Wasiku na Jahiz
رسائل الجاحظ: وهي رسائل منتقاة من كتب للجاحظ لم تنشر قبل الآن
Nau'ikan
ومن المزاح - جعلت فداك - باب مكر وجنس خدع، يتكل المرء في إساءته إلى جليسه وإسماعه لصديقه على أن يقول: مزحت، وعلى أن يقول عند المحاكمة: عبثت، وعلى أن يقول: من يغضب من المزاح إلا كز الخلق، ومن يرغب عن المفاكهة إلا ضيق العطن. وبعد، فمتى أعدت النفس عذرا كانت إلى القبيح أسرع، ومتى لم تجده كانت عنه أبطأ. ومن أسباب الغلط فيه ومن دواعي الخطأ إليه أن كثيرا ممن تمازحه يضحك وإن كنت قد أغضبته، ولا يقطع مزاحك وإن كنت قد أوجعته، فإن حقد ففي الحقد الداء، وإن عجل فذلك البلاء.
فإن قلت: فما أدخلك في شيء هذا سبيله وهكذا جوهره وطريقه؟ قلت: لأني حين أمنت عقاب الإساءة ووثقت بثواب الإحسان، وعلمت أنك لا تقص إلا على العمد، ولا تعذب إلا على القصد، صار الأمن سائقا والأمل قائدا. وأي عمل أرد وأي متجر أربح مما جمع السلامة والغنيمة والأمن والمثوبة. ولو كان هذا ذنبا لكنت شريكي فيه، ولو كان تقصيرا لكنت سببي إليه؛ لأن دوام التغافل شبيه بالإهمال، وترك التعريف يورث الإغفال، والعفو المتتابع والبشر الدائم يؤمنان من المكافأة ويذهبان بالتحفظ؛ ولذلك قال عيينة بن حصن لعثمان بن عفان رضي الله عنه: عمر كان خيرا لي منك، رهبني فاتقاني وأعطاني فأغناني. فإن كنت اجترأت عليك فلم أجترئ عليك إلا بك، وإن كنت أخطأت فلم أخطئ عليك إلا لك؛ لأن حسن الظن بك والثقة بعفوك سبب في قلة التحفظ وداعية إلى ترك التحرز.
وبعد، فمن وهب الكبير فكيف يقف عند الصغير، ومن لم يزل يعفو عن العمد كيف يعاقب على السهو؟ ولو كان عظم قدري هو الذي عظم ذنبي لكان عظم قدرك هو الذي شفع لي، ولو استحققت عقابك بإقدامي عليك مع خوفي لك لاستوجبت عفوك عن إقدامي عليك بحسن ظني بك. على أني متى أوجبت لك العفو فقد أوجبت لك الفضل، ومتى أضفت إليك العقاب فقد وصفتك بالإنصاف، ولا أعلم حال الفضل إلا أشرف من حال العدل، ولا الحال التي توجب لك الشكر إلا أرفع من الحال التي توجب لك الصبر. وإن كنت لا تهب عقابي لحرمتي فهبه لأياديك عندي، فإن النعمة تشفع في النعمة، فإن لم تفعل ذلك للحرمة فافعله لحسن الأحدوثة، وإن لم تفعل ذلك لحسن الأحدوثة فعد إلى حسن العادة، وإن لم تفعله لحسن العادة فأت ما أنت أهله. واعلم أني وإياك متى تحاكمنا إلى كرمك قضى لي عليك، ومتى ارتفعنا إلى عقلك حسن العفو عني عندك. وفصل ما بيننا وبينك وفرق ما بين أقدارنا وقدرك أنا نسيء وتغفر، ونذنب وتستر، ونعوج وتقوم، ونجهل وتحلم، وإن عليك الإنعام وعلينا الشكر، ومن صفاتك أن تفعل ومن صفاتنا أن نصف، فإذا فعلت ما تقدر عليه من العقاب كنت كمن فعل ما يقدر عليه من التعرض، وصرت ترغب عن الشكر كما رغبنا عن السلم، وصار التعرض لعفوك بالأمن باطلا، والتعرض لعقابك بالخوف حقا، ورغبت عن النبل والبهاء وعن السؤدد والسناء، وصرت كمن يشفي غيظا أو يداوي حقدا أو يظهر القدرة أو يحب أن يذكر بالصولة. ولم نجدهم - أبقاك الله - يحمدون القدرة إلا عند استعمالها في الخير، ولا يذمون العجز إلا لما يفوت به من إتيان الجميل. وأنى لك بالعقاب وأنت خير كلك، ومن أين اعتراك المنع وأنت أنهجت الجود لأهله، وهل عندك إلا ما في طبعك، وكيف لك بخلاف عادتك، ولم تستكره نفسك على المكافأة وطباعها الصفح، ولم تكدها بالمنافسