، بأن أسأله عن مائة مسألة أهزأ فيها وأعرف الناس مقدار جهله، وليسأله عنها كل من كان في مكة ليكفوا عنا من غربه، وليردوه بذلك إلى ما هو أولى به. كأنه لم يسمع بقول النبي
صلى الله عليه وسلم
في السائب بن صيفي: «هذا شريكي الذي لا يشارى ولا يمارى.» ولا بقول عثمان: إذا كان لك صديق فلا تماره ولا تشاره. ولا بقول ابن أبي ليلى: لا أماري أخي، إما أن أكذبه وإما أن أغضبه. ولا بقول ابن عمر: لا يصيب الرجل حقيقة الإيمان حتى يترك المراء وهو محق. وكأنه لم يسمع بقول الشاعر:
خلافا علينا من فيالة رأيه
كما قيل قبل اليوم خالف فتذكرا
ولم يسمع بقول الأول: «رآه معدا للخلاف» البيت. ولا بقول الآخر:
لنا صاحب مولع بالخلاف
كثير المراء قليل الصواب
ألج لجاجا من الخنفساء
وأزهى إذا ما مشى من غراب
وقالوا: فلان أخلف من بول الجمل؛ ولذلك قال الشاعر:
وأخلف من بول البعير فإنه
إذا قيل للإقبال أقبل أدبرا
قال رجل لزهير البابي: أين نبت المراء؟ قال: عند أصحاب الأهواء. وقال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل. وكان عمر بن هبيرة يقول: اللهم إني أعوذ بك من المراء وقلة خيره، ومن اللجاج وتندم أهله. وقال بعض المذكورين: اللهم إنا نعوذ بك من المراء وقلة خيره وسوء أثره على أهله، فإنه يهلك المروءة ويذهب المحبة ويفسد الصداقة ويورث القسوة ويضرى على القحة، حتى يصير الموجز خطلا والحليم نزقا
3
والمتوقي خبوطا والصدوق كذوبا. والمراء من أسباب الغضب، وأقرب ما يكون الرجل من غضب الله إذا غضب، كما أنه أقرب ما يكون من رحمة الله إذا سجد؛ لقول الله عز وجل:
واسجد واقترب .
وقال لقمان لابنه: إياك والمراء فإنه لا تعقل حكمته ولا تؤمن لهجته. وقال آخر: المراء غضبة والصمت حكمة، ولو كان المراء فحلا والفخر أما ما ألقحا إلا الشر. وقال الشعبي: إني لأستحيي من الحق أن أعرفه ثم لا أرجع إليه. وقال ابن عيينة:
4
قال الحسن:
5
ما رأيت فقيها قط يداري ولا يماري، إنما ينشر حكمته فإن قبلت حمد الله وإن ردت حمد الله. عن إبراهيم بن إسماعيل بن عائذ بن المبارك بن سعيد قال: قال مجاهد: صحبت رجلا من قريش ونحن نريد الحج فقلت له يوما: هل نتفاتح الرأي؟ فقال: دع الود كما هو. فعلمت والله أن القرشي قد غلبني. وقال إسحاق الموصلي: كثرة الخلاف حرب، وكثرة المتابعة غش.
بسم الله الرحمن الرحيم: أطال الله بقاءك وأتم نعمته عليك وكرامته لك. قد علمت - حفظك الله - أنك لا تحسد على شيء حسدك على حسن القامة وضخم الهامة، وعلى حور العين وجودة القد، وعلى طيب الأحدوثة والصنيعة المشكورة، وأن هذه الأمور هي خصائصك التي بها تكلف، ومعانيك التي بها تلهج. وإنما يحسد أبقاك الله المرء شقيقه في النسب، وشفيعه في الصناعة، ونظيره في الجوار، على طارف قدره أو تالد حظه، أو على كرم في أصل تركيبه ومجاري أعراقه. وأنت تزعم أن هذه المعاني خالصة لك مقصورة عليك، وأنها لا تليق إلا بك ولا تحسن إلا فيك، وأن لك الكل وللناس البعض، وأن لك الصافي ولهم المشوب. هذا سوى الغريب الذي لا نعرفه ، والبديع الذي لا نبلغه. فما هذا الغيظ الذي أنضجك، وما هذا الحسد الذي أكمدك، وما هذا الإطراق الذي قد اعتراك، وما هذا الهم الذي قد أضناك؟ وهل رأيت أخسر صفقة ولا أوهن قوة ممن يجري العتاق مع الكوادن، والروائع مع الحواسر، وممن حاكم من يسالمه، وجاذب من يقلده؟ وهل رأيت مكينا يقلق ومصنوعا له يسخط؟ وهل زدت على أن أطمعت في نفسك ومكنت للشبهة في أمرك، وأنشأت للخامل ذكرا وللوضيع قدرا؟ إنك لا تعرف الأمور ما لم تعرف أشباهها، ولا عواقبها ما لم تعرف أقدارها، ولن يعرف الحق من يجهل الباطل، ولا يعرف الخطأ من يجهل الصواب، ولا يعرف الموارد من يجهل المصادر! فانظر لم تسالمت النفوس مع تفاوت منازلها، ولم تجاذبت عند تقارب مراتبها، ولم اختلف الكثير واتفق القليل، ولم كانت الكثرة علة للتخاذل والقلة سببا للتناصر. وما فرق ما بين المجاراة والتحاسد وبين المنافسة والتغالب؟ فإنك متى عرفت ذلك استرحت منا ورجونا أن نستريح منك، وكيف يعرف السبب من يجهل المسبب، وكيف يعرف الوصل من يجهل الفصل، وكيف يعرف الحدود من لم يسمع الفصول، وكيف يعرف الحجة من الشبهة والعذر من الحيلة والواجب من الممكن والغفل من الموسوم والمعقول من الموهوم، والمحال من الصحيح والأسرار المجهولة من ذوات الدلائل الخفية، وما يعلم ما لا يعلم وما يعلم باللفظ دون الإشارة مما لا يعلم إلا بالإشارة دون اللفظ، وما يعلم معتقدا مما لا يعلم مكينا وما يعلم مكينا مما لا يعلم معتقدا، وما المستغلق الذي يجوز أن يفارقه استغلاقه والمستبهم الذي لا يفارقه استبهامه، ومن هو طائر مع العوام حيث طارت وساقط معها حيث سقطت مع الزراية
6
عليها والرغبة عنها، قد ظلمها بفضل ظلمه لنفسه وجرى معها بقدر مناسبتها لقدره. فاعرف الجنس من الصنف والقسم من النصف، وفرق ما بين الذم واللوم، وفصل ما بين الحمد والشكر، وحد الاختيار من الإمكان والاضطرار من الإيجاب. وسنعرفك من جملة ما ذكرنا بابا أنت إليه أحوج وهو علينا أرد.
اعلم أن الحسد اسم لما فضل عن المنافسة، كما أن الجبن اسم لما فضل عن التوقي، والبخل اسم لما قصر عن الاقتصاد، والسرف ما جاوز الجود. وأنت - جعلت فداك - لا تعرف هذا ولو أدخلتك الكير
7
ونفخت عليك إلى يوم ينفخ في الصور. وهل في الأرض إقرار أثبت أو دليل أوضح أو شاهد أصدق من شاهدي على ما ادعيت لنفسك من الرفعة مع ما ظهر من حسدك لأهل الضعة؟ وهل تكون بعد ذلك إلا فاسد الحس ظاهر العنود أو جاهلا بالمحال ...؟!
وبعد، فأنت - أبقاك الله - في يدك قياس لا ينكسر، وجواب لا ينقطع، ولك حد لا يفل، وغرب لا ينثني. وهو قياسك الذي إليه تنسب ومذهبك الذي إليه تذهب، أن تقول: وما علي أن يراني الناس عريضا وأكون في حكمهم غليظا، وأنا عند الله طويل جميل وفي الحقيقة مقدود رشيق! وقد علموا حفظك الله أن لك مع طول الباد
8
راكبا طول الظهر جالسا، ولكن بينهم فيك إذا قمت اختلاف، وعليك لهم إذا اضطجعت مسائل. ومن غريب ما أعطيت وبديع ما أوتيت أنا لم نر مقدودا واسع الجفرة
9
غيرك، ولا رشيقا مستفيض الخاصرة سواك! فأنت المديد، وأنت البسيط، وأنت الطويل، وأنت المتقارب. فيا شعرا جمع الأعاريض ويا شخصا جمع الاستدارة والطول! بل ما يهمك من أقاويلهم ويتعاظمك من اختلافهم والراسخون في العلم والناطقون بالفهم يعلمون أن استفاضة عرضك قد أدخلت الضيم على ارتفاع سمكك، وأن ما ذهب منك عرضا قد استغرق ما ذهب منك طولا. ولئن اختلفوا في طولك لقد اتفقوا في عرضك. وإذ قد سلموا لك بالرغم شطرا ومنعوك بالظلم شطرا، فقد حصلت ما سلموا وأنت على دعواك فيما لم يسلموا. ولعمري إن العيون لتخطئ، وإن الحواس لتكذب، وما الحكم القاطع إلا للذهن وما الاستبانة الصحيحة إلا للعقل؛ إذ كان زماما على الأعضاء وعيارا على الحواس. ومما يثبت أيضا أن ظاهر عرضك مانع من إدراك حقيقة طولك قول أبي دواد الإيادي في إبله:
سمنت واستحش أكرعها
لا الني ني ولا السنام سنام
وقول رافع بن هريم:
أدق شواها عند بهرة جوفها
سنام كقصر الهاجري مقرمد
ولو لم يكن من العجب إلا أنك أول من تعبده الله تعالى بالصبر على خطأ الحس وبالشكر على صواب الذهن، لقد كنت في طولك آية للسابلين، وفي عرضك منارا للضالين. وقد تظلم المربوع مثلي من الطويل مثل محمد ومن القصير مثل أحمد؛
10
إذ زعم محمد أنه إنما أفرط في الرشاقة ونسب إلى القضافة
11
لأن إفراط طوله غمر الاعتدال من عرضه، وزعم أحمد أنه إنما أفرط في العرض ونسب إلى الغلظ؛ لأن إفراط عرضه غمر الاعتدال من طوله، وكلاهما يحتاج إلى الاعتذار ويفتقر إلى الاعتلال. والمربوع - بحمد الله - قد اعتدلت أجزاؤه في الحقيقة كما اعتدلت في المنظر! فقد استغنى بعز الحقيقة عن الاعتذار وبحكم الظاهر عن الاعتلال. وقد سمعنا من يذم الطوال كما سمعنا من يزري على القصار، ولم نسمع أحدا ذم المربوع ولا أزرى عليه ولا وقف عنده ولا شك فيه، ومن يذمه إلا من ذم الاعتدال، ومن يزري عليه إلا من أزرى على الاقتصاد، ومن ينصب للصواب
12
الظاهر إلا المعاند، ومن يماري في العيان إلا الجاهل! بل من يزري على أحد بتفاقم التركيب وبسوء التنضيد مع قول الله جل ثناؤه:
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت .
وبعد، فأي قد أردى وأي نظام أفسد من عرض مجاوز للقدر وطول مجاوز للقصد؟ ومتى لم يضرب العرض بسهمه على قدر حقه ويأخذ الطول من نصيبه على مثل وزنه خرج الجسد
13
من التقدير وجاوز التعديل. وإذا خرج من التقدير تفاسد، وإذا جاوز التعديل تباين! ولئن جاز هذا الوصف وحسن هذا النعت كان لقاسم التمار
14
من الفضيلة ما ليس لأحمد بن عبد الوهاب. وهذا كله بعد أن يصدقوك على ما ادعيت لطولك في الحقيقة واحتججت لعرضك في الحكومة. على أنك باعتلالك لما ينفيه العيان واستشهادك لما تنكره الأذهان متعرض
15
للصدق من المتكرم ومتحكك بالحكم من المتغافل! وأي صامت لا ينطقه هذا المذهب، وأي ناطق لا يغريه هذا القول! وإذا كان هذا ناقضا لعزم المتسلم، فما ظنك بعادة المتكلف! فأنشدك الله أن تغرى بك السفهاء أو تنقض عزائم الحلماء! وما أدري - حفظك الله - في أي الأمرين أنت أعظم إثما، وفي أيهما أنت أفحش ظلما، أبتعرضك للعوام، أم بإفسادك حكم الخواص.
وبعد، فما يحوجك إلى هذا وما يدعوك إليه، وأشباهك من القصار كثير، ومن ينصرك منهم غير قليل.
16
وقد رأيتك زمانا تحتج بالنعمان بن المنذر، وبضمرة بن ضمرة، وبمجاعة بن مرارة وبمجاعة بن سعر، وبأوفى بن زرارة، وبعبد الله بن الجارود، وبعلباء بن الهيثم، وبسعيد بن قيس، وبأبي اليسر كعب بن عمرو، وبحسكة بن عتاب، وبمخارق بن غفار، وبعمران بن حطان، وبيوسف ابن عمر، وبإياس بن معاوية، وبمعن بن زائدة، وبعقبة بن سلم، وبرجال ناهيك بهم رجالا وبأعلام كفاك بهم أعلاما.
ورأيتك تقول: إن كان الفضل في النكاية وفي الشدة والصلابة، فقصار كل شيء أشد ضررا وأدق مدخلا وأظهر قوة وجلدا، كالحجارة أصلبها الحصى، وكالحيات أقتلها الأفعى، وكالبعوض أضرها القرقس،
17
وكالعقارب أقتلها الجرارات،
18
وكذلك أحرار الطير وبغائها وصغار البراغيث وكبارها.
وقلت: إن كان الفضل في العدد، فمنا يأجوج ومأجوج، ومنا الذر والفراش، ومنا الدعاميص
19
والبعوض، ومنا الرمل والتراب وقطر السحاب. واحتججت بأن الحسن والفضل لصغار ما في الإنسان كالناظرين والأنثيين وحبة القلب وأم الدماغ، وزعمت أن الإنسان إذا طال جسمه وامتد شخصه أسرع الانهدام إلى بدنه والانحناء إلى ظهره، وأن القصير لا يتقوس ظهره ولا يميل عنقه ولا يضطرب شخصه ولا تعوج عظامه، ويسعه كل باب ويقطعه كل ثوب ولا تخرج رجلاه من النعش ولا تفضلا عن الفراش، وهو بعد أخف على القلوب وأخلط بالنفوس وأبعد من السماجة وأدخل في كل باب ملاحة.
وقلت: وتقول الناس: ما هو إلا فلفلة، وما هو إلا زنبقة، وما هو إلا شرارة، وما لسانه إلا لسان ضبة. ولم أزل أراك تقدم العرض على الطول، وتزعم أن الأرض لم توصف بالعرض دون الطول إلا لفضيلة العرض على الطول. وذلك كقول الشعراء ووصف العلماء، وقال الشاعر:
كأن بلاد الله وهي عريضة
على الخائف المطلوب كفة حابل
ولم يقل: كأن بلاد الله وهي طويلة. وقال آخر:
وفي الأرض للمرء العريضة مذهب
ولم يقل: الطويلة. وقال:
ولا تحسداني بارك الله فيكما
على الأرض ذات العرض أن توسعا ليا
وقال الراجز:
تقطع أرضا وتلاقي أرضا
إن البلاد غلبتني عرضا
ولم يقل: طولا. وقلت: لولا فضيلة العرض على الطول لما وصف الله الجنة بالعرض دون الطول؛ حيث يقول جل ثناؤه:
وجنة عرضها السماوات والأرض . فهذه براهينك الواضحة ودلائلك الظاهرة، ولو لم يكن فيك من الرضا والتسليم ومن القناعة والإخلاص إلا أنك ترى أن ما عند الله خير لك مما عند الناس، وأن الطول الخفي أحب إليك من الطول الظاهر، لكان في ذلك ما يقضي لك بالإنصاف ويحكم لك بالتوفيق.
وأنا - أبقاك الله - أتعشق إنصافك كما أتعشق المرأة الحسناء، وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم التفقه في الدين، ولربما ظننت أن جورك إنصاف قوم آخرين، وأن تعقدك سماح رجال منصفين، وما أظنك صرت إلى معارضة الحجة بالشبهة ومقابلة الاختيار بالاضطرار واليقين بالشك واليقظة بالحلم، إلا للذي خصصت به من إيثار الحق وألهمته من فضيلة الإنصاف، حتى صرت أحوج ما تكون إلى الإنكار أذعن ما تكون بالإقرار، وأشد ما تكون إلى الحيلة فقرا أشد ما تكون للحجة طلبا، إلا أن ذلك بطرف ساكن وصوت خافض وقلب جامع وجأش رابط وبنية حسنة وإرادة تامة مع غفلة كريم وفطنة عليم! إن انقطع خصمك تغافلت، وإن خرق ترفقت، غير منخوب ولا متشغب ولا مدخول ولا مشترك ولا ناقص النفس ولا واهن العزم ولا حسود ولا منافس ولا مغالب ولا معاقب، تفل الحز وتصيب المفصل وتقرب البعيد وتظهر الخفي وتميز الملتبس وتخلص المشكل، وتعطي المعنى حقه من اللفظ كما تعطي اللفظ حقه من المعنى، وتحب المعنى إذا كان حيا يلوح وظاهرا يصيح، وتبغضه إذا كان مستهلكا بالتعقيد ومستورا بالتغريب. وتزعم أن شر الألفاظ ما أغرق المعاني وأخفاها وأسرها وعماها وإن راقت سمع الغمر واستمالت قلب الريض. أعجب والألفاظ عندك ما رق وعذب وخف وسهل، وكان موقوفا على معناه ومقصورا عليه دون ما سواه، لا فاضل ولا مقصر ولا مشترك ولا مستغلق، قد جمع خصال البلاغة واستوفى خلال المعرفة. فإذا كان الكلام على هذه الصفة وألف على هذه الشريطة لم يكن اللفظ أسرع إلى السمع من المعنى إلى القلب، وصار السامع كالقائل والمتعلم كالمعلم، وخفت المؤنة واستغني عن الفكرة وماتت الشبهة وظهرت الحجة، واستبدلوا بالخلاف وفاقا وبالمجاذبة موادعة، وتهنئوا بالعلم وتشفوا ببرد اليقين واطمأنوا بثلج الصدور، وبان المنصف من المعاند وتميز الناقص من الوافر وذم المخطل وعز المحصل وبدت عورة المبطل وظهرت براءة المحق.
وقلت: والناس وإن قالوا في الحسن: كأنه طاقة ريحان، وكأنه خوط بان، وكأنه قضيب خيزران، وكأنه غصن بان، وكأنه رمح رديني، وكأنه صفيحة يمانية، وكأنه سيف هندواني، وكأنها جان، وكأنها جدل عنان، فقد قالوا: وكأنه المشترى، وكأن وجهه دينار هرقلي، وما هو إلا البحر، وما هو إلا الغيث، وكأنه الشمس، وكأنها دارة قمر، وكأنها الزهرة، وكأنها درة، وكأنها غمامة، وكأنها مهاة. فقد تراهم وصفوا المستدير والعريض بأكثر مما وصفوا به القضيف والطويل.
وقلت: وجدنا الأفلاك وما فيها والأرض وما عليها على التدوير دون التطويل، وكذلك الورق والتمر والحب والثمر والشجر.
وقلت: والرمح وإن طال فإن التدوير عليه أغلب؛ لأن التدوير قائم فيه موصولا ومفصلا، والطول لا يوجد فيه إلا موصولا، وكذلك الإنسان وجميع الحيوان.
وقلت: ولا يوجد التربيع إلا في المصنوع دون المخلوق، وفيما أكره على تركيبه دون ما خلي وسوم طبيعته، وعلى أن كل مربع ففي جوفه مدور. فقد بان المدور بفضله وشارك المطول في حصته. ومن العجب أنك تزعم أنك طويل في الحقيقة ثم تحتج للاستدارة والعرض، فقد أضربت عما عند الله صفحا، ولهجت بما عند الناس. فأما حور العين فقد انفردت بحسنه وذهبت ببهجته وملحه، إلى ما أبانك الله به من الشكلة فإنها لا تكون في اللئام ولا تفارق الكرام. وقال الشاعر:
ولا عيب فيها غير شكلة عينها
كذاك عتاق الطير شكل عيونها
وقال آخر :
وشكلة عين لو حبيت ببعضها
لكنت مكان النجم مرأى ومسمعا
فأما سواد الناظر وحسن المحاجر وهدب الأشفار ورقة حواشي الأجفان، فعلى أصل عنصرك ومجاري أعراقك. وأما إدراكك الشخص البعيد وقراءتك الكتاب الدقيق ونقش الخاتم قبل الطبع وفهم المشكل قبل التأمل، مع وهن الكبر وتقادم الميلاد، ومع تخون الأيام وتنقص الأزمان، فمن توتياء الهند وترك الجماع، ومن الحمية الشديدة وطول استقبال الخضرة. فأنت يا عم حين تصلح ما أفسد الدهر وتسترجع ما أخذت منك الأيام، لكما قال الشاعر:
عجوز ترجى أن تكون فتية
وقد لحب
20
الجنبان واحدودب الظهر
تدس إلى العطار ميرة أهلها
وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر
وكيف أطمع في نزوعك عن اللجاج وقد سقيته قبل المجاج، وكيف أرجو إقرارك جهرا وقد أبيته سرا، وكيف تجود به صحيحا مطمعا وقد بخلت به مريضا مؤيسا، وكيف يرجو خيرك من يراك تطاول أبا جعفر
21
وتخاشنه وتنافره وتراهنه، ثم لا تفعل ذلك إلا في المحافل العظام وبحضرة كبار الحكام، ثم تستغرب ضحكا من طمعه فيك وتعجب الناس من مجاراته لك، وأشهد لك بعد هذا أنك ستخاشن عمرو بن بحر وتعاقله ثم تظارفه وتطاوله، وتغني مع مخارق وتنكر فضل زرزور، وتستجهل النظام وتستبرد الأصمعي، وتستغبى قيس بن زهير، وتستخف الأحنف بن قيس، وتبارز أبا الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ثم تخرج من حد الغلبة إلى حد المراء، ومن حد الأحياء إلى حدود الموتى! هذا وليس لك مساعد ولا معك شاهد واحد ولا رأيت أحدا يقف في الحكم عليك أو ينتظر تحقيق دعواك، ولا رأيت مبصرا يخليك من التأنيب، ولا مؤنبا يخليك من الوعيد، ولا متوعدا يخليك من الإيقاع، ولا موقعا يرثي لك، ولا شافعا يشفع فيك.
يا عم، لم تحملنا على الصدق، ولم تجرعنا مرارة الحق، ولم تعرضنا لأداء الواجب، ولم تستكثر من الشهود عليك، ولم تحمل الإخوان على خلاف محبتهم لك؟ اجعل بدل ما تجني على نفسك أن تجني على عدوك، وبدل ما تضطر الناس إلى أن يصدقوا فيك أن تضطرهم إلى أن يمسكوا عنك. ولا بد يرحمك الله لمن فاته الطول من أن يلقي بيده
22
أو من أن يقول بخلاف ما يجد في نفسه. فوالله إنك لجيد الهامة، وفي ذلك خلف من حسن القامة، وإنك لحسن الخط، وفي ذلك عوض من حسن اللفظ، وإنك لقليل الشيب قليل البول، وإنك لتجد مقالا، وإنك لتعد خصالا. فقل معروفا فإنا من أعوانك، واقتصد فإنا من أنصارك، وهات فإنك لو أسرفت لقلنا قد اقتصدت، ولو جرت لقلنا قد اهتديت. ولكنك تجيء بشيء
تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ، ولو غششناك لساعدناك، ولو نافقناك لأغريناك، ولربما عذرتك ولان جانبي لك فأقول: خرف الشيخ إذا كان جادا، وعبث إن كان هازلا. وقد يعجل الخرف إلى أحدث منك سنا ويبطئ عن أطول منك عمرا، بل من هذا الذي يعد من السنين ما تعد وبلغ من الكبر ما بلغت؟ وعند من يدرك هذا العلم إلا عند النجوم أو عند إبليس الرجيم، بل من يعرف ذلك إلا فاطر السموات والأرض. لو عرفت عقبان خطفة ونسور السراة وأحناش الرمل وعير العانة وورشان الغابة وشيوخ اليمامة وهرمي فرغانة، إنك لا تعد عمر نوح عمرا ولا النجوم يوما، وإنك قد فت التاريخات وجزت حساب الباورات
23
واستقللت الأحقاب وخرجت من خطوط الهند لما استطالت بأعمارها ولا فرحت بطول أيامها! فيا قعيد الفلك كيف أمسيت، ويا قوة الهيولى كيف أصبحت، ويا نسر لقمان كيف ظهرت؟ ويا أقدم من دوس ويا أسن من لبد ويا صفا المشقر ويا صاحب المسند.
حدثني كيف رأيت الطوفان، ومتى كان سيل العرم، ومذ كم مات عوج، ومتى تبلبلت الألسن، وما حبس غراب نوح، وكم لبثتم في السفينة، ومذ كم كان زمان الخنان ويوم السلان ويوم خزاز ووقعة البيداء. هيهات! أين عاد وثمود، وأين طسم وجديس، وأين أميم ووبار، وأين جرهم وجاسم، أيام كانت الحجارة رطبة وإذ كل شيء ينطق، ومذ كم ظهرت الجبال ونضب الماء عن اللحف، وأي هذه الأودية أقدم، أنهر بلخ أم النيل أم الفرات أم دجلة أم جيحان أم سيحان أم مكران، وأين تراب هذه الأودية، وأين طين ما بين سفوح الجبال إلى أعاليها، في أي بحر كبست وفي أي هبطة شحنت، وكم نشأ لذلك من أرض وحدث من عين؟
جعلت فداك، من أبو جرهم، ومن رهط الدجال، وهل تعرف له شبيها؟ أين طويس، وما قصة ابن صائد، وممن سوشي المنتظر؟
24
وخبرني عن هرمس، أهو إدريس؟ وعن أرميا، أهو الخضر؟ وعن يحيى بن زكريا، أهو إيليا؟ وعن ذي القرنين، أهو الإسكندر؟ ومن أبوه ومن أمه، ومن قيري وعيري، ومن جلندى، ومن أولاد الناس من السعالي،
25
وما الحوش من الإبل؟ وخبرني عن قحطان، ألعابر هو أم لإسماعيل؟ وعن قضاعة، ألمعد بن عدنان أم لمالك بن حمير؟ ومتى تخزعت خزاعة، ومتى طوت المناهل طيء، ومن ابن بنصر، وما تلك السبيل، وما قصة الزهرة، وما شأن سهيل، وما القول في هاروت وماروت، وما شأن الإربيانة،
26
وما قصة الفأرة وجرم الوزغة، وما إحسان الحمامة، وما تفريط العظاية، وما خصب الضفادع، وما تسبيح الصرد، وما عداوة ما بين الديك والغراب، وما صداقة ما بين الجن والأروية، ومن أين لها الماء، وما بلغ من عقل الهدهد، وأين قبر أمه، ولم نتنت ريحه؟
وخبرني عن الأمة التي مسخت ثم فقدت، ممن كانت وإلى أي شيء صارت! أأخذت برا أم بحرا؟ فإن كانت بحرية أفهي الجري،
27
وإن كانت برية أفهي الضباب؟ وما آوى، وما حبين، وما عرس، وما أوبر، وما وردان، وما قصة الطراثيث، وما سبب كون السنانير، وما علة خلق الخنزير، وكيف اجتمع في الذبابة سم وشفاء، وكيف لم يقتل الأفعى سمها، وكيف لم يحرق الشمس ما عند قرصها؟
وخبرني عن الأبدال، أهم اليوم بالعرج أم ببيسان أم كما كانوا متفرقين، وخبرني أكلهم موال أم كلهم عرب أم هم أخلاط، وما فعل صاحب إنطاكية ولم أقيم سلمان بعد بلال، ومن جعل بعد سلمان، ومن عشائرهم وأين دورهم وأين أهلوهم، وكيف لم يتقدموهم ويتفقدوهم، وكيف صارت بيسان لسان الأرض يوم القيامة! وكيف صارت كبد الحوت أول طعام أهل الجنة، ولم تسمى نونا، وهل الرجفة من حركته، وهل الزلزلة من تنقله، وما الخسف، وكيف شاهدت المسخ على طول الأيام، آنقلبت خلقتهم أم صار ذلك ضربة واحدة، وهل عاشوا أم أبلسوا أم تركوا ثلاثا ثم أبطلوا، وهل كانوا يتعارفون بعد المسخ ويعرفون بعض ما قد نزل بهم بعد القلب؟
وخبرني عن بحار بنطس، وعن قبيس وعن الأصم وعن المظلم، وعن جبل الماس، وعن الباكي، وعن قاف، وأين كنت عام الجحاف، ومذ كم كان زمن الفطحل، وأين كان ملك الأزد، وأين كان من ملك الإشكان، وأين كان من ملك بني ساسان، وأين كان خره أردشير من استاشف، وأين كان أبرويز من أنو شروان، وأين جذيمة من تبع، وأين الفتجب من بلهره، وأين بغبور من قيصر؟ وخبرني عن الفراعنة، أهم من نسل العمالقة؟ وعن العمالقة، أهم من قوم عاد؟ وخبرني أهم من عاد الأولى أو من عاد الأخرى؟ وخبرني عن عطارد الهندي وجوابه لعطارد السماوي حين هبط إليه من فلكه، وهل جرى بينهما إلا ما سمعنا، ومذ كم كان ذلك؟
وخبرني: كيف كان أصل الماء في ابتدائه في أول ما أفرغ في إنائه، أكان بحرا أجاجا استحال عذبا زلالا، أم كان زلالا عذبا استحال أجاجا بحرا؟
خبرني: كيف صار الماء أبعد من الفلك ولا يكون إلا في بطن الأرض، وهو أشبه بالهواء كما أن الهواء أشبه بالنار، وكيف يكون أحق بالوسط والأرض أبعد من سية الفلك، وكيف طمع - جعلت فداك - الدهري في مسألة العلاة والمطرقة وفي البيضة والدجاجة، مع تقادم ميلادك ومرور الأشياء على بدنك، وكيف كان بدء أمر البد في الهند، وعبادة الأصنام في الأمم، وقصة عمرو بن لحي في العرب؟
وخبرني عن عناق بنت آدم، وعن ميسرة ومسرة، وعن مهنة ومهنينة، وعن بهيا وطبحيا، ومذ كم عمرت جزيرة العرب، ومذ كم بادت يونان، وعن فصل ما بين السند والهند، والهند والميد، وعن جميع من هلك بالرعاف، وعمن أفناهم النمل، وعمن أجحف بهم السيل، وعن أصحاب النعمان كم صنفهم، وما تقول في الرجم السماوي أكان من عظام البرد أم كحجارة الطير الأبابيل التي خلقت من سجيل؟
وخبرني: عن معنى الفرات على حقه وصدقه، وعن نضوب البحر، وعن تنقص الأرض، ولم عمل الفلك في هذا العالم وليس بينهما شبه! وهلا عمل فيه بقدرة منه، وهل يجوز أن يعمل شيء في شيء إلا والآخر يعمل فيه؟ وخبرني: مذ كم كان الناس أمة واحدة ولغاتهم متساوية، وبعد كم بطن اسود الزنجي وابيض الصقلبي، ولم صار اللون أسرع تنقصا من الجمود، ولم كان الولد يجيء على شبه ما في أبيه من الأمور الحادثة في بدنه غير القديمة في أصل تركيبه ومع ذلك لم يولد صبي قط في العرب مجنونا، وما هذه الخاصية التي منعت من هذا المعنى؟ وفي كم تمت لكل فرقة بعد التبلبل لغتها واستفاض لسانها؟
خبرني - جعلت فداك: أيما أطول عمرا: الناس أم عير العانة أم الحية أم الضب؟ ومتى تستغني الحية عن الغذاء، ومتى ينتفع الضب بالنسيم، ومتى ينقطع النسر عن السفاد، وكيف صار البغل لا ينسل وهو ولد الرمكة من العير، وكذلك السمع لا ينسل وهو ولد الضبع من الذئب، والراعبي ينسل وهو ولد الحمام من الورشان، والبختي ينسل وهو من ولد العراب من الفوالج، ولم يسمع في الظلف إذا اختلفت ولم يسمع في الحافر ولا في الخف إذا اختلف. وخبرني عن الزرافة أمن ولد الناقة أم من الضبع، وعن الشبوط أمن ولد البني من الزجر؟
28
وخبرني: ما عنقاء مغرب، وما أبوها وما أمها، وهل خلقت وحدها أم من ذكر وأنثى، ولم جعلوها عقيما وجعلوها أنثى، ومتى تمهد لذلك الصبي، ومتى تظل بجناحها شيعة الإمام، ومتى يلقى في فيها اللجام، ومتى يباع له الكبريت الأحمر ويساق إليه جبل الماس؟
وخبرني عن بناء سور الأبلة وعمن حير الحيرة، ومن أنشأ بنيان مصر، ومن صاحب كردبنداذ ومدينة سمرقند؟ وخبرني: عن البناء الذي يضاف بالمدائن إلى سام، أهو لسام؟ وعن تدمر، أهو لسليمان! وأين ملك أخاذ بن عمري من ملك نمروذ الخاطئ، وأين وقع ملك ذي القرنين من ملك سليمان؟
وقد كنت - أطال الله بقاءك - في الطول زاهدا وعن القصر راغبا، وكنت أمدح المربوع وأحمد الاعتدال، ولا والله أن يقوم خير الاعتدال بشر قصر العمر، ولا جمال المربوع بما يفوت من منفعة العلم، فأما اليوم فيا ليتني كنت أقصر منك وأضوى، وأقل منك وأقمى، وليس دعائي لك بطول البقاء طلبا للزيادة، ولكن على جهة التعبد والاستكانة، فإذا سمعتني أقول أطال الله بقاءك، فهذا المعنى أريد، وإذا رأيتني أقول لا أخلى الله مكانك، فإلى هذا المعنى أذهب. وقد زعموا - جعلت فداك أن كل ما طال عمره من الحيوان زائد في شدة الأركان وفي طول العمر وصحة الأبدان، كالورشان، والضباب، وحمر الوحش، وكلحم النسر لمن أكله، ولحم الحية لمن استحله، فإن كان هذا الأمر حقا وكان هذا العلاج نافعا وكنت له مستعملا وفيه متقدما وتراه رأيا وإن كنت عنه غنيا، أخذنا منه بنصيب وتعلقنا منه بسبب. وكيف لي بذلك وأنا صغير الأذن وأذنك أذن أبي سهيل، وأنا دقيق العنق وعنقك عنق قاسم التمار، وأنا صغير الرأس ورأسك رأس جالوت. وفيك أمران غريبان وشاهدان بديعان: جواز الكون والفساد عليك، وتعاور النقصان والزيادة إياك. جوهرك فلكي، وتركيبك أرضي، ففيك طول البقاء ومعك دليل الفناء. فأنت علة للمتضاد وسبب للمتنافي. وما ظنك بخلق لا تضره الإحالة ولا يفسده التناقض ...؟!
جعلت فداك، ما لقي منك الذهب، وأي بلاء دخل بك على الخمر، كانا يتيهان بطول العمر ويبهجان ببقاء الحسن وبأن الدهر يحدث لهما الجدة إذا أحدث لجميع الأشياء الخلوقة، فلما أربى حسنك على حسنهما وغمر طول عمرك أعمارهما ذلا بعد العز وهانا بعد الكرامة، وما لي فيك قول إلا قول الأعرابي حين ضل الطريق في الظلمة فلما عرف قصده عند طلوع القمر رفع رأسه شاكرا وهو يقول: ما أقول! أقول رفعك الله وقد رفعك، أم أقول جملك الله وقد جملك، أم أقول عمرك الله وقد عمرك؟ ... ولكن أقول: وهل أنطق إن نطقت إلا رجيعا، وأقول ما قلت إلا لغوا. وقد زعم ناس ممن ينتحل الاعتبار ويتعاطى الحكمة ويطلب أسرار الأمور أنه ليس شيء مما يساكن الإنسان في منزله وربعه وفي داره وموضع منقلبه إلا والإنسان يفضله في طول العمر وفي البقاء على وجه الدهر، كالحمام والدجاج والسنانير والكلاب والبقر والغنم والحمير والخيل والجواميس والإبل. وزعموا أن أقصرها أعمارا العصافير، وأن أطولها أعمارا البغال، وأن العلة في طول بقاء البغل قلة السفاد، وفي قصر عمر العصافير كثرة السفاد. وأن مما يقضي بهذه العلة ويثبت هذه القضية ما يعم الخصيان من طول العمر، ويعم الفحولة من قصر العمر. وما أرى - حفظك الله - بهذا القياس بأسا في ظاهر الرأي، وما أجده بعيدا في أغلب الظن، ولو كنت أقتل ذلك علما وأعلمه يقينا لكان أحب الأمور إلي أن يكون لي فيه سلف صدق وإمام لا يغلط، وأن أحكيه عن معدل وأسنده إلى مقنع! فقل نسمع وأشر نتبع!
يعجبني - جعلت فداك - منك بغض الشهرة ودبيبك في غمار الحشوية استغناء بنفسك، وصونا لقدرك، ومعرفة بما أعطيت، وثقة بالذي أوتيت. وما أقل - بحمد الله - ما سبقك به إبليس، وما أيسر ما فاتك به آدم. فزاد الله شاكرك نعمة وناصرك عزة. وقد ذكرت الرواة في المعمرين أشعارا وصنعت في ذلك أخبارا، ولم نجد على ذلك شهادة قاطعة ولا دلالة قائمة، ولا نقدر على ردها بجواز معناها، ولا على تثبيتها إذ لم يكن معها دليل يثبتها، وقد تعرف ما في الشك من الحيرة، وما في الحيرة من القلق، وما في القلق من النصب، وما في النصب من طول الفكرة، وما في طول الفكرة من الوحشة، وما في طول الوحشة من التعرض للوساوس والخفقة، وما في إتعاب القلب وإنضاء النفس من كلال الحد، وما في الإلحاح من دواعي الضجر، وما في الجهل من النقص، وما في نزاع النفس من الكد. فافتح لبيتك بابا نسترح إليه، وأقم له علما نقف عنده. فقد علمت ما ذكروا من عمر نابغة بني جعدة، ومالك ذي الرقيبة، ونصر بن دهمان، وابن بقيلة الغساني، والربيع بن ضبيع، ودويد بن نهد، وأنت - أبقاك الله - تعرف ميلاد آبائهم وأجدادهم وقبائلهم وعمائرهم وأصولهم وأجذامهم، فخبرني أكذبوا أم صدقوا؟ أم اقتصدوا أم أسرفوا؟
فأما ما رووا لأجسام الناس من الطول والعرض، وثبتوا لهم من السمن والعظم والضخم سوى ما نطق به الكتاب عن أجسام عاد، فالشاهد على كذبهم حاضر، والدليل على فساد عقولهم ظاهر، كالذي رأينا من أقدار سيوف الأشراف وأزجة رماح الفرسان، وكتيجان الملوك التي في الكعبة، وكضيق أبوابهم وقصر سمك عتب درجهم في قصورهم العادية ومدنهم العدملية، ويدل على ذلك الجرون التي كانت مقابرهم وأبواب مدافنهم في بطون أرضيهم وشعف جبالهم ومطاميرهم ومواضع قناديل كنائسهم ومجالسهم وبيوت عباداتهم وملاعبهم من قمم رءوسهم. ولو حضرنا من الشواهد على ما ادعوا من أعمارهم مثل الذي حضرنا من الشواهد على تكذيبهم في طول قاماتهم إذا لما عنيناك ولا ابتذلناك، وعلى أنه لو كان السبب في طول قاماتهم وضخم أبدانهم تقادم ميلادهم وحدة قوة الأرض قبل أن تخلق وشبابها قبل أن تهرم، لكان ينبغي لمن كان قبلهم أن يكون أعظم منهم، ولكان نقصان من بعدهم ممن يلي عصرهم ومن يلي أولئك على حساب ذلك.
وخبرني أبقاك الله من كان باني ريام، ومن أنشأ كعبة نجران، ومن صاحب غمدان، ومن باني تدمر، ومن صاحب الهرمين، ومنذ كم بنيت مأرب، وأين كان الأبلق الفرد من المشقر، وأين قصر النوبهار من قصر سنداد، ومن صاحب عقرقوف، ولم قضيت - جعلت فداك - لخمعة الإيادية على بنت الخس ولابن شرية على شق وللنخار على ابن النطاح ولابن الكيس على ابن لسان الحمرة، وأين كانت الزباء من ملكة سبأ، وأين خاتون من بوران، وأين جلندي من أسباد، وأين حذيم من أفعى، وأين كان لقيم من لقمان، وأين كان كرز بن علقمة من مجزز المدلجي، وأين كان رافع المخش من دعيميص الرمل؟
وخبرني عن عظامة أقاليم الخراب وعن خلاء شق الجنوب، أذلك قائم مذ دار الفلك وكان النمو، أو الدول بينهما مقسومة والأيام عليهما موقوفة! ولم قدمت إقليم دوس على إقليم بابل؟ وخبرني عن الشهب أتكون نهارا أم تكون ليلا؟ ولم قدمت الروم في الصنعة على أهل الصين، ولم قدمت تبت على الزابج، ولم فضلت السكون على الحركة، ولم جعلت الكون فسادا والافتراق اجتماعا؟ قد وجدتك - جعلت فداك - خفت أن تكون ابن صائد، ورجوت أن تكون الدجال، ولعلك دابة الأرض، وما أدري لعلك سوشي! ولست، بحمد الله، الخضر. والذي لا أشك فيه أنك غير المسيح، وأظن روحك روح شيقرة بل روح بلعذبون، بل روح دلالا، وأنك الأركون المنتظر.
واحتمل لي مسألة واحدة ولا أعود، وسأجعلها طويلة ولا أزيد: كم بين ود وسواع ويغوث ويعوق، وبين مناة والعزى والغبغب وعائم، وبين مناف ونهم وسعد ومنهب، ومذ كم نكح أساف نائلة، ومذ كم مسخا في الكعبة؟ وخبرني عن برهوت وبلهوت، وعن الجابية وموضع الطاغية، وعن سيف الصاعقة، ومن ألقى ذلك إلى الرافضة، وما كان مال قارون، وما كان كنز النطف، ولمن كانت البليهة، وما قرط مارية، وما أصل مال ابن جدعان، وكيف كان مشورة أمه؟ وخبرني عن ذلك المال الذي من أخذ منه ندم ومن تركه ندم.
جعلت فداك، قد شاهدت الإنس مذ خلقوا، ورأيت الجن قبل أن يحجبوا، ووجدت الأشياء بنفسك خالصة وممزوجة وأغفالا وموسومة وسالمة ومدخولة، فما تخفى عليك الحجة من الشبهة، ولا السقم من الصحة، ولا الممكن من الممتنع، ولا المستغلق من المستبهم، ولا النادر من البديع، ولا شبه الدليل من الدليل، وعرفت علامة الثقة من علامة الريبة، حتى صارت الأقسام عندك محصورة، والحدود محفوظة، والطبقات معلومة، والدنيا بحذافيرها مصورة، ووجدت السبب كما وجدت المسبب، وعرفت الاعتلال كما عرفت الاحتجاج، وشاهدت العلل وهي تولد والأسباب وهي تصنع، فعرفت المصنوع من المخلوق، والحقيقة من التمويه. فما تقول في الرئي، وما تقول في الرؤيا، وما تقول في إكسير الكيمياء، وما تقول في كيموس الصنعة، وما تقول في الزجر، وما تقول في الفراسة، وما تقول في الفأل، وما تقول في الطيرة، وما تقول في نمت الطلم؟ وما تقول في معنى البركة، وما تقول في النجوم، وما تقول في الخيلان، وما تقول في أسرار الكف، وما تقول في النظر في الأكتاف، وما تقول في قرض الفأرة، وما تقول في إلحاح الخنفساء، وما تقول في دوائر الرأس، وفي أوضاح الخيل، وفي النمس والسنور، وفي الديك الأفرق والسنور الأسود، وفي البول في النفق، وفي الاطلاع في عادي الآبار، وفي النوم بين البابين، وما تقول في التميمة وفي الرتيمة،
29
وفي تعليق كعب الأرنب، وفي حلى السليم، وفي البلايا والولايا؟ وما تقول في الهام والاستمطار بالسلع والعشر،
30
وما تقول في شق البرقع، وفي بدر الرداء، وفي كي الصحيح عن ذي العر، وفي فقء العين للسواف، وفي نزع المسر للعارة، وما تقول في الآمر والناهي والمتربص، وفي النطيح والقعيد والسانح والبارح، وما تقول في وطء المقلات للقتلى، وفي دماء الملوك للكلبى، وما تقول في صرع الشيطان، وفي تلون الغيلان، وفي عزيف الجنان، وفي ظهور العمار، وفي طاعتهم للعزائم، وفي رئي المأمور الحارثي وعتيبة بن الحارث اليربوعي، وما فصل ما بين العراف والكاهن والحازي والمتبوع، وما تقول في تحول إبليس في صورة سراقة المدلجي وفي صورة الشيخ النجدي؟ وخبرني عن شنقناق وشيصبان، وعن سملقه وزوبعة، وعن المذهب والسعلاة وعن بركوير ودركاذاب، وأين كان مسحل شيطان الأعشى من عمرو شيطان المنخل؟!
قد - والله - عافانا الله بك وابتلى، وأنعم بك وانتقم، فدحا لمن زهد فيك، وسقيا لمن رغب إليك، وويل لمن جهل فضلك، بل الويل لمن أنكر فضلك. إنك - جعلت فداك - كما لم تكن فكنت فكذا لا تكون بعد أن كنت، وكما زدت في الدهر الطويل فكذا تنقص في الدهر الطويل؛ إذ كل طويل فهو قصير، وكل متناه فهو قليل، فإياك أن تظن أنك قديم فتكفر، وإياك أن تنكر أنك محدث فتشرك؛ فإن للشيطان في مثلك أطماعا لا يصيبها في سواك، ويجد فيك عللا لا يجدها في غيرك.
ولست - جعلت فداك - كإبليس، وقد تقدم الخبر في بقائه إلى انقضاء أمر العالم وفنائه ، ولولا الخبر لما قدمته عليك ولا ساويته بك، وأنت أحق من عذر وأولى من ستر، ولو ظهر لي لما سألته كسؤالي إياك، ولما ناقلته الكلام كمناقلتي لك، وإن كان في التجاذب مثلك فهو في النصيحة على خلافك؛ ولأنك إن منعت شيئا فمن طريق التأديب أو التقويم، وهو إن منع منع بالغش والإرصاد، وأنت على حال أشكل، ونحن نرجع إلى أصل ونلتقي إلى أب ويجمع بيننا دين.
وخبرني عن الشق، وعن واقواق، وعن النسناس، وعن دوالباي، وعن الكركدن، وعن عنقاء مغرب، وعن الكبريت الأحمر، وعن ثور الله في الأرض؟ وحدثني عن شعب رضوى، وعن جبال حسمى، ومتى ترى الماء الأسود والجو الأكلف والطين الأزرق، وكيف ذلك النمر، وهل يظمأ ذلك الأسد، وهل باض الخفاش، وهل أمنت الحبارى، ومتى تتعلم ما في الجفر وتحكم ما في الزبر، وما فعل فحل وبار، ونعاج أبي المرقال، وما الحجة في الرجعة، والقول في المناسخة، ومن أين قلتم بالبداء، ومن أين جعلتم العلا فعلا والزيادة فلتا، وما القول في النفس؟
وخبرني ما السحر وما الطلسم، وما الدنهش وما الخلقطير، وما الهيكل، وما الطوالق، وما قولهم في اللبان الذكر، وفي مراعاة المشتري، ولم توحشوا من الناس ولم باتوا بالبراح وأقاموا بالخراب واغتسلوا بالماء القراح، ولم قدموا التصديق وأخرجوا الصرة، ولم أجابوا وأكرموا، ولم منعوا وقتلوا؟!
وخبرني من خانق الغريض وقاتل سعد
31
يوم النفق، ومن الذي استهوى عمرو بن عدي، ومن صاحب عمارة بن الوليد، ومن يصرع منهم الأصحاء، ومن يبرئ المرضى ويستهوي العقلاء، وعن فصل ما بين الشيطان والجني وما بين الجن والجن ومن طعامه الجدف.
32
وخبرني عن أشعار الهاتف، وما يسمع بالليل من جوائب الأخبار. وخبرني عن النميري صاحب الورقة، وعن تميم الداري صاحب الردم. وخبرني عن شقلون، وعن أهرمن، وعن كان وكان، ومره، وإيددش، وأفردش، وأبرشارش، وأبربارش، وخونرث بام، وكيف صارت خونرث هذه أعمر العوالم، وأيما أكثر يأجوج أم مأجوج، وأيما أقصر وأيما أطول أعمارا، وأيما أفضل منكر أم نكير، وأيما أخبث هاروت أم ماروت ، وأي حوت ابتلع يونس، وأي حية ابتلعت المهلب، ومن أي حية كانت سفينة نوح، ولم ملح الحمض، ولم طوقت الحمامة، وما فرق ما بين الطاس والكاس، وما كان سبب اتخاذ الأقبية، وما سبب صنعة الزجاج، وما قصة الرخام أكيمياء أم مخلوق، ولم امتنع عمل الذهب والزجاج أعجب منه، ومن صاحب المينا وتودين الحجارة، ومن صاحب التلطيف، ومن صاحب النوشاذر، وما تقول في التنين، وما فرانق الأسد، وما صداقة ما بين الخنفساء والعقرب، وما بال السواد يصبغ ولا ينصبغ، وما بال البياض ينصبغ ولا يصبغ، ومن صاحب الاصطرلاب، ومن صاحب القرسطون؟ ولم أسألك عن الحداد، وإنما سألتك عن الفيلسوف وعن علته في المد والجذر.
وخبرني عن جوهر الأرض وعن جميع الفلز أشيء مفروغ من خلقه أم أرض يستحيل إليه، ولم عمل بعض السم في العصب وبعضه في الدم وبعضه فيهما جميعا، ولم كان بعضه سم نجاز وبعضه سم جهاز، ولم صار لا يقتل مع العادة وقتل قبل العادة، ألأن الطبائع تنكر الشيء الغريب أم لأنه ضد في نفسه، وكيف صار مع ريق الأفعى ريق بعض الناس في القتل وفي أيهما سم، ولم خالف البيش في العصب والدم، ولم يقتل العقرب إنسانا ويقتله آخر، ولم صارت الأفعى قاتلة وتأكلها القنافذ ولا تضرها وتأكلها الأروى فلا تتأذى بها، ولم صارت الهندية تقتل كل شيء ولا يقتلها شيء ولا يستمرئها شيء، ولم خالف النيل جميع الأودية في النقصان والزيادة، ولم بلغت جريته الشمال، ولم صار أقصاه كأدناه، ومتى يدال منه ومتى يحوله الأمام ...؟!
وقد علمت - جعلت فداك - أن الخبر إذا صح أصله وكان للناس علة في نشره وكان في الدلالة على الحق كالعيان وفي الشفاه كالسماع، على أن الخبر لا يعرف به تكيف الأمور لكن يعرف به جمل الأشياء، إلا خبرك فإنك لا تحتاج إلى إشارة ولا إلى إعادة ولا إلى (علة ولا إلى) تفسير حتى يقوم خبرك في الشفاه وفي كيفية الشيء مقام العيان. وقد كنت أتعجب من محمد بن عبد الملك وأقول : ما تقولون في رجل لم يقل قط بعد انقضاء خصومته وذهاب خصمه: لو كنت قلت كذا كان أفضل، أو كنت لم أقل كذا كان أمثل. فما بال عفوه أكثر من جهدكم وبديهته أبعد من أقصى فكرتكم؟ فلما رأيتك علمت أنك عذاب صبه الله على كل رفيع، ورحمة أنشأها لكل وضيع.
فخبرني ما كان بينك وبين هرمس في طبيعة الفلك، وعن سماعك من أفلاطون، وما دار في ذلك بينك وبين أرسطاطاليس، وأي نوع اعتقدت، وأي شيء اخترت؟ فقد أبت نفسي غيرك وأبت أن تشتفي إلا بخبرك، ولولا أني كلف برواية الأقاويل ومغرم بمعرفة الاختلاف، وأني أستجيز مسألتك عن كل شيء وابتذالك في كل أمر، لما سمعت من أحد سواك، ولما انقطعت إلى أحد غيرك.
واعلم - جعلت فداك - أني لم أرد بمزاحك إلا ضحك سنك، ولا كانت غايتي فيك إلا لأنفق عندك، وقد كنت خفت ألا أكون وقفت على حده وأشفقت من المجاوزة لقدره. والمزاح باب ليس المخوف فيه التقصير، ولا يكون الخطأ فيه من جهة النقصان. وهو باب متى فتحه فاتح وطرق له مطرق لم يملك من سده مثل الذي يملك من فتحه، ولا يخرج منه بقدر ما كان قدم من نفسه؛ لأنه باب أصل بنائه على الخطأ، ولا يخالطه من الأخلاق إلى ما سخف، ومن شأنه التزيد وأن يكون صاحبه قليل التحفظ، ولم نر شيئا أبعد من شر ولا أطول له صحبة ولا أشد خلافا ولا أكثر خلطا من الجد والمزاح والمناظرة والمراء. قال القعقاع ابن شور: ليس لمزاح ولا لممار خلة. وقال معاوية: المزاح هو الشنار الأصغر.
33
وقال الحسن بن حي: المزاح استدراج من الشيطان واختداع من الهوى. وعاب عمر بعض العظماء
34
فقال: ذاك رجل فيه دعابة. وقال الشاعر: «وجد القول يقدمه المزاح.» وقال الآخر: «رب كبير ساقه صغير.» وقال الآخر: «رب جد ساقه اللعب».
فإن كنت لم أقصر عن الغاية، ولم أتجاوز حد النهاية، فبما أعرف من يمن مكالمتك وبركة مكاتبتك، ومن حسن تقويمك وجودة تثقيفك. وإن كنت قد أخطأت الطريق، وجاوزت حد المقدار، فما كان ذلك عن جهل بفضلك ولا إنكار لحقك، ولكن حدود الأشياء إذا خفيت ومقاديرها إذا أشكلت، ولم يكن مع الناظر فيها مثل تمامك، ولا مع المتكلف لها مثل كمالك، دخل عليه من الخلل بقدر عجزه، وسلم منه بقدر نفاذه، نعم، ولو كان من العلماء الموصوفين والأدباء المذكورين.
ومن المزاح - جعلت فداك - باب مكر وجنس خدع، يتكل المرء في إساءته إلى جليسه وإسماعه لصديقه على أن يقول: مزحت، وعلى أن يقول عند المحاكمة: عبثت، وعلى أن يقول: من يغضب من المزاح إلا كز الخلق، ومن يرغب عن المفاكهة إلا ضيق العطن. وبعد، فمتى أعدت النفس عذرا كانت إلى القبيح أسرع، ومتى لم تجده كانت عنه أبطأ. ومن أسباب الغلط فيه ومن دواعي الخطأ إليه أن كثيرا ممن تمازحه يضحك وإن كنت قد أغضبته، ولا يقطع مزاحك وإن كنت قد أوجعته، فإن حقد ففي الحقد الداء، وإن عجل فذلك البلاء.
فإن قلت: فما أدخلك في شيء هذا سبيله وهكذا جوهره وطريقه؟ قلت: لأني حين أمنت عقاب الإساءة ووثقت بثواب الإحسان، وعلمت أنك لا تقص إلا على العمد، ولا تعذب إلا على القصد، صار الأمن سائقا والأمل قائدا. وأي عمل أرد وأي متجر أربح مما جمع السلامة والغنيمة والأمن والمثوبة. ولو كان هذا ذنبا لكنت شريكي فيه، ولو كان تقصيرا لكنت سببي إليه؛ لأن دوام التغافل شبيه بالإهمال، وترك التعريف يورث الإغفال، والعفو المتتابع والبشر الدائم يؤمنان من المكافأة ويذهبان بالتحفظ؛ ولذلك قال عيينة بن حصن لعثمان بن عفان رضي الله عنه: عمر كان خيرا لي منك، رهبني فاتقاني وأعطاني فأغناني. فإن كنت اجترأت عليك فلم أجترئ عليك إلا بك، وإن كنت أخطأت فلم أخطئ عليك إلا لك؛ لأن حسن الظن بك والثقة بعفوك سبب في قلة التحفظ وداعية إلى ترك التحرز.
وبعد، فمن وهب الكبير فكيف يقف عند الصغير، ومن لم يزل يعفو عن العمد كيف يعاقب على السهو؟ ولو كان عظم قدري هو الذي عظم ذنبي لكان عظم قدرك هو الذي شفع لي، ولو استحققت عقابك بإقدامي عليك مع خوفي لك لاستوجبت عفوك عن إقدامي عليك بحسن ظني بك. على أني متى أوجبت لك العفو فقد أوجبت لك الفضل، ومتى أضفت إليك العقاب فقد وصفتك بالإنصاف، ولا أعلم حال الفضل إلا أشرف من حال العدل، ولا الحال التي توجب لك الشكر إلا أرفع من الحال التي توجب لك الصبر. وإن كنت لا تهب عقابي لحرمتي فهبه لأياديك عندي، فإن النعمة تشفع في النعمة، فإن لم تفعل ذلك للحرمة فافعله لحسن الأحدوثة، وإن لم تفعل ذلك لحسن الأحدوثة فعد إلى حسن العادة، وإن لم تفعله لحسن العادة فأت ما أنت أهله. واعلم أني وإياك متى تحاكمنا إلى كرمك قضى لي عليك، ومتى ارتفعنا إلى عقلك حسن العفو عني عندك. وفصل ما بيننا وبينك وفرق ما بين أقدارنا وقدرك أنا نسيء وتغفر، ونذنب وتستر، ونعوج وتقوم، ونجهل وتحلم، وإن عليك الإنعام وعلينا الشكر، ومن صفاتك أن تفعل ومن صفاتنا أن نصف، فإذا فعلت ما تقدر عليه من العقاب كنت كمن فعل ما يقدر عليه من التعرض، وصرت ترغب عن الشكر كما رغبنا عن السلم، وصار التعرض لعفوك بالأمن باطلا، والتعرض لعقابك بالخوف حقا، ورغبت عن النبل والبهاء وعن السؤدد والسناء، وصرت كمن يشفي غيظا أو يداوي حقدا أو يظهر القدرة أو يحب أن يذكر بالصولة. ولم نجدهم - أبقاك الله - يحمدون القدرة إلا عند استعمالها في الخير، ولا يذمون العجز إلا لما يفوت به من إتيان الجميل. وأنى لك بالعقاب وأنت خير كلك، ومن أين اعتراك المنع وأنت أنهجت الجود لأهله، وهل عندك إلا ما في طبعك، وكيف لك بخلاف عادتك، ولم تستكره نفسك على المكافأة وطباعها الصفح، ولم تكدها بالمنافسة ومذهبها المسامحة؟! فسبحان من جعل أخلاقك وفق أعراقك وقولك وفق عملك، ومن جعل ظنك أكثر من يقيننا، وفراستك أثبت من عياننا، وعفوك أرجح من جهدنا، وبداهتك أجود من تفكرنا، وفعلك أرفع من وصفنا، وغيبتك أهيب من حضور السادة، وعتبك أشد من عقاب الظلمة. وسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد، وتتجافى عن عقاب المصر، وتتغافل عن المبادئ، وتصفح عن المتهاون، حتى إذا صرت إلى من ذنبه نسيان وتوبته إخلاص وهفوته بكر وشفيعه الحرمة، ومن لا يعرف الشكر إلا لك، ولا الإنعام إلا منك، ولا العلم إلا من تأديبك، ولا الأخلاق إلا من تقويمك، ومن لم يقصر في بعض طاعتك إلا لما رأى من احتمالك، ولا نسي بعض ما يجب لك إلا لما داخله من تعظيمك، صرت تتوعد بالصرم وهو دليل كل بلية، وتستعمل الإعراض وهو قائد كل هلكة. وقد علمت أن عتابك أشد من الصريمة، وأن تأنيبك أغلظ من العقوبة، وأن منعك إذا منعت في وزن إعطائك إذا أعطيت، وأن عقابك على حسن ثوابك، وأن جزعي من حرمانك في وزن سروري بفوائدك، وأن شين غضبك كزين رضاك، وأن موت ذكري بانقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك، وما لي اليوم عمل أنا إليه أسكن ولا شفيع أنا به أوثق من شدة جزعي من عتبك وإفراط هلعي من خوفك، ولست ممن إذا جاد بالصفح ومن بالعفو لم يكن لصاحبه منه إلا السلامة وإلا النجاة من الهلكة، بل تشفع ذلك بالمراتب الرفيعة والعطايا الجزيلة والعز في العشيرة والهيبة في الخاصة والعامة، مع طيب الذكر وشرف العقب ومحبة الناس.
وأما ذكري القد والخرط والطول والعرض وما بيننا وبينك في ذلك من التنازع والتشاجر والتحاكم والتنافر، فإن الكلام قد يكون في لفظ الجد ومعناه معنى الهزل، كما يكون في لفظ الهزل ومعناه معنى الجد. ولو استعمل الناس الدعابة في كل حال والجد في كل مقال، وتركوا التسمح والتسهيل، وعقدوا في كل دقيق وجليل، لكان السفه صراحا خيرا لهم، والباطل محضا أرد عليهم. ولكن لكل شيء قدر ولكل حال شكل. فالضحك في موضعه كالبكاء في موضعه، والتبسم في موضعه كالقطوب في موضعه، وكذلك المنع والبذل والعقاب والعفو وجميع القبض والبسط. فإن ذممنا المزاح ففيه لعمري ما يذم، وإن حمدناه ففيه ما يحمد. وفصل ما بينه وبين الجد أن الخطأ إلى المزاح أسرع وحاله بحال السخف أشبه. فأما أن يذم حتى يكون كالظلم وينفى حتى يصير كالغدر، فلا؛ لأن المزاح مما يكون مرة قبيحا ومرة حسنا، والظلم لا يكون مرة قبيحا ومرة حسنا. فإذا ملنا إلى الجد ورغبنا عن الهزل وتركنا المزاح وجلسنا للحكمة، فقد أغناك الله عن الحجة كما سلمك من الشبهة، ولم يكلفك الاحتجاج كما رغب بك عن الاعتلال، فأصبحت لا محتجا ولا محجوجا، ولا غفلا ولا موسوما، ولا ملوما ولا معذورا، ولا فيك اختلاف ولا بك حاجة إلى ائتلاف. وليس مع العيان وحشة ولا مع الضرورة وجمة
35
ولا دون اليقين وقفة. وهل في تمامك ريب حتى تعالج بالحجة؟ وهل رد فضلك جاحد حتى يثبت بالبينة، وهل لك خصم في العلم أو ند في الفهم أو مجار في الحكم أو ضد في العزم؟ وهل يبلغك الحسد، أو تضرك العين، أو تسمو إليك المنى، أو يطمع فيك طامع، أو يتعاطى شأوك باغ؟ وهل يطمع فاضل أن يفوقك، أو يأنف شريف أن يقصر دونك، أو يخشع عالم أن يأخذ عنك؟ وهل غاية الجميل إلا وصفك؟ وهل زين البليغ إلا مدحك؟ وهل يأمل الشريف إلا اصطناعك؟ وهل يقدر الملهوف إلا غياثك؟ وهل للطلاب غرض سواك؟ وهل للغواني مثل غيرك؟ وهل للماتح رجز إلا فيك،
36
وهل يحدو الحادي إلا بذكرك؟ فلولا أن يأخذ الواصف بنصيبه منك وبحصته من الصدق فيك، وبسهمه من الشكر لك، لكان الإطناب عندهم في وصفك لغوا، وكان تشقيق الكلام عجزا، ولكان تكلفه فضلا، ومن هذا الذي يضعه أن يكون دونك، أو يمتحن بالتسليم لك، أو يعد إقراره إحسانا وخضوعه إنصافا؟ وهل تقع الأبصار إلا عليك؟ وهل تصرف الإشارة إلا إليك؟ أم من الشبيه لك في منزلتك؟ ألست خلف الأخيار وبقية الأبرار؟ وأي أمرك ليس بغاية، وأي شيء منك ليس في النهاية؟ وهل فيك شيء يفوق شيئا أو يفوقه شيء أو يقال لو لم يكن كذا لكان أحسن أو لو كان كذا لكان أتم؟ وأين الحسن الخالص والجمال الفائق والملح المحض والحلاوة التي لا تستحيل والتمام الذي لا يحيل إلا فيك أو عندك أو لك أو معك، خالصة لك ومقصورة عليك، لا تليق إلا بك ولا تحسن إلا فيك، فلك منه الكل وللناس البعض، ولك الصافي وللناس المشوب! هذا سوى الغريب الذي لا نعرفه، والبديع الذي لا نبلغه. لا بل أين الحسن المصمت، والجمال المفرد، والقد العجيب، والكمال الغريب، والملح المنثور، والفضل المشهور إلا لك وفيك؟ وهل على ظهرها جميل حسيب أو عالم أريب إلا وظلك أكبر من شخصه، وظنك أكثر من علمه، واسمك أفضل من معناه، وحكمك أثبت من نجواه، وصمتك أفضل من فحواه؟ وهل في الأرض حليم سواك، وهل أظلت الخضراء ذا لهجة أصدق منك، وهل حملت النساء أجل منك؟!
ولربما رأيت الرجل حسنا جميلا وحلوا مليحا وعتيقا رشيقا وفخما نبيلا، ثم لا يكون موزون الأعضاء ولا مقدود الأجزاء، وقد يكون أيضا الأقدار متساوية غير متقاربة ولا متفاوتة، ويكون قصدا ومقدارا عدلا، وإن كانت هناك دقائق خفية لا يراها إلا الألمعي، ولطائف غامضة لا يعرفها إلا الذكي. فأما الوزن المحقق والتعديل المصحح والتركيب الذي لا يفضحه التفرس ولا يحصره التعنت ولا يتعلل جاذبه ولا يطمع في التمويه ناعته، فهو الذي خصصت به دون الأنام ودام لك على الأيام. وكذا الحسن إذا كان حرا مرسلا وعتيقا مطبقا لا يتحكم عليه الدهر ولا يذبله الزمان ولا يحتاج إلى تعليق التمائم ولا إلى الصون والكن ولا إلى المناقش والكحل، ولو لم يكن لحسن وجهك إلا أنه قد سهل في العيون تسهيلا وحبب إلى القلوب تحبيبا وقرب إلى النفوس تقريبا، حتى امتزج بالأرواح وخالط الدماء وجرى في العروق وتمشى في العظم بحيث لا يبلغه السم ولا الوهم ولا السرور الشديد ولا الشراب الرقيق، لكان في ذلك المزية الظاهرة والفضيلة البينة. ولو لم يكن لك إلا أنا لا نستطيع أن نقول في الجملة وعند الوصف والمدحة: هو أحسن من القمر وأضوأ من الشمس وأبهى من الغيث، ولهو أحسن من يوم الحلبة، وإنا لا نستطيع أن نقول في التفاريق: كأن عنقه إبريق فضة، وكأن قدمه لسان حية، وكأن وجهه ماوية، وكأن بطنه قبطية، وكأن ساقه بردية، وكأن لسانه ورقة، وكأن أنفه حد سيف، وكأن حاجبه خط بقلم، وكأن لونه الذهب، وكأن عوارضه البرد، وكأن فاه خاتم، وكأن جبينه هلال، ولهو أطهر من الماء وأرق طباعا من الهواء، ولهو أمضى من السيل وأهدى من النجم، لكان في ذلك البرهان النير والدليل البين. وكيف لا تكون كذلك وأنت الغاية في كل فضل، والنهاية في كل شكل. وأما قول الشاعر:
يزيدك وجهه حسنا
إذا ما زدته نظرا
وقول الدمشقيين: ما تأملنا قط تأليف مسجدنا وتركيب محرابنا وقبة مصلانا إلا أثار لنا التأمل واستخرج لنا التفرس غرائب حسن لم نعرفها وعجائب صنعة لم نقف عليها، وما ندري أجواهر مقطعاته أكرم في الجواهر أم تنضيد أجزائه في تنضيد الأجزاء. فإن ذلك معنى مسروق مني في وصفك ومأخوذ من كتبي في مدحك. والجملة التي تنفي الجدال وتقطع القيل والقال أني لم أرك قط إلا ذكرت الجنة، ولا رأيت أجمل الناس في عقب رؤيتك إلا ذكرت النار. والعجب أيها السامع أني مقصر، وإذا رأيته علمت أني فيما يجب له مفرط، وهو رجل طينته حرة وعرقه كريم ومغرسه طيب ومنشؤه محمود، غذي بالنعمة وعاش في الغبطة وأرهفه التأديب ولطفه طول التفكير وخامره الأدب وجرى فيه ماء الحياء وأحكمته التجارب وعرف العواقب، فأفعاله كأخلاقه، وأخلاقه كأعراقه، وعادته كطبيعته، وآخره كأوله. تحكي اختياراته التوفيق ومذاهبه التسديد. لا يعرف التكلف ويرغب عن التجوز وينبل عن ترك الإنصاف، ولا يمتنع عليه معرفة المبهم ولا يلتحج
37
باستبانة المشكل، يتخير من الألفاظ أرقها مخرجا ومن المعاني أدقها مسلكا وأحسنها قبولا وأجودها وقوعا وأتمها إطماعا، بأقوى الكلام وأوجزه وأعذبه وأحسنه، يقلل عدد حروفه ويكثر عدد معانيه. ومن الفعل بعد ذلك أكمله تحقيقا. إذا أقبل هبناه، وإذا أدبر اغتبناه، مع تمكنه وعقله وسعة صدره. وبعد، ولا يعرف الشك إلا في غيره ولا العي إلا سماعا. فمن يطمع في عيبك، بل من يطمع في قدرك؟ وكيف وقد أصبحت وما على ظهرها خود إلا وهي تعثر باسمك، ولا قينة إلا وهي تغني بمدحك، ولا فتاة إلا وتشكو تباريح حبك، ولا محجوبة إلا وهي تثقب الخروق لممرك، ولا عجوز إلا وهي تدعو لك، ولا غيور إلا وقد شقي بك. فكم من كبد حرى منضجة، ومصدوعة مفرثة، وكم من حشا خافق، وقلب هائم، وكم عين ساهرة وأخرى جامدة وأخرى باكية، وكم عبرى مولهة، وفتاة معذبة قد أقرح قلبها الحزن وأجمد عينها الكمد، قد استبدلت بالحلي العطلة، وبالأنس الوحشة، وبالتكحيل المرة، فأصبحت والهة مبهوتة، وهائمة مجهودة، بعد طرف ناصع، وسن ضاحك، وغنج ساحر، وبعد أن كانت نارا تتوقد وشعلة تتوهج؟
وليس حسنك - أبقاك الله - الحسن الذي تبقى معه توبة، أو تصح معه عقيدة، أو يدوم معه عهد، أو يثبت معه عزم، أو يمهل صاحبه للتثبت، أو يتسع للتخير، أو ينهنهه زجر، أو يهذبه خوف. هو - أعزك الله - شيء ينقض العادة، ويفسح المنة، ويعجل عن الروية، ويطرح بالعرا، وتنسى معه العواقب، ولو أدركك عمر بن الخطاب لصنع بك أعظم مما صنع بنصر بن الحجاج، ولركبك بأعظم مما ركب به جعدة السلمي، بل لدعاه الشغل بك إلى ترك التشاغل بهما، والغيظ عليك إلى الرحمة لهما. فمن كان عيب حسنه الإفراط عليه من جهة الزيادة، كيف يرومه عاقل أو ينتقصه عالم؟ فلا تعجب إن كنت نهاية الهمة وغاية الأمنية، فإن حسن الوجه إذا وافق حسن القوام، وجودة الرأي، وكثرة العلم، وسعة الخلق، والمغرس الطيب، والنصاب الكريم، والطرف الناصع، واللسان البين، والنعمة البهجة، والمخرج السهل، والحديث المؤنق، مع الإشارة الحسنة، والنبل في الجلسة، والحركة الرشيقة، واللهجة الفصيحة، والتمهل في المجاورة، والهذ عند المناقلة، والبديه البديع، والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والإيجاز يوم الإيجاز، والإطناب يوم الإطناب، يفل الحز، ويصيب المفصل، ويبلغ بالعفو ما يقصر عنه الجهد، كان أكثر لتضاعف الحسن، وأحق بالكمال والحمد. والتاج بهي، وهو على رأس الملك أبهى. والياقوت كريم حسن، وهو على جيد المرأة الحسناء أحسن. والشعر الفاخر حسن، وهو من فم الأعرابي أحسن، وإن كان من قول المنشد وقريضه ومن نحته وتحبيره فقد بلغ الغاية وقام على النهاية.
وما ندري في أي الحالين أنت أجمل، وفي أي المنزلتين أنت أكمل: إذا فرقناك أم إذا جمعناك، وإذا ذكرنا كلك أم إذا تأملنا بعضك؟ فأما كفك فهي التي لم تخلق إلا للتقبيل والتوقيع، وهي التي يحسن بحسنها كل ما اتصل بها، ويختال بها كل ما صار فيها، كما أصبحنا وما ندري: آلكأس في يدك أحسن أم القلم أم الرمح الذي تحمله، أم المخصرة أم العنان الذي تمسكه، أم السوط الذي تعلقه؟ وكما أصبحنا وما ندري أي الأمور المتصلة برأسك أحسن وأيها أجمل وأشكل: آللمة أم مخط اللحية، أم الإكليل أم العصابة أم التاج، أم العمامة، أم القناع، أم القلنسوة؟! فأما قدمك فهي التي يعلم الجاهل كما يعلم العالم ويعلم البعيد الأقصى كما يعلم القريب الأدنى أنها لم تخلق إلا لمنبر ثغر عظيم، أو ركاب طرف كريم. أما فوك فهو الذي لا ندري أي الذي تتفوه به أحسن، وأي الذي يبدأ به أجمل: آلحديث، أم الشعر، أم الاحتجاج، أم الأمر والنهي، أم التعليم والوصف. وعلى أننا ما ندري أي ألسنتك أبلغ، وأي بيانك أشفى، أقلمك أم خطك أم لفظك أم إشارتك أم عقدك. وهل البيان إلا لفظ أو خط أو إشارة أو عقد؟ وأنت في ذلك فوقهم والحمد لله، وواحدهم وأعيذك بالله، وأنت تجوز الغاية، وتفوق النهاية.
وقد علمنا أن القمر هو الذي يضرب به الأمثال، ويشبه به أهل الجمال. وهو مع ذلك يبدو ضئيلا نضوا، ويظهر معوجا شختا،
38
وأنت أبدا قمر بدر، وفخم غمر. ثم مع ذلك يحترق في السرار ويتشاءم به في المحاق، ويكون نحسا كما يكون سعدا، ويكون نفعا كما يكون ضرا، ويقرض الكتان، ويشحب الألوان، ويخم فيه اللحم. وأنت دائم اليمن، ظاهر السعادة، ثابت الكمال، شائع النفع، تكسو من أعراه، وتكن من أشحبه . وعلى أنه قد محق حسنه المحاق وشانه الكلف، وليس بذي توقد واشتعال ولا خالص البياض ولا متلألئ، ويعلوه برد ويكسوه ظل الأرض، ثم لا يعتريه ذلك إلا عند كماله وليلة فخره واحتفاله، وكثيرا ما يعتريه الصفار من بخار البحار. وأنت ظاهر التمام، دائم الكمال، سليم الجوهر، كريم العنصر، ناري التوقد، هوائي الذهن، دري اللون، روحاني البدن. وإن احتجوا عليك بالجزر والمد، احتججت عليهم بالعلم والحلم، وبأن طاعتك اختيار واعتبار، وطاعته طباع واضطرار، وبأن له سيرة قد قصر عليها، ومنازل لا يجاوزها، ولا تمكنه البدوات، وليس في قواه فضل للتصرف، وعلى أن ضياءه مستعار من الشمس، وضياؤك عارية عند جميع الخلق. فكم بين المعير والمستعير، والمتبين والمتحير، وبين العالم وما لا حس فيه. ولا زالت الأرض بك مشرقة، والدنيا معمورة، ومجالس الخير مأهولة، ونسيم الهواء طيبا، وتراب الأرض عبقا. إن تفتيت فالرشاقة والملح، وإن تمسكنت فالرهبانية والإخلاص، وإن ترزنت «فثهلان ذو الهضبات ما يتحلحل.».
وطباعك - جعلت فداك - طباع الخمر إلا أنك حلال كلك، وجوهرك جوهر الذهب إلا أنك روح كما أنت. وقد حويت خصال الياقوت إلا ما زادك الله عليه، وأخذت خصال المشتري إلا ما فضلك الله به، وجمعت خلال الدر إلا ما خصصت به دونه. فلك من كل شيء صفوته ولبابه وشرفه وبهاؤه. وهل يضر القمر نباح الكلب، وهل يزعزع النخلة سقوط البعوضة عليها؟
فأما القول في المزاح فقد بقي أكثره ومضى أقله. وقد ذهب الناس في المزاح إلى مذاهب متضادة، وسلكوا منه في طرق مختلفة: فزعم بعضهم أن جميع المزاح خير من جميع الجد، وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان وأن الحمد والذم بينهما نصفان.
وسنأتي على هذه الأقاويل ثم نذكر ما نقول إن شاء الله.
فأما المحامي على الهزل والمفضل للمزح، فإنه قال: أول ما أذكر من خصال الهزل ومن فضائل المزح أنه دليل على حسن الحال وفراغ البال. وأن الجد لا يكون إلا من فضل الحاجة، والمزح لا يكون إلا من فضل الغنى. وأن الجد غضب والمزح جمام. والجد مبغضة والمزح محبة. وصاحب الجد في بلاء ما كان فيه، وصاحب المزح في رخاء إلى أن يخرج منه. والجد مؤلم وربما عرضك لأشد منه، والمزح ملذ وربما عرضك لألذ منه. فقد شاركه في التعريض للخير والشر، وباينه بتعجيل الخير دون الشر. وإنما تشاغل الناس ليفرغوا، وجدوا ليهزلوا، كما تذللوا ليعزوا وكدوا ليستريحوا. وإن كان المزاح إنما صار معيبا والهزل إنما صار مذموما لأن صاحبه لا يكون معرضا لمجاوزة القدر ومخاطرا بمودة الصديق. فالجد داعية إلى الإفراط كما أن المزاح داعية إلى مجاوزة القدر. والتجاوز للحد قاطع بين القرينين في جميع النوعين، فقد ساواه المزاح فيما هو له وباينه فيما ليس له. وإن كان المزح قبيحا لأنه يورث الجد، فأقبح من المزح ما صير المزح قبيحا لأن الذي يكون بعده الجد، ولم يصير الجد قبيحا لأن الذي بعده المزح، كان الجد في هذا الوزن أقبح من المزح، وكان المزح على هذا التقدير أحسن من الجد؛ لأن ما جعل الشيء قبيحا أقبح من الشيء، كما أن ما جعل الشيء حسنا أحسن من الشيء.
وأما الذي عدل بينهما فإنه زعم أن المزح في موضعه كالجد في موضعه، كما أن المنع في حقه كالبذل في حقه. قال: ولكل شيء موضع وليس شيء يصلح في كل موضع. وقد قسم الله الخير على المعدلة، وأجرى جميع الأمور إلى غاية المصلحة، وقسط أجزاء المثوبة على العزيمة والرخصة وعلى الإعلان والتقية، فأمر بالمداراة كما أمر بالمباداة، وجوز المعاريض كما أمر بالإفصاح، وسوغ في المباح كما شدد في المفروض، وجعل المباح جماما للقلوب وراحة للأبدان وعونا على معاودة الأعمال. فصار الإطلاق كالحظر والصبر كالشكر. وليس للإنسان من الخيرة في الذكر شيء إلا وله في النسيان مثله، ولا في الفطنة شيء إلا وله في الغفلة مثله، ولا في السراء شيء إلا وله في الضراء مثله، ولو لم يرزق الله العباد إلا بالصواب محضا وبالصدق صرفا وبمر الحق صفحا لهلك العوام وانتقض أمر الخواص. ولو ذكر الإنسان كل ما أنسيه لشقي، ولو جد في كل شيء لانتكث. وقد يكون الذكر إلى الهلكة سلما كما يكون النسيان للسلامة سببا. وسبيل المزاح والجد كسبيل المنع والبذل. وعلى ذلك مجرى جميع القبض والبسط. فهذا وما قبله جمل أقاويل القوم.
ونحن نعوذ بالله أن نجعل المزح في الجملة كالجد في الجملة، بل نزعم أن بعض المزح خير من بعض الجد، وعامة الجد خير من عامة المزح، والحق أن ينضح عن بعض المزح ويحتج لجمهور الجد، وكيف لنا بذم جميع المزح مع ما نحن ذاكرون. قال الشاعر: «وذو باطل إن شئت ألهاك باطله.» وقال آخر:
أخو الجد إن يجدد فما من وتيرة
لديه وإن يهزل يعللك باطله
وإن كانوا قد تسموا بعابس وعباس وشتيم وكالح وقاطب وحرب ومرة وصخر وحنظلة وحزن وحجر وقرد وخنزير، فقد تسموا بالضحاك والبطال وبسام وهزال ونشيط. وقد مزح رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولا يقال: كان فيه مزاح، وكذلك لا يقال مزاح. وكذلك الأئمة ومن هزل في بعض الحالات من أهل الحلم والوقار. فمما روي عنه
صلى الله عليه وسلم
قوله: «يا أبا عمير، ما فعل النغير؟» وقوله: «لا تدخل الجنة عجوز.» وقوله: «زوجك الذي في عينيه بياض.» وقد كان علي رضي الله عنه يمزح. وقال عمر: إنا إذا خلونا كنا كأحدكم. وقد كان عمر عبوسا قطوبا. وقد كان زياد مع كلوحه وقطوبه يمازح أهله في الخلا كما يجد في الملا. وكان الحجاج مع عتوه وطغيانه وتمرده وشدة سلطانه يمازح أزواجه ويرقص صبيانه. وقال له قائل: أيمازح الأمير أهله؟ فقال: والله إن تروني إلا شيطانا، والله لربما رأيتني وإني أقبل رجل إحداهن! فقد ذكرنا خير العالمين وجلة من خيار المسلمين وجبارا عنيدا وكافرا لعينا.
وبعد، فمن حرم المزاح وهو شعبة من شعب السهولة وفرع من فروع الطلاقة؟! وقد أتانا رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالحنيفية السمحة ولم يأتنا بالانقباض والقسوة، وقد أمرنا بإفشاء السلام والبشر عند التلاقي، وأمرنا بالتوادد والتصافح والتهادي. قالوا: وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يضحك تبسما. وقالوا: كان لا يستغرق ضحكا. وقال: «دففوا على صاحبكم.» وقال: «هذه أيام أكل وشرب وتعلل.» وسمع جواري تضرب الكبر
39
عند عائشة فلم ينكره. وضحك من قيافة مجزز المدلجي، ومن الأعرابي صاحب الدجال.
قد اعتذرنا في معصيتك والخلاف على محبتك مرة بالمزح ومرة بالنسيان، ومرة بالاتكال على عفوك وعلى ما هو أولى بك. على أني لم أرد بمزاحك إلا ضحك سنك. انظر هل هرمت إلا في طاعتك، وهل أخلقني إلا معاناة خدمتك؟ وفي الجملة إنا لو تعمدنا ثم أصررنا ثم أنكرنا لكان في فضلك ما يتغمدنا، وفي كرمك ما يوجب التغافل عنا. فكيف وإنما سهونا ثم تذكرنا ثم اعتذرنا ثم أطنبنا، فإن تقبل فحظك أصبت ولنفسك نظرت، وإن لم تقبل فاجهد جهدك، ثم اجهد جهدك، ولا أبقى الله عليك إن أبقيت، ولا عفا عنك إن عفوت، وأقول كما قال أخو بني منقر:
فما بقيا علي تركتماني
ولكن خفتما صرد النبال
والله لئن رميتني ببجيلة لأرمينك بكنانة،
40
ولئن نهضت بصالح بن علي لأنهضن بأحمد بن خلف وبإسماعيل بن علي، ولئن صلت علي بسليمان بن وهب لأدمغنك بالحسن بن وهب، ولئن تهت علي بمنادمة جعفر الخياط لأتيهن عليك بحسة وهب الدلال! وأنا أرى لك أن تقبل العافية وترغب إلى الله تعالى في طول السلامة، واحذر البغي فإن مصرعه وخيم، واتق الظلم فإن مرعاه وبيل، وإياك أن تتعرض لجرير إذا هجا، وللفرزدق إذا فخر، ولهرثمة إذا دبر،
41
ولقيس بن زهير إذا مكر، وللأغلب إذا كر،
42
ولطاهر إذا صال،
43
ومن عرف قدره عرف قدر خصمه، ومن جهل قدر نفسه لم يعرف قدر غيره.
وقد رعيت لك حق نبيذك وحسن شرابك، وإن كان فوق العيوق ودونه بيض الأنوق، وحق توتيائك وإن بعثت به ممزوجا فكيف لو بعثت به خالصا؟! وعليك بالجد فإنه خير لك، ودع البيات فإنه أمثل بك، فأنت والله يا أخي تعلم علم الاضطرار وعلم الاختيار وعلم الإخبار أني أشد منك عقلا، وأظهر منك حزما، وألطف كيدا، وأكثر علما ، وأوزن حلما، وأخف روحا، وأكرم عينا، وأقل غشا، وأجل قدا، وأبعد غورا، وأجمل وجها، وأنصع ظرفا، وأكثر ملحا، وأنطق لسانا، وأحسن بيانا، وأجهر جهارة، وأحسن إشارة. وأنت رجل تشدو من العلم وتنتف من الأخبار، وتموه نفسك، وتغر من قدرك، وتتهيأ بالثياب، وتتنبل بالمراكب، وتتحبب بحسن اللقاء. ليس عندك إلا ذلك. فلم تزاحم البحار بالجداول، والأجسام بالأعراض، وما لا يتناهى بالجزء الذي لا يتجزأ ...؟!
فأما الباد والقامة فمن يعدل بين القناة والكرة، ومن يمثل بين النخلة والدكان وبين رحى الطحان وسيف يمان! وإنما يكون التمثيل بين أتم الخيرين وأنقص الشرين، وبين المتقاربين دون المتفاوتين. فأما الخل والعسل، والحصاة والجبل، والسم والغذاء، والفقر والغنى، فهذا ما لا يخطئ فيه الذهن ولا يكذب فيه الحس. والخطأ ثلاثة: خطأ الحس، وخطأ الوهم، وخطأ الرأي. كل ذلك سبيله التنبيه والتذكير والتقويم والتأنيب، والعمد نوع واحد وسبيله القمع والحظر والضرب والقتل، وأول ذلك أن يهجره صاحب الحكمة ولا يطمعه في وعظ ولا مجالسة. وقد رأيت من يعاند الحق إذا كانت المعرفة به استنباطا، ولم أر من يعاند الحق إذا كانت المعرفة به عيانا. وأنت لا ترضى بجحد العيان حتى تدعو إليه، ولا ترضى بالدعاء إليه حتى تعادي فيه، ولا ترضى بالعداوة فيه حتى تكون لك فيه الرئاسة، ولا ترضى بالرئاسة دون السابقة، ولا بالطارف دون التالد، ولا بالتالد دون الأعراق التي تسري والمواليد التي تنمي، ولا ترضى أن تكون أولا حتى تكون آخرا، ولا بالمداراة دون المباداة، ولا بالجدال دون القتال. وحتى ترى أن التقية حرام، وأن التقصير كفر.
وحتى لو كنت إمام الرافضة لقتلت في طرفة، ولو قتلت في طرفة لهلكت الأمة؛ لأنك رجل لا عقب لك، والإمامة اليوم لا تصلح في الإخوة، ولو صلحت في الإخوة كانت تصلح في ابن العم، ثم إنها دنت من الأرحام بعد ذلك فصارت لا تصلح إلا في الولد، وفي هذا القياس أنها بعد أعوام لا تصلح إلا ببقاء الإمام نفسه آخر الأبد. وهذا هو علة أصحاب التناسخ وأنت رافضي، ولم يكن هذا عندك. فأهد إلي الآن من خالص التوتياء كما أهديت إليك باب التناسخ. وأنت ترى القتل في حق المعاندة شهادة، وترى أن مباينة المنصفين في تعظيم العنود سعادة، وأن الرئاسة في دفع الحقائق مرتبة، وأن الإقرار بما يظهر للعيون ضعة، وأن الشهرة بالمبالغة رفعة. أظهر القوم عندك حجة أرفعهم صوتا، وأخلقهم للمثوبة أصلبهم وجها، وأحسنهم تقية أقلهم حرجا، وأكثرهم عندك إنصافا أشدهم شغبا. تعشق المتهور وتكلف بالجموح وتصافي الوقاح. والأديب عندك من عاب أحاديث الجلساء، واعترض على نوادر الإخوان، وغمز في قفا النديم، ونصب للعالم، وأبغض العاقل، واستثقل الظريف، وحسد على كل نعمة، وأنكر كل حقيقة.
جعلت فداك، إنما أخرجك من شيء إلى شيء، وأورد عليك الباب بعد الباب؛ لأن من شأن الناس ملالة الكثير واستثقال الطويل وإن كثرت محاسنه وجمت فوائده، وإنما أردت أن يكون استطرافك للآتي قبل أن ينقضي استطرافك للماضي؛ لأنك متى كنت للشيء منتظرا وله متوقعا كان أحظى لما يرد عليك وأشهى لما يهدى إليك، وكل منتظر معظم، وكل مأكول مكرم. كل ذلك رغبة في الفائدة، وصبابة بالعلم، وكلفا بالاقتباس، وشحا على نصيبي منك، وضنا بما أؤمله عندك، ومداراة لطباعك، واستزادة من نشاطك. ولأنك على كل حال بشر، ولأنك متناهي القوة مدبر.
خبرني: كيف كانت خدائع المتنبئين ومخاريق الكذابين ممن قد كان ترشح للتنبؤ، ومن لم يظهر دعوته، ومن دعا واجتهد، ومن أجيب، ومن لم يجب. وصف لي أبواب مصايدهم وأجناس كيدهم وحيلهم، وعن اعتمادهم على المواطأة، وعن تقدمهم في الحجة، وعمن ذهب في طريق التفهم، وعن أصحاب الزجر والتنجيم، وعن أصحاب الاسترحام، وعن إظهار الزهد وتحريم الاستمتاع، ومن وافق صورته وحاله بعض ما في البشارات المتقدمة وما في الكتب الصحيحة، ومن اتفق له غير ذلك من الشبهة. فقل في شيث بن آدم، وقل في زرادشت، وفي ماني، وفي فولس، وفيما ادعي لمرقس ومتى ولوقا ويوحنا. وخبرني عن الأسود العنسي، ومسيلمة الحنفي، وطليحة الأسدي، وبنت عقفان، وربعي، وأمية بن أبي الصلت، وما قصة الطائرين الأخضرين، وما كان شأن الرماح. وخبرني عن سلمى بن جندل، وما قال الهند في نزول البد، وقصة ابن ديصان، وما قول عبدة الكيان وعباد قوة الهيولي وأصحاب البيضة، ومن عبد النجوم وثبت لها الحس والعلم والنفع والضر، ومن جعل كل داع إلى الله بالصواب والعدل وصلة الرحم ونفي الجهل نبيا، ومن أنكر أصل النبوة البتة، وما تقول في حنظلة بن صفوان، وخالد بن سنان؟ وقل في الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها، وهل يجوز أن يكفر نبي أو يشرك أو يضل بعد هدايته، ويصير عدوا بعد ولايته، ويدل الله على كذبه كما دل على صدقه؟ وكيف صار النبي عندكم يعصي ويخطئ والإمام لا يعصي ولا يخطئ؟ وكيف ساغ ذلك في جميع النبيين وأمكن في جميع المرسلين، على كثرة عدد النبيين والمرسلين، ولم يجز ذلك في إمام واحد مع قلة عدد الأئمة مذ كانوا؟
وخبرني: لم تنصر النعمان ويزيد بن الحارث، وتهود ذو نواس، وتمجست ملوك سبأ؟ وكيف صارت العرب فرقا بين محل ومحرم وأحمسي، سوى تفرقهم في الملل، وكيف لم نر أمة قط دهرية وقد علمنا أنه لا يجوز أن يتنبأ دهري؟ وكيف لم يتدهر ملك، وكيف لم نجد قول الدهرية إلا في الخاص والشاذ والرجل النادر؟ ولم كان لجميع أهل الأديان مملكة وملوك إلا الزنادقة؟ ولم قتلهم جميع الأمم السالفة؟ ولم قضيت بهذا وقد رأينا المصدقية والديناورية والتغزغزية! فإن قلت: لأن من لم يكن من دينه القتال ولا من غريزته البأس فهو مسلوب أو مسترق. فما بال الروم تمنع أن تسترق وأن تسلب وليس من دينهم قتال ولا جدال ولا مكافأة ولا دفع.
جعلت فداك، أين كان عبد الله بن هلال الحميري صديق إبليس من كردباش الهندي، وأين كان يقع منهما صالح المديبري، وأين عبيد مج من البطيحي، وأين عبد الوارث من الهجيمي، وأين كان أبو منصور في المخاريق من جرمي، وأين بامونة من حسده، وأين قشة اليهودي من كشة، وما فصل ما بين الكهانة والشعبذة، وما فصل ما بين الحازي والعراف، وأين كان عزى سلمة من سطيح الدئبي، وأين كان الأبلق الأسدي من رياح بن كهيلة، وأين كاهن سعد هذيم من حليس الخطاط. وحدثني عن ساحرة حفصة وساحرة عائشة، أقتلتاهما بإقرار منهما أم بمعرفة منهما بكيفية السحر؟ وحدثني عن صاحب جندب بن زهير بإقرار قتله أم عن معرفة منه بمعنى السحر؟ وهل ثبت - جعلت فداك - أن النبي
صلى الله عليه وسلم
سحر في جف طلعة ووضع تحت راعوفة البئر أم لا؟
وخبرني: ما البحرباي، وما البارباي، وما الكروريات، وما الخواتيم، وما المناديل والسعي والأمر الذي كان في خاتم سليمان، وما السكينة التي كانت في التابوت، فقد اختلف المفسرون فيها وزعموا أنها كانت رأس هر. وما سعسف ياسينية، وما الفتل، وما التوجيه؟ وخبرني: ما تأويل الزمزمة، وما فعل المال الذي من أخذ منه ندم ومن لم يأخذ منه ندم. وخبرني عن قول الخليل في الوهم القديم؟
وخبرني - جعلت فداك - عن قولك في الشعر الذي ننشده في المنام مما لم نسمع بأجود منه في اليقظة، وعن الشعر الذي نخترعه عن مناقلة الكلام وموازنة الأمور وحال النوم، وحال الآفة والنقص وصاحبه مغمور أو شبيه بالمغمور ولا يجري عليه قلم ولا يلام ولا يشكر. ولم صرنا نتذكر الشيء المهم فلا نقدر عليه حتى ندعه فأيسنا منه أجمع ما نكون أنفسا وأحسن ما نكون تذكرا، ثم يعارضنا ويخطر على بالنا في حال سهر أو في حال نوم وأغنى ما نكون عنه وأقل ما نكون احتفالا به! ولم صرنا ننسى من القصيدة بيتا أو آية من جميع السورة أو كلمة من جميع كلام الخطبة، ولم صار البلغم بالباء أولى منه بالتاء، ولم كانت المرة السوداء بالجيم أولى منها بالحاء، وكذلك القلب المانع من الحفظ. وهل بد للحقيقة من خصائص أسباب وأعيان علل؟ وإلا فقد يجوز أن تنسى هذه القصيدة بدل تلك، ولم صار بعض الناس أحفظ للنسب وبعضهم أحفظ للإسناد، وبعضهم أحفظ للمعاني، وبعضهم أحفظ للألفاظ. ولم صرنا لا ننسى السباحة وبالاكتساب عرفناها والعادة أن المكتسب قد ينسى ويجهل، وأن الضروريات لا تجهل. وقل لي: لم لم تضرب السامري، ولم لم تعض ماني وتمضه، ولم لم تبزق في وجه فرعون. أم إن الطبيعة التي هيبتك من هشام بن خلف بن قوالة الكناني حين قال على رأس النعمان وأنت رجل يمان هي التي منعتك من أن تبزق في وجه فرعون وأنت سمعته يقول:
وما رب العالمين ؟ ولم أزعم أنك رجل يمان لولادة لك في قحطان، كيف وأنت أقدم من قحطان ومعد بن عدنان، ومن القرون التي خبر الله عن كثرتها وعن آبائها وأجدادها! ولكنك منهم بالهوى والنصرة، ولأنهم كانوا لك أحشاما وصنيعة.
وقل لم صار جميع الحيوان يسبح إلا الإنسان والقرد والعقرب والفرس الأعسر؟ وأي شيء عندك في آصف، وفي سفر آدم، وفي جراب موسى، وفي درسب، وفي شنلة، وفي كتاب الأسماء، وفي قولهم دعا فلان باسم الله الأعظم؟ وما تقول في ابن عقيب، وفي أشج بن عمرو، وفي شعيب وصالح، وفي السفياني، وفي الأصفر القحطاني؟
وخبرني - جعلت فداك - مذ كم صنعت حساب الهسمرح، ومن صاحب خطوط الهند، وأين كتب قوم صنعة السند هند والأركند وحساب كلا سفر؟ ومذ كم عمل الباب الجامع، ومذ كم عمل الأرتماطيقي، ومن سمى الجبر بالجبر، والجذر بالجذر، والنشاذر بالبارود، والأكدرية من أي شيء اشتقت، وما تأويل الدحال، وما تأويل الجمل، ومن أول من عد إلى عشرة وجعل العشرة منتهى وغاية، ثم ضاعفها وجعل غايات الأعداد عشر العشرات وعشرات عشرات العشرات أبدا، ثم كسر على العشرة مما دون أعدادها؛ لأن الأصابع عشرة، وكيف لم يجعل الغاية ما له نصف وثلث وربع وسدس وثمن، أم رأى أن التضعيف أبدا لا يكون إلا للعشرات، فقد نجده في عشر العشرات، أم القول الأول الأشياء كلها عشرات، ولست أعرف - جعلت فداك - قوله إن الإنسان عشرة أشياء، كما لم أعرف قول الفزاري إن العقل كري، وقد علمت أن القلب كري، وأن الرأس الذي جمع الحواس كري. فأما العلم والقول وما أشبههما فإنا لا نعرف هذه الأمور إلا على خلاف الأجرام الموصولة والمقطوعة، وقد شدوت من الموسيقى ولم أبلغ منه شهوتي.
فخبرني أين كان إقليدس وميرسطوس من فيثاغورس، وأين تلامذتهما من تلامذته، وهلا قدمتم إقليدس مع صنعة البرابط والمعازف؟ وأين أرشخانس من مورسطس، وأين ريوشت من فلهوذ، ولم قتله وهو فوقه في الإطراب والصنعة وفي الرواية والرئاسة، ولم عفا سابور عن قتله بعد إقراره بقتله وبعد أن سحب إلى الفيلة وعزم على إمضاء الحكم. وأين كانت هر وفرتنا من الجرادتين، وأبو طيبة والرباب من السردان والمهراس، وأين حبابة من سلامة صاحبتي يزيد، وأين عزة الميلاء من جميلة الحدباء، وأين حيية من الميلاء. وخبرني عن غناء الركبانية للمصطلق أخذته منه الركبان أم للركبان، وهل رجعه بخسر المصطلق. وزعمت أن الأهزاج لليمن، وأن النصب للقينات، فلمن السناد؟ فخبرني أين كان ضبيس بن حرام من المصطلق بن سعيدة، ولم جعل المعلم النغم يعد لليوناني ست عشرة نغمة؟ ألأنه لم يدرك أكثر منها أم لأنه ليس في الحلقة إلا ما أدرك، ولم جعل الرعب للسوداء، والحزن للبلغم، والجرأة للصفراء، والسرور للدم. ولم فسر الأوتار على ذلك فجعل الزير للصفراء، والمثنى للدم، والمثلث للبلغم، والبم للسوداء! وقال: الزير لطيف ناري خفيف، والمثنى هوائي بين طبيعة النار وهو دون النار في الخفة وبين طبيعة الماء وهو فوق الماء في الخفة، والمثلث كالماء، والبم كالأرض، وفي المثنى ضعف وزن الزير، وفي المثلث ضعفا وزن الزير، وفي البم ثلاثة أضعاف. ولم زعم أن من اللحون ما يقلق ويفرق فإن زيد فيه نقض وإن قوي قتل، وأن فيها ما يغير فإن زيد فيه غشى وإن قوي أجمد فإن قوي قتل. فجعل لحنا مطلقا يقتل بالإذابة، وجعل لحنا يقتل بالإجماد. ولم وصف اللحون بالإجماد والإضاعة كما توصف السموم القاتلة؟ خبرني عن صنعة البربط، للمك
44
أم لرفائيل أم لإقليدس؟ وما تقول في قولهم إن لمكا عمل العود على صورة فخذ ابنه ساقها وقدمها وأصابعها، وأنه جعل الصدر الفخذ، والساق الإبريق، والقدم المشط، والأصابع الملاوي، والأوتار العصب والعروق.
جعلت فداك، كيف حفظك لكتاب كاوريد، وقد خبرني بعض المتكلمين أنه رأى بسيراف مجوسيا يحفظه وهو في ألف جلد بخط مقارب. وكيف حفظك لكتاب الطرف، وهل لقيت واضعه أيام أدخلك بلاد الروم نزول عطارد؟ وخبرني عن أسرار الهند، ألرجل بعينه أم لشورى؟ ولم زعموا أن العقوق يورث البرص، وهذا مما لا يعرف في الطب. ومن صاحب الشطرنج، ومن صاحب كليلة ودمنة، ومن واضع الكوكلة، ومن طبع القلعة، ولم صار الهندي والرومي لا يحفلان بالسندي في حال الأسر ويرغبان عنه في حال القتال. وقد اختلفوا علينا في النعال السندية، فزعم قوم أن صاحب كتاب الباه كان قصيرا منكرا وكان بالنساء مستهترا وأنه احتال بها لجسمه حتى وصلها برجله ليكون ثخنها زائدا في طوله، فلما طالت الأيام ومضت الدهور ظن من لا علم له أنها اتخذت للزينة أو لضرب من المرفق. وقال آخرون: بل اتخذت للعقارب ليلا وللطين نهارا، فلما طال عليها الدهر نسي السبب، وذلك أن أكثر الرداغ لا تستغرق ثخنها وإبرة العقرب لا تكاد تجاوزها. وقال آخرون: بل إنما اتخذتها ملوكها لمكان أصواتها وصريرها استئذانا على أزواجها وأمهات أولادها وعلى جميع محارمها لحالات تكن عليها وأمور تكن فيها، فصار صريرها تدنأ واستئذانا. وزعم إسماعيل بن علي أنك أنت الذي كنت أمرت باتخاذها وأشرت بصنعها، وأنت تكتم السر الذي فيه، وأنك الذي علمتهم مضغ التانبول ودبغ تحمير الأسنان، وتطبيب النكهة، وأكل السعد لما أنت أعلم به، والتصندل لما لا يجوز المكاتبة فيه، وأنك أول من احتبى هناك واستاك وفرق شعره وعلم الخضاب أهله. وكيف وقد زعمت أن الاحتباء إنما صار فيهم وفي العرب لأن نازلة العمد والصحاري وسكان الفيافي والبراري وكل من ليس لشماله مرفقة ولا لظهره مسندة ولا لفخذه جنة لا بد أن يشتكي ظهره إذا طال انتصابه وكثر جلوسه، ومن احتاج احتال، ومن استغنى تبلد. فأخرجت لهم الحبكة للحبوة حتى قامت لهم مكان المتكأ والمسند. فقد قال لك كسرى: فما بال الترك والخزر وجميع أهل الصحاري والعمد لا يعرفون الاحتباء، والحاجة واحدة والعقول سليمة، فلم أمسكت يومئذ عن الجواب؟ ألأنه استفهم استفهام الراد أو نفست به على من شهد ذلك المشهد؟
وأنا - جعلت فداك أعلم أني أسمع ولا أعقل كيفية السمع، وأعلم أني أبصر ولا أعقل كيفية البصر، ولا أدري أمعدن العقل الدماغ والقلب بابه وطريقه، كما أن معدن اللون جميع النفس والعين بابه وطريقه، أم معدن العقل القلب دون الدماغ أو لعلهما موصولان غير مقطوعين. وقد اعتل قوم للدماغ بأن جميع الحواس في الرأس، واعتل قوم بالحس وبما يجدون في قلوبهم من الرعب والاضطراب وغير ذلك، فكيف القول فيه وعلام عزمت منه؟ وكيف صار الناظر يبتدي من جهة وإن كان يعرف الله فكيف عرفه، أباضطرار أم باكتساب؟ وكيف جهل سليمان موضع ملكة سبأ، وهو ملك وشأنه عظيم والجن له مسخرة والطير له برد والريح له أداة، وكيف جهل يوسف مكان أبيه وحاله في الحزن عليه حاله وهو ملك نبي، وكيف جهل أبوه مكانه وهو نبي، وليس أنبه من نبي، وملك هذا بالشام والآخر بمصر؟ وما تقول في أهل التيه وعن ترددهم أربعين عاما في مكان واحد وعقولهم معهم، وإنما يجولون ليقفوا على الطريق، فكيف أضل الجميع الطريق مع ارتفاع الذكر وشدة الطلب؟ وخبرني عن كلام عيسى في بطن أمه ثم في المهد، وعن عقل يحيى في حال الصبا، أكانا في حالهما يتعقلان ما لا يعلمان أم ينطقان بما يعلمان؟ وكيف علما، أبتجربة واستنباط وعن تمام أداة وكمال آلة، أم من طريق الإلهام والإخراج من العادة؟
وقد تعجب ناس من إطالتي ومن كثرة مسألتي، وتعجبي من تعجبهم أشد والذي كان من إنكارهم أعظم، ولو رغبوا في العلم رغبتي ورأوا فيه مثل رأيي وكانوا قرءوا كتابي إليك في شبيبتي وأيام شباب رغبتي، لاستقلوا من ذلك ما استكثروا ولاستقصروا منه ما استطالوا. فإن أذنت لي أظهرته، وإن تجد علي أعلنته.
وستقول: ما دعاك إلى التنويه بذكري وتعريف الناس مكاني، وقد تعرف حشمتي وانقباضي ونفوري واستيحاشي! ولولا أنك - جعلت فداك - مسئول في كل زمان والغاية في كل دهر لما تفردتك بهذا الكتاب، ولما أطمعت نفسي في الجواب. ولكنك قد كنت أذنت في مثلها لهرمس، ثم لأفلاطون، ثم لأرسطاطاليس، ثم أجبت معبد الجهني، وغيلان الدمشقي، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وإبراهيم بن سيار، وعلي بن خالد الأسواري، فتربية كفك والناشئ تحت جناحك أحق بذلك وأولى، وقد كان يجب أن تكون على ذلك أحرص وبه أعنى.
وخبرني عن المرائي كيف صارت تري الوجوه ويبصر فيها الخلق، وكذلك كل أملس صقيل وصاف ساكن، كالسيف، والوذيلة،
45
والقوارير، والماء الراكد، حتى الحبر البراق، والحدقة السوداء إذا كان الناظر في الحدقة أبيض، والحدقة المغربة إذا كان الناظر فيها أسود. وكيف صار الماء الجاري والنار الملتهبة والشمس ذات الشعاع لا تقبل الصورة ولا يثبت فيها الخلق. وعن قول من زعم أنه ليس في القمر محق ثابت، ولا كمد جامد، ولا سواد واكد، وإنما ذلك شيء رآه الناس فيه إذ كان أملس صقيلا بمقابلة الأرض وما فيها كما يرى من قابل الحدقة صورة إنسان وليس هناك صورة وإنما هو شيء يوجد عند المقابلة. ولم صار بعض المرائي يرى الوجه والقفا ويرى الرأس منكسا، ولم كنت لا تجد كتاب الستور والمطارح فيها أبدا إلى مقلوبا، وما تلك الصورة الثابتة في المرآة أعرض أم جوهر أم أي شيء، وحقيقة أم تخييل، والذي نرى أهو وجهك أو غير وجهك، فإن كان عرضا فما الذي ولده وما الذي أوجبه والوجه لم يماسه ولم يعمل فيه، وهل أبطلت تلك الصورة المرئية صورة مكانها في المرآة، ولم وأنت لست تراها في نفس صفيحة المرآة، ولم وكأنك تراها في هواء خلف جوفها، وهل أبطل ذلك اللون الذي هو في مثال لونك لون المرآة؟ فإن لم يكن أبطله فهناك إذا صورتان في جسم في حال واحد، أو لونان في جوهر واحد. وإن كان قد أبطل لون الحديد، فكيف أبطله من غير أن يكون عمل فيه، وكيف يعمل فيه وحيزه غير حيز وهو لا مماس ولا متصل ولا مصادم. وسواء ذكرنا صفيحة الحديد أم ما خلفها من الهواء وما قدامها من الفرجة، كل ذلك جسم ذو لون. فإن اعتللت بالشعاع الفاصل والشعاع يخالف في الحس، كذلك الحساس وكذلك المحسوس، وكيف نرى المخالف وكيف والشعاع لون وبياض والنفس الحساسة لا تدرك بشيء من الحواس، وما الفرق بين الأثعبان والأحللان وعن قول ما بين السمون والحفرة؟
وخبرني عن القرسطون كيف أخرج أحد رأسيه ثلثمائة رطل زاد ذلك أم نقص ووزن جميعه ثلاثون رطلا زاد ذلك أم نقص. وما تقول في السراب، وما تقول في الصدى، وما تقول في القوس، وما تقول في طريقة الحمرة، وفي طريقة الخضرة، وكيف اختلفتا والهواء واحد وما يقابلهما واحد، وهل ذلك اللون حقيقة أم تخييل؟
وخبرني عن لون ذنب الطاوس ما هو، أتقول بأنه لا حقيقة له وإنما يتلون بقدر المقابلة، أم تقول إن هناك لونا بعينه والباقي تخييل! وما تقول في عس الماء كيف اشتد صوته بلا باب والصوت لا بد له من هواء، وإذا اشتد فلا بد له من باب؟ وما تقول في خضر السماء، أهو خضر جلدها كما تقول، أم ذلك لحر الهواء كما يقول خصمنا؟ وهل تزعم أن الأفلاك ذات لون؟ فإن كان لها لون فقد احتملت جميع الأشكال، وهذا خلاف ما يقولون. وإن لم تكن ذات لون فالسماء إذا غير الفلك، فهذا هذا. ونقول أيضا إن كنا لا نرى القرى المستطيلة البنيان المختلفة من البعد إلا مستديرة، فلعل الشمس مصلبة والكواكب مربعة. وما تقول في المد والجزر، أمن ملك يضع رجلا ويرفع رجلا؟ فإن كان كذلك فلعل مدبر الفلك ملك، ولعل صوت الرعد صوت زجر ملك، فندع الفلسفة ونأخذ بقول الجماعة، أم نزعم أن المد والجزر من نفس الجواذب إذا جذب وإذا رفع؟! وما تقول في قول من زعم أن القمر مائي وأشبه الكواكب بطبيعة الأرض؟ فإنما يكون الجزر والمد على مقادير جذبه للماء وإرساله له، ذلك معروف في منازله ومجاريه، يعرف ذلك أهل الجزر والمد.
وخبرني كيف صارت القيافة في النسبة وفي الماء والجو والتربة، وليست القيافة تكلفا وصنعة، ولا عرفت بالاستنباط والفكرة، فتكون لمن تعلم دون من يتعلم، نجدها في بني مدلج، ثم في خاص من خثعم، وكذلك خزاعة، وهي في قريش أقل، وهي في بني أسد أقل، وليس هؤلاء لأب ولا يجمعهم بلد، وليس فيما بين البلدين قافة وهي فيهم على هذه الصفة. وكيف لم يختلفوا في لغتهم فينطق بعضهم بالزنجية وبعضهم بالنبطية وبعضهم بالفارسية، فإن قلت فارقهم المعجم والشاعر والبكي والغرير، فإن الشاعر وإن كان القريض عليه أسهل وهو على القوافي أقدر فإنه يتروى الشعر ويصنعه ويتفرد له ويفكر فيه، وكيف صار الإنسان يعيش حيث تعيش النار ويموت حيث تموت النار، يصاب علم ذلك في الجباب وفي الغيران، ولم صار يبصر النجوم من قعر البئر العميقة ولا يبصرها أبدا إلا وهو خالص الظلمة. وخبرني عن الظلام، أجسم موجود عند زوال الضوء، أم تأويل قولنا ظلام إنما نريد به دفع الضوء؟! فإن كان الظلام معنى، أفتراه انقمع في الأرض وكمن عند انبساط الضوء وردع الشعاع، أم الأرض قرص للظلام كما أن عين الشمس قرص للضياء؟ وإن كان قائما فكيف لم يتنافيا، وإن كانا قد تداخلا فكيف لم نجدهما على منظر الأعين؟ ولو كان الأمر كذلك فنحن إذا لم نر ضياء قط ولا ظلاما.
وخبرني - جعلت فداك - لم زعمت أن الحس للعصب، وأن الشر عصب جامد، وأن الرئة لا حس لها، وأن من أدام سف اللبان لم يؤلمه المؤلم وألذه الملذ، وكيف يلذ من لا يألم، ولو جاز ذلك لعرف الصواب من يجهل الخطأ، ولعرف الصدق من يجهل الكذب. هذا ما عندي من العلم البراني وأنت أبصر بالعلم الجواني.
وزعم بعض تلاميذك أنك تعلم لم كان الفرس لا طحال له، ولم صار البعير لا مرارة له، ولم كانت السمكة لا رئة لها، ولم كانت حيتان البحر لا ألسنة لها، ولم حاضت الأرنب ولم اجترت، ولم كان قضيبه من عظام، ولم كانت علائق أجواف السبع أفرادا إلا الكلية . وزعمت أنك تعرف في الخفاش سبعين أعجوبة، ونحن لا نعرف إلا سبعا، وأنك تعرف في الذهب مائة خصلة كريمة، والناس لا يعرفون إلا عشرا، وأنك تعرف في البعير ألف داء ودواء، والأعراب لا تدعي إلا مائة داء غير دواء.
جعلت فداك، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «كاد البيان أن يكون سحرا.» وقال: «إن من البيان لسحرا.» وقال عمر بن عبد العزيز وسمع رجلا يتكلم بكلام بليغ عجيب لطيف رقيق: هذا - والله - السحر الحلال. وقال الناس لذي المكر والخلابة ولذي الرفق والتأتي: ما هو إلا ساحر، وقد سحر بكلامه. وقالوا للمرأة: ساحرة العينين. وقد ذكر الله السحرة في القرآن، وأخبر عن هاروت وماروت، وخبر عن النفاثات في العقد. وقال الناس: لهو أقبح من السحر، إذا أرادوا نفس المعنى المشبه به والمعنى المحمول عليه والسحر نفسه. وما الذي اشتقت منه هذه المثال؟ ولم تجدهم - أبقاك الله - سموا كهان العرب سحرة، ولا العراف ساحرا، ولا الحازي، ولا صاحب الطرق، ولا من كان معه رئي، ولا من ادعى تابعة من لدن عمرو بن لحي إلى يومنا هذا. وما قاله (الساحر) إذا عقد عقدا أو دفن صورة بالأندلس لرجل بفرغانة، وإذا صور شمعتين وخرطهما على مثال إنسانين ودفنهما وخبأ مكانهما وقابل بين وجوههما تقابلا بالمودة، وإن دابر بينهما تدابرا بالعداوة. وقل لي من يتولى هذا له ومن يقوم له به ومن يتطوع به عليه، فإن قلت: الشيطان، فلم فعل هذا له وأول شيطنته ألا يطيع من هو فوقه، فإن قلت: بالعزائم التي لا ترد والأيمان التي لا تدفع، فقد عزم الله عليه بالقرآن والتوراة والإنجيل فلم يجده يحفل بذلك ولا يرى له قدرا ولا يكترث له ولا يراه سببا. وأخبرني ما هذه العزيمة التي إذا سمع بها أجاب، وإذا ظهرت له أناب، ومن أين عرف الإنسان هذه العزيمة، ومن أين وقع عليها، ومن له بها، أهو صنعها أم صنعت له، فإن يكن الشيطان هو الذي ابتدأه بها فقد ابتدأه إذا بتعريف العزيمة قبل أن يعزم عليه، وقد تطوع بأعظم الأمور، فما الذي يحوجه إلى العزيمة في أصغرها؟ فقل في هذا. وإن زعمت أن العازم صاحبه دون الشيطان، والعازم مسلم وإن كان مسلما، ولذلك أجاب العزيمة وعظم الإخلاف، فلم يخبل له الأصحاء ويقتل المرضى ولم يحبب ويبغض، ولم يفرق بين المرء وأهله، وبين الولد البار وأمه، ولم يجتلب العفائف إلى الزناة، ولم يعذب ويقتل؟ وهذا متناقض.
ولم قيل: أعق من ضب وأبر من هرة، وهما جميعا يأكلان أولادهما. ولم عال الذئب أولاد الضبع إذا قتلت أو ماتت حتى قال الشاعر: «حتى عال أوس عيالها؟» وهل يفهم الضبع قولهم: خامري أم عامر؟ وما بال الظبي لا يدخل كناسه إلا مستدبرا، وهل يجوز قولهم في نوم الذئب قال الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ال
منايا بأخرى فهو يقظان هاجع
ولم نامت الأرنب مفتوحة العينين، ولم أكل الذئب صاحبه إذا رأى به دما، وما بال الجن والثيران، وما بال الشياطين والورشان، وهل في الحيات جنان، وما معنى قولهم: كأنما كسر فجبر. وما تأويل الحديث: «يؤخذ للجماء من القرناء»، «ويكلف أن يعقد بين شعيرتين»؟
ولم زعمت أن عمر نوح أطول الأعمار مع قولك إن جميع الأنبياء قد حذرت من الدجال، وأن الدجال إنسان. وقد سألتك وإن كنت أعلم أنك لا تحسن من هذا قليلا ولا كثيرا، فإن أردت أن تعرف حق هذه المسائل وباطلها وما فيها خرافة وما فيها محال وما فيها صحيح وما فيها فاسد، فألزم نفسك قراءة كتبي ولزوم بابي، وابتدئ بنفي التشبيه والقول بالبداء واستبدل بالرفض الاعتزال، وأن أتنكر منعك بعد التمكين والبذل وبعد التقريع والشحذ، فلا يبعد الله إلا من ظلم.
وقد بقيت لي عليك مسائل وهي خاتمة الكتاب ومنتهى المسائل: أيهما أحسن، قول بقراط مفسرا: «العمر قصير والصناعة طويلة والزمان جديد والتجربة خطأ والقضاء عسر.» أم قول أفلاطون مجملا: «لولا أن في قولي إني لا أعلم تثبيتا لأني أعلم لقلت إني لا أعلم.» أم تواضع أرشخانس حيث يقول: «ليس معي من فضيلة العلوم إلا علمي بأني لست بعالم»؟ فانظر في آخر هؤلاء ثم انظر في قول ديمقراط: «عالم معاند خير من عالم منصف جاهل.» وفي قول تلميذه الأول: «الجاهل لا يكون منصفا والعالم لا يكون معاندا وقد يكون العالم معاندا.» ثم انظر قول ريسموس: «لولا العمل لم يطلب علم، ولولا العلم لم يطلب عمل، ولأن أدع الحق جهلا به أحب إلي من أن أدعه زهدا فيه، وإن كان الجهل لا يكون إلا من نقصان في آلة الحس فإن المعاندة لمن زيادة في آلة الشر، ولأن أترك جميع الخير أحب إلي من أن أفعل بعض الشر.» ثم انظر في قول تومقراط: «العلم روح والعمل بدن، والعلم أصل والعمل فرع، والعلم والد والعمل مولود، وكان العمل لمكان العلم ولم يكن العلم لمكان العمل. فالسبب الجالب خير من السبب المجلوب، والغالب خير من المغلوب.» وانظر في قول أقليميون: «العلم كان من العمل والعمل غاية، والعلم رائد والعمل مرشد.» ثم انظر في قول أرسطاطاليس: ليس طلبي العلم طمعا في بلوغ قاصيته ولا سبيلا إلى غايته، ولكن ألتمس ما لا يسع جهله ولا يحسن بالعاقل خلافه.» ثم انظر في قوله: «قد عرفت الأرثماطيقي، وأيقنت معرفة الموسيقى، وعرفت المساحة، فلم يبق إلا علم الإلاهي ومعرفة الإصلاح.» ثم انظر في قول مورسطوس: «عرفت أكثر المقصود، وأقل ما يوقف عليه من المبسوط، وقليل الكثير كثير، وكثير القليل كثير.»
ثم انظر في قول أفليمون: «ما أقل منفعة كثير المعرفة مع شرف الطبيعة واقتصاد الشهوة.» ثم انظر قول تلميذه الأول: «غلبة الطبيعة تبطل المعرفة وتنسي العاقبة، ولو كانت المعرفة ثابتة لكانت هي الغالبة.» ثم انظر في قول تلميذه الثاني: «ليس بعلم ما كان مغلوبا وليس بفهم ما كان مغمورا، بل لا يكون مغلوبا إلا بالنقص والخبال ولا مغمورا إلا بالغلبة والانتقاض.» ثم انظر في قول ماسرجس: «من قصر عن طلب العلم لرغبة أو رهبة أو منافسة أو شهرة، كان حظه من الرغبة وحظه من الرهبة على مقدار حق الرهبة. ومن طلب العلم لكرم العلم والتمسه لفضل الاستبانة كان حظه منه بقدر كرمه وقدره، وانتفاعه به على حسب استحقاقه في نفسه.»
وقد اختلفوا في العقل بأكثر من اختلافهم في العلم، فمنعني من ذكره لك غموضه عليك واستتاره عنك، وعلمت أني لا أقدر أن أصوره لك دون دهر طويل، ولا أضمنك معناه دون تربيب كثير.
هذا الكتاب مرض مع ما فيه من الأخلاط من أشكال وأضداد، ومن الجد والهزل، ومن الحظر والإطلاق، ومن الاستئناف والقطع، ومن التحفظ والتضييع، ومن التثبيت والتهاون. إذا أريد به تقريع معجب أو تكشيف مموه، أو امتحان مشكل، أو تخجيل وقاح، أو قمع ممار، أو ممازحة ظريف، أو مساءلة عالم، أو مدارسة حافظ، أو تنبيها على الطريق، أو تجديدا للذهن.
والعقل - حفظك الله - أطول رقدة من العين، وأحوج إلى الشحذ من السيف، وأفقر إلى التعهد، وأسرع إلى التغير، وأدواؤه أقتل، وأطباؤه أقل، وعلاجه أعضل. فمن تداركه قبل التفاقم أدرك أكثر حاجته، ومن رامه بعد التفاقم لم يدرك شيئا من حاجته. ومن أكبر أسباب العلم كثرة الخواطر ثم معرفة وجوه المطالب، ثم في الخواطر الغث والسمين، والفاسد والصحيح، والمسرع إليك والبطيء عنك، والدقيق الذي لا يكاد يفهم، والجليل الذي لا يلقى الفهم. ثم هي على طبقاتها في التقديم والتأخير، وعلى منازلها في التباين والتمييز. والمطالب طرق، ولدرك الحقائق أبواب، فمن أخطأها وانتظر كان أسوأ حالا ممن لم يخطئها ولم ينتظر. وعلى قدر صحة العقل يصح الخاطر، وعلى قدر التفرغ يكون التنبه. هذا جماع هذا الباب وجمهوره وأقسامه وجملته. ثم من أنفع أسبابه الحفظ لما قد حصل والتقييد لما ورد والانتظار لما يرد ألا تخلي نفسك من الفكرة إلا بقدر جمام الطبيعة، وأن تعلم أن مكان الدرس من الحفظ كمكان الحفظ من العلم، وأن تعرف فضل ما بين طلب العلم للمنافسة والشهرة وبين طلبه للرغبة والرهبة، وأن تعلم أن العلم لا يجود بمكنونه ولا يسمح بسره ومخزونه إلا لمن رغب فيه لكرم عنصره، وفضله لحقيقة جوهره، ورفعه عن التكسب وصانه عن التبذل، وأنه لا يعطيك خالص الحكمة حتى تعطيه خالص المحبة. وكان يقال: «من شاب شيب له.» وخصلة ينبغي أن تعرفها وتصطنعها وتتذكرها وتقف عندها، وهي أن تبدأ من العلوم بالمهم، وأن تختار من صنوفه ما أنت له أنشط والطبيعة به أعنى؛ فإن القبول على قدر النشاط، والبلوغ فيه على قدر العناية. ثم من أفضل أسبابه تخليص أخلاطه وتمييز أجناسه والمعرفة بأقداره حتى تعطي كل معنى حقه من التقريب والرفعة، وقسطه من الإبعاد والضعة، وحتى لا تتشاغل إلا بالسمين الثمين وبالخطير النفيس، ولا تلقي إلا الغث الخسيس والحقير السخيف، فإنك متى كنت كذلك لم تميز فضل ما بين النظرين، ولا فرق ما بين النعتين. والكيس كل الكيس والحذق كل الحذق ألا تعجل ولا تبطئ، وأن تعلم أن السرعة غير العجلة، وأن تعلم أن الأناة خلاف الإبطاء، وأن تكون على يقين من درك الحق إذا وفيته شرطه، وعلى ثقة من ثواب النظر إذا أعطيته حقه.
هذا جملة العذر في هذه الرسالة، وجملة الحجة فيما قدمنا من الافتنان والإطالة. فإن كنا أصبنا فالصواب أردنا وإلى غايته أجرينا، وإن كنا قد أخطأنا فما ذلك عن فساد من الضمير ولا عن قلة احتفال بالتقصير. ولعل طبيعة خانت، أو لعل علة حدثت، أو لعل سهوا اعترض، أو لعل شغلا منع.
خفض عليك أيها السامع، فإن الخطأ كثير غامر ومستول غالب، والصواب قليل خالص ومقموع مستخف. فوجه اللائمة إلى أهلها وألزمها من هو أحق بها، فإنهم كثير ومكانهم مشهور. كنت أتعجب من كل فعل خرج من العادة، فلما خرجت الأفعال بأسرها من العادة صارت بأسرها عجبا، فبدخول كلها في باب التعجب خرجت بأجمعها من باب العجب. وقد ذكر الله تعالى التعجب في كتابه، وقد تعجب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في زمانه، وفي الناس يومئذ الناقص والوافر والمشوب والخالص والمستقيم والمعوج. قال الله تبارك وتعالى لنبيه:
وإن تعجب فعجب قولهم ، وقال:
بل عجبت ويسخرون . واعلم أنه لم يبق من المتعجب القائل إلا نصيب اللسان، ولا من المستمع القائل إلا حصة السمع. وأما القلوب فخاوية قاسية وراكدة جامدة، لا تسمع داعيا ولا تجيب سائلا، قد أغفلها سوء العادة واستولى عليها سلطان السكرة. فدع عنك ما لست منه فإن فيما أورده عليك شغلا وهما داخلا.
اعلم أن الله تعالى قد مسخ الدنيا بحذافيرها، وسلخها من جميع معانيها، ولو مسخها كما مسخ بعض المشركين قردة، أو كما مسخ بعض الأمم خنازير، لكان قد بقى بعض أمورها وحبس عليها بعض أعراضها، كبقية ما مع القرد في ظاهره من شبه الآدمي، وبقية ما مع الخنزير في باطنه من شبه البشري، لكنه - جل ذكره - مسخ الدنيا مسخا متتبعا ومستقصى مستفرغا، فبين حاليهما جميع التضاد، وبين معنيهما غاية الخلاف. فالصواب اليوم غريب وصاحبه مجهول. فالعجب ممن يصيب وهو مغمور، ويقول وهو ممنوع! فإن صرت عونا عليه مع الزمان قتلته، وإن أمسكت عنه فقد رفدته، ولسنا نريد منك النصرة ولا المعونة ولا التأنيس ولا التعزية، وكيف أطلب منك ما قد انقطع سببه واجتث أصله. وقد كان يقال: «من طلب عيبا وجده.» هذا في الدهر الصالح دون الفاسد. فإن أنصفت فقد أغربت، وإن جرت فلم تعد ما عليه الزمان. وهب الله لنا ولك الإنصاف وأعاذنا وإياك من الظلم.
والحمد لله كما هو أهله، ولا حول ولا قوة إلا به، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
من كتاب استحقاق الإمامة
قال أبو عثمان:
بعون الله تعالى نقول وإليه نقصد وإياه ندعو وعلى الله قصد السبيل:
اعلم - رحمنا الله تعالى وإياك - أن الشيعة رجلان: زيدي ورافضي. وبقيتهم بدد لا نظام لهم. وفي الإخبار عنهما غنى عمن سواهما.
قال علماء الزيدية: وجدنا الفضل في الفعل دون غيره، ووجدنا الفضل كله على أربعة أقسام، أولها: القدم في الإسلام حيث لا رغبة ولا رهبة إلا من الله تعالى وإليه، ثم الزهد في الدنيا فإن أزهد الناس في الدنيا أرغبهم في الآخرة وآمنهم على نفائس الأموال وعقائل النساء وإراقة الدماء، ثم الفقه الذي به يعرف الناس مصالح دنياهم ومراشد دينهم، ثم المشي بالسيف كفاحا في الذب عن الإسلام وتأسيس الدين وقتل عدوه وإحياء وليه. فليس وراء بذل المهجة واستفراغ القوة غاية يطلبها طالب أو يرتجيها راغب. ولم نجد فعلا خامسا فنذكره. فمتى رأينا هذه الخصال مجتمعة في رجل دون الناس كلهم وجب علينا تفضيله عليهم وتقديمه دونهم. وذاك أنا سألنا العلماء والفقهاء وأصحاب الأخبار وحمال الآثار عن أول الناس إسلاما، فقال فريق منهم: علي، وقال فريق منهم: أبو بكر، وقال آخرون: زيد بن حارثة، وقال قوم: خباب. ولم نجد قول كل واحد من هذه الفرق قاطعا لعذر صاحبه ولا ناقلا له عن مذهبه. وإن كانت الرواية في تقديم علي أشهر واللفظ به أكثر وأظهر. وكذلك إذا سألناهم عن الذابين عن الإسلام بمهجهم والماشين إلى الأقران بسيوفهم وجدناهم مختلفين، فمن قائل: علي، ومن قائل: ابنا عفراء، ومن قائل: أبو دجانة، ومن قائل: محمد بن مسلمة، ومن قائل: طلحة، ومن قائل: البراء بن مالك. على أن لعلي من قتل الأقران والفرسان والأكفاء ما ليس لهم، فلا أقل من أن يكون علي في طبقتهم. وإن سألناهم عن الفقهاء والعلماء رأيناهم يعدون عليا وعمر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وأبي بن كعب. على أن عليا كان أفقههم؛ لأنه كان يسأل ولا يسأل ويفتي ولا يستفتي ويحتاج إليه ولا يحتاج إليهم. ولكن لا أقل من أن نجعله في طبقتهم وكأحدهم. وإن سألناهم عن أهل الزهادة وأصحاب التقشف والمعروفين برفض الدنيا وخلعها والزهد فيها قالوا: علي وأبو الدرداء ومعاذ بن جبل وأبو ذر وعمار وبلال وعثمان بن مظعون. على أن عليا أزهدهم؛ لأنه شاركهم في خشونة الملبس وجشوبة المأكل والرضا باليسير والتبلغ بالحقير وظلف النفس عن الفضول ومخالفة الشهوات، وفارقهم بأن ملك بيوت الأموال ورقاب العرب والعجم، فكان ينضح بيت المال في كل جمعة ويصلي فيه ركعتين، ورقع سراويله بأدم، وقطع ما فضل من ردائه عن أطراف أصابعه بالشفرة، في أمور كثيرة. مع أن زهده أفضل من زهدهم لأنه أعلم منهم، وعبادة العالم ليست كعبادة غيره، كما أن زلته ليست كزلة غيره، فلا أقل من أن نعده في طبقتهم. ولم نجدهم ذكروا لأبي بكر وزيد وخباب مثل الذي ذكروا له من بذل النفس والغناء والذب عن الإسلام بالسيف، ولم نجدهم ذكروا للزبير وابني عفراء وأبي دجانة والبراء بن مالك مثل الذي ذكروا له من التقدم في الإسلام والزهد والفقه، ولم نجدهم ذكروا أبا بكر وزيدا وخبابا في طبقة ابن مسعود وأبي بن كعب كما ذكروا عليا في طبقتهما، ولا ذكروا أبا بكر وزيدا وخبابا في طبقة معاذ ابن جبل وأبي الدرداء وأبي بن كعب وعمار وبلال وعثمان بن مظعون كما ذكروا عليا في طبقتهم. فلما رأينا هذه الأمور مجتمعة فيه، متفرقة في غيره من أصحاب هذه المراتب وأهل هذه الطبقات الذين هم الغايات، علمنا أنه أفضلهم، وإن كان كل واحد منهم قد أخذ من كل خير بنصيب فإنه لن يبلغ مبلغ من قد اجتمع له جميع الخير وصنوفه.
فهذا دليل هذه الطبقة من الزيدية على تفضيل علي - رضي الله تعالى عنه - وتقديمه على غيره. وزعموا أن عليا كان أولاهم بالخلافة، إلا أنهم كانوا على غيره أقل فسادا واضطرابا وأقل طعنا وخلافا؛ وذلك أن العرب وقريشا كانوا في أمره على طبقات: فمن رجل قد قتل علي أباه أو ابنه أو أخاه أو ابن عمه أو حميه أو صفيه أو سيده أو فارسه، فهو بين مضطغن قد دام على حقده ينتظر الفرصة ويترقب الدائرة، قد كشف قناعه وأبدى صفحته. ومن رجل قد زمل غيظه وأكمن ضغنه، يرى سترهما في نفسه ومداراة عدوه أبلغ في التدبير وأقرب من الظفر، فإنما يجزئه أدنى علة تحدث وأول تأويل يعرض أو فتنة تنجم، فهو يرصد الفرقة ويترقب الفتنة حتى يصول صولة الأسد ويروغ روغان الثعلب فيشفي غليله ويبرد ناره، وإذا كان العدو كذلك كان غير مأمون عليه سرف الغضب وأن يموه له الشيطان الوثوب ويزين له الطلب؛ لأنه قد عرف مأتاه وكيف يختله من طريق هواه، فإذا كان القلب كذلك اشتدت حفيظته ولم يقو احتراسه وكان بعرض هلكة وعلى جناح تغرير؛ لأنه منقسم الرأي متفرق النفس، قد اعتلج على قلبه غيظ الثأر على قرب عهده بأخلاق الجاهلية وعادة العرب من الثأر وتذكر الأحقاد والإحن القديمة وشدة التصميم. ومن رجل غمته حداثته وأنف أن يلي عليه أصغر منه. ومن رجل عرف شدته في أمره وقلة اغتفاره في دينه وخشونة مذهبه. ومن رجل كره أن يكون الملك والنبوة يثبتان في نصاب واحد وينبتان في مغرس واحد؛ لأن ذلك أقطع لأطماع قريش من أن يعود الملك دولة في قبائلها، ومن قريش خاصة في بني عبد مناف الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى؛ لأن الرحم كلما كانت أمس والجوار أقرب والصناعة أشكل كان الحسد أشد والغيظ أفرط. فكان أقرب الأمور إلى محبتهم إخراج الخلافة من ذلك المعدن؛ ترفيها عن أنفسهم من ألم الغيظ وكمد الحسد.
فصل منها : وضرب آخر من الناس همج هامج ورعاع منتشر لا نظام لهم ولا اختبار عندهم، أعراب أجلاف وأشباه الأعراب يفترقون. لا تدفع صولتهم إذا هاجوا ولا يؤمن هيجهم إذا سكنوا، وإن أخصبوا طغوا في البلاد وإن أجدبوا آثروا العناد، وهم موكلون ببغض القادة وأهل الثراء والنعمة، يتمنون الغلبة ويشمتون بالعثرة، ويسرون بالجولة ويترقبون الدائرة. وهم كما وصفوا: الطغام والسفلة. وفيهم قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه في دعائه: نعوذ بالله من قوم إذا اجتمعوا لم يملكوا، وإذا افترقوا لم يعرفوا، فهؤلاء هؤلاء. وضرب آخر قد فقهوا في الدين وعرفوا سبب الإمامة قد قمعهم الحق فانقادوا له بطاعة الربوبية وطاعة المحبة وعرفوا المحنة وعرفوا العدل، ولكنهم قليل في كثير، ومختار كل زمان وإن كثروا فهم أقل عددا وإن كانوا أكثر فقها.
فلما كان الناس عند علي وأبي بكر وعمر وأبي عبيدة وأهل السابقة من المهاجرين والأنصار على الطبقات التي ذكرنا والمنازل التي نزلنا والمراتب التي رتبنا، وبالمدينة منافقون يعضون عليهم الأنامل من الغيظ، وفيهم بطانة لا يألونهم خبالا، لا يخفى عليهم موضع الشدة وانتهاز الفرصة، وهم في ذلك على تقية، وافق ذلك ارتداد من حول المدينة من العرب وتوعدهم بذلك في شكاة النبي
صلى الله عليه وسلم
وصح به الخبر. ثم الذي كان من اجتماع الأنصار حيث انحازوا من المهاجرين وصاروا أحزابا وقالوا: منا أمير ومنكم أمير. أشفق علي أن يظهر إرادة القيام بأمر الناس مخافة أن يتكلم متكلم أو يشغب مشاغب ممن وصفنا حاله وبينا طريقته فيحدث بينهم فرقة، والقلوب على ما وصفنا والمنافقون على ما ذكرنا وأهل الردة على ما أخبرنا ومذهب الأنصار على ما حكينا، فدعاه النظر للدين إلى الكف عن الإظهار والتجافي عن الأمر، وعلم أن فضل ما بينه وبين أبي بكر في صلاحهم لو كانوا أقاموه لا يعادل التغرير بالدين ولا يفي بالخطار بالأنفس؛ لأن في التهيج البائقة وفي فساد الدين فساد العاجلة والآجلة، فاغتفر الخمول ضنا بالدين وإيثارا للآجلة على العاجلة، فدل ذلك على رجاحة حلمه وقلة حرصه وسعة صدره وشدة زهده وفرط سماحه وأصالة رأيه. ومتى سخت نفس امرئ عن هذا الخطب الجليل والأمر الجزيل ينزل من الله تعالى بغاية منازل الدين، وإنما كانت غايته في أمرهم أربح الحالين لهم وأعود القصدين عليهم، وعلم أن هلكتهم لا تقوم بإزاء فرق ما بين حاله وحال أبي بكر في مصلحتهم، وقد علم بعد ذلك أن مسيلمة قد أطبق عليه أهل اليمامة ومن حولها من أهل البادية، وهم القوم الذين لا يصطلى بنارهم ولا يطمع في ضعفهم وقلة عددهم، فكان الصواب ما رآه علي من الكف عن تحريك الهرج إذ أبصر أسباب الفتن شارعة وشواكل الفساد بادية، ولو هرج القوم هرجة أو حدثت بينهم فرقة كان حرب بوارهم أغلب من الطمع في سلامتهم. وقد كان أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وفضلاء أصحابه يعرفون من تلك الآراء شبيها بما يعرفه علي، فعلموا أن أول أحكام الدين المبادرة إلى إقامة إمام المسلمين لئلا يكونوا نشرا ولئلا يجعلوا للمفسدين علة وسببا، فكان أبو بكر أصلح الناس لها بعد علي. فأصاب في قيامه والمسلمون في إقامته وعلي في تسويغه والرضاء بولايته منة على الإسلام وأهله. فلما قمع الله تعالى أهل الردة بسيف النقمة وأباد النفاق وقتل مسيلمة وأسر طليحة ومات أصحاب الأوتار ونفيت الضغائن، راح الحق إلى أهله وعاد الأمر إلى صاحبه.
فصل منه : وإنما ذكرت لك مذهب من لا يجعل القرابة والحسب سببا إلى الإمامة دون من يجعل القرابة سببا من أسبابها وعلة من عللها؛ لأني قد حكيته في «كتاب الرافضة» وكان ثم أوقع به وأليق، وكرهت المعاد من الكلام والتكرار لأن ذلك يغني عن ذكره في هذا الكتاب، وهو مسلك واحد وسبيل واحد، وإنما قصدت إلى هذا المذهب دون مذهب سائر الزيدية في دلائلهم وحججهم لأنه أحسن شيء رأيته لهم، وإنما أحكي لك من كل نحلة قول حذاقهم وذوي أحلامهم لأن فيه دلالة على غيره وغنى عما سواه.
قالوا: وقد يكون الرجل أفضل الناس ويلي عليه من هو دونه من الفضل حتى يكلفه الله تعالى طاعته وتقديمه إما للمصلحة، وإما للإشفاق من الفتنة كما ذكرنا وفسرنا، وإما للتغليظ في المحنة وتشديد البلوى والكلفة كما قال الله تعالى للملائكة:
اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ، والملائكة أفضل من آدم فقد كلفهم الله تعالى أغلظ المحن وأشد البلوى؛ إذ ليس في الخضوع أشد من السجود على الساجد، والملائكة أفضل من آدم لأن جبريل وميكائيل وإسرافيل عند الله تعالى من المقربين قبل خلق آدم بدهر طويل لما قدمت من العبادة واحتملت من ثقل الطاعة. وكما ملك الله تعالى طالوت على بني إسرائيل وفيهم يومئذ داود عليه السلام وهو نبيهم الذي أخبر الله عنه كما في القرآن بقوله تعالى:
وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا . ثم صنيع النبي
صلى الله عليه وسلم
حين ولى زيد بن حارثة على جعفر الطيار يوم مؤتة، وولى أسامة على أكثر المهاجرين وفيهم أبو بكر وعمر وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وسعد بن أبي وقاص، ذوو أخطار وأقدار من البدريين والمهاجرين والسابقين الأولين.
فصل منه : ولو ترك الناس وقوى عقولهم وجماح طبائعهم وغلبة شهواتهم وكثرة جهلهم وشدة نزاعهم إلى ما يرديهم ويطغيهم حتى يكونوا هم الذين يحتجزون من كل ما أفسدهم بقدر قواهم، وحتى يقفوا على حد الضار والنافع، ويعرفوا فضل ما بين الداء والدواء والأغذية والسموم، كان قد كلفهم شططا وأسلمهم إلى عدوهم وشغلهم عن طاعته التي هي أجدى الأمور عليهم وأنفعها لهم، ومن أجلها عدل التركيب وسوى البنية وأخرجهم من حد الطفولة والجهل إلى حد البلوغ والاعتدال والصحة وتمام الأداة والآلة؛ ولذلك قال عز ذكره:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون . ولو أن الناس تركهم الله تعالى والتجربة وخلاهم وسبر الأمور وامتحان السموم واختبار الأغذية - وهم على ما ذكرنا من ضعف الحيلة وقلة المعرفة وغلبة الشهوة وتسلط الطبيعة مع كثرة الحاجة والجهل بالعاقبة - لأثرت فيهم السموم ولأفناهم الخلط ولأجهز عليهم الخبط ولتولدت الأدواء وترادفت الأسقام حتى تصير منايا قاتلة وحتوفا متلفة؛ إذ لم يكن عندهم إلا أخذها والجهل بحدودها ومنتهى ما يجوز منها والزيادة فيها وقلة الاحتراس من توليدها. فلما كان ذلك كذلك علمنا أن الله تعالى حيث خلق العالم وسكانه لم يخلقهم إلا لصلاحهم، ولا يجوز صلاحهم إلا بتنقيتهم، ولولا الأمر والنهي ما كان للتنقية وتعديل الفطرة معنى.
ولما أن كان لا بد للعباد من أن يكونوا مأمورين منهيين بين عدو عاص ومطيع ولي، علمنا أن الناس لا يستطيعون مدافعة طبائعهم ومخالفة أهوائهم إلا بالزجر الشديد والتوعد بالعقاب الأليم في الآجل بعد التنكيل في العاجل. إذ كان لا بد من أن يكون لكونهم مأمورين منهيين من العمل معجلا والجزاء الأكبر مؤجلا، وكان شأنهم إيثار الأدنى وتسويف الأقصى. وإذا كانت عقول الناس لا تبلغ جميع مصالحهم في دنياهم، فهم عن مصالح دينهم أعجز؛ إذ كان علم الدين مستنبطا من علم الدنيا، وإذا كان العلم مباشرة أو سببا بالمباشرة، وعلم الدين غامض لا يتخلص إلى معرفته إلا بالطبيعة الفائقة والعناية الشديدة مع تلقين الأئمة؛ ولأن الناس لو كانوا يبلغون بأنفسهم غاية مصالحهم في دينهم ودنياهم لكان إرسال الرسل قليل النفع يسير الفضل، وإذا كان الناس - مع منفعتهم بالعاجل وحبهم للبقاء ورغبتهم في النماء وحاجتهم إلى الكفاية ومعرفتهم بما فيها من السلامة - لا يبلغون بأنفسهم معرفة ذلك وإصلاحه، وعلم ذلك جلي ظاهر سببه متصل بعضه ببعض كدرك الحواس وما لاقاها، فهم عن التعديل والتجوير وتفصيل التأويل والكلام في مجيء الأخبار وأصول الأديان أعجز وأجدر ألا يبلغوا منه الغاية ولا ينالوا منه الحاجة؛ لأن علم الدنيا أمران: إما شيء يلي الحواس، وإما شيء يلي علم الحواس، وليس كذلك الدين.
فلما كان ذلك كذلك علمنا أنه لا بد للناس من إمام يعرفهم جميع مصالحهم، ووجدنا الأئمة ثلاثة: رسول، ونبي، وإمام. فالرسول نبي إمام، والنبي إمام وليس برسول، والإمام ليس برسول ولا نبي. وإنما اختلفت أسماؤهم ومراتبهم لاختلاف المقومات والطبائع، وعلى قدر ارتفاع بعضهم عن درجة بعض في العزم والتركيب، وبتغير الزمان يتغير الغرض وتتبدل الشريعة. فأفضل الناس الرسول، ثم النبي، ثم الإمام. فالرسول هو الذي يشرع شريعة ويبتدئ الملة ويقيم الناس على جمل مراشدهم؛ إذ كانت طبائعهم لا تحتمل في ابتداء الأمر أكثر من الجمل. ولولا أن في طاقة الناس قبول التلقين وفهم الإشارة لكانوا هملا ولتركوا نشرا وحشرا ولسقط عنهم الأمر والنهي، ولكنهم قد يفضلون بين الأمور إذا أوردت عليهم وكفوا مؤنة التجربة وعلاج الاستنباط، ولن يبلغوا بذلك القدر قدر المستغني بنفسه المستبد برأيه المكتفي بفطنته عن إرشاد الرسل وتلقين الأئمة. وإنما جاز أن يكون الرسول مرة عربيا ومرة عجميا وليس له بيت يخطره ولا شرف يشهر موضعه؛ لأنه حيث كان مبتدئ الملة ومخرج الشريعة كان ذلك أشهر من شرف الحسب المذكور وأنبه من البيت المقدم، ولأنه يحتاج من الأعلام والآيات والأعاجيب إلى الظاهر المعقول والواضح الذي لا يخيل أن يشتهر مثله في الآفاق ويستفيض في الأطراف حتى يصدع عقل الغبي ويضعف طبع العاقل وينقض عزم المعاند وينبه من طول الرقدة ويخضع الرقاب ويضرع الخدود حتى يتواضع له كل شرف وينحل له كل أنف، فلا يحتاج حاله معه إلى مال ولا قدره إلى حسب. وعلى قدر جهل الأمة وغباء عقولها وسوء رغبتها وخبث عادتها وغلظ محنتها وشدة حيرتها، تكون الآيات: كفلق البحر والمشي على الماء وإحياء الموتى وقصر الشمس عن جريها. ولأن النبي ليس برسول ولا مبتدئ ملة ولا منشئ شريعة، إنما هو للتأكيد والبشارة كبشارة النبي بالرسول الكائن على غابر الأيام وطول الدهر، وتوكيد المبشر يحتاج من الأعلام إلى دون ما يحتاج إليه المبتدئ لأصل الملة والمظهر لغرض الشريعة الناقل للناس عن الضلال القديم والعادة السيئة والجهل الراسخ؛ فلذلك اكتفي بشهرة أعلامه وشرائعه من شهرة بيته وشرف حسبه؛ لأنه لا ذكر إلا وهو خامل عند ذكره، ولا شرف إلا وهو وضيع عند شرفه.
فصل منه يحكي فيه قول من يجيز أكثر من إمام واحد : زعم قوم أن الإمامة لا تجب لرجل واحد بعينه من رهط واحد ولا لواحد من عرض الناس وإن كان أكثرهم فضلا وأعظمهم عن المسلمين غناء بعد أن يكون فردا في الإمامة لا ثاني له، وأن الناس إن تركوا أن يقيموا إماما واحدا جاز لهم ذلك، ولم يكونوا بتركه ضالين ولا عاصين ولا كافرين، فإن أقاموه كان ذلك رأيا رأوه وغير مضيق عليهم تركه، ولهم أن يقيموا اثنين، وجائز لهم أن يقيموا أكثر من ذلك، ولا بأس أن يكونوا عجما وموالي، ولكن لا بد من حاكم واحدا كان أو أكثر على حال. ولا يجوز أن يكون الرجل حاكما على نفسه وقائما عليها بالحدود. ولم يقل أحد البتة إن من الحكم والحاكم بدا، ولكنهم اختلفوا في جهاتهم ومعانيهم، وقالوا: وأي ذلك كان من إقامة الواحد والاثنين أو أكثر من ذلك، فعلى الناس الكف عن محارمهم وترك الأصل والتناجي فيما بينهم والتخاذل عند الحادثة تنوبهم من عدو يدهمهم من غيرهم أو خارب يخيف سبلهم من أهل دعوتهم، وعليهم فيما شجر بينهم إعطاء النصفة من أنفسهم بالغا ما بلغ في عسر الأمر ويسره، وعلى كل رجل في داره وبيته وقبيلته وناحيته ومصره إذا كان مأمونا ذا صلاح إذا ثبت عنده على أخيه أو صاحبه أو جاره أو حاشيته من خدمه حد أو حكم جناه جان عليهم على نفسه أو ظلم ركبه من غيره إقامة ذلك الحكم أو الحد عليه إذا أمكنه مستحقه، إلا أن يكون فوقه كاف قد أجزى عليه، وعلى المجترح للذنب الموجب على نفسه الحد والمستحق له إمضاء الحكم في بدنه وماله والإمكان من نفسه، وألا يعوذ بقوة ولا يروغ بحيلة ولا يسخط حكم التنزيل فيما نزل به وفيما هو بسبيله من مال أو غيره، وإنما يجب ذلك إذا كان على الفريقين من القيم والجاني يمكنه ما كلفه الله من ذلك، فإن أبى القيم إقامة الحق والحد على الجاني بعد استيجابه والإمكان من نفسه لإقامة الحد عليه فقد عصى الله تعالى، ولم يؤت في ذلك الأمر نفسه؛ لأن الله تعالى قد بينه له وأوجبه عليه وقرره حين أوضح له الحجة وقرب له الدلالة وطوقه المعرفة ومكنه من الفعل.
وقد بسطنا العذر لذوي العجز في صدر الكلام، وإن أبى الجاني المستحق للحكم والحد الإمكان من نفسه وماله وما هو بسبيله، فقد عصى الله تعالى في ذلك كما عصاه في ركوبه ما أوجب عليه الحد، ولم يؤت من ربه لما ذكرنا من إيضاح الحجة وإثبات القدرة.
فصل منه : وقد علمنا أن من شأن الناس الهرب إذا خافوا نزول المكروه والامتناع من إمضاء الحدود بعد وجوبها عليهم ما وجدوا السبيل إلى ذلك، وهذا سبب إسقاط الأحكام والتفاسد. وقد أمرنا أن نترك أسباب الفساد ما استطعنا، وبالنظر للرعية ما أمكننا، فوجب علينا عند الذي قلنا أنا لو لم نقم إماما واحدا كان الناس على ما وصفنا من التسرع إلى الشر إذا طمعوا والهرب إذا خافوا. وهذا الأمر قد جرت به عامة المعرفة وفتحت عندنا فيه التجربة. قلنا عند ذلك: إن الإمامة لا تجب على الناس من طريق الظنون وإشفاق النفوس، وقد رأينا أعظم منها خطرا وقدرا ونفعا في كل جهة على خلاف ذلك، وهو رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعثه الله إلى أمة وقد علم أنهم يزدادون من كفرهم - من قبل ذلك الرسول - كفرا بجحدهم له وإخراجهم إياه وقصدهم قتله، ثم لا يكون ذلك مانعا له من الإرسال إليهم والاحتجاج به عليهم لمكان علمه أنهم يزدادون فسادا وبغيا؛ إذ كان قدم لهم ما به ينالون مصالح دينهم ودنياهم، وإنما على الحكيم أن يأتي الأمر الحكيم عرف ذلك عارف أم جهله جاهل، وعلى الجواد ذي الرحمة في جوده ورحمته أن يفعل ما هو أفضل في الجود وأبلغ في الإحسان وألطف في الإنعام من إيضاح الحجة وتسهيل الطرق والإبلاغ في الموعظة مع ضمان الوعد بالغاية من الثواب والدوام واللذة، والتوعد بغاية العقاب في الدوام والمكروه، إلى عباده الذين كلفهم طاعته وأهل الفاقة إلى عائدته ونظره وإحسانه، فإن قبل ذلك قابل فقد أصاب حظه، وإن أبى ذلك فلنفسه ظلم. وقد صنع الله به ما هو أصلح وإن لم يستصلح العبد نفسه.
قالوا: فإذا كان الله تبارك وتعالى عالما بأن القوم يزدادون فسادا عند إرسال الرسل، وكان غير صارف لهم عن الإرسال إليهم؛ إذ كان قد عدل خلقهم ومكنهم من مصلحتهم، فما بال الظن والحسبان بأن الناس يتفاسدون ويتنازعون إذا لم يقيموا إماما واحدا يوجب فرضا لم ينطق به كتاب ولم يؤكده خبر، وقد رأينا العلم بأن الناس يتفاسدون ولا يرد به فرض؟!
فصل منه : وقالوا: قد رأينا أهل الصلاح والقدر عند انتشار أمر السلطان وغلبة السفلة والدعار وهيج العوام يقوم منهم العدد اليسير في الناحية والقبيلة والدرب والمحلة فيقيم لهم حد المستطيل ويقمع شذوذ الدعار حتى يستريح الضعيف ويأمن الخائف وينتشر التاجر ويكبر جانبهم الداعر، وإنما صلاح الناس بقدر تعاونهم وتخاذلهم، مع أن الناس لو تركهم المتسلطون عليهم وألجئوا إلى أنفسهم حتى يتحقق عندهم ألا كافي إلا بطشهم وحيلهم، وحتى تكون الحاجة إلى الذب والحراسة والعلم بالمكيدة هي التي تحملهم على منع أنفسهم، لذهبت عادة الكفاية وضعف الاتكال ولتعودوا اليقظة ولدربوا بالحراسة واستثاروا دفين الرأي؛ لأن الحاجة تفتق الحيلة وتبعث على الروية، وكان بالحري أن يصلح أمر الجميع ؛ لأن طمع الراعي إذا عاد بأسا صرفه في البغي وكان ذاك منبها للنائم ومشحذا لليقظان وضراوة للمواكل ومزجرة للبغاة حتى ينبت عليه الصغير ويتفحل معه الكبير.
فصل منه : وزعم قوم أن الإمامة لا تجب إلا بأحد وجوه ثلاثة: إما عقل يدل على سببها، أو خبر لا يكذب مثله، أو أنه لا يحتمل شيئا من التأويل إلا وجها واحدا. قالوا: فوجدنا الأخبار مختلفة، والمختلف متدافع، وليس في المتدافع والمتكافئ بيان ولا فضل. فمن ذلك قول الأنصار، وهم شطر الناس أو أكثرهم، مع أمانتهم على دين الله تعالى وعلمهم بالكتاب والسنة حيث قالوا عند وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم : منا أمير ومنكم أمير. فلو كان قد سبق من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في ذلك أمر ما كان أحد أعلم به منهم ولا أخلق للإقرار والعمل بما يلزم الصبر عليه منهم، بعد الذي ظهر من احتمالهم في جنب الله تعالى والجهاد في سبيله والنصرة لنبيه
صلى الله عليه وسلم ، مع الإيواء والإيثار بعد المواساة ومحاربة القريب والبعيد والعرب قاطبة وقريش خاصة، ثم الذي نطق القرآن به من تزكيتهم وتفضيلهم بحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لهم ولقبه لهم وثنائه عليهم وهو يقول: «أما والله ما علمتكم إلا لتقلون عند الطمع وتكثرون عند الفزع.» في أمور كثيرة. ثم لم يكن قولهم: منا أمير ومنكم أمير، من سفيه من سفهائهم ضرى إليه أمثاله منهم، فإن لكل قوم حسدة وجهالا وأحداثا وسرعانا من حدث تبعثه الغرارة والأشر، أو رجل يحب الجاه والفتنة، أو مغفل مخدوع، أو غر ذي حمية يؤثر حسبه ونسبه على دين الله تعالى وطاعة نبيه
صلى الله عليه وسلم . ولا كان ذلك القول إذ كان من عليتهم في الواحد الشاذ القليل، بل كان في ذوي أحلامهم والقدم منهم. ثم كان المرشح والمأمول عندهم سعد بن عبادة سيدا مطاعا ذا سابقة وفضل وحلم ونجدة وجاه عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
واستعانة به في الحوادث والمهم من أمره، ثم كان في الدهم من الأنصار والوجوه والجمهور من الأوس والخزرج، فكيف يكون سبق من النبي
صلى الله عليه وسلم
في هذا أمر يقطع عهدا ويوجب رضا وهؤلاء الأمناء على الدين والقوام به قد قاموا هذا المقام وقالوا هذا المقال. قالوا: فإن قال قائل: فإن القوم كانوا على طبقات: من ذاكر متعمد، أو ناس قد كان سقط عن ذكره وحفظه، ومن رجل كان غائبا عن ذلك القول والتأكيد الذي كان من النبي
صلى الله عليه وسلم
في إقامة إمام يقدم في أيام وفاته، ومن رجل قدم في الإسلام لم يكن من حمال العلم، فأذكرهم أبو بكر وعمر فذكروا، ووعظاهم فاتعظوا، فقد كان فيهم الناشئ الفاضل الذي يزجره الذكر وينزع إذا بصر، والمعتمد الذي لم يبلغ من لجاجه وتتايعه وركوب ردعه ما تؤثر معه التصميم على حسن الرجوع عند الموعظة الحسنة والتخويف بفساد العاجل، في كثير ممن لم يكن له في الإسلام القدر النبيه إما للغفلة وإما للإبطاء عنه وإما للخمول في قومه مع إسلامه وصحة عقده، فداواهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة يوم السقيفة حين قالوا: نحن الأئمة وأنتم الوزراء. وحيث رووا أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: الأئمة من قريش. فلما استرجعوا رجعوا. قلنا: الدليل على أن القوم لم يروا في كلام أبي بكر وعمر حجة عليهم، وأن انصرافهم عما اجتمعوا له لم يكن لأنهم رأوا أن ذلك القول من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة بن الجراح حجة، غضب رئيسهم وخروجه من بين أظهرهم مراغما في رجال من رهطه مع تركه بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتشنيعه عليهم بالشام، وقد قال قيس بن سعد بن عبادة وهو يذكر خذلان الأنصار لسعد بن عبادة واستبداد الرهط من قريش عليهم بالأمر:
وخبرتمونا أنما الأمر فيكم
خلاف رسول الله يوم التشاجر
وأن وزرات الخلافة دونكم
كما جاءكم ذو العرش دون العشائر
فهلا وزيرا واحدا تجتبونه
بغير وداد منكم وأواصر
سقى الله سعدا يوم ذاك ولا سقى
عواجله هابت صدور النوابر
وقال رجل من الأنصار، ودعاه علي رضي الله عنه إلى عونه ونصرته إما يوم الجمل أو يوم صفين:
ما لي أقاتل عن قوم إذا قدروا
عدنا عدوا وكنا قبل أنصارا
ويل لها أمة لو أن قائدها
يتلو الكتاب ويخشى النار والعار
أما قريش فلم نسمع بمثلهم
غدرا وأعجب في الإسلام آثارا
إلا تكن عصبة جازوا نبيهم
بالعرف عرفا وبالإنكار إنكارا
أبا عمارة والثاوي ببلقعة
في يوم مؤتة لا ينفك طيارا
أبو عمارة: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، وقد كان يكنى أبا يعلي. والثاوي في يوم مؤتة: جعفر بن أبي طالب. وقال رجل من الأنصار من ولد أبي زيد القاري، وذكر أمر الأنصار وأمر قريش:
دعاها إلى استبدادها وحقودها
تذكر قتلى في القليب تكبكبوا
هنالك قتلى لا تؤدى دياتهم
وليس لباكيها سوى الصبر مذهب
فإن تغضب الأبناء من قتل من مضى
فوالله ما جئنا قبيحا فتعتبوا
فصل منه : قد حكينا قول من خالفنا في وجوب الإمامة وتعظيم الخلافة، وفسرنا وجوه اختلافهم، واستقصينا جميع حججهم إذ كان على عذر لمن غاب عنه خصمه وقد تكفل بالإخبار عنه في ترك الحيطة له والقيام بحجته، كما أنه لا عذر له في التقصير عن إفساد ما يخالفه وكشف خطأ من يضاده عند من قرأ كتابه وتفهم حجته؛ لأن أقل ما يزيل عذره ويزيح علته أن يكون قول خصمه قد استهدف لعقله وأضجر لسانه، وقد مكنه من نفسه وسلطه على إظهار عورته، فإذا استراح من شغب المنازع ومداراة المستمع لم يبق إلا أن يقوى على خلافه أو يعجز عنه، ومن شكر المعرفة بمعايب الناس ومراشدهم ومضارهم ومنافعهم أن يحتمل ثقل مؤنتهم وتقريعهم وأن يتوخى إرشادهم وإن جهلوا فضل من يسدي إليهم، ولن يصان العلم بمثل بذله، ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نشره.
واعلم أن قراءة الكتب أبلغ في إرشادهم من تلاقيهم؛ إذ كان مع التلاقي يقوى التصنع ويكثر التظالم وتفرط المضرة وتنبعث الحمية، وعند المزاحمة تشتد الغلبة وشهوة المباهاة والاستحياء من الرجوع والأنفة من الخضوع ، وعن جميع ذلك تحدث الضغائن ويظهر التباين.
وإذا كانت القلوب على هذه الصفة وبهذه الحالة امتنعت من المعرفة وعميت عن الدلالة. وليست في الكتب علة تمنع من درك البغية وإصابة الحجة؛ لأن المتوحد بقراءتها والمتفرد بفهم معانيها لا يباهي نفسه ولا يغالب عقله ولا يعز خصمه. والكتاب قد يفضل ويرجح على واضعه بأمور: منها أن الكتاب يقرأ بكل مكان وفي كل زمان على تفاوت الأعصار وبعد ما بين الأمصار، وذلك أمر يستحيل في الواضع ولا يطمع فيه مع التنازع، وقد يذهب العالم وتبقى كتبه ويفنى ويبقى أثره. ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها وخلفت من عجيب حكمها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا وفتحنا بها المستغلق علينا فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم، لقد خس حظنا في الحكمة وانقطع سبيلنا إلى المعرفة، ولو ألجئنا إلى قدر قوتنا ومبلغ خواطرنا ومنتهى تجاربنا بما أدركته حواسنا وشاهدته نفوسنا لقلت المعرفة وقصرت الهمة وضعفت المنة، فاعتقم الرأي ومات الخاطر وتبلد العقل واستبد بنا سوء العادة. وأكثر من كتبهم نفعا وأحسن مما تكلفوا موقعا كتاب الله تعالى الذي فيه الهدى والرحمة والإخبار عن كل عبرة وتعريف كل سيئة وحسنة، فينبغي أن يكون سبيلنا فيمن بعدنا سبيل من قبلنا فينا، مع أنا قد وجدنا من العبرة أكثر مما وجدوا، كما أن من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا. فما ينتظره الفقيه بفقهه والمحتج لدينه والذاب عن مذهبه ومواسي الناس في معرفته وقد أمكن القول وأطرق السامع ونجا من التقية وهبت ريح العلماء؟!
فصل منه : واعلم أن قصد العبد بنعم الله تعالى إلى مخالفته غير مخرج إنعام الله عليه ولا محول إحسانه إليه إلى غير معناه وحقيقته، ولم يكن إحسان الله في إعطائه الأداة وتبيين الحجة لينقلبا إفسادا وإساءة؛ لأن المعان على الطاعة عصى بالمعونة وأفسد بالإنعام وأساء بالإحسان. وفرق بين المنعم والمنعم عليه؛ لأن المنعم عليه يجب أن يكون شكورا ولحق النعمة راعيا، والمنعم منفرد بحسن الإنعام وشريك في جميل الشكر، ولأن المنعم أيضا هو الذي حبب الشكر إلى فاعله بالذي قدم إليه من إحسانه وتولى من مساره؛ ولذلك جعلوا النعمة لقاحا والشكر ولادا. وإنما مثل إعطاء الآلة والتكليف لفعل الخير مثل رجل تصدق على فقير ليستر عورته ويقيم من أود صلبه وليصرف في منافعه، ولا يكون إنفاق الفقير ذلك الشيء في الفساد والخلاف والفواحش لينقلب إحسان المتصدق إساءة، وإنما هذا بصواب الرأي الذي لا ينقلب وإن أنجع صاحبه، وقد يؤتى الرجل مع حزمه ولا يكون مذموما ويخطئ بالإضاعة ولا يكون محمودا.
فصل منه : ولم يكن الله تعالى ليضع العدل ميزانا بين خلقه وعيارا على عباده في نظر عقولهم في ظاهر ما فرض عليهم ويسر خلافه ويستخفي بضده، ويعلم أن قضاءه فيهم غير الذي فطرهم على استحسانه وتحبب إليهم به في ظاهر دينه، والذي استوجب به الشكر على جميع خلقه.
فصل منه : وإن لم يكن العبد على ما وصفنا من الاستطاعة والقدرة والحال التي هي أدعى إلى المصلحة ما كان متروكا على طباعه ودواعي شهواته دون تعديل طبعه وتسوية تركيبه؛ ولذلك أسباب نحن ذاكروها وجاعلوها حجة في إقامة الإمامة وأن عليها مدار المصلحة، وأن طبع البشر يمتنع من الإخبار إلا على ما نحن ذاكروه. فنقول: إنا لما رأينا طبائع الناس وشهواتهم من شأنها التقلب إلى هلكتهم وفساد دينهم وذهاب دنياهم، وإن كانت العامة أسرع إلى ذلك من الخاصة فكل لا تنفك طبائعهم من حملهم على ما يرديهم ما لم يردوا بالقمع الشديد في العاجل ومن القصاص من العادل، ثم التنكيل في العقوبة على شر الخيانة وإسقاط القدر وإزالة العدالة مع الأسماء القبيحة والألقاب الهجينة، ثم بالإخافة الشديدة والحبس الطويل والتغريب عن الوطن، ثم الوعيد بنار الأبد مع فوت الجنة. وإنما وضع الله تعالى هذه الخصال لتكون لقوة العقل مادة ولتعديل الطبائع معونة؛ لأن العبد إذا فضلت قوى طبائعه وشهواته على عقله ورأيه ألفي بصيرا بالرشد غير قادر عليه، فإذا احتوشته المخاوف كانت مواد لزواجر عقله وأوامر رأيه، فإذا لم يكن في حوادث الطبائع ودواعي الشهوات وحب العاجل فضل على زواجر العقل وأوامر الغي كان العبد ممنعا من الغي قادرا عليه؛ لأن الغضب والحسد والبخل والجبن والغيرة وحب الشهوات والنساء والمكاثرة والعجب والخيلاء وأنواع هذه إذا قويت دواعيها لأهلها واشتدت جواذبها لصاحبها ثم لم يعلم أن فوقه ناقما عليه وأن له منتقما لنفسه من نفسه أو مقتضيا منه لغيره، كان ميله وذهابه مع جواذب الطبيعة ودواعي الشهوة طبعا لا يمتنع معه وواجبا لا يستطيع غيره. أوما رأيته كيف يخرق في ماله ويسرع فيما أثلت له رجاله وشدت له أوائله من غير أن يرى للعوض وجها وللخلف سببا في عاجل دينه ولا آجل دنياه حتى يكون والي المسلمين هو الذي يحجر عليه ليكون مضض الحجر وذل الحظر وغلظة الجفوة واللقب القبيح وتسليط الأشكال مادة للذي معه من معرفته وبقية عقله!
فصل منه : وقد يكون الرجل معروفا بالنزق مذكورا بالطيش مستهاما بإظهار الصولة، حتى يتحامى كلامه الصديق ويداريه الجليس ويترك مجازاته الكريم للذي يعرفون من شدته وبوادر حدته وشدة تسعره والتهابه وكثرة فلتاته، ثم لا يلبث أن يحضر الوالي الصليب والرجل المنيع فيلفى ذليلا خاضعا أو حليما وقورا أو أديبا رفيقا أو صبورا محتسبا. وقد نجده يجهل على خصمه ويستطيل على منازعه ويهم بتناوله والغدر به، فإذا عرف له حماة تكفيه ورجالا تحميه وجاها يمنعه ومالا يصول به، طامن له من شخصه وألان له من جانبه وسكن من حركته وأطفأ نار غضبه. أوما علمت أن الخوف يطرد السكر ويميت الشهوة ويطفئ الغضب ويحط الكبر ويذكر بالعاقبة ويساعد العقل ويعاون الرأي وينبت الحيلة ويبعث على الروية حتى يعتدل به تركيب من كان مغلوبا على عقله ممنوعا من رأيه بسكر الشباب وسكر الغنى وإهمال الأمر وثقة العز وبأو القدرة ...؟!
فصل منه : وإنما أطنبت لك في تفسير هذه الأحوال التي عليها الوجود والعبرة لتعلم أن الناس لو تركوا شهواتهم وخلوا أهواءهم وليس معهم من عقولهم إلا حصة الغريزة ونصيب التركيب ، ثم أخلوا من المرشدين والمؤدبين والمعترضين بين النفوس وأهوائها وبين الطبائع وغلبتها من الأنبياء وخلفائهم، لم يكن في قوى عقولهم ما يداوون به أدواءهم ويجبرون به من أهوائهم ويقوون به لمحاربة طبائعهم ويعرفون به من جميع مصالحهم، وأي داء هو أردى من طبيعة تردي وشهوة تطغي، ومن كان لا يعد الداء إلا ما كان مؤلما في وقته ضاربا على صاحبه في سواد ليله وبياض نهاره فقد جهل معنى الداء، وجاهل الداء جاهل بالدواء.
فصل منه : ولكنا نقول: لا يجوز أن يلي أمر المسلمين على ظاهر الرأي والحزم والحيطة أكثر من واحد؛ لأن الحكام والسادة إذا تقاربت أقدارهم وتساوت غايتهم قويت دواعيهم إلى طلب الاستعلاء واشتدت منافستهم في الغلبة. وهكذا جرب الناس من أنفسهم في جيرانهم الأدنين، في الأصهار وبين الأعمام، والمتقاربين في الصناعات كالكلام والنجوم والطب والفتيا والشعر والنحو والعروض والتجارة والصباغة والفلاحة، أنهم إذا تدانوا في الأقدار وتقاربوا في الطبقات قويت دواعيهم إلى طلب الغلبة واشتدت جواذبهم في حب المباينة والاستيلاء على الرياسة. ومتى كانت الدواعي أقوى كانت النفس إلى الفساد أميل والعزم أضعف وموضع الروية أشغل والشيطان فيهم أطمع، وكان الخوف عليهم أشد وكانوا بموافقة المفسد أحرى وإليه أقرب. وإذا كان ذلك كذلك فأصلح الأمور للحكام والقادة - إذا كانت النفوس ودواعيها ومجرى أفعالها على ما وصفنا - أن ترفع عنهم أسباب التحاسد والتغالب والمباهاة والمنافسة، وأن ذلك أدعى إلى صلاح ذات البين وأمن البيضة وحفظ الأطراف. وإذا كان الله تبارك وتعالى قد كلف الناس النظر لأنفسهم واستيفاء النعمة عليهم وترك الخطر بالمملكة والتغرير بالأمة، وليس عليهم مما يمكنهم أكثر من الحيطة والتباعد من التغرير، ولا حال أدعى إلى ذلك أكثر مما وصفنا؛ لأنه أشبه الوجوه بتمام المصلحة والتمتع بالأمن والنعمة.
فصل منه : فلما كان ذلك كذلك علمنا أنه إذا كان القائم بأمور المسلمين بائن الأمر متفردا بالغاية من الفضل، كانت دواعي الناس إلى مسابقته ومجاراته أقل، ولم يكن الله ليطبع الدنيا وأهلها على هذه الطبيعة ويركب أهلها هذا التركيب حتى تكون إمامة الواحد من الناس أصلح لهم إلا وذلك الواحد موجود عند إرادتهم له وقصدهم إليه؛ لأن الله لا يلزم الناس - في ظاهر الرأي والحيطة - إقامة المعدوم وتشييد المجهول؛ لأن على الناس التسليم وعلى الله تعالى قصد السبيل. وهل رأيتم ملكين أو سيدين في جاهلية أو إسلام من العرب جميعا أو من العجم لا يتحيف أحدهما من سلطان صاحبه ولا ينهك أطرافه ولا يساجله الحروب، إذ كل واحد منهما يطمع في حد صاحبه وطرفه لتقارب الحال واستواء القوى، كما جاءت الأخبار عن ملوك الطوائف كيف كانت الحروب راكدة وأمرهم مريج، والناس نهب ليس لهم ثغر إلا معطل ولا طرف إلا منكشف، والناس فيما بينهم مشغولون بأنفسهم عن ملوكهم، من عز بز، مع إنفاق المال وشغل البال وشدة الخطر بالجميع والتغرير بالكل.
فصل منه : فإن قالوا: فما صفة أفضلهم؟ قلنا: أن يكون أقوى طبائعه عقله، ثم يصل قوة عقله بشدة الفحص وكثرة السماع، ثم يصل شدة فحصه وكثرة سماعه بحسن العادة، فإذا جمع إلى عقله علما وإلى علمه حزما وإلى حزمه عزما، فذلك الذي لا بعده، وقد يكون الرجل دونه في أمور وهو يستحق مرتبة الإمامة ومنزلة الخلافة، غير أنه على حال لا بد من أن يكون أفضل أهل دهره؛ لأن من التعظيم لمقام رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ألا يقام فيه إلا أشبه الناس به في كل عصر، ومن الاستهانة به أن يقام فيه من لا يشبهه وليس في طريقته، وإنما يشبه الإمام الرسول بأن يكون آخذا بسيرته منه، فأما أن يقاربه أو يدانيه فهذا ما لا يجوز ولا يسع تمنيه والدعاء به.
فصل منه : وإذا كان قول المهاجرين والأنصار والذين جرى بينهم التنافس والمشاحة على ما وصفنا في يوم السقيفة، ثم صنيع أبي بكر وقوله لطلحة في عمر، وصنيع عمر في وضع الشورى وتوعده لهم بالقتل إن هم لم يقيموا رجلا قبل انقضاء المدة ونجوم الفتنة، ثم صنيع عثمان وقوله وصبره حتى قتل دونها ولم يخلعها، وأقوال طلحة والزبير وعائشة وعلي رضي الله تعالى عنهم، ليست بحجة على ما قلنا، فليست في الأرض دلالة ولا حجة قاطعة. وفي هذا الباب الذي وصفنا من حالاتهم وبينا دليل على أنهم كانوا يرون أن إقامة الإمام فريضة واجبة، وأن الشركة عنها منفية، وأن الإمامة تجمع صلاح الدين وإيثار خير الآخرة والأولى.
فصل منه : وأي مذهب هو أشنع وأي قول هو أفحش من قول من قال: لا بد للشاهد من أن يكون ظاهرا عدلا مأمونا، ولا يأمن أن يكون القاضي جائرا نطعا فاجرا؟ وهذا لا يشبه حكم الحكيم وصفة الحليم ونظر المرشد وترتيب العالم.
من رسالته في صناعات القواد
قال أبو عثمان:
أرشدك الله للصواب، وعرفك فضل أولي الألباب، ووهب لك جميل الآداب، وجعلك ممن يعرف عز الأدب كما يعرف زوائد الغنى. دخلت على أمير المؤمنين المعتصم بالله فقلت له: يا أمير المؤمنين، في اللسان عشر خصال: أداة يظهر بها البيان، وشاهد يخبر عن الضمير، وحاكم يفصل بين الخطاب، وناطق يرد به الجواب، وشافع تدرك به الحاجة، وواصف تعرف به الأشياء، وواعظ يعرف به القبيح، ومغرد ترد به الأحزان، وخاصة تزهي بالصنيعة، وملهى يونق الأسماع. وقال الحسن البصري: إن الله تعالى رفع درجات اللسان؛ فليس من الأعضاء شيء ينطق بذكره غيره. وقال بعض العلماء: أفضل شيء للرجل عقل يولد معه، فإن فاته ذلك فموت يجتث أصله. وقال خالد بن صفوان: ما الإنسان لولا اللسان إلا ضالة مهملة، أو بهيمة مرسلة، أو صورة ممثلة. وذكر الصمت والمنطق عند الأحنف فقال رجل: الصمت أفضل وأحمد. فقال الأحنف: صاحب الصمت لا يتعداه نفعه، وصاحب المنطق ينتفع به غيره، والمنطق الصواب أفضل. وروي عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «رحم الله امرأ أصلح من لسانه.» قال: وسمع عمر بن عبد العزيز رجلا يتكلم فأبلغ في حاجته، فقال: هذا والله السحر الحلال. وقال مسلمة بن عبد الملك: إن الرجل يسألني الحاجة فتستجيب نفسي له بها، فإذا لحن انصرفت نفسي عنها. وتقدم رجل إلى زياد فقال: أصلح الله الأمير: إن أبينا هلك، وإن أخونا غصبنا ميراثه! فقال زياد: الذي ضيعت من لسانك أكثر من الذي ضيعت من مالك. وقال بعض الحكماء لأولاده: يا بني، أصلحوا من ألسنتكم؛ فإن الرجل لتنوبه النائبة فيستعير الدابة والثياب ولا يقدر أن يستعير اللسان. وقال شبيب بن شيبة: إذا رأى رجلا يتكلم فأساء القول فقال: يا ابن أخي، المال الصالح خير من المال المضاعف. وقال الشاعر:
وكائن ترى من صامت لك معجب
زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده
فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
فحض يا أمير المؤمنين أولادك بأن يتعلموا من كل الأدب، فإنك إن أفردتهم بشيء واحد ثم سئلوا عن غيره لم يحسنوه. وذلك أني لقيت حزاما حين قدم أمير المؤمنين من بلاد الروم فسألته عن الحرب كيف كانت، فقال: لقيناهم في مقدار صحن الإصطبل فما كان إلا بمقدار ما يحش الرجل دابته حتى تركناهم في أضيق من ممرغة، فقتلناهم وجعلناهم كأنهم أنابير سرجين، فلو طرحت روثة ما سقطت إلا على ذنب دابة. وعمل أبياتا في الغزل فكانت:
إن يهدم الصبر من جسمي معالفه
فإن قلبي بقت الوجد معمور
إني امرؤ في وثاق الحب يكبحه
لجام هجر على الأسقام معذور
علل بجل نبيل من وصالك أو
حسن الرقاد فإن النوم مأسور
أصاب حبل شكال الوصل يوم بدا
ومبضع الصد في كفيه مشهور
لبست برقع هجر بعد ذلك في
إصطبل حب فروث الحب منثور
قال: وسألت بختيشوع الطبيب عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار صحن البيمارستان فما كان إلا بمقدار ما يختلف الرجل مقعدين حتى تركناهم في أضيق من محقنة، فقتلناهم، فلو طرحت مبضعا ما سقط إلا على أكحل رجل. وعمل أبياتا في الغزل فكانت:
شرب الحب دستج الهجر فاستط
لق بطن الوصال بالإسهال
ورماني حبي بقولنج بين
مذهل عن ملامة العزال
وفؤادي مبرسم ذو سقام
بائن السوء ضل عني احتيالي
لو ببقراط كان ما بي وجالي
نوس باتا منه بأكثف بال
قال: وسألت جعفر الخياط عن مثل ذلك فقال: لقيناهم في مقدار سوق الخلقان فما كان إلا بمقدار ما يخيط الرجل درزا أو درزين حتى تركناهم في أضيق من جربان، فقتلناهم، فلو طرحت إبرة ما سقطت إلا على رأس رجل. وعمل أبياتا في الغزل فكانت:
فتقت بالهجر دروز الهوى
إذ وخزتني إبرة الصد
فالقلب من ضيق سراويله
يعثر في بائكة الجهد
جشمتني يا طيلسان النوى
منك على سوء زكني وجدي
أزرار عيني فيك موصولة
بعروة الدمع على خدي
يا كستبان القلب يا زيقه
عذبني التذكار بالوعد
قد قص ما يعهد من وصله
مقراض بين مرهف الحد
يا حزة النفس ويا ذيلها
ما لي من وصلك من بد
ويا جربان سروري ويا
جيب حياتي حلت عن عهدي
قال: وسألت إبراهيم بن إسحق عن مثل ذلك - وكان زارعا - فقال: لقيناهم في مقدار جريبين من الأرض فما كان إلا بمقدار ما يسقي الرجل من سانية حتى تركناهم في أضيق من باب وكأنهم أنابير سنبل، فقتلناهم، فلو طرح فدان ما سقط إلا على ظهر ثور. وعمل أبياتا في الغزل فكانت:
زرعت هواه في كراب من الصفا
وأسقيته ماء الدوام على العهد
وسرجنته بالوصل لم آل جاهدا
ليحرزه السرجين من آفة الصد
فلما تعالى النبت واخضر يانعا
جرى يرقان البين في سنبل الود
قال: وسألت فرجا الرخجي عن مثل ذلك - وكان خبازا - فقال: لقيناهم في مقدار بيت التنور فما كان إلا بمقدار ما يخبز الرجل خمسة أرغفة حتى تركناهم في أضيق من جحر تنور، فقتلناهم، فلو سقطت جمرة ما وقعت إلا على جفنة خباز. وعمل أبياتا في الغزل فكانت:
قد عجن الهجر دقيق الهوى
في جفنة من خشب الصد
واختمر البين فنار الجوى
تذكى بسرجين من البعد
وأقبل الهجر بمحراكه
يفحص عن أرغفة الوجد
جرادق الموعد مسمومة
مثردة في قصعة الجهد
قال: وسألت عبد الله بن عبد الصمد عن مثل ذلك - وكان مؤدبا - فقال: لقيناهم في مقدار صحن الكتاب فما كان إلا بمقدار ما يقرأ الصبي إمامه حتى ألجأناهم إلى أضيق من رقم، فقتلناهم، فلو سقطت دواة ما وقعت إلا في حجر صبي. وعمل أبياتا في الغزل فكانت:
قد أمات الهجر صبيان قلبي
ففؤادي معذب في خبال
كسر البين لوح كبدي فما أط
مع ممن هويته في وصال
رفع الرقم من حياتي وقد أط
لق مولاي حبله من حبالي
نقش الحب في فؤادي لوحي
ن فأغرى جوانحي بالضلال
لاق قلبي مداده فمداد ال
عين من هجر مالكي في انهمال
كرسف البين سود الوجه من وص
لي فقلبي بالبين في أشغال
قال: وسألت علي بن الجهم بن بريد عن مثل ذلك - وكان صاحب حمام - فقال: لقيناهم في مقدار بيت النار فما كان إلا بمقدار ما يغسل الرجل رأسه حتى تركناهم في أضيق من باب الأتون، فقتلناهم، فلو طرحت ليفة ما وقعت إلا على رأس رجل. وعمل أبياتا في الغزل فكانت:
يا نورة الهجر جلوت الصفا
لما بدت لي ليفة الصد
يا مئزر الأسقام حتى متى
تنقع في حوض من الجهد
أوقد أتون الوصل لي مرة
منك بزنبيل من الود
فالبين مذ أوقد حمامه
قد هاج قلبي مسلخ الوجد
أفسد خطمي الصفا والهوى
نخالة الناقض للعهد
قال: وسألت الحسن بن أبي قمامة عن مثل ذلك - وكان كناسا - فقال: لقيناهم في مقدار سطح الإيوان فما كان إلا بمقدار ما يكنس الرجل زنبيلا حتى تركناهم في أضيق من جحر المخرج، ثم قتلناهم بقدر ما يشارط الرجل على كنس كنيف، فلو رميت بابنة وردان ما سقطت إلا على فم بالوعة. وعمل أبياتا في الغزل فكانت:
أصبح قلبي بربخا للهوى
تسلح فيه فقحة الهجر
بنات وردان الهوى للبلا
أصبر من ذا الوجد في صدري
خنافس الهجران أثكلنني
يوم تولى معرضا صبري
أسقم ديدان الهوى مهجتي
إذ سلح البين على عمري
قال: وسألت أحمد الشرابي عن مثل ذلك - وكان خمارا - فقال: لقيناهم في مثل صحن الشراب فما كان إلا بمقدار ما يصفي الرجل دنا حتى تركناهم في أضيق من رطلية، فقتلناهم، فلو رميت تفاحة ما وقعت إلا على أنف سكران. وعمل أبياتا في الغزل فكانت:
شربت بكأس للهوى نبذة فما
ورقرقت خمر الوصل في قدح الهجر
فمالت دنان البين يدفعها الصبا
فكسرن قرايات حزني على صدري
وكان مزاج الكأس قلة لوعة
ودورق هجران وقنينتي غدر
قال: وسألت عبد الله بن طاهر عن مثل ذلك - وكان طباخا - فقال: لقيناهم في مقدار صحن المطبخ فما كان إلا بمقدار ما يشوي الرجل حملا حتى تركناهم في أضيق من موقد نار، فقتلناهم، فلو سقطت مغرفة ما وقعت إلا في قدر. وعمل أبياتا في الغزل فكانت:
يا شبيه الفالوذ في حمرة الخد
ولوزينج النفوس الظماء
أنت جوزينج النفوس وفي اللي
ن كلين الخبيصة البيضاء
عدت مستهترا بسكباج ود
بعد جوذابة بجنب شواء
يا نسيم القدور في يوم عرس
وشبيها بشهدة صفراء
أنت أشهى إلى القلوب من الزب
د مع النرسيان بعد الغداء
أطعم الحاسدين أنواع غم
في قصاع الأحزان والأدواء
قد غلى القلب مذ نأت عنك داري
غليان القدور عند السلاء
هام قلبي لما كسرن غضارا
ت سروري مغارف الشحناء
فتفضل على العبيد بيوم
جد بوصل تكبت به أعدائي
وتفضل على الكئيب برايا
ورد وصل يشفي من الأدواء
قال: وسألت - أطال الله بقاءك - محمد بن داود الطوسي عن مثل ذلك - وكان فراشا - فقال: لقيناهم في مقدار صحن بساط فما كان إلا بمقدار ما يفرش الرجل بيتا حتى تركناهم في أضيق من منصة، فقتلناهم، فلو سقطت مخدة ما وقعت إلا على رأس رجل. ثم عمل أبياتا في الغزل فكانت:
كسر الهجر ساحة الوصل لما
عثر البين في وجوه الصفاء
وجرى البين في مرافق ريش
هي مدخورة ليوم اللقاء
فرش الهجر في بيوت هموم
تحت رأسي وسادة البرحاء
حين هيأت بيت خيش من ال
ل لأبوابه ستور البهاء
فرش الهجر لي بيوت مسوح
متكآتها من الحصباء
رق للصب من براغيث وجد
تعتري جلده صباح مساء
قال: فضحك المعتصم حتى استلقى، ثم دعا مؤدب ولده فأمره أن يأخذهم بتعليم جميع العلوم.
من كتابه في النساء
قال أبو عثمان:
إنا لما ذكرنا في كتابنا هذا الحب الذي هو أصل الهوى، والهوى الذي يتفرع منه العشق، والعشق الذي يهيم له الإنسان على وجهه أو يموت كمدا على فراشه، وأول ذلك إدخال الضيم على مروءته واستشعار الذلة لمن أطاف بعشيقته، ولم نطنب مع ذلك في ذكر ما يتشعب من أصل الحب من الرحمة والرقة وحب الأموال النفيسة والمراتب الرفيعة وحب الرعية للأئمة وحب المصطنع لصاحب الصنيعة مع اختلاف مواقع ذلك من النفوس ومع تفاوت طبقاته في العواقب، احتجنا إلى الاعتذار مع ذكر العشق المعروف بالصبابة والمخالفة على قوة العزيمة، ليجعل ذلك القدر جنة دون من حاول الطعن على هذا الكتاب وسخف الرأي الذي دعا إلى تأليفه والإشادة بذكره؛ إذ كانت الدنيا لا تنفك من حاسد باغ، ومن قائل متكلف، ومن سامع طاعن، ومن منافس مقصر، كما أنها لا تنفك من ذوي سلامة متسلم، ومن عالم متعلم، ومن عظيم الخطر حسن المحضر شديد المحاماة عن حقوق الأدباء قليل التسرع إلى أعراض العلماء. وإنما العشق اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه حب، وليس كل حب يسمى عشقا، وإنما العشق اسم للفاضل عن ذلك المقدار كما أن السرف اسم لما زاد على المقدار الذي يسمى جودا، والبخل اسم لما ينقص عن المقدار الذي يسمى اقتصادا، والجبن اسم لما قصر عن المقدار الذي يسمى شجاعة.
وهذا القول ظاهر على ألسنة الأدباء مستعمل في بيان الحكماء. وقد قال عروة بن الزبير: والله إني لأعشق الشرف كما تعشق المرأة الحسناء. وذكر بعض الناس رجلا كان مدفعا محروما ومنحوس الحظ ممنوعا، فقال: ما رأيت أحدا عشق الرزق عشقه ولا أبغضه الرزق بغضه. فذكر الأول عشق الشرف وليس الشرف بامرأة، وذكر الآخر عشق الرزق والرزق اسم جامع لجميع الحاجات. وقد يستعمل الناس الكناية وربما وضعوا الكلمة بدل الكلمة يريدون أن يظهروا المعنى بألين اللفظ، إما تنويها وإما تفصيلا، كما سموا المعزول عن ولايته مصروفا، والمنهزم عن عدوه منحازا. نعم، حتى سمى بعضهم البخيل مقتصدا ومصلحا، وسمى عامل الخراج المتعدي بحق السلطان مستقصيا.
ولما رأينا الحب من أكبر أسباب الشر، اجتنبنا أن نذكر أبواب السبب الجالب للخير ليفرق بينه وبين أبواب السبب الجالب للشر حتى نذكر أصولهما وعللهما الداعية إليهما والموجبة لكونهما. فتأملنا شأن الدنيا فوجدنا أكبر نعيمها وأكمل لذاتها ظفر المحب بحبيبه والعاشق بطليبه، ووجدنا شقوة الطالب المكدي وغمه في وزن سعاة الطالب المنجح وسروره، ووجدنا العشق كلما كان أرسخ وصاحبه به أكلف فإن موقع لذة الظفر منه أرسخ وسروره بذلك أبهج.
فإن زعم زاعم أن موقع لذة الظفر بالعدو المرصد أحسن من موقع لذة الظفر من العاشق الهائم بعشيقته!
قلنا: إنا قد رأينا الكرام والحلماء وأهل السؤدد والعظماء ربما جادوا بفضلهم من لذة شفاء الغيظ ويعدون ذلك زيادة في نبل النفس وبعد الهمة وعلو القدر، ويجودون بالنفيس من الصامت والناطق وبالثمين من العروض، وربما خرج من جميع ماله وآثر طيب الذكر على الغنى واليسر. ولم نر نفس العاشق تسخو بمعشوقه ولا يجود لشقيق نفسه ولا لوالد ولا لولد بار ولا لذي نعمة سابغة يخاف سلبها وصرف إحسانه عنه بسببها، ولم نر الرجال يهبون للرجال إلا ما لا بال له في جنب ما يهبون للنساء، حتى كان العطر والصبغ والخضاب والكحل والنتف والقص والتحذيف والحلق وتجويد الثياب وتنظيفها والقيام عليها وتعهدها مما لم يتكلفوه إلا لهن، ولم يتقدموا فيه إلا من أجلهن، وحتى كأن الحيطان الرفيعة والأبواب الوثيقة والستور الكثيفة والخصيان والظئورة والحشوة والحواضن لم تتخذ إلا للصون لهن والاحتفاظ بما يجب من حفظ النعمة فيهن.
فصل منه : وباب آخر وهو أنا لم نجد أحدا من الناس عشق والديه ولا ولده، ولا من عشق مراكبه ومنزله، كما رأيناهم يموتون من عشق النساء الحرام. قال الله تعالى:
زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ، فقد دل تبارك وتعالى على جملة أصناف ما خولهم من كرامته وما عليهم من نعمته، ولم نر الناس وجدوا بشيء من هذه الأصناف وجدهم بالنساء، ولقد قدم ذكرهن في هذه الآية على قدر تقدمهن في قلوبهم.
فإن قال قائل: فقد نجد الرجل الحليم والشيخ الركين يسمع الصوت المطرب من المغني المصيب فينقله ذلك إلى طبع الصبيان وإلى أفعال المجانين فيشق جيبه وينقض حبوته ويفدي غيره ويرقص كما يرقص الحدث الغرير والشاب السفيه، ولم نجد أحدا فعل ذلك عند رؤية معشوقه!
قلنا: أما واحدة فإنه لم يكن ليدع التشاغل بشمها وبرشفها وباحتضانها وتقبيل قدميها والمواضع التي وطئت عليها ويتشاغل بالرقص المباين لها والصراخ الشاغل عنها. فأما حل الحبوة والصراخ عند رؤية الحبيبة فإن هذا ما لا يحتاج إلى ذكره لوجوده وكثرة استعمالهم له، فكيف وهو إن خلا بمعشوقه لا يظن أن لذة الغناء تشغله بمقدار العشر من لذته، بل ربما لم يخطر له ذلك الغناء على بال. وعلى أن ذلك الطرب مجتاز غير لابث وظاعن غير مقيم، ولذة المتعاشقين راكدة أبدا ومقيمة غير ظاعنة، وعلى أن الغناء الحسن من الوجه الحسن والبدن الحسن أحسن، والغناء الشهي من الوجه الشهي والبدن الشهي أشهى، وكذلك الصوت الناعم الرخيم من الجارية الناعمة الرخيمة. وكم بين أن تفدي إذا شاع فيك الطرب مملوكك وبين أن تفدي أمتك؟ وكم بين أن تسمع الغناء من فم تشتهي أن تقبله وبين أن تسمعه من فم تشتهي أن تصرف وجهك عنه! وعلى أن الرجال دخلاء على النساء في الغناء، كما رأينا رجالا ينوحون فصاروا دخلاء على النوائح. وبعد، فأيما أحسن وأملح وأشهى وأغنج! أن يغنيك فحل ملتف اللحية كث العارضين أو شيخ متخلع الأسنان مغضن الوجه، ثم يغنيك إذا هو تغنى بشعر ورقاء بن زهير:
رأيت زهيرا تحت كلكل خالد
فأقبلت أسعى كالعجول أبادر
أم تغنيك جارية كأنها طاقة نرجس أو كأنها ياسمينة أو كأنها خرطت من ياقوتة أو من فضة مجلوة بشعر عكاشة بن محصن:
من كف جارية كأن بنانها
من فضة قد طرقت عنابا
وكأن يمناها إذا نطقت به
ألقت على يدها الشمال حسابا
فصل منه : فأما الغناء المطرب في الشعر الغزل فإنما ذلك من حقوق النساء، وإنما ينبغي أن تغني بأشعار الغزل والتشبيب والعشق والصبابة بالنساء اللواتي فيهن نطقت تلك الأشعار وبهن شبب الرجال ومن أجلهن تكلفوا القول في التشبيب. وبعد، فكل شيء وطبقه وشكله ولفقه حتى تخرج الأمور موزونة معتدلة ومتساوية مخلصة. ولو أن رجلا من أدمث الناس وأشدهم تخليصا لكلامه ومحاسنه لنفسه، ثم جلس مع امرأة لا تزن بمنطق ولا تعرف بحسن حديث، ثم كان يعشقها، ما كان الناتج بينهما من الأحاديث والمتلاقح بينهما من المعاني والألفاظ إلا ما كان يجري بين دغفل بن حنظلة وبين ابن لسان الحمرة، وإنما هذا على قدر تمكن الغزل في الرجل.
فصل منه : والمرأة أيضا أرفع حالا من الرجل في أمور، منها: أنها التي تخطب وتراد وتعشق وتطلب، وهي التي تفدى وتحمى. قال عنبسة بن سعيد للحجاج بن يوسف: أيفدي الأمير أهله؟ قال: والله إن تعدونني إلا شيطانا. والله لربما رأيتني أقبل رجل إحداهن.
فصل منه : وإنما يملك المولى من عبده بدنه، فأما قلبه فليس له عليه سلطان. والسلطان نفسه وإن ملك رقاب الأمة فالناس يختلفون في جهة الطاعة، فمنهم من يطيع بالرغبة، ومنهم من يطيع بالرهبة، ومنهم من يطيع بالمحبة، ومنهم من يطيع بالديانة. وهذه الأصناف وإن كان أفضلها طاعة الديانة فإن تلك المحبة ما لم يمازجها هوى لم يقو صاحبها على قوة العشق. وفي الأثر المستفيض والمثل السائر: «إن الهوى يعمي ويصم.» فالعشق يقتل.
فصل منه : ومما يستدل به على تعظيم شأن النساء أن الرجل يستحلف بالله الذي لا شيء أعظم منه وبالمشيء إلى بيت الله وبصدقة ماله وعتق رقيقه، فيسهل عليه ولا يأنف منه، فإن استحلف بطلاق امرأته تربد وجهه وطار الغضب في دماغه ويمنع ويعصي ويغضب ويأبى، وإن كان المحلف سلطانا مهيبا، وإن لم يكن يحبها ولا يستكثر منها وكانت نفسها قبيحة المنظر دقيقة الحسب خفيفة الصداق قليلة النشب، وليس ذلك إلا لما قد عظم الله تعالى من شأن الزوجات في صدور الأزواج.
فصل منه في ذكر الولد : وباب آخر، وهو أنا لو خيرنا رجلا بين الفقر أيام حياته، وبين أن يكون ممتعا بالباه أيام حياته، لاختار الفقر الدائم مع التمتع الدائم. وليس شيء مما يحدث الله لعباده من أصناف نعمه وضروب فوائده أبقى ذكرا ولا أجل خطرا من أن يكون للرجل ابن يكون ولي بناته وساتر صورة حرمه وقاضي دينه ومحيي ذكره، مخلصا في الدعاء له بعد موته، وقائما بعده في كل ما خلفه مقام نفسه، فمن أقل أسفا على ما فارق ممن خلف كافيا مجربا وحائطا من وراء المال موفورا ومن وراء الحرم حاميا ولسلفه في الناس محييا. وقال رجل لعبد الملك بن مروان وذكر ولدا له: أراك الله في بنيك ما أرى أباك فيك، وأرى بنيك فيك ما أراك في أبيك. ونظر شيخ وهو عند المهلب إلى بنيه قد أقبلوا فقال: آنس الله بكم الإسلام؛ فوالله إن لم تكونوا أسباط نبوة إنكم لأسباط ملحمة. وليست النعمة في الولد المحيي والخلف الكافي بصغيرة.
فصل منه : وباب آخر، وهو أن الله تعالى خلق من المرأة ولدا من غير ذكر، ولم يخلق من الرجل ولدا من غير أنثى، فخص بالآية العجيبة والبرهان المنير المرأة دون الرجل، كما خلق المسيح في بطن مريم من غير ذكر.
فصل منه في ذكر القرابات : وأما أنا فإني أقول: إن تباغض الأقرباء عارض دخيل وتحابهم واطد أصيل، والسلامة من ذلك أعم والتناصر أظهر والتصادق في المودة أكثر؛ فلذلك القبيلة تنزل معا وترحل معا وتحارب من ناوأها معا، إلا الشاذ النادر، كخروج غنى وباهلة من عطفان، وكنزول عبس في بني عامر، وما أشبه ذلك. وإلا فإن القرابة يد واحدة على من ناوأهم وسيف واحد على من عاداهم، وما صلاح شأن العشائر إلا بتقارب ساداتهم في القدر وإن تفاوتوا في الرياسة والفضل، كما قال في الأثر المستفيض: «لا يزال الناس بخير ما تفاوتوا، فإذا تقاربوا هلكوا.» وحال العامة في ذلك كحال الخاصة.
فصل منه : وقضية واجبة: إن الناس لا يصلحهم إلا رئيس واحد يجمع شملهم ويكفيهم ويحميهم من عدوهم ويمنع قويهم عن ضعيفهم، وقليل لهم نظام أقوى من كثير لا نظام لهم ولا رئيس عليهم؛ إذ قد علم الله سبحانه وتعالى أن صلاح عامة البهائم في أن يجعل لكل جنس منها فحلا يوردها الماء ويصدرها وتتبعه إلى الكلأ، كالعير في العانة والفحل في الإبل والهجمة، وكذلك النحل العسالة والكراكي، وما يحمي الحجور في المروج إلا الحصان، فجعل منها رؤساء متبوعة وأذنابا تابعة، ولو لم يقم الله للناس الوزعة من السلطان والحماة من الملوك وأهل الحياطة عليهم من الأئمة لعادوا نشرا لا نظام لهم ومستكلبين لا زاجر لهم، ولكان من عز بز ومن قدر قهر، ولما زال الشر راكدا والهرج ظاهرا حتى يكون التغابن والبوار، وحتى تنطمس منهم الآثار، ولكانت الأنعام طعاما للسباع وكانت عاجزة عن حماية أنفسها جاهلة بكثير من مصالح شأنها، فوصل الله تعالى عجزها بقوة من أحوجه إلى الاستمتاع بها ووصل جهلها بمعرفة من عرف كيف وجه الحيلة في صونها والدفاع عنها. وكذلك فرض على الأئمة أن يحوطوها بالحراسة لها والذياد عنها ويرد قويها عن ضعيفها وجاهلها عن عالمها وظالمها عن مظلومها وسفيهها عن حليمها، فلولا السائس ضاع المسوس، ولولا قوة الراعي لهلكت الرعية.
فصل منه : وانفراد السيد بالسيادة كانفراد الإمام بالإمامة، وبالسلامة من تنازع الرؤساء تجتمع الكلمة وتكون الألفة ويصلح شأن الجماعة، وإذا كانت الجماعة انتهت الأعداء وانقطعت الأهواء.
فصل منه : ولسنا نقول - ولا يقول أحد ممن يعقل - إن النساء فوق الرجال أو دونهم بطبقة أو طبقتين أو بأكثر، ولكنا رأينا ناسا يزرون عليهن أشد الزراية ويحتقرونهن أشد الاحتقار ويبخسونهن أكثر حقوقهن، وإن من العجز أن يكون الرجل لا يستطيع توفير حقوق الآباء والأعمام إلا بأن ينكر حقوق الأمهات والأخوال؛ فلذلك ذكرنا جملة ما للنساء من المحاسن، ولولا أن ناسا يفخرون بالجلد وقوة المنة وانصراف النفس عن حب النساء حتى جعلوا شدة حب الرجل لأمته وزوجته وولده دليلا على الضعف وبابا من الخور لما تكلفنا كثيرا مما شرطناه في هذا الكتاب.
فصل منه : في ذكر العشق: ورجلان من الناس لا يعشقان عشق الأعراب: أحدهما الفقير المدقع فإن قلبه يشغل عن التوغل فيه وبلوغ أقصاه، والملك الضخم الشأن لأن في الرياسة الكبرى وفي جواز الأمر والنهي وفي ملك رقاب الأمم ما يشغل شطر قوى العقل عن التوغل في الحب والاحتراق في العشق.
فصل منه : كثيرا ما يعتري العشاق والمحبين غير المحترقين كالرجل تكون له جارية وقد حلت من قلبه محلا وتمكنت منه تمكنا ولا يجتث أصل ذلك الحب الغضبة تعرض وكثرة التأذي بالخلاف يكون منها، فيجد الفترة عنها لبعض هذه الحالات التي تعرض فيظن أنه قد سلا أو يظن أنه في عزائه عنها على فقدها محتملا بيعها إن كانت أمة أو طلاقها إن كانت زوجة، فلا ينشب ذلك الغضب أن يزول وذلك الأذى أن ينسى، فتتحرك له الدفائن ويثمر ذلك الغرس فيتبعها قلبه، فإما أن يسترجع الأمة من مبتاعها بأضعاف ثمنها أو يسترجع الزوجة بعد أن نكحت، فإن تصبر وأمكنه الصبر لم يزل معذبا، وإن أطاع هواه واحتمل المكروه فهذا هو العقابيل والنكس. فليحذر الحازم الفترة يجدها في حب حبيبه والغضبة التي تنسيه عواقب أمره.
فصل منه : قال إبراهيم بن السندي: حدثني عبد الملك بن صالح قال: بينا عيسى بن موسى قد خلا بنفسه، وهو قد كان استكثر من النساء حتى انقطع، إذ مرت به جارية كأنها جان وكأنها جدل عنان، وكأنها جمارة وكأنها قضيب فضة، فتحركت نفسه وخاف أن تخذله قوته، ثم طمع في القوة لطول الترك واجتماع الماء، فلما صرعها وجلس منها ذلك المجلس خطر على باله: لو عجز كيف يكون حاله؟! فلما فكر فتر، فأقبل كالمخاطب لنفسه فقال: إنك لتجلسيني هذا المجلس وتحمليني على هذا المركب ثم تخذليني هذا الخذلان وتغشيني مثل هذا الذل! ولولا حيرة الخجل لاستعمل ما يقتل، وذلك أنه حين رأى أن أبلغ الحيل في توهيمها أن العجز لم يكن من قبله أن يقول لها: تعرضين لي وأنت تفلة ثم لا تروجين بأدبك ولا تستهدفين لسيدك ولا تعينين على نفسك حتى كأنك عند عبد يشبهك أو سوقة لا يقدر إلا على مثلك، أما لو كنت من بنات ملوك العجم لألفاك سيدك على أجود صنعة وعلى أحسن طاعة؛ إذ كل رجل ينبسط للتمتع مع التفل.
فصل منه : ولم أسمع ولم أقرأ في الأحاديث المولدة في شأن العشاق وما صنع العشق في القلوب والأكباد والأحشاء والزفرات والحنين وفي التدليه والتوليه، ومتى تسعد الدمعة ومتى يعتري العين الجمود.
فصل منه : ونحن وإن رأينا أن فضل الرجل على المرأة في جملة القول في الرجال والنساء أكثر وأظهر، فليس ينبغي لنا أن نقصر في حقوق المرأة، وليس ينبغي لمن عظم حقوق الآباء أن يصغر حقوق الأمهات، وكذلك الإخوة والأخوات والبنون والبنات، وأنا وإن كنت أرى أن حق هذا أعظم فإن هذه أرحم.
فصل من احتجاجه للإماء : قال بعض من احتج للعلة التي من أجلها صار أكثر الإماء أحظى عند الرجال من أكثر المهيرات أن الرجل قبل أن يملك الأمة قد تأمل كل شيء منها وعرفه ما خلا حظوة الخلوة، فأقدم على ابتياعها بعد وقوعها بالموافقة، والحرة إنما يستشار في جمالها النساء، والنساء لا يبصرن من جمال النساء وحاجات الرجال وموافقتهن قليلا ولا كثيرا، والرجال بالنساء أبصر، وإنما تعرف المرأة من المرأة ظاهر الصفة، وأما الخصائص التي تقع بموافقة الرجال فإنها لا تعرف ذلك، وقد تحسن المرأة أن تقول كأن أنفها السيف وكأن عينها عين غزال وكأن عنقها إبريق فضة وكأن ساقها جمارة وكأن شعرها العناقيد وكأن أطرافها المداري، وما أشبه ذلك. وهناك أسباب أخر بها يكون الحب والبغض.
فصل منه : وقد علم الشاعر وعرف الواصف أن الجارية الفائقة الحسن أحسن من الظبية وأحسن من البقرة وأحسن من كل شيء تشبه به، ولكنهم إذا أرادوا القول شبهوها بأحسن ما يجدون. ويقول بعضهم: كأنها الشمس وكأنها القمر. والشمس وإن كانت بهية فإنما هي شيء واحد، وفي وجه الجارية الحسناء وخلقها ضروب من الحسن الغريب والتركيب العجيب، ومن يشك أن عين المرأة الحسناء أحسن من عين البقرة، وأن جيدها أحسن من جيد الظبية، والأمر فيما بينهما متفاوت، ولكن لو لم يفعلوا هذا وشبهه لم تظهر بلاغتهم وفطنتهم.
فصل منه : ورأيت أكثر الناس من البصراء بجواهر النساء الذين هم جهابذة هذا الأمر يقدمون المجدولة. والمجدولة من النساء تكون في منزلة بين السمينة والممشوقة، ولا بد من جودة القد وحسن الخرط واعتدال المنكبين واستواء الظهر، ولا بد من أن تكون كاسية العظام بين الممتلئة والقضيفة، وإنما يريدون بقولهم مجدولة: جودة العصب وقلة الاسترخاء وأن تكون سليمة من الزوائد والفضول. ولذلك قالوا: خمصمانة وسيفانة وكأنها جان وكأنها جدل عنان وكأنها قضيب خيزران. والتثني في مشيها أحسن ما فيها، ولا يمكن ذلك الضخمة والسمينة وذات الفضول والزوائد، على أن النحافة في المجدولة أعم، وهي بهذا المعنى أعرف، وهي بهذا المعنى تحبب على السمان الضخام وعلى الممشوقات والقضاف، كما تحبب هذه الأصناف على المجدولات. وقد وصفوا المجدولة بالكلام المنثور فقالوا: «أعلاها قضيب وأسفلها كثيب.»
فصل منه : كما نحب أن يخرج هذا الكتاب تاما ويكون للأشكال الداخلة فيه جامعا، وهو القول فيما للذكور والإناث في عامة أصناف الحيوان وما أمكن من ذلك، حتى يحصل ما لكل جنس من الخصال المحمودة والمذمومة، ثم يجمع بين المحاسن منها والمساوئ، حتى يستبين لقارئ الكتاب نقصان المفضول من رجحان الفاضل بما جاء في ذلك من الكتاب الناطق والخبر الصادق والشاهد العدل والمثل السائر، حتى يكون الكتاب عربيا أعرابيا وسنيا جماعيا، وحتى يجتنب فيه العويص والطرق المتوعرة والألفاظ المستنكرة وتلزيق المتكلفين وتلفيق أصحاب الأهواء من المتكلمين، حتى نظرا لمن لا يعلم مقادير ما استخزنها الله من المنافع وغشاها من البراهين وألزمها من الدلالة عليه وأنطقها به من الحجة له فمنع من ذلك فرط الكبوة وإفراط العلة وضعف المنة وانحلال القوة، فلما وافق هذا الكتاب منا هذه الحال وألفى قلوبنا على هذه الأشغال، اجتنبنا أن نقصد من جميع ذلك إلى فرق ما بين الرجل والمرأة، فلما اعتزمنا على ما ابتدأنا به وجدناه قد اشتمل على أبواب يكثر عددها وتبعد غايتها، فرأينا - والله الموفق - أن نقتصر منه على ما لا يبلغ بالمستمع إلى السآمة وبالمألوف إلى مجاوزة القدر. وليس ينبغي لكتب الآداب والرياضات أن يحمل أصحابها على الجد الصرف وعلى العقل المحض وعلى الحق المر وعلى المعاني الصعبة التي تستكد النفوس وتستفرغ المجهود، وللصبر غاية وللاحتمال نهاية، ولا بأس بأن يكون الكتاب موشحا ببعض الهزل. على أن الكتاب إذا كثر هزله سخف كما أنه إذا كثر جده ثقل، ولا بد للكتاب من أن يكون فيه بعض ما ينشط القارئ وينفي النعاس عن المستمع. فمن وجد في كتابنا هذا بعض ما ذكرنا، فليعلم أن قصدنا في ذلك إنما كان على جهة الاستدعاء لقلبه والاستمالة لسمعه وبصره. والله تعالى نسأل التوفيق.
من رسالته في الشارب والمشروب
قال أبو عثمان:
سألت - أكرم الله وجهك وأدام رشدك ولطاعته توفيقك حتى تبلغ من مصالح دينك ودنياك منازل ذوي الألباب ودرجات أهل الثواب - أن أكتب لك صفات الشارب والمشروب وما فيهما من المدح والعيوب، وأن أميز لك بين الأنبذة والخمر، وأن أقفك على حد السكر، وأن أعرفك السبب الذي يرغب في شرب الأنبذة وما فيها من اجتلاب المنفعة، وما يكره من نبيذ الأوعية، وقلت: وما فرق ما بين الجرار والسقاء والمزفت والحنتم والدباء، وما القول في المحتل والمكسوب، وما فرق ما بين النقيع والذاذي، وما المطبوخ والباذق، وما الغربي والمروق، وما الذي يحل من الطبيخ، وما القول في شرب الفضيخ، وهل يكره نبيذ العكر، وما القول في عتيق السكر وأنبذة الجرار وما يعمل من السكر، ولم كره النقير والمقير؟ وسألت عن نبيذ العسل والمقرطبات، وعن رزين سوق الأهواز، وعن نبيذ أبي يوسف والجمهور والمعلق والمسحوم والحلو وترس شيرين ونبيذ الكشمش والتين، ولم كره الجلوس على البواطي والرياحين! وقلت: وما نصيب الشيطان وما حاصل الإنسان؟
وسألت عمن شرب الأنبذة أو كرهها من الأوائل، وما جرى بينهم فيها من الأجوبة والمسائل، وما كانوا عليه فيها من الآراء وتثبتوا فيها من الأهواء، ولأي سبب تضادت فيها الآثار واختلفت فيها الأخبار، وسألت أن أقصد في ذلك إلى الإيجاز والاختصار وحذف الإكثار، وقلت: وإذ جعل الله تعالى للعباد عن الخمر المندوحة بالأشربة الهنيئة الممدوحة، فما تقول فيما حسن من الأنبذة صفاه، وبعد مداه، واشتدت قواه، وعتق حتى جاد، وعاد بعد قدم الكون صافي اللون، هل يحل إليه الاجتماع وفيه الاكتراع؛ إذ كان يهضم الطعام ويوطئ المنام، وهو في لطائف الجسم سار وفي خفيات العروق جار، لا يضر معه برغوت ولا بعوض ولا جرجس عضوض؟ وقلت: وكيف يحل لك ترك شربه إذا كان لك موافقا ولجسمك ملائما؟ ولم لا قلت إن تارك شربه كتارك العلاج من أدوأ الأدواء، وأنه كالمعين على نفسه إذا ترك شربه أفحش الداء، وأنت تعلم أنك إذا شربته عدلت به طبيعتك، وأصلحت به صفار جسمك، وأظهرت به حمرة لونك، فاستبدلت به من السقم صحة، ومن حلول العجز قوة، ومن الكسل نشاطا، وإلى اللذة انبساطا، ومن الغم فرحا، ومن الجمود تحركا، ومن الوحشة أنسا؟ وهو في الخلوة خير مسامر، وعند الحلبة خير ناصر، يترك الضعيف وهو مثل الأسد في العرين، يلان له ولا يلين. وقلت: الجيد من الأنبذة يصفي الذهن، ويقوي الركن، ويشد القلب والظهر، ويمنع الضيم والقهر، ويشحذ المعدة ويهيج للطعام الشهوة، ويقطع عن إكثار الماء الذي جل الأدواء منه، ويحدر رطوبة الرأس ويهيج العطاس، ويشد البضعة ويزيد في النطفة، وينفي القرقرة والرياح، ويبعث الجود والسماح، ويمنع الطحال من العظم، والمعدة من التخم، ويحدر المرة والبلغم، ويلطف دم العروق ويجريه، ويرققه ويصفيه، ويبسط الآمال وينعم البال، ويغشي الغلظ في الرئة، ويصفي البشرة، ويترك اللون كالعصفر، ويحدر أذى الرأس في المنخر ويموه الوجه، ويسخن الكلية، ويلذ النوم، ويحلل التخم، ويذهب بالإعياء ويغذو لطيف الغذاء، ويطيب الأنفاس، ويطرد الوسواس، ويطرب النفس، ويؤنس من الوحشة، ويسكن الروعة، ويذهب الحشمة، ويقذف فضول الصلب بالإنشاط للجماع، وفضول المعدة بالهواع، ويشجع المرتاع، ويزهي الذليل، ويكثر القليل، ويزيد في جمال الجميل، ويسل الحزن، ويجمع الذهن، ويذهب الهم، ويطرد الغم، ويكشف عن قناع الحزم، ويولد في الحليم الحلم، ويكفي أضغاث الحلم، ويحث على الصبر، ويصحح من الفكر، ويرجي القانط، ويرضي الساخط، ويغني عن الجليس، ويقوم مقام الأنيس. وحتى إن عز لم يقنط منه، وإن حضر لم يصبر عنه، يدفع النوازل العظيمة، وينقي الصدر من الخصومة، ويزيد في المساغ وسخونة الدماغ، وينشط الباه حتى لا يزيف شيئا يراه، وتقبله جميع الطبائع، ويمتزج به صنوف البدائع: من اللذة والسرور، والنضرة والحبور. وحتى سمي شربه حصفا، وسمي فقده خسفا. وإن شرب منه الصرف بغير مزاج تحلل بغير علاج، وينفي الأحزان والهموم، ويدفع الأهواء والسموم، ويفت الذهن ويمنع الغبن، ويلقن الجواب ولا يكيد معه العتاب، به تمام اللذات، وكمال المروءات، ليس لشيء كحلاوته في النفوس، وكسطوته في الجباه والرءوس، وكإنشاطه للحديث والجلوس، يحمر الألوان، ويرطب الأبدان، ويخلع عن الطرب الأرسان.
وقلت: ومع كل ذلك فهو يلجلج اللسان، ويكثر الهذيان، ويظهر الفضول والأخلاط، ويناوب الكسل بعد النشاط، فأما إذا تبين في الرأس الميلان، واختلف عند المشي الرجلان، وكثر الإخفاق والتنخع والبصاق، واشتملت عليه الغفلة، وجاءت الزلة بعد الزلة، أو سال على الصدر لعابه وصار في حد المخرفين لا يفهم ولا يبين، قبل دلالات النكر، وظهور علامات السكر، ينسي الذكر، ويورث الفكر، ويهتك الستر، ويسقط من الجدار، ويهور في الآبار، ويغرق في الأنهار، ويعوق عن المعروف، ويعرض للحتوف، ويحمل على الهفوة، ويؤكد الغفلة، ويورث الصياح والصمات، ويصرع الفهم للسبات، فلغير معنى يضحك، ولغير سبب يمحك، ويحيد عن الإنصاف، وينقلب عن الساكب الكاف، ثم يظهر السرائر، ويطلع على ما في الضمائر، من مكنون الأحقاد، وخفي الاعتقاد. وقد يقل على السكر المتاع، ويطول منه الأرق والصداع، ثم يورث بالغدوات الخمار، وتختل سائر النهار، ويمنع من إقامة الصلوات وفهم الأوقات، ويعقب السل، ويعقب في القلوب الغل، ويجفف النطفة، ويورث الرعشة، ويولد الصفار، وضروب العلل في الأبصار، ويعقب الهزال، ويجحف بالمال، ويجفف الطبيعة، ويقوي الفاسد من المرة، ويذبل النفس، ويفسد مزاج الحس، ويحدث الفتور في القلب، ويبطئ عند الجماع الصب، حتى يحدث من أجله الفتق الذي ليس له رتق، ويحمل على المظالم وركوب المآثم وتضييع الحقوق، حتى يقتل من غير علم ويكفر من غير فهم.
فصل منه : وقلت: ومن الحلو في المعدة التخم، وفي الأبدان الوخم، ويولد للكرش رياحا كمثل رياح العدس، وحموضة تولد في الأسنان الضرس، والسكر حسبك بفرط مرارته وكسوف لونه وبشاعة مذاقه ونفار الطبيعة عنه. وأنواع ما يعالج من التمر والحبوب فشربها الداء العضال. وللمسجور والبتي وأشباهها كدورة ترسب في المعدة وتولد بين الجلدتين الحكة، وأشباه هذا كثيرة تركت ذكرها؛ لأني لم أقصدك بالمسألة أبتغي منك تحليل ما يجلب المضرة، ولكن ما تقول فيما يسرك ولا يسوءك. وإذا شربته تلقته العروق فاتحة أفواهها كأفواه الفراخ محسنة للون ملذة للنفس يجثم على المعدة ويزود في العروق. ويقصد إلى القلب فيولد فيه اللذة وفي المعدة الهضم، وهو غسولها ونضوحها، ويسرع إلى طاعة الكبد ويفيض بالعجل إلى الطحال وينفخ منه وتظهر حمرته بين الجلدتين، ويزيد في اللون، ويولد الشجاعة والسخاء، ويريح من اكتنان الضغن، ويعفي على تغير النكهة، وينقي الذفر، ويسرع إلى الجبهة، ويغني عن الصلا ويمنع القر؟ وما تقول في نبيذ الزبيب الحمض والعسل المازي إذا تورد لونه وتقادم كونه، ورأيت حمرته في صفرته تلوح، تراه في الكأس كأنه بالشمس ملتحف، شعاعه يضحك في الأكف؟ وما تقول في عصير الكرم إذا أجدت طبخه وأنعمت إنضاجه وأحسن الدن نتاجه، فإذا فض فض عن غضارة، قد صار في لون المحارة أو في صفاء ياقوتة تلمع في الأكف لمع الدنانير ويضيء كالشهاب المتقد؟ وما تقول في نبيذ عسل مصر؛ فإنه يؤدي إلى شاربه الصحيح من طعم الزعفران ما لا يلبس الخلقان، ولا يجود إلا في جدد الدنان، ولا يستخدم الأنجاس، ولا يألف الأرجاس، وكذلك لا يزكو على علاج الجنب والحائض، ولا ينقص على شيء من الأجسام لونه حتى لو غمس فيه قطن لخرج أبيض يققا، وحسبك به في رقة الهواء يكدره صافي الماء، وهو مع ذلك كالهزبر ذي الأشبال المفترس للأقران، من عاقره عقره، ومن صارعه صرعه؟ وما تقول في رزين الأهواز من زبيب الداقياذ؛ إذ يعود صلبا من غير أن يسيل سلافه أو يماط عنه ثفله، حتى يعود كلون العقيق في رائحة المسك الفتيق، أصلب الأنبذة عريكة، وأصلبها صلابة وأشدها خشونة، ثم لا يستعين بعسل ولا سكر ولا دوشاب، وما ظنك به وهو زبيب نقيع، لا يشتد ولا يجود إلا بالضرب الوجيع؟ وما تقول في الدوشاب البستاني سلالة الرطب الجني بالحب الرتيلي، إذا أوجع ضربا وأطيل حبسا أعطى صفوه ومنح رفده وبذل ما عنده، فإذا كشف عنه قناع الطين ظهر في لون الشقر والكمت، وسطع برائحة كالمسك، وإذا هم على المعدة لانت له الطبائع، وسليت له الأمعاء، وأيس الحصر، وانقطع طمع القولنج، وانقادت له اليبوسة وأذعنت له بالطاعة، وابتل به الجلد القحل، وارتحل عن الباسور، وكفى شاربه الوخز، فإذا سنح بما تلظى ورمى بشرره هل يحل أن يشعشع إذا سكن جأشه وأبل حلمه؟ وما تقول في المغلق من أنبذة التمر، فإنك تنظر إليه وكأن النيران تلمع من جوفه، قد ركد ركود الذلال حتى لكأن شاربه يكرع في شهاب، ولكأنه فرند في وجه سيف، وله صفيحة مرآة مجلوة تحكي الوجوه في الزجاجة حتى يفهم فيه الجلاس؟ وما تقول في نبيذ الجزر الذي منه تمتد النطفة، وتشتد النقطة، يجلب الأحلام، ويركد في مخ العظام؟ وما تقول في نبيذ الكشمش الذي لونه لون زمردة خضراء صافية، محكم الصلابة، مفرط الحرارة، حديد السورة، سريع الإفاقة، عظيم المؤنة، قصير العمر، كثير العلل، جم الهبات، تطمع الآفات فيه وتسرع إليه؟ وما تقول في نبيذ التين؛ فإنك تعلم أنه مع حرارته لين العريكة، سلس الطبيعة، عذب المذاق، سريع الإطلاق، مرهم للعروق، نضاح للكبد، فتاح للسدد، غسال لأمعاء، هياج للباء، أخاذ للثمن، جلاب للمؤن، مع كسوف لون، وقبح منظر؟ وما تقول في نبيذ السكر الذي ليس مقدار المنفعة منه على قدر المؤنة فيه، هل يوجد في المحصول لشربه معنى معقول؟ وما تقول في المروق والغربي والفضيخ، ألذ المشروبات في زمانها ، وأنفع المأخوذات في إبانها، أقل شيء مؤنة، وأحسن معونة، وأكثر شيء قنوعا وأسرعه بلوغا، ضمورات عروفات للرجل الوفي، ولها أراييج على الشاة كأذكى رائحة تشم، أقل المشروبات صداعا وأشدهن خداعا؟
فصل منه : وكرهت أيضا تقليد المختلف من الآثار فأكون كحاطب ليل دون التأمل والاعتبار، لعلمي بأن كلام الشك لا يجلوه إلا مفتاح اليقين.
فصل منه : قد فهمت - أسعدك الله تعالى بطاعته - جميع ما ذكرت من أنواع الأنبذة وبديع صفاتها، والفصل بين جيدها ورديئها ونافعها وضارها، وما سألت من الوقوف على حدودها، ولا زلت من عداد من يسأل ولا يبحث، ولا زلنا في عداد من يشرح ويفصح. اعلم - أكرمك الله - أنك لو بحثت عن أحوال من يؤثر شرب الخمور على الأنبذة لم تجد إلا جاهلا مخذولا، أو حدثا مغرورا، أو خليعا ماجنا، أو رعاعا همجا، ومن إذا غدا بهيمة وإذا راح نعامة، ليس عنده من المعرفة أكثر من انتحال القول بالجماعة، قد مزج له الصحيح بالمحال، فهو يدين بتقليد الرجال ليشعشع الداح ويحرم المباح، فمتى عذله عاذل ووعظه واعظ قال: الأشربة كلها خمر فلا أشرب إلا أجودها. وقد أحببت - أيدك الله - التوثق من صفاء فهمك وسؤت ظنا بالتغرير فقدمت لك من التوطئة ما يسهل لك سبيل المعرفة، وذلك إلى مثلك من مثلي حرم، سيما فيما خفيت معالمه ودرست مناهجه وكثرت شبهه واشتد غموضه، ولو لم يكن ذلك وكان قد اعتاص علي البرهان في إظهاره واحتجت في الإبانة عنه إلى ذكر ضده ونظيره وشكله لم أحتشم من الاستعانة بكل ذلك، فكيف والقدرة - بحمد الله - وافرة والحجة واضحة. قد يكون الشيء من جنس الحرام فيعالج بضرب من العلاج حتى يتغير بلون يحدث له ورائحة وطعم ونحو ذلك، فيتغير لذلك اسمه ويصير حلالا بعد أن كان حراما.
فصل منه في تحليل النبيذ دون الخمر : فإن قال لنا قائل: ما تدرون لعل الأنبذة قد دخلت في ذكر تحريم الخمر ولكن لما كان الابتداء أجرى في ذكر تحريم الخمر خرج التحريم عليها وحدها في ظاهر المخاطبة ودخل سائر الأشربة في التحريم بالقصد والإرادة؟! قلنا: قد علمنا أن ذلك على خلاف ما ذكر السائل لأسباب موجودة وعلل معروفة. منها أن الصحابة الذين شهدوا نزول الفرائض والتابعين من بعدهم لم يختلفوا في قاذف المحصنين أن عليه الحد، واختلفوا في الأشربة التي تسكر. ليس لجهلهم أسماء الخمور ومعانيها، ولكن الأخبار المروية في تحريم المسكر والواردة في تحليلها ولو كانت الأشربة كلها عند أهل اللغة في القديم خمرا لما احتاجوا إلى أهل الروايات في الخمر أي الأجناس من الأشربة هي، كما لم يخرجوا إلى طلب معرفة العبيد من الإماء! وهذا باب يطول شرحه إن استقصيت جميع ما فيه من المسألة والجواب. وما ينكر من خالفنا في تحليل الأنبذة مع إقراره بأن الأشربة المسكرة الكثيرة لم تزل معروفة بأسمائها وأعيانها وأجناسها وبلدانها، وأن الله تعالى قصد للخمر من بين جميعها فحرمها وترك سائر الأشربة طلقا مع أجناس سائر المباح، والدليل على تجويز ذلك أن الله تعالى ما حرم على الناس شيئا من الأشياء في القديم والحديث إلا أطلق لهم من جنسه وأباح من سنخه ونظيره وشبهه ما يعمل مثل عمله أو قريبا منه، ليغنيهم الحلال عن الحرام، أعني ما حرم بالسمع دون المحرم بالعقل. قد حرم من الدم المسفوح، وأباح غير المسفوح كجامد دم الطحال والكبد أشبههما. وحرم الميتة وأباح الذكية، وأباح أيضا ميتة البحر وغير البحر كالجراد وشبهه. وحرم الربا وأباح البيع. وحرم بيع ما ليس عندك وأباح الصلح. وحرم السفاح وأباح النكاح. وحرم الخنزير وأباح الجدي الرضيع والخروف والحوار. والحلال في كل ذلك أعظم موقعا من الحرام.
فصل منه : ولعل قائلا يقول: أهل مدينة الرسول
صلى الله عليه وسلم
وسكان حرمه ودار هجرته أبصر بالحلال والحرام والمسكر والخمر وما أباح الرسول وما حظره، وكيف لا يكونون كذلك والدين ومعالمه من عندهم خرج إلى الناس، والوحي عليهم نزل، والنبي
صلى الله عليه وسلم
فيهم دفن، وهم المهاجرون السابقون والأنصار المؤثرون على أنفسهم، وكلهم مجمع على تحريم الأنبذة المسكرة وأنها كالخمر ، وخلفهم على منهاج سلفهم إلى هذه الغاية حتى إنهم جلدوا على الريح الخفي، وكيف لا يفعلون ذلك ويدينون به وقد شهدوا من شهد النبي
صلى الله عليه وسلم
قد حرمها وذمها وأمر بجلد شاربها، ثم كذلك فعل أئمة الهدى من بعده، فهم - إلى اليوم - على رأي واحد وأمر متفق، ينهون عن شربها ويجلدون عليها! وإنا نقول في ذلك: إن عظم حق البلدة لا يحل شيئا ولا يحرمه، وإنما يعرف الحلال والحرام بالكتاب الناطق والسنة المجمع عليها والنقول الصحيحة والمقاييس المعينة، وبعد فمن هذا المهاجري والأنصاري الذي رووا عنه تحريم الأنبذة ثم لم يرو عنه التحليل؟! بل لو أنصف القائل لعلم أن الذين من أهل المدينة حرموا الأنبذة ليسوا بأفضل من الذين أحلوا النكاح في أدبار النساء، كما استحل قوم من أهل مكة عارية الفروج وحرم بعضهم ذبائح الزنوج؛ لأنهم - فيما زعموا - مشوهو الخلق، ثم حكموا بالشاهد واليمين خلافا لظاهر التنزيل. وأهل المدينة وإن كانوا جلدوا على الريح الخفي فقد جلدوا على حمل الزق الفارغ؛ لأنهم زعموا أنه آلة الخمر، حتى قال بعض من ينكر عليهم: فهلا جلدوا أنفسهم لأنه ليس منهم إلا ومعه آلة الزنا! وكان يجب على هذا المثال أن يحكم بمثل ذلك على حامل السيف والسكين والسم القاتل في نظائر ذلك؛ لأن هذه كلها آلات القتل ...؟!
وبعد، فأهل المدينة لم يخرجوا من طبائع الإنس إلى طبع الملائكة، ولو كان كل ما يقولونه حقا وصوابا لجلدوا من كان في دار معبد والغريض وابن سريج ودحمان وابن محرز وعلوية وابن جامع مخارق، وابن شريك ووكيع وحماد وإبراهيم وجماعة التابعين والسلف المتقدمين؛ لأن هؤلاء - فيما زعموا - كانوا يشربون الأنبذة التي هي عندهم خمر، وأولئك كانوا يعالجون الأغاني التي هي حل طلق على نقر العيدان والطنابير والنايات والصنج والزيج والمعازف التي ليست محرمة ولا منهيا عن شيء منها، ولو كان ما خالفونا فيه من تحليل الأنبذة وتحريمها كالاختلاف في الأواني وصفاتها وأوزانها واختلاف مخارجها ووجوه مصارفها ومجاريها وما يدمج ويوصل منها للحنجرة والحنك والنفس واللهوات وتحت اللسان من نغمها، وأي الدساتين أطرب وأيها أصوب وما يحفز بالهمز أو يحرك بالضم، وكالقول بأن الهزج بالبنصر أطيب والسريع بالوسطى على الزير ألذ، وعلى المثنى والمصعد في لين أطرب أم المحدر في الشدة، لسهل ذلك ولسلمنا علمه لمن يدعيه ولم نجاذب من يدعي دوننا معرفته.
فصل منه : ولهج أصحاب الحديث بحكم لم أسمع بمثله في تزييف الرجال وتصحيح الأخبار، وإنما أكثروا في ذلك لتعلم حيدهم عن التفتيش وميلهم عن التنقير وانحرافهم عن الإنصاف.
فصل منه : والذي دعاني إلى وضع جميع هذه الأشربة والوقوف على أجناسها وبلدانها مخافة أن يقع هذا الكتاب عند بعض من عساه لا يعرف جميعها ولم يسمع بذكرها فيتوهم أني في ذكر أجناسهم المستشنعة وأنواعها المبتدعة كالهاذي برقية العقرب، وإن كان قصدي لذكرها في صدر الكتاب لأقف على حلالها وحرامها وكيف اختلفت الأمة فيها وما سبب اعتراض الشك واستكمان الشبهة، ولأن أحتج للمباح وأعطيه حقه، وأكشف أيضا عن المحظور فأقسم له قسطه، فأكون قد سلكت بالحرام سبيله وبالحلال منهجه اقتداء مني بقول الله عز وجل:
يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين .
وقد كتبت لك - أكرمك الله تعالى - في هذا الكتاب ما فيه الجزاية والكفاية، ولو بسطت القول لوجدته متسعا ولأتاك منه الدهم، وربما كان الإقلال في إيجاز أجدى من إكثار يخاف عليه الملل، فخلطت لك جدا بهزل وقرنت لك حجة بملحة، لتخف مؤنة الكتاب على القارئ وليزيد ذلك في نشاط المستمع، فجعلت الهزل بعد الجد جماما، والملحة بعد الحجة مستراحا.
من رسالته في مدح النبيذ
كتبها إلى الحسن بن وهب
قال أبو عثمان:
أنا - أبقاك الله - الطالب المشغول والقائل المعذور، فإن رأيت خطأ فلا تنكر، فإني بصدده وبعرض منه، بل في الحال التي توجبه والسبب الذي يؤدي إليه، وإن سمعت تسديدا فهو الغريب الذي لا تجده اللهم إلا أن يكون من بركة مكاتبتك ويمن مطالبتك، ولأن ذكرك يشحذ الذهن ويصورك في الوهم ويجلو العقل، وتأميلك ينفي الشغل. ولا يعجبني ما رأيت من قلة إطنابك في هذا النبيذ وقلة تلهيك بهذا الشراب. وأنت تجد من فضل القول وحسن الوصف ما لا يصاب عند خطيب ولا يوجد عند بليغ. وأنت ولو مشيت الخيلاء وحفرت العظماء وأرغبت الشعراء وأعطيت الخطباء ليكون القول منهم موصولا غير مقطوع، ومبسوطا غير مقصور، لكنت - بعد - مقصرا في أمره مفرطا في واجب حقه، فلا تأديب الله قبلت ولا قول الناصح سمعت. سمعت قول الله تبارك وتعالى:
وأما بنعمة ربك فحدث ، وقال الأول: «استدم النعمة بإظهارها واستزد المواهب بإدامة شكرها.» بل كيف أنست بالجلساء وأرسلت إلى الأطباء ولم يكن في قربك ما يغنيك وفي النظر إليه ما يشفيك، ولم ملكت نفسك دون أن تهذي، ولم رأيت الوقار مروءة قبل أن تستخف، ولم كان الهذيان به هو الجد، والسخف هو المروءة، والتناقض هو الصحة؟ وإلا بأي شيء خصصت وبأي معنى أتيت، ولم لم تخلع فيه العذار ولم لم تخرج فيه عن كل مقدار، وأي شيء أجرب جلدك وأمات حالك وأضعف مسرتك وأوحش منك رفيقك إلا العقوبة المحضة وإلا الغضب والعقاب، وحرمك الثواب إلا التهاون في أمره وقلة الرعاية لحقه؟ وكيف صارت أمراضي أمراض الأغنياء وأمراضك أمراض الفقراء إلا لمعرفتي بفضله واستخفافك بقدره؟ ألا ترى أني منقرس مفلوج وأنت أجرب مبثور، فإن تبت فما أقرب الفرج وأسرع الإجابة. وسنفرغ لك إن شاء الله قريبا وتفلح سريعا، وإن أصررت وتتايعت وتماديت أتاك - والله - من سفلة الأدواء وزوي عنك من علية الأمراض ما يضعك موضعا لا ارتفاع معه، ويلزق بعقبك عارا لا زوال له، ثم تتبع أشياخك السبة وتتبعهم المذمة. علم الله أنه استطرفك واستملحك واستحسن قدك واسترجح عقلك وأحسن بك ظنا ورآك لنفسه أهلا ولاتخاذه موضعا وللأنس به مكانا، وأنت لاه عنه زار عليه متهاون به، قد أقبلت على ديوانك تشتغل بملازمته وتدع ما يجب عليك من صفاته والدعاء إلى تعظيمه، بل هل كنت من شيعته والذابين عن دولته والمعروفين بالانقطاع إليه والانبتات في حبله إلا أن يكون عندك التقصير لحقه والتهاون بأمره اللازم ونهي الناس عنه، ولو خرجت إلى هذا لخرجت من جميع الأخلاق المحمودة والأفعال المرضية. وأحسب أنك لا تعظمه ولا ترق له، ولو لم تتعصب إلا لجماله وحسنه ولو لم تحافظ على نقائه وعتقه لكان ذلك واجبا وأمرا معروفا، فكيف مع المناسبة التي بينكما والشكل الذي يجمعكما، إن كان بعضك لا يصون بعضا وأنت لا تعظم شقيقا، فأنت - والله - من حفظ العشيرة أبعد ولمعرفة الصديق أنكر. ولقد نعيت إلى لبك وأثكلتني حفاظك وأفسدت عندي كل صحيح، وقد كان يقال: «لا يزال الناس بخير ما تعجبوا من العجب.» قال الشاعر:
وهلك الفتى ألا يراح إلى الندى
وألا يرى شيئا عجيبا فيعجبا
وقال بكر بن عبد الله المزني: «كنا نتعجب من دهر لا يتعجب أهله من العجب، فقد صرنا في دهر لا يستحسن أهله الحسن، ومن لم يستحسن الحسن لم يستقبح القبيح.» وقال بعضهم: «العجب ترك التعجب من العجب.» ولم أقل ذلك إلا لأن تكون به ضنينا وبما يجب له عارفا، ولكنك لم توفر حقه ولم تعرف نصيبه، فإن قلت: ومن يقضي واجب حقه وينتهض بجميع شكره؟ قلنا: فهل أعذرت في الاجتهاد حتى لا يذم إلا تعجبك؟ وهل استغرقت الاعتذار حتى لا تعاب إلا بما زاد على قوتك! ولولا أنك عين الجود لم نطلبه منك، ولولا ظنك لم نحمدك عليه، ولولا معرفتك بفضله لم نعجب من تقصيرك في حقه، ولولا أن الخطأ فيك أقبح والقبيح منك أسمج وهو فيك أبين والناس فيه أكلف والعيون إليه أسرع لكان كتابنا كتاب مطالبة، ولم يكن كتاب معاتبة، ولشغلنا الحلم لك عن الحلم عليك، والقول لك عن القول فيك. وقد كنت أهابك بفضل هيبتي لك، وأجترئ عليك بفضل بسطك لي، فمنعني حرص الممنوع وخوف المشفق وأمن الواثق وقناعة الراضي.
وبعد، فمن طلب ما لا يجاد به وسأل ما لا يوهب مثله ممن يجود بكل ثمين ويهب كل خطير، فواجب أن يكون من الرد مشفقا وبالنجح موقنا. وإن كان - أبقاه الله - أهلا لأن يمنع، وكنت - حفظك الله - أهلا لأن تبذل، وجب أن يكون باذلا مانعا وساكنا مطمئنا، إلا أن يكون الحرب سجالا والحالات دولا. ولهذه الخصال ما وقع الطلب وشاع الطمع. فإن منعت فعذرك مبسوط عند من عرف قدرك، وإن بذلت فلم تعد الذي أنت أهله عند من عرف قدرك، إلا أنه لا يجود بمثله إلا غني عن جميع الناس أو عاقل فوق جميع الناس. وكيف لا أطلب طلب الجريء المتهور وأمسك إمساك الهائب الموقر وليس في الأرض خلق يغتفر في وصفه المحال غيره، ولا يستحسن الهذيان سواه! على أن من الهذيان ما يكون مفهوما، ومن المحال ما يكون مسموعا، فمن جهل ذلك ولم يعرفه وقصر ولم يبلغه فليسمع كلام اللهفان والثكلان والغضبان والغيران ومرقصة الصبيان والمنعظ إذا دنا منه الحلقى حتى إذا استوهبك لم تهب له منه حتى تقف له وقفة وتطرقه ساعة، ثم تستحسن وتستشير، ثم تشفق على مستوهبه وتعجب من شاربه، ثم تطيل الكتاب بالامتنان وتسطر فيه بتعظيم الإنعام، مع ذكر مناقبه ونشر محاسنه بقدر الطاقة، وإن لم تبلغ الغاية، فاعرف وزنه وأشد بطيبه وأرخ ساعته وأشهد في الناس يومه. وما ظنك بشيء لا تقدر أن تسرد في ذكره وتفرط في مدحه وتقصيرك واضح في كونه مكتوبا في طعمه موجودا في رائحته؛ إذ كان كل ممدوح يقصر عن مدحه وقدره ويصغر في جنبه، ولو لم يستدل على سعادة جدك وإقبال أمرك وأن لك زي صدق في المعلوم وحظا في الرزق المقسوم، وأنك ممن تبقى نعمه ويدوم شكره ويفهم النعمة ويربيها ويدرأ عنها ويستديمها، إلا أنه إن وقع في قسمك وكان في نصيبك لكان ذلك أعظم البرهان وأوضح الدلالة، بل لا نقول إنه وقع اتفاقا وغرسا نادرا حتى يكون التوفيق هو الذي قصد به والصنع هو الذي دل عليه، ولو لم تملك غيره لكنت غنيا، ولو ملكت كل شيء سواه لكنت فقيرا. وكيف لا يكون كذلك وهو مستراح قلبك، ومجال عقلك، ومرتع عينك، وموضع أنسك، ومستنبط لذتك، وينبوع سرورك، ومصباحك في الظلام، وشعارك من جميع الأقسام. وكيف وقد جمع أبهة الجلال، ورشاقة الخلال، ووقار البهاء، وشرف الخير، وعز المجاهدة، ولذة الاختلاس، وحلاوة الدبيب ...؟!
وسأصف لك شرف النبيذ في نفسه وفضيلته على غيره، ثم أصف فضل شرابك على سائر الأشربة، كما أصف فضل النبيذ على سائر الأنبذة؛ لأن النبيذ إذا تمشى في عظامك والتبس بأجزائك ودب في جنانك منحك صدق الحس وفراغ النفس وجعلك رخي البال خلي الذرع قليل الشواغل قرير العين واسع الصدر فسيح الهم حسن الظن، ثم سد عليك أبواب التهم وحسن دونك الظن وخواطر الفهم، وكفاك مؤنة الحراسة وألم الشفقة وخوف الحدثان وذل الطمع وكد الطلب وكل ما اعترض على السرور وأفسد اللذة وقاسم الشهوة وأخل بالنعمة. وهو الذي يرد الشيوخ في طبائع الشبان ويرد الشبان في نشاط الصبيان، وليس يخاف شاربه إلا مجاوزة السرور إلى الأشر ومجاوزة الأشر إلى البطر، ولو لم يكن من أياديه ومنته ومن جميل آلائه ونعمه إلا أنك ما دمت تمزجه بروحك وتزاوج بينه وبين دمك فقد أعفاك من الجد ونصبه، وحسن إليك المزاح والفكاهة، وبغض إليك الاستقصاء والمحاولة، وأزال عنك تعقد الحشمة وكد المروءة، وصار يومه جمالا لأيام الفكرة وتسهيلا لمعاودة الروية، لكان في ذلك ما يوجب الشكر ويطيب الذكر. مع أن جميع ما وصفناه وأخبرنا به عنه يقوم بأيسر الجرم وأقل الثمن. ثم يعطيك في السفر ما يعطيك في الحضر، وسواء عليك البساتين والجنان، ويصلح بالليل كما يصلح بالنهار، ويطيب في الصحو كما يطيب في الدجن، ويلذ في الصيف كما يلذ في الشتاء، ويجري مع كل حال، وكل شيء سواه فإنما يصلح في بعض الأحوال. ويدفع مضرة الخمار كما يجلب منفعة السرور. إن كنت جذلا كان بارا بك، وإن كنت ذا هم نفاه عنك. وما الغيث في الحرث بأنفع منه في البدن، وما الريش السجام بأدفأ منه للمقرور. ويستمرأ به الغذاء، ويدفع به ثقل الماء، ويعالج به الأدواء، ويحمر به الوجنتان، ويعدل به قضاء الدين . إن انفردت به ألهاك، وإن نادمت به ساواك. ثم هو أصنع للسرور من زلزل، وأشد إطرابا من مخارق، وقدر احتياجهما إليه كقدر استغنائه عنهما؛ لأنه أصل اللذات وهما فرعه، وهو أول السرور ونتاجه، ولله در أول من عمله وصنعه، وسقيا لمن استنبطه وأظهره، ماذا دبر وعلى أي شيء دل وبأي معنى أنعم وأي دفين أثار وأي كنز استخرج؟! ومن استغناء النبيذ بنفسه وقلة احتياجه إلى غيره أن جميع ما ساواه من الشراب يصلحه الثلج ولا يطيب إلا به، وأول ما نثني عليه به ونذكر منه أنه كريم الجوهر، شريف النفس، رفيع القدر، بعيد الهم. وكذلك طبيعته المعروفة، وسجيته الموصوفة، وأنه يسر النفوس، ويحبب إليها الجود، ويزين لها الإحسان، ويرغبها في التوسع ويورثها الغنى وينفي عنها الفقر، ويملؤها عزا، ويعدها خيرا، ويحسن المسارة، ويصير به البيت خصبا، والجناب مريعا ومأهولا مغشيا، وليس شيء من المأكول والمشروب أجمع للظرفاء ولا أشد تألفا للأدباء ولا أجلب للمؤنسين ولا أدعى إلى خلاف الممتنعين ولا أجدر أن يستدام به حديثهم ويخرج مكنونهم ويطول به مجلسهم منه، وأن كل شراب وإن كان حلا ورق وصفا ودق وطاب وعذب وبرد ونفح فإن استطابتك لأول جرعة منه كثير ويكون من طبائعك أوقع، ثم لا يزال في نقصان إلا أن يعود مكروها وبلية إلا النبيذ، فإن القدح الثاني أسهل من الأول، والثالث أيسر، والرابع ألذ، والخامس أسلس، والسادس أطرب، إلى أن يسلمك إلى النوم الذي هو حياتك أو حد أقواتك. ولا خير فيه إذا كان إسكاره تغلبا، وأخذه بالرأس تعسفا، حتى يميت الحس بحدته، ويصرع الشارب بسورته، ويورث البهر بكظته، ولا يسري في العروق لغلظته، ولا يجري في البدن لركوده، ولا يدخل في العمق ولا يدخل في الصميم. ولا والله حتى يغازل العقل ويعارضه، ويداعبه ويخادعه، فيسره ثم يهره، فإذا امتلأ سرورا وعاد ملكا محبورا خاتله السكر وراوغه، وداراه وماكره، وهازله وغانجه. وليس كما يغتصب السكر ويعتسف الذاذي ويفترس الزبيب، ولكن بالتفتير والغمز والحيلة والختل وتحبيب النوم وتزيين الصمت . وهذه صفة شرابك إلا ما لا نحيط به من نعوته بتبذل إلا ما يقبح منها الجهل به. وخير الأشربة ما جمع المحمود من خصالها وخصال غيرها. وشرابك هذا قد أخذ من الخمر دبيبها في المفاصل وتمشيها في العظام ولونها الغريب، وأخذ برد الماء ورقة الهواء، وحركة النار وحمرة خدك إذا خجلت، وصفرة لونك إذا فزعت، وبياض عارضيك إذا ضحكت. وحسبي بصفاتك عوضا من كل حسن، وخلفا من كل صالح. ولا تعجب إن كنت نهاية الهمة وغاية الأمنية، فإن حسن الوجه إذا وافق حسن القوام، وشدة العقل، وجودة الرأي، وكثرة الفضل، وسعة الخلق، والمغرس الطيب، والنصاب الكريم، والطرف الناصع، واللسان المفحم، والمخرج السهل، والحديث المونق، مع الإشارة الحسنة، والنبل في الجلسة، والحركة الرشيقة، واللهجة الفصيحة، والتمهل في المحاورة، والهذ عند المناقلة، والبدية البديع، والفكر الصحيح، والمعنى الشريف، واللفظ المحذوف، والإيجاز يوم الإيجاز، والإطناب يوم الإطناب، يفل الحز ويصيب المفصل، ويبلغ بالعفو ما يقصر عنه الجهد، كان أكثر لتضاعف الحسن وأحق بالكمال والحمد. وإن التاج بهي وهو في رأس الملوك أبهى، والياقوت الكريم حسن وهو في جيد المرأة الحسناء أحسن، والشعر الفاخر حسن وهو من الأعرابي أحسن، فإن كان من قول المنشد وقريضه ومن نحته وتحبيره فقد بلغ الغاية وقام على النهاية.
وهذا الشراب حسن وهو عندك أحسن، والهدية منه شريفة وهي منك أشرف. وإن كنت قدرت أني إنما طلبته منك لأشربه أو لأسقيه أو لأهبه أو لأتحساه في الخلا أو أديره في الملا أو لأنافس فيه الأكفاء وأختبر زيادة الخلطاء أو لأبتذله لعيون الندماء أو أعرضه لنوائب الأصدقاء، فقد أسأت بي الظن وذهبت من الإساءة بي في كل فن، وقصرت به فهو أشد عليك، ووضعت منه فهو أضر بك. وإن ظننت أني إنما أريده لأطرف به معشوقة أو لأستميل به هوى ملك أو لأغسل به وضر الأفئدة أو أودي به خطايا الأشربة أو لأجلو به الأبصار العليلة أو أصلح به الأبدان الفاسدة أو لأتطول به على شاعر مفلق أو خطيب مصقع أو أديب مدقع، ليفتق لهم المعاني وليخرج المذاهب، ولما في جانبهم من الأجر وفي أعناقهم من الشكر، ولينقضوا ما قالت الشعراء في الحمد، وليرتجعوا ما شاع لهم من الذكر، فإني أريد أن أضع من قدرها وأن أكسر من بالها، فقد تاهت وتيه بها. أو لأن أتفاءل برؤيته وأتبرك بمكانه وآنس بقربه، أو لأشفي به الظمآن أو أجعله إكسير أصحاب الكيمياء، أو لأن أذكرك كلما رأيته وأداعبك كلما قابلته، أو لأجتلب به اليسر وأنفي العسر، أو لأنه والفقر لا يجتمعان في دار ولا يقيمان في ربع، ولأتعرف به حسن اختيارك وأتذكر به جودة اجتبائك، أو لأن أستدل به على خالص حبك وعلى معرفتك بفضلي وقيامك بواجب حقي، فقد أحسنت بي الظن وذكرت من الإحسان في كل فن. بل هو الذي أصونه صيانة الأعراض وأغار عليه غيرة الأزواج. واعلم أنك إن أكثرت لي منه خرجت إلى الفساد، وإن أقللت أقمت على الاقتصاد، وأنا رجل من بني كنانة وللخلافة قرابة ولي فيها شفعة وهم - بعد - جنس وعصبة، فأقل ما أصنع إن أكثرت لي منه أن أطلب الملك، وأقل ما يصنعون بي أن أنفى من الأرض، فإن أقللت فإنك الولد الناصح، وأن أكثرت فإنك الغاش الكاشح. والسلام.
من رسالته في بني أمية
قال أبو عثمان:
أطال الله بقاءك، وأتم نعمته عليك وكرامته لك. اعلم - أرشد الله أمرك - أن هذه الأمة قد صارت بعد إسلامها والخروج من جاهليتها إلى طبقات متفاوتة، ومنازل مختلفة:
فالطبقة الأولى: عصر النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وست سنين من خلافة عثمان رضي الله عنه. كانوا على التوحيد الصحيح والإخلاص المحض، مع الألفة واجتماع الكلمة على الكتاب والسنة، وليس هناك عمل قبيح، ولا بدعة فاشية، ولا نزع يد من طاعة، ولا حسد ولا غل ولا تأول. حتى كان الذي كان من قتل عثمان رضي الله عنه وما انتهك منه ومن خبطهم إياه بالسلاح وبعج بطنه بالحراب وفري أوداجه بالمشاقص وشدخ هامته بالعمد، مع كفه البسط ونهيه عن الامتناع، مع تعريفه لهم قبل ذلك من كم وجه يجوز قتل من شهد الشهادة وصلى للقبلة وأكل الذبيحة، ومع ضرب نسائه بحضرته وإقحام الرجال على حرمته، مع اتقاء نائلة بنت الفرافصة عنه بيدها حتى أطنوا إصبعين من أصابعها، وقد كشفت عن قناعها ورفعت عن ذيلها ليكون ذلك رادعا لهم وكاسرا من غربهم، مع وطئهم في أضلاعه بعد موته وإلقائهم على المزبلة جسده مجردا بعد سحبه. وهي الجزيرة التي جعلها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كفأ لبناته وأياماه وعقائله، بعد السب والتعطيش والحصر الشديد والمنع من القوت، مع احتجاجه عليهم وإفحامه لهم. ومع اجتماعهم على أن دم الفاسق حرام كدم المؤمن إلا من ارتد بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قتل مؤمنا على عمد، أو رجل عدا على الناس بسيفه فكان في امتناعهم منه عطبه. ومع اجتماعهم على ألا يقتل من هذه الأمة ولا يجهز منها على جريح. ثم مع ذلك كله ذمروا عليه وعلى أزواجه وحرمه وهو جالس في محرابه ومصحفه يلوح في حجره لا يرى أن موحدا يقدم على قتل من كان في مثل صفته وحاله.
لا جرم لقد احتلبوا به دما لا تطير رغوته ولا تسكن فورته ولا يموت ثائره ولا يكل طالبه، وكيف يضيع الله دم وليه والمنتقم له؟ وما سمعنا بدم بعد دم يحيى بن زكريا عليهما السلام غلا غليانه وقتل سافحه وأدرك بطائلته وبلغ كل محبته كدمه رحمة الله عليه.
ولقد كان لهم في أخذه وفي إقامته للناس والاقتصاص منه وفي بيع ما ظهر من رباعه وحدائقه وسائر أمواله وفي حبسه بما بقي عليه وفي طمره حتى لا يحس بذكره ما يغنيهم عن قتله إن كان قد ركب كل ما قذفوه به وادعوه عليه، وهذا كله بحضرة جلة المهاجرين والسلف المقدمين والأنصار والتابعين.
ولكن الناس كانوا على طبقات مختلفة ومراتب متباينة: فمن قاتل، ومن شاد على عضده، ومن خاذل عن نصرته، والعاجز ناصر بإرادته ومضيع بحسن نيته، وإنما الشك منا فيه وفي خاذليه ومن أراد عزله والاستبدال به. فأما قاتله والمعين على دمه والمريد لذلك منه، فضلال لا شك فيهم، ومراق لا امتراء في حكمهم. على أن هذا لم يعد منهم الفجور: إما على سوء تأويل، وإما على تعمد للشقاء. ثم ما زالت الفتن متصلة والحروب مترادفة، كحرب الجمل وكوقائع صفين وكيوم النهروان، وقبل ذلك يوم الزابوقة، وفيه أسر ابن حنيف وقتل حكيم بن جبلة، إلى أن قتل أشقاها
1
علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فأسعده الله بالشهادة وأوجب لقاتله النار واللعنة. إلى أن كان من اعتزال الحسن رضي الله عنه الحرب وتخليته الأمور عند انتثار أصحابه وما رأى من الخلل في عسكره وما عرف من اختلافهم على أبيه وكثرة تلونهم عليه. فعندها استوى معاوية على الملك واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة المسلمين من الأنصار والمهاجرين في العام الذي سموه «عام الجماعة»، وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة، والعام الذي تحولت فيه الإمامة ملكا كسرويا والخلافة منصبا قيصريا، ولم يعد ذلك أجمع الضلال والفسق. ثم ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا وعلى منازل ما رتبنا حتى رد قضية رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ردا مكشوفا وجحد حكمه جحدا ظاهرا في ولد الفراش وما يجب للعاهر، مع إجماع الأمة على أن سمية لم تكن لأبي سفيان فراشا، وأنه إنما كان بها عاهرا، فخرج بذلك من حكم الفجار إلى حكم الكفار.
وليس قتل حجر بن عدي، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر، وبيعة يزيد الخليع، والاستئثار بالفيء، واختيار الولاة على الهوى، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة، من جنس جحد الأحكام المنصوصة والشرائع المشهورة والسنن المنصوبة. وسواء في باب ما يستحق من الكفار جحد الكتاب ورد السنة إذا كانت السنة في شهرة الكتاب وظهوره، إلا أن أحدهما أعظم وعقاب الآخرة عليه أشد.
فهذه أول كفرة كانت من الأمة، ثم لم تكن إلا فيمن يدعي إمامتها والخلافة عليها. على أن كثيرا من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره. وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا فقالت: لا تسبوه فإن له صحبة، وسب معاوية بدعة، ومن يبغضه فقد خالف السنة. فزعمت أن من السنة ترك البراءة ممن جحد السنة!
ثم الذي كان من يزيد ابنه ومن عماله وأهل نصرته، ثم غزو مكة ورمي الكعبة واستباحة المدينة، وقتل الحسين رضي الله عنه في أكثر أهل بيته مصابيح الظلام وأوتاد الإسلام، بعد الذي أعطى من نفسه ومن تفريق أتباعه والرجوع إلى داره وحرمه أو الذهاب في الأرض حتى لا يحس به أو المقام حيث أمر به، فأبوا إلا قتله والنزول على حكمهم. وسواء قتل نفسه بيده أو أسلمها إلى عدوه وخير فيها من لا يبرد غليله إلا بشرب دمه. فاحسبوا قتله ليس بكفر، وإباحة المدينة وهتك الحرمة ليس بجحد، كيف تقولون في رمي الكعبة وهدم البيت الحرام وقبلة المسلمين؟ فإن قلتم ليس ذلك أرادوا بل إنما أرادوا المتحرز به والمتحصن بحيطانه! أفما كان في حق البيت وحريمه أن يحصروه فيه إلى أن يعطي بيده! وأي شيء بقي من رجل قد أخذت عليه الأرض إلا موضع قدمه! واحسبوا ما رووا عليه من الأشعار التي قولها شرك والتمثل بها كفر شيئا مصنوعا، كيف نصنع بنقر القضيب بين ثنيتي الحسين رضي الله عنه! وحمل بنات رسول الله
صلى الله عليه وسلم
حواسر على الأقتاب العارية والإبل الصعاب، والكشف عن عورة علي بن الحسين عند الشك في بلوغه على أنهم إن وجدوه وقد أنبت قتلوه وإن لم يكن أنبت حملوه، كما يصنع أمير جيش المسلمين بذراري المشركين؟! وكيف تقولون في قول عبيد الله بن زياد لإخوته وخاصته: دعوني أقتله فإنه بقية هذا النسل فأحسم به هذا القرن وأميت به هذا الداء وأقطع به هذه المادة ...؟!
خبرونا: علام تدل هذه القسوة وهذه الغلظة بعد أن شفوا أنفسهم بقتلهم ونالوا ما أحبوا فيهم؟ أتدل على نصب وسوء رأي وحقد وبغضاء ونفاق، وعلى يقين مدخول وإيمان مخروج! أم تدل على الإخلاص وعلى حب النبي
صلى الله عليه وسلم
والحفظ له وعلى براءة الساحة وصحة السريرة! فإن كان على ما وصفنا لا يعدو الفسق والضلال، وذلك أدنى منازله. فالفاسق ملعون ومن نهى عن شتم الملعون فملعون.
وزعمت نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا أن سب ولاة السوء فتنة، ولعن الجورة بدعة، وإن كانوا يأخذون السمي بالسمي والولي بالولي والقريب بالقريب، وأخافوا الأولياء، وأمنوا الأعداء، وحكموا بالشفاعة والهوى، وإظهار القدرة والتهاون بالأمة، والقمع للرعية، والتهم في غير مداراة ولا تقية، وإن عدا ذلك إلى الكفر وجاوز الضلال إلى الجحد، فذاك أضل ممن كف عن شتمهم والبراءة منهم. على أنه ليس من استحق اسم الكفر بالقتل كمن استحقه برد السنة وهدم الكعبة، وليس من استحق اسم الكفر بذلك كمن شبه الله بخلقه، وليس من استحق الكفر بالتشبيه كمن استحقه بالتجوير. والنابتة في هذا الوجه أكفر من يزيد وأبيه وابن زياد وأبيه. ولو ثبت أيضا على يزيد أن تمثل بقول ابن الزبعرى:
ليت أشياخي ببدر شهدوا
جزع الخزرج من وقع الأسل
لاستطاروا واستهلوا فرحا
ثم قالوا يا يزيد لا تسل
قد قتلنا الغر من ساداتهم
وعدلناه ببدر فاعتدل
كان تجوير النابتي لربه وتشبيهه بخلقه أعظم من ذلك وأفظع. على أنهم مجمعون على أنه ملعون من قتل مؤمنا، متعمدا أو متأولا. فإذا كان القاتل سلطانا جائرا أو أميرا عاصيا لم يستحلوا سبه ولا خلعه ولا نفيه ولا عيبه، وإن أخاف الصلحاء وقتل الفقهاء وأجاع الفقير وظلم الضعيف وعطل الحدود والثغور وشرب الخمور وأظهر الفجور ...!
ثم ما زال الناس يتسكعون مرة ويداهنونهم مرة ويقاربونهم مرة ويشاركونهم مرة، إلا بقية ممن عصمه الله تعالى ذكره، حتى قام عبد الملك بن مروان وابنه الوليد وعاملهما الحجاج بن يوسف ومولاه يزيد بن أبي مسلم، فأعادوا على البيت بالهدم وعلى حرم المدينة بالغزو، فهدموا الكعبة، واستباحوا الحرمة، وحولوا قبلة واسط، وأخروا صلاة الجمعة إلى مغيربان الشمس. فإن قال رجل لأحدهم: اتق الله فقد أخرت الصلاة عن وقتها! قتله على هذا القول جهارا غير ختل، وعلانية غير سر. ولا يعلم القتل على ذلك إلا أقبح من إنكاره، فكيف يكفر العبد بشيء ولا يكفر بأعظم منه!
وقد كان بعض الصالحين ربما وعظ الجبابرة وخوفهم العواقب وأراهم أن في الناس بقية ينهون عن الفساد في الأرض، حتى قام عبد الملك بن مروان والحجاج بن يوسف فزجرا عن ذلك وعاقبا عليه وقتلا فيه، فصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه. فاحسب تحويل القبلة كان غلطا، وهدم البيت كان تأولا، واحسب ما رووا من كل وجه أنهم كانوا يزعمون أن خليفة المرء في أهله أرفع عنده من رسوله إليهم، باطلا ومسموعا مولدا! واحسب وسم أيدي المسلمين ونقش أيدي المسلمات وردهم بعد الهجرة إلى قراهم، وقتل الفقهاء وسب أئمة الهدى والنصب لعترة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، لا يكون كفرا! كيف تقول في جمع ثلاث صلوات فيهن الجمعة، ولا يصلون أولاهن حتى تصير الشمس على أعالي الجدران كالملاء المعصفر، فإن نطق مسلم خبط بالسيف وأخذته العمد وشك بالرماح؟! وإن قال قائل: اتق الله! أخذته العزة بالإثم، ثم لم يرض إلا بنثر دماغه على صدره وبصلبه حيث تراه عياله.
ومما يدل على أن القوم لم يكونوا إلا في طريق التمرد على الله عز وجل، والاستخفاف بالدين والتهاون بالمسلمين والابتذال لأهل الحق، أكل أمرائهم الطعام وشربهم الشراب على منابرهم أيام جمعهم وجموعهم. فعل ذلك حبيش بن دلجة، وطارق مولى عثمان، والحجاج بن يوسف، وغيرهم. وذلك إن كان كفرا كله فلم يبلغ كفر نابتة عصرنا وروافض دهرنا؛ لأن جنس كفر هؤلاء غير كفر أولئك.
كان اختلاف الناس في القدر على أن طائفة تقول: كل شيء بقضاء وقدر، وتقول طائفة أخرى: كل شيء بقضاء وقدر إلا المعاصي. ولم يكن أحد يقول: إن الله يعذب الأبناء ليغيظ الآباء، وإن الكفر والإيمان مخلوقان في الإنسان مثل العمى والبصر. وكانت طائفة منهم تقول: إن الله يرى. لا تزيد على ذلك. فإن خافت أن يظن بها التشبيه قالت: يرى بلا كيف. تقززا من التجسيم والتصوير. حتى نبتت هذه النابتة وتكلمت هذه الرافضة فقالت جسيما، وجعلت له صورة وحدا، وأكفرت من قال بالرؤية على غير التجسيم والتصوير. ثم زعم أكثرهم أن كلام الله حسن وبين وحجة وبرهان، وأن التوراة غير الزبور، والزبور غير الإنجيل، والإنجيل غير القرآن، والبقرة غير آل عمران، وأن الله تولى تأليفه وجعله برهانه على صدق رسوله، وأنه لو شاء أن يزيد فيه زاد، ولو شاء أن ينقص منه نقص، ولو شاء أن يبدله بدله، ولو شاء أن ينسخه كله بغيره نسخه، وأنه أنزله تنزيلا، وأنه فصله تفصيلا، وأنه بالله كان دون غيره، ولا يقدر عليه إلا هو، غير أن الله مع ذلك كله لم يخلقه. فأعطوا جميع صفات الخلق، ومنعوا اسم الخلق.
والعجب أن الخلق عند العرب إنما هو التقدير نفسه؛ فلذا قالوا: خلق كذا وكذا؛ ولذلك قال:
أحسن الخالقين ، وقال:
وتخلقون إفكا ، وقال:
وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ، قالوا: صنعه وقدره وأنزله وفصله وأحدثه، ومنعوا: خلقه. وليس تأويل خلقه أكثر من قدره. ولو قالوا بدل قولهم: قدره ولم يخلقه: خلقه ولم يقدره، ما كانت المسألة عليهم إلا من وجه واحد.
والعجب أن الذي منعه بزعمه أن يزعم أنه مخلوق، أنه لم يسمع ذلك من سلفه، وهو يعلم أنه ليس بمخلوق! وليس ذلك يهم، ولكن لما كان الكلام من الله تعالى عندهم على مثل خروج الصوت من الجوف وعلى جهة تقطيع الحروف وإعمال اللسان والشفتين، ولما كان على غير هذه الصورة والصفة فليس بكلام، ولما كنا عندهم على غير هذه الصفة، وكنا لكلامنا غير خالقين: وجب أن الله عز وجل لكلامه غير خالق؛ إذ كنا غير خالقين لكلامنا. فإنما قالوا ذلك لأنهم لم يجدوا بين كلامنا وكلامه فرقا، وإن لم يقروا بذلك بألسنتهم فذلك معناهم وقصدهم.
وقد كانت هذه الأمة لا تجاوز معاصيها الإثم والضلال، إلا ما حكيت لك عن بني أمية وبني مروان وعمالهم، ومن لم يدن بإكفارهم، حتى نجمت (هذه) النوابت وتابعتها هذه العوام. فصار الغالب على هذا القرن الكفر، وهو التشبيه والجبر. فصار كفرهم أعظم من كفر من مضى في الأعمال التي هي الفسق، (وكانوا) شركاء من كفر منهم بتوليهم وترك إكفارهم. قال الله عز وجل من قائل:
ومن يتولهم منكم فإنه منهم .
وأرجو أن يكون الله قد أغاث المحقين ورحمهم وقوى ضعفهم وكثر قلتهم حتى صار ولاة أمورنا في هذا الدهر الصعب والزمن الفاسد أشد استبصارا في التشبيه من عليتنا وأعلم بما يلزم فيه منا وأكشف للقناع من رؤسائنا، وصادفوا الناس وقد انتظموا معاني الفساد أجمع وبلغوا غايات البدع، ثم قرنوا بذلك العصبية التي هلك بها عالم بعد عالم، والحمية التي لا تبقي دينا إلا أفسدته، ولا دنيا إلا أهلكتها. وهو ما صارت إليه العجم من مذهب الشعوبية، وما قد صار إليه الموالي من الفخر على العجم والعرب. وقد نجمت من الموالي ناجمة ونبتت منهم نابتة تزعم أن المولى بولائه قد صار عربيا، لقول النبي
صلى الله عليه وسلم : «مولى القوم منهم.» ولقوله: «الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب».
قال: فقد علمنا أن العجم حين كان فيهم الملك والنبوة كانوا أشرف من العرب، ولما حول ذلك إلى العرب صارت العرب أشرف منهم.
قالوا: فنحن معاشر الموالي بقديمنا في العجم أشرف من العرب، وبالحديث الذي صار لنا في العب أشرف من العجم، وللعرب القديم دون الحديث، ولنا خصلتان وافرتان فينا جميعا، وصاحب الخصلتين أفضل من صاحب الخصلة. وقد جعل الله المولى بعد أن كان عجميا عربيا بولائه، كما جعل حليف قريش من العرب قرشيا بحلفه، وجعل إسماعيل بعد أن كان أعجميا عربيا. ولولا قول النبي
صلى الله عليه وسلم : «إن إسماعيل كان عربيا.» ما كان عندنا إلا أعجميا؛ لأن الأعجمي لا يصير عربيا كما أن العربي لا يصير أعجميا. فإنما علمنا أن إسماعيل صيره الله عربيا بعد أن كان أعجميا بقول النبي
صلى الله عليه وسلم ، فكذلك حكم قوله: مولى القوم منه، وقوله: الولاء لحمة.
قالوا: وقد جعل الله إبراهيم عليه السلام أبا لمن لم يلد، كما جعله أبا لمن ولد. وجعل أزواج النبي أمهات المؤمنين، ولم يلدن منهم أحدا. وجعل الجار والد من لم يلد. في قول غير هذا كثير قد أتينا عليه في موضعه.
وليس أدعى إلى الفساد ولا أجلب للشر من المفاخرة، وليس على ظهرها إلا فخور - إلا قليل - وأي شيء أغيظ من أن يكون عبدك يزعم أنه أشرف منك! وهو مقر بأنه صار شريفا بعتقك إياه؟
وقد كتبت - مد الله في عمرك - كتبا في مفاخرة قحطان وفي تفضيل عدنان، وفي رد الموالي إلى مكانهم في الفضل والنقص، وإلى قدر ما جعل الله تعالى لهم بالعرب من الشرف، وأرجو أن يكون عدلا بينهم وداعية إلى صلاحهم ومنبهة عليهم ولهم. وقد أردت أن أرسل بالجزء الأول إليك ثم رأيت ألا يكون إلا بعد استئذانك واستئمارك والانتهاء في ذلك إلى رغبتك، فرأيك فيه موفق إن شاء الله عز وجل وبه الثقة.
من كتابه في العباسية
قال أبو عثمان:
وقد زعم أناس أن الدليل على صدق خبرهما (يعني أبا بكر وعمر) في منع الميراث وبراءة ساحتهما، ترك أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
النكير عليهما ...! قد يقال لهم: لئن كان ترك النكير دليلا على صدقهما، إن ترك النكير على المتظلمين والمحتجين عليهما والمطالبين لهما دليل على صدق دعواهم أو استحسان مقالتهم، ولا سيما وقد طالت المناجاة وكثرت المراجعة والملاحاة، وظهرت الشكية واشتدت الموجدة. وقد بلغ ذلك من فاطمة أنها أوصت ألا يصلي عليها أبو بكر. ولقد كانت قالت له حين أتته مطالبة بحقها ومحتجة لرهطها: من يرثك يا أبا بكر إذا مت؟ قال: أهلي وولدي. قالت: فما بالنا لا نرث النبي
صلى الله عليه وسلم ؟! فلما منعها ميراثها وبخسها حقها واعتل عليها وجلح أمرها وعاينت التهضم وأيست في التورع ووجدت نشوة الضعف وقلة الناصر قالت: والله لأدعون الله عليك. قال: والله لأدعون الله لك. قالت: والله لا كلمتك أبدا. قال: والله لا أهجرك أبدا. فإن يكن ترك النكير على أبي بكر دليلا على صواب منعها، إن في ترك النكير على فاطمة دليلا على صواب طلبها؟ وأدنى ما كان يجب عليهم في ذلك تعريفها ما جهلت وتذكيرها ما نسيت وصرفها عن الخطأ، ورفع قدرها عن البذاء وأن تقول هجرا وتجور عادلا أو تقطع واصلا؟ فإذا لم نجدهم أنكروا على الخصمين جميعا فقد تكافأت الأمور واستوت الأسباب. والرجوع إلى أصل حكم الله في المواريث أولى بنا وبكم، وأوجب علينا وعليكم.
فإن قالوا: كيف تظن به ظلمها والتعدي عليها وكلما ازدادت عليه غلظة ازداد لها لينا ورقة، حيث تقول له: والله لا أكلمك أبدا، فيقول: والله لا أهجرك أبدا، ثم تقول: والله لأدعون الله عليك، فيقول: والله لأدعون الله لك. ثم يتحمل منها هذا الكلام الغليظ والقول الشديد في دار الخلافة وبحضرة قريش والصحابة مع حاجة الخلافة إلى البهاء والتنزيه وما يجب لها من الرفعة والهيبة، ثم لم يمنعه ذلك أن قال معتذرا متقربا كلام المعظم لحقها المكبر لمقامها الصائن لوجهها المتحنن عليها: ما أحد أعز علي منك فقرا ولا أحب إلي منك غنى! ولكن سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إنا - معاشر الأنبياء - لا نورث. ما تركناه فهو صدقة»؟
قيل لهم: ليس ذلك بدليل على البراءة من الظلم والسلامة من الجور، وقد يبلغ من مكر الظالم ودهاء الماكر إذا كان أريبا وللخصومة معتادا أن يظهر كلام المظلوم وذلة المنتصف وحدب الوامق ومقة المحق. وكيف جعلتم ترك النكير حجة قاطعة ودلالة واضحة وقد زعمتم أن عمر قال على منبره: متعتان كانتا على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، متعة النساء ومتعة الحج، أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما. فما وجدتم أحدا أنكر قوله ولا استشنع مخرج نهيه ولا خطأه في معناه ولا تعجب منه ولا استفهمه؟ وكيف تقضون بترك النكير، وقد شهد عمر يوم السقيفة وبعد ذلك أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «الأئمة من قريش.» ثم قال في شكاته: لو كان سالم حيا ما تخالجني فيه شك. حين أظهر الشك في استحقاق كل واحد من الستة الذين جعلهم شورى! وسالم عبد لامرأة من الأنصار وهي أعتقته وحازت ميراثه. ثم لم ينكر ذلك من قوله منكر ولا قابل إنسان بين قوله ولا تعجب منه! وإنما يكون ترك النكير على من لا رغبة ولا رهبة عنده دليلا على صدق قوله وصواب عمله، فأما ترك النكير على من يملك الضعة والرفعة والأمر والنهي والقتل والاستحياء والحبس والإطلاق فليس بحجة تشفي ولا دلالة تضيء.
وقال آخرون: بل الدليل على صدق قولهما وصواب عملهما إمساك الصحابة عن خلعهما والخروج عليهما، وهم الذين وثبوا على عثمان في أيسر من جحد التنزيل ورد النصوص، ولو كان كما تقولون وما تصفون ما كان سبيل الأمة فيهما إلا كسبيلها فيه، وعثمان كان أعز نفرا وأشرف رهطا وأكثر عددا وثروة وأقوى عدة؟
قلنا: إنهما لم يجحدا التنزيل ولم ينكرا النصوص، ولكنهما بعد إقرارهما بحكم الميراث وما عليه الظاهر من الشريعة، ادعيا رواية وتحدثا بحديث لم يكن محالا كونه ولا ممتنعا في حجج العقول مجيئه، وشهد لهما عليه من علته مثل علتهما فيه، ولعل بعضهم كان يرى تصديق الرجل إذ كان عدلا في رهطه مأمونا في ظاهره، ولم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة ولا جرب عليه غدرة، فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن وتعديل الشاهد، ولأنه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج والذي يقطع بشهادته على الغيب، وكان ذلك شبهة على أكثرهم؛ فلذلك قل النكير وتواكل الناس فاشتبه الأمر، فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلا العالم المتقدم، أو المؤيد المرشد. ولأنه لم يكن لعثمان في صدور العوام وقلوب السفلة والطغام ما كان لهما من المحبة والهيبة. ولأنهما كانا أقل استئثارا بالفيء وتفضلا بمال الله منه، ومن شأن الناس إهمال السلطان ما وفر عليهم أموالهم ولم يستأثر بخراجهم ولم يعطل ثغورهم. ولأن الذي صنع أبو بكر من منع العترة حقها والعمومة ميراثها قد كان موافقا لجلة قريش وكبراء العرب. ولأن عثمان أيضا كان مضعوفا في نفسه مستخفا بقدره لا يمنع ضيما ولا يقمع عدوا، ولقد وثب ناس على عثمان بالشتم والقذع والتشنيع والنكير لأمور لو أتى أضعافها وبلغ أقصاها لما اجترءوا على اغتيابه فضلا على مباداته والإغراء به ومواجهته، كما أغلظ عيينة بن حصن له فقال له: أما لو كان عمر لقمعك ومنعك! فقال عيينة: إن عمر كان خيرا لي منك، رهبني فاتقاني وأعطاني فأغناني.
والعجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه وخصومه ما هو أقرب إسنادا وأصح رجالا وأحسن اتصالا، حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبي
صلى الله عليه وسلم
نسخوا الكتاب وخصوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما ردوه وأكذبوا قائليه، وذلك أن كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه ويصدق ما وافق رضاه.
من رسائله الخاصة
كتب أبو عثمان إلى أبي الفرج الكاتب في المودة والخلطة:
أطال الله بقاءك، وأعزك وأكرمك، وأتم نعمه عليك.
زعم - أبقاك الله - كثير ممن يقرض الشعر ويروي معانيه، ويتكلف الأدب ويجتبيه، أنه قد يمدح المرجو المأمول والفتى المزور، بأن يكون مخدوعا، وعمي الطرف مغفلا، وسليم الصدر للراغبين، وحسن الظن بالطالبين، قليل الفطنة لأبواب الاعتذار، عاجزا عن التخلص إلى معاني الاعتلال، قليل الحذق برد الشفعاء، شديد الخوف من مياسم الشعراء، حصورا عند الاحتجاج للمنع، سلس القياد، إذا نبهته تنبه للبذل. واحتجوا بقول الشاعر:
إيت الخليفة فاخدعه بمسألة
إن الخليفة للسؤال ينخدع
فانتحال المأمول للغفلة التي تعتري الكرام، واختداع الجواد لخدع الطالبين ومخاريق المستميحين، باب من التكرم، ومن استدعاء الراغب، ومن التعرض للمجتدي، والتلطف لاستخراج الأموال، والاحتيال لحل عقد الأشحاء، وتهييج طبائع الكرام.
وأنا أزعم - أبقاك الله تعالى - أن إقرار المسئول بما ينحل من ذلك نوك وإضماره لؤم حتى تصح القسمة ويعتدل الوزن، وأنا أعوذ بالله من تذكير يناسب الاقتضاء، ومن اقتضاء يضارع الإلحاح، ومن حرص يقود إلى الحرمان، ومن رسالة ظاهرها زهد وباطنها رغبة، فإن أسقط الكلام وأوغده وأبعده عن السعادة وأنكده ما أظهر النزاهة وأضمر الحرص، وتجلى للعيون بعين القناعة واستشنع ذلة الافتقار، وأشنع من ذلك وأقبح منه وأفحش أن يظن صاحبه أن معناه خفي وهو ظاهر، وتأويله بعيد الغور وهو قريب القعر. فنسأل الله تعالى السلامة فإنها أصل النعمة عليكم، ونحمده على اتصال نعمتنا بنعمتكم وما ألهمنا الله تعالى من وصف محاسنكم. والحمد لله الذي جعل الحمد مستفتح كتابه وآخر دعوى أهل جنته. ولو أن رجلا اجتهد في عبادة ربه واستفرغ مجهوده في طاعة سيده ليهب له الإخلاص في الدعاء لمن أنعم عليه وأحسن إليه، لكان حريا بذلك أن يدرك أقصى غاية الكرم في العاجل، وأرفع درجات الكرامة في الآجل. وعلى أني لا أعرف معنى أجمع لخصال الشكر ولا أدل على جماع الفضل من سخاوة النفس بأداء الواجب. ونحن وإن لم نكن أعطينا الإخلاص جميع حقه، فإن المرء مع من أحب وله ما احتسب. ولا أعلم شيئا أزيد في السيئة من استصغارها، ولا أحبط للحسنة من العجب بها، ومما يستديم الخطأ التقصير وإهمال النفس وترك التوقف وقلة المحاسبة وبعد العهد بالتثبت. ومهما رجعنا إليه من ضعف في العزم وهان ما نفقد من مناقل الحكم، فإنا لا نجمع بين التقصير والإنكار. ونعوذ بالله أن نقصر في ثناء على محسن أو دعاء لمنعم، ولئن اعتذرنا لأنفسنا بصدق المودة وبجميل الذكر فما يعد لكم من تحقق الآمال والنهوض بالأثقال أكثر. على أنكم لم تحملونا إلا الخف، وقد حملناكم الثقل، ولم تسألونا الجزاء على إحسانكم، وقد سألناكم الجزاء على ما سألناكم، ولم تكلفونا ما يجب لكم، وكلفناكم ما لا يجب عليكم، ومن إفراط الجهل أن نتذكر حقنا في تصديق ذلك الظن. وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «ما عظمت نعمة الله على أحد إلا عظمت عليه مؤنة الناس.» وأنا أسأل الله الذي ألزمكم المؤن الثقال، ووصل بكم آمال الرجال، وامتحنكم بالصبر على تجرع المرار، وكلفكم مفارقة المحبوب من الأموال، أن يسهلها عليكم، ويحببها إليكم، حتى يكون شغفكم بالإحسان الداعي إليه، وصبابتكم بالمعروف الحامل عليه، وحتى يكون حب التفضل والمحبة لاعتقاد المنن، الغاية التي تستدعي المدبر، والنهاية التي تعذر المقصر، وحتى تكرهوا على البر من أخطأ حظه، وتفتحوا باب الطلب لمن قصر به العجز.
ثم اعلم - أصلحك الله تعالى - أن الذي وجد في العبرة وجرت عليه التجربة، واتسق به النظم، وقام عليه وزن الحكم، واطرد منه النسق، وأثبته الفحص، وشهدت له العقول، أن من أول أسباب الخلطة والدواعي إلى المحبة ما يوجد على بعض الناس من القبول عند أول وهلة، وقلة انقباض النفوس مع أول المخالطة، ثم اتفاق الأسباب التي تقع بالموافقة عند أول المجالسة، وتلاقي النفوس بالمشاكلة عند أول المخالطة. والأدب أدبان: أدب خلق وأدب رواية، ولا تكمل أمور صاحب الأدب إلا بهما، ولا يجتمع له أسباب التمام إلا من أجلهما، ولا يعد في الرؤساء، ولا يثنى به الخنصر في الأدباء، حتى يكون عقله المتأمر عليهما والسائس لهما. فإن تمت بعد ذلك أسباب الملاقاة تمت المصافاة وحن الإلف إلى سكنه. والشأن قبل ذلك ما يسبق إلى القلب ويخف على النفس. ولذلك احترس الحازم المستعدى عليه من السابق إلى قلب الحاكم عليه. ولذلك التمسوا الرفق والتوفيق يترك اللحن بحجته بعد أن تخلف الداهية كثيرا من أدبه ويغض من محاسن منطقه التماسا لمواساة خصمه في ضعف الحيلة والتشبه به في قلة الفطنة. نعم، ومتى يكتب كتاب سعاية ومحل وإغراق فيلحن في إعرابه، ويستخف في ألفاظه، ويتجنب القصد ويهرب من اللفظ المعجب ليخفي مكان حدته ويستر موضع رفقه، حتى لا يحترس منه الخصم ولا يتحفظ منه صاحب الحكم، بعد ألا يضر بعين معناه، ولا يقصر في الإفصاح عن تفسير مغزاه. وهذا هو الذي يكون العيي فيه أبين، وذو الغباوة أفطن، والرديء أجود، والأنوك أحزم، والمضيع أحكم؛ إذ كان غرضه الذي إياه يرمي وغايته التي إليها يجري الانتفاع بالمعنى المتخير دون المباهاة باللفظ، وإنما كان غايته إيصال المعنى إلى القلب دون نصيب السمع من اللفظ المونق والمعنى المتخير، بل ربما لم يرض باللفظ السليم حتى يسقمه ليقع العجز موقع القوة، ويعرض العي في محل البلاغة. إذ كان حق ذلك المكان اللفظ الدون والمعنى الغفل. هذا إذا كان صاحب القصة ومؤلف لفظ المحل والسعاية ممن يتصرف قلمه ويعمل لسانه ويلتزق في مذاهبه ويكون في سعة وحل لأن يحط نفسه في طبقة الذل وهو غزير، ومحل العي وهو بليغ، ويتحول في هيئة المظلوم وهو ظالم، ويمكنه تصوير الباطل في صورة الحق، وستر العيوب بزخرف القول. وإذا شاء طفا، وإذا شاء رسب، وإذا شاء أخرجه عقلا صحيحا. وما أكثر من لا يحسن إلا الجيد فإن طلب الرديء جاوزه، كما أنه ما أكثر من لا يستطيع إلا الرديء فإن طلب الجيد قصر عنه. وليس كل بليغ يكون بتلك الطباع، وميسر الأداة، وموسعا عليه في تصريف اللسان، وممنونا عليه في تحويل القلم. وما أكثر من البصراء من يحكي العميان ويحول لسانه إلى صورة لفظ الفأفاء بما لا يبلغه الفأفاء ولا يحسنه التمتام، وقد نجد من هو أبسط لسانا وأبلغ قلما لا يستطيع مجاوزة ما يشركه والخروج مما قصر عنه. ولولا الحدود المحصلة، والأقسام المعتدلة، لكانت الأمور سدى، والتدابير مهملة، ولكانت عورة الحكم بادية، ولاختلطت السافلة بالعالية.
وأنا أقول بعد هذا كله: لو لم أضمر لكم محبة قديمة، ولم أضربكم بشفيع من المشاكلة، ولا بسبب الأديب إلى الأديب، ولم يكن علي قبول ولا علي حلاوة عند المحصول، ولم أكن إلا رجلا من عرض المعارف ومن جمهور الأتباع، لكان في إحسانكم إلينا وإنعامكم علينا دليل على أنا أخلصنا المحبة وأصفينا لكم المودة. وإذا عرفتم ذلك بالدليل النير الذي أنتم سببه، والبرهان الواضح الذي إليكم مرجعه، لم يكن لنا عند الناس إلا توقع ثمرة الحب ونتيجة جميل الرأي، وانتظار ما عليه مجازاة القلوب. وبقدر الإنعام تجود النفوس بالمودة، وبقدر المودة تنطلق الألسن بالمدحة. وهذه الوسيلة أكثر الوسائل وأقواها في نفسي بمحرم غمر ولا بمتحل غفل، ولا بضيق العطن حديث الغنى، ولا بزمر المروءة مستنبط الثرى، بل وصلته بحمال أثقال، ومقارع أبطال، وبمن ولد في اليسر وربي فيه، وجرى منه على عرق ونزع إليه. ولا خير في سمين لا يحتمل هزال أخيه، وصحيح لا يجبر كسر صاحبه.
وقد تنقسم المودة إلى ثلاث منازل: منها ما يكون على اهتزاز الأريحية وطبع الحرية، ومنها ما يكون على قدر فرط وسائل الفاقة، ومنها ما يحسن موقعه على قدر طباع الحرص وجشع النفس. فأرفعها منازل حب المشغوف شكر النعمة، وهو الذي يدوم شكره ويبقى على الأيام وده. والثاني هو الذي إنما اشتد حبه على قدر موقع المال من قلب الحريص الجشع واللئيم الطبع، فهذا الذي لا يشكر وإن شكر لم يشكر إلا ليستزيد، ولم يمدح إلا ليستمد، وعلى أنه لا يأتي الحمد إلا زحفا ولا يفعله إلا تكلفا. وأنا أسأل الله الذي قسم له أفضل الحظوظ في الإنعام أن يقسم لنا أفضل الحظوظ في الشكر. وما غاية قولنا هذا ومدار أمرنا إلا على طاعة توجب الدعاء، وحرية توجب الثناء، شاكرين كنا أو منعمين، وراجين كنا أو مرجوين. ومن صرف الله حاجته إلى الكرام، وعدل به عن اللئام، فلا يعدن نفسه في الراغبين ولا في الطالبين المؤملين؛ لأن من يجرع مرارة المطال ولم يمد للراجي التسويف ويقطع عنقه بطول الانتظار ويحمل مكروه ذل السؤال ويحمل على طمع يحثه يأس، كان خارجا من حدود المؤملين. ومن استولى على طمعه الثقة بالإنجاز، وعلى طلبته اليقين بسرعة الظفر، وعلى ظفره الجزيل من الإفضال، وعلى إفضاله العلم بقلة التثريب وبالسلامة من التنغيص بالتماس الشكر وبالغدو وبالرواح، وبالخضوع إذا دخل، والاستكانة إذا جلس، ثم مع ذلك لم يكن ما أنعم عليه ثوابا لسالف يد، ولا تعويضا من كد، كانت النعمة محضة خالصة، ومهذبة صافية، وهي نعمتكم التي ابتدأتمونا بها. ولا تكون النعمة سابغة ولا الأيدي شاملة ولا الستر كثيفا ذيالا وكثير العرض مطبقا ودون الفقر حاجزا وعلى الغنى ملتحفا، حتى يخرج من عند كريم حر ثم يحتسب إلى شاكر حر. وأنتم قوم تقدمتم بابتناء المكارم في حال المهلة، وأخذتم لأنفسكم فيها بالثقة على مقادير ما مكنتم الأواخي ومددتم الأطناب وثبتم القواعد؛ ولذلك قال الأول:
عزمت على إقامة ذي صباح
لأمر ما يسود من يسود
وأبو الفرج - أعزه الله - فتى العسكرين، وأديب المصرين، جمع أريحية الشباب، ونجابة الكهول، ومجد السادة، وبهاء القادة، وأخلاق الأدباء، ورشاقة عقول الكتاب، والتغلغل إلى دقائق الصواب، والجلالة في الصدور، والمهابة في العيون، والتقدم في الصناعة، والسبق عند المحاورة. شقيق أبيه، وشبيه جده، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، لم يتأخر عنهما إلا فيما لا يجوز أن يتقدمهما فيه، ولم يقصر عن شأوهما إلا بقدر ما قصرا من سنخهما. وهم وإن قصروا عن مدى آبائهم وعن غايات أوائلهم فلم يقصروا عن جلة الرؤساء وأهل السوابق من الكبراء، ولست ترى تاليهم إلا سابقا، ولا مصليهم إلا للغاية مجاوزا، ليس فيهم سكيت ولا مبهور ولا منقطع. قد نقحت أعراقهم من الإقراف والهجنة، ومن الشوب ولؤم العجلة.
ومتى عاينت أبا الفرج وكماله، ورأيت ديباجته وجماله، علمت أنه لم يكن في ضرائبهم وقديم نجلهم خارجي النسب، ولا مجهول المركب، ولا بهيم مصمت ولا كثير الأوضاح مقرب، بل لا ترى إلا كل أغر محجل، وكل ضخم المخرج هيكل. إني لست أخبر عن الموتى، ولا أستشهد بالغيب، ولا أستدل بالمختلف فيه، ولا الغامض الذي تعظم المؤنة في تعرفه، والشاهد لقولي يلوح في وجوههم، والبرهان على دعواي في شمائلهم، والأخبار مستفيضة، والشهود متعاونة. وأنت حين ترى عتق تلك الديباجة، ورونق ذلك المنظر، علمت أن التالد هو قياد هذا الطارف. أما أنا فلم أر لأبي الفرج - أدام الله كرامته - ذاما ولا شانيا ولا عائبا ولا هاجيا. بل لم أجد مادحا قط إلا ومن سمع سابق إلى تلك المعاني، ولا رأيت واصفا له قط إلا وكل من حضر يهش له ويرتاح لقوله. قال الطرماح:
هل المجد إلا السؤدد العود والندى
ورب الجدى والصدق عند المواطن
ولكن هل المجد إلا كرم الأرومة والحسب، وبعد الهمة وكثرة الأدب، والثبات على العهد إذا زلت الأقدام، وتوكيد العقد إذا انحلت معاقد الكرم، وإلا التواضع عند حدوث النعمة، واحتمال كل العترة، والعقد في الكتابة، والإشراف على الصناعة. والكتاب : وهو القطب الذي عليه مدار علم ما في العالم وآداب الملوك وتخليص الألفاظ والغوص على المعاني السديدة والتخلص إلى إظهار ما في الضمائر بأسهل القول، والتمييز بين الحجة والشبهة، وبين المفرد والمشترك، وبين المقصور والمبسوط، وبين ما يحتمل التأويل مما لا يحتمله، وبين السليم والمعتل. فبارك الله لهم فيما أعطاهم، ورزقهم الشكر على ما خولهم، وجعل ذلك موصولا بالسلامة وبما خط لهم من السعادة، إنه سميع قريب فعال لما يريد.
وكتب في ذم الزمان:
حفظك الله حفظ من وفقه للقناعة، واستعمله بالطاعة. كتبت إليك وحالي حال من كثفت غمومه، وأشكلت عليه أموره، واشتبه عليه حال دهره، ومخرج أمره، وقل عنده من يثق بوفائه، أو يحمد مغبة إخائه، لاستحالة زماننا، وفساد أيامنا، ودولة أنذالنا. وقديما كان من قدم الحياء على نفسه، وحكم الصدق في قوله، وآثر الحق في أموره، ونبذ المشتبهات عليه من شئونه، تمت له السلامة، وفاز بوفور حظ العافية، وحمد مغبة مكروه العاقبة. فنظرنا إذ حال عندنا حكمه، وتحولت دولته، فوجدنا الحياء متصلا بالحرمان، والصدق آفة على المآل. والقصد في الطلب بترك استعمال القحة وإخلاق العرض من طريق التوكل دليلا على سخافة الرأي؛ إذ صارت الحظوة الباسقة والنعمة السابغة في لؤم المشيمة، وسناء الرزق من جهة محاشاة الرضا وملابسة معرة العار. ثم نظرنا في تعقب المتعقب لقولنا والكاسر لحجتنا فأقمنا له علما واضحا وشاهدا قائما ومنارا بينا؛ إذ وجدنا من فيه الفسولة الواضحة والمثالب الفاضحة، والكذب المبرح، والخلف المصرح، والجهالة المفرطة، والركاكة المستخفة، وضعف اليقين والاستثبات، وسرعة الغضب والجراءة؛ قد استكمل سروره، واعتدلت أموره، وفاز بالسهم الأغلب والحظ الأوفر والقدر الأرفع والجواز الطائع والأمر النافذ. إن زل قيل: حكم، وإن أخطأ قيل: أصاب، وإن هذى في كلامه وهو يقظان قيل: رؤيا صادقة من نسمة مباركة. فهذه حجتنا - والله - على من زعم أن الجهل يخفض وأن النوك يردي وأن الكذب يضر وأن الخلف يزري.
ثم نظرنا في الوفاء والأمانة والنبل والبلاغة وحسن المذهب وكمال المروءة وسعة الصدر وقلة الغضب وكرم الطبيعة، والفائق في سعة علمه والحاكم على نفسه والغالب لهواه، فوجدنا فلان بن فلان، ثم وجدنا الزمان لم ينصفه من حقه ولا قام له بوظائف فرضه، ووجدنا فضائله القائمة له قاعدة به. فهذا دليل أن الطلاح أجدى من الصلاح، وأن الفضل قد مضى زمانه وعفت آثاره وصارت الدائرة عليه كما كانت الدائرة على ضده. ووجدنا العقل يشقى به قرينه، كما أن الجهل والحمق يحظى به خدينه. ووجدنا الشعر ناطقا على الزمان ومعربا على الأيام حيث يقول:
تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم
ولاقيهم بالجهل فعل أخي الجهل
وخلط إذا لاقيت يوما مخلطا
يخلط في قول صحيح وفي هزل
فإني رأيت المرء يشقى بعقله
كما كان قبل اليوم يسعد بالعقل
فبقيت - أبقاك الله - مثل من أصبح على أوفاز، ومن النقلة على جهاز، لا يسوغ له نعمة، ولا تطعم عينه غمضة، في أهاويل يباكره مكروهها ويراوحه عقائبها. فلو أن الدعاء أجيب والتضرع سمع، لكانت الهزة العظمى والرجفة الكبرى. فليت - أي أخي - ما أستبطئه من النفخة ومن فجأة الصيحة قضي فحان، وأذن به فكان. فوالله ما عذبت أمة برجفة ولا ريح ولا سخطة، عذاب عيني برؤية المغايظة المدمنة والأخبار المهلكة، كأن الزمان يوكل بعذابي أو ينصب بأيامي. فما عيش من لا يسر بأخ شفيق ولا يصطبح في أول نهاره إلا برؤية من يكرهه ويغمه بطلعته! فقد طالت الغمة وواظبت الكربة وادلهمت الظلمة، وخمد السراج وتباطأ الانفراج.
وكتب إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
لا والله ما عالج الناس داء قط أدوى من الغيظ، ولا رأيت شيئا هو أنفذ من شماتة الأعداء، ولا أعلم بابا أجمع لخصال المكروه من الذل، ولكن المظلوم ما دام يجد من يرجوه، والمبتلى ما دام يجد من يرثي له، فهو على سبب درك وإن تطاولت به الأيام، فكم من كربة فادحة وضيقة مصمتة قد فتحت أقفالها وفككت أغلالها. ومهما قصرت فيه فلم أقصر في المعرفة بفضلك، وفي حسن النية بيني وبينك، لا مشتت الهوى، ولا مقسم الأمل، على تقصير قد احتملته وتفريط قد اغتفرته. ولعل ذلك أن يكون من ذنوب الإدلال، وجرائم الإغفال. ومهما كان من ذلك فلن أجمع بين الإساءة والإنكار. وإن كنت كما تصف من التقصير، وكما تعرف من التفريط، فإني من شاكري أهل هذا الزمان وحسني الحال ومتوسطي المذهب. وأنا أحمد الله على أن كانت مرتبتك في المنعمين فوق مرتبتي في الشاكرين. وقد كانت علي بك نعمة أذاقتني طعم العز وعودتني روح الكفاية ...
أعاذك الله من سوء الغضب، وعصمك من سرف الهوى، وصرف ما أعارك من القوة إلى حب الإنصاف، ورجح في قلبك إيثار الأناة، فقد خفت - أيدك الله - أن أكون عندك من المنسوبين إلى نزق السفهاء، ومجانبة سبل الحكماء. وبعد هذا قال عبد الرحمن بن حسان بن ثابت:
وإن امرأ أمسى وأصبح سالما
من الناس إلا ما جنى لسعيد
وقال الآخر:
ومن دعا الناس إلى ذمه
ذموه بالحق وبالباطل
فإن كنت اجترأت عليك - أصلحك الله - فلم أجترئ إلا لأن دوام تغافلك عني شبيه بالإهمال الذي يورث الإغفال، والعفو المتتابع يؤمن من المكافأة. ولذلك قال عيينة بن حصن بن حذيفة لعثمان: «عمر كان خيرا لي منك، رهبني فأتقاني وأعطاني فأغناني.» فإن كنت لا تهب عقابي - أيدك الله - لخدمة سلفت لي عندك فهبه لأياديك عندي، فإن النعمة تشفع في النقمة، وإلا تفعل ذلك لذلك فعد إلى حسن العادة، وإلا فافعل ذلك لحسن الأحدوثة، وإلا فأت ما أنت أهله من العفو دون ما أنا أهله من استحقاق العقوبة. فسبحان من جعلك تعفو عن المعتمد وتتجافى عن عقاب المصر، حتى إذا صرت إلى من هفوته ذكر وذنبه نسيان، ومن لا يعرف الشكر إلا لك والإنعام إلا منك، هجت عليه بالعقوبة! واعلم - أيدك الله - أن شين غضبك علي كزين صفحك عني، وأن موت ذكري مع انقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك. واعلم أن لك فطنة عليم وغفلة كريم. والسلام.
وكتب إلى أحمد بن أبي دواد:
ليس عندي - أعزك الله - سبب ولا أقدر على شفيع، إلا ما طبعك الله عليه من الكرم والرحمة والتأميل الذي لا يكون إلا من نتاج حسن الظن وإثبات الفضل بحال المأمول. وأرجو أن أكون من العتقاء الشاكرين، فتكون خير معتب وأكون أفضل شاكر. ولعل الله أن يجعل هذا الأمر سببا لهذا الإنعام، وهذا الإنعام سببا للانقطاع إليكم والكون تحت أجنحتكم، فيكون لا أعظم بركة ولا أنمى بقية من ذنب أصبحت فيه، وبمثلك - جعلت فداك - عاد الذنب وسيلة والسيئة حسنة، ومثلك من انقلب به الشر خيرا، والغرم غنما. من عاقب فقد أخذ حظه، وإنما الأجر في الآخرة وطيب الذكر في الدنيا على قدر الاحتمال وتجرع المرار، وأرجو ألا أضيع وأهلك فيما بين عقلك وكرمك، وما أكثر من يعفو عمن صغر ذنبه، وعظم حقه، وإنما الفضل والثناء العفو عن عظيم الجرم ضعيف الحرمة. وإن كان العفو العظيم مستطرفا من غيركم فهو تلاد فيكم، حتى ربما دعا ذلك كثيرا من الناس إلى مخالفة أمركم، فلا أنتم عن ذلك تنكلون، ولا عن سالف إحسانكم تندمون. وما مثلكم إلا كمثل عيسى بن مريم حين كان لا يمر بملأ من بني إسرائيل إلا أسمعوه شرا وأسمعهم خيرا، فقال له شمعون الصفا: ما رأيت كاليوم، كلما أسمعوك شرا أسمعتهم خيرا! فقال: كل امرئ ينفق مما عنده. وليس في أوعيتكم إلا الخير، ولا في أوعيتكم إلا الرحمة، وكل إناء بالذي فيه ينضح.
وكتب إلى إبراهيم بن المدبر: «قال عبد الله بن جعفر الوكيل: كنت عند إبراهيم بن المدبر فرأيت بين يديه رقعة يردد النظر إليها، فقلت له: ما شأن هذه الرقعة؟ كأنه استعجم عليك شيء فيها. فقال: هذه رقعة أبي عثمان الجاحظ وكلامه يعجبني، وأنا أردده على نفسي لشدة إعجابي. فقلت: هل يجوز أن أقرأها؟ قال: نعم. وألقاها إلي، فإذا فيها:
ما ضاء لي نهار ولا دجا ليل مذ فارقتك إلا وجدت الشوق إليك قد حز في كبدي، والأسف عليك قد أسقط في يدي، والنزاع نحوك قد خان جلدي، فأنا بين حشا خافقة، ودمعة مهراقة، ونفس قد ذبلت بما تجاهد، وجوانح قد بليت بما تكابد، وذكرت - وأنا على فراش الارتماض، ممنوع من لذة الاغتماض - قول بشار:
إذا هتف القمري نازعني الهوى
بشوق فلم أملك دموعي من الوجد
أبى الله إلا أن يفرق بيننا
وكنا كماء المزن شيب مع الشهد
لقد كان ما بيني زمانا وبينها
كما كان بين المسك والعنبر الوردي
فانتظم وصف ما كنا نتعاشر عليه ونجري في مودتنا إليه في شعره هذا. وذكرت أيضا ما رماني به الدهر من فرقة أعزائي من إخواني الذين أنت أعزهم، ويمتحنني بمن ناءى من أحبائي وخلصائي الذين كنت أحبهم وأخلصهم، ويجرعنيه من مرارة نأيهم وبعد لقائهم، وسألت الله أن يقرن آيات سروري بالقرب منك، ولين عيشي بسرعة أوبتك. وقلت أبياتا تقصر عن صفة وجدي وكنه ما يتضمنه قلبي، وهي:
بخدي من قطر الدموع ندوب
وبالقلب مني مذ نأيت وجيب
ولي نفس حتى الدجى يصدع الحشا
ورجع حنين للفؤاد مذيب
ولي شاهد من ضر نفسي وسقمها
يخبر عني أنني لكئيب
كأني لم أفجع بفرقة صاحب
ولا غاب عن عيني سواك حبيب
فقلت لابن المدبر: هذه رقعة عاشق لا رقعة خادم، ورقعة غائب لا رقعة حاضر. فضحك وقال: نحن ننبسط مع أبي عثمان إلى ما هو أدق من هذا وألطف، فأما الغيبة فإننا نجتمع في كل ثلاثة أيام، وتأخر ذلك لشغل عرض لي فخاطبني مخاطبة الغائب، وأقام انقطاع العادة مقام الغيبة.»
وكتب معاتبا:
زينك الله بالتقوى، وكفاك ما أهمك من الآخرة والأولى. من عاقب - أبقاك الله تعالى - على الصغيرة عقوبة الكبيرة وعلى الهفوة عقوبة الإصرار، فقد تناهى في الظلم. ومن لم يفرق بين الأسافل والأعالي، والأداني والأقاصي، فقد قصر. والله لقد كنت أكره سرف الرضا مخافة أن يؤدي إلى سرف الهوى، فما ظنك بسرف الغيظ وغلبة الغضب من طياش عجول فحاش، ومعه من الخرق بقدر قسطه من التهاب المرة الحمراء؟ وأنت روح كما أنت جسم، وكذلك جنسك ونوعك، إلا أن التأثر في الرقاق أسرع، وضده في الغلاظ الجفاة أكمل، ولذلك اشتد جزعي عليك من سلطان الغيظ وغلبته. فإذا أردت أن تعرف مقدار الذنب إليك من مقدار عقابك عليه فانظر في علته وفي سبب إخراجه من معدنه الذي منه نجم وعشه الذي منه درج، وإلى جهة صاحبه في التسرع والثبات، وإلى حلمه عند التعريض، وفطنته عند التوبة. فكل ذنب كان سببه ضيق صدر من جهة الفيض في المقادير، أو من طريق الأنفة وغلبة طباع الحمية، من جهة الجفوة أو من جهة استحقاقه فيما زين له عمله أنه مقصر به في حقه، مؤخر عن رتبته، أو كان مبلغا عنه مكذوبا عليه، أو كان ذلك جائزا فيه غير ممتنع منه. فإذا كانت ذنوبه من هذا الشكل فليس يقف عليها كريم، ولا ينظر فيها حليم. ولست أسميه بكثرة معروفه كريما حتى يكون عقله غامرا لعلمه، وعلمه غالبا على طباعه، كما لا أسميه بكف العقاب حليما حتى يكون عارفا بمقدار ما أخذ وترك. ومتى وجدت الذنب بعد ذلك لا سبب له إلى البغض المحض والنفار الغالب، فلو لم ترض لصاحبه بعقاب دون قعر جهنم لعذرك كثير من العقلاء، ولصوب رأيك عالم من الأشراف. والأناة أقرب من الحمد وأبعد من الذم، وأنأى من خوف العجلة. وقد قال الأول: «عليك بالأناة؛ فإنك على إيقاع ما تتوقعه أقدر منك على رد ما قد أوقعته.» وليس يصارع الغضب أيام شبابه شيء إلا صرعه، ولا ينازعه قبل انتهائه (منازع) إلا قهره، وإنما يحتال له قبل هيجه، فمتى تمكن واستفحل وأذكى ناره واشتعل، ثم لاقى من صاحبه قدرة، ومن أعوانه سمعا وطاعة، فلو استبطنته بالتوراة وأوجرته بالإنجيل ولددته بالزبور وأفرغت على رأسه القرآن إفراغا وأتيته بآدم شفيعا، لما قصر دون أقصى قوته. ولن يسكن غضب العبد إلا ذكر غضب الرب.
فلا تقف - حفظك الله - بعد مضيك في عتابي التماسا للعفو عني، ولا تقصر عن إفراطك من طريق الرحمة بي، ولكن قف وقفة من يتهم الغضب على عقله، والشيطان على دينه، ويعلم أن للكرم أعداء، ويمسك إمساك من لا يبرئ نفسه من الهوى، ولا يبرئ الهوى من الخطأ. ولا تنكر لنفسك أن تزل، ولعقلك أن يهفو، فقد زل آدم عليه السلام وقد خلقه بيده. ولست أسألك إلا ريثما تسكن نفسك، ويرتد إليك ذهنك، وترى الحلم وما يجلب من السلام وطيب الأحدوثة، والله يعلم وكفى به عليما.
لقد أردت أن أفديك بنفسي في مكاتباتي، وكنت عند نفسي في عداد الموتى وفي حيز الهلكى، فرأيت أن من الخيانة لك ومن اللؤم في معاملتك أن أفديك بنفس ميتة، وأن أريك أني قد جعلت لك أنفس ذخر، والذخر معدوم. وأنا أقول كما قال أخو ثقيف: «مودة الأخ التالد وإن أخلق خير من مودة الأخ الطارف وإن ظهرت مساعدته وراقت جدته.» سلمك الله وسلم عليك، وكان لك ومنك.
Shafi da ba'a sani ba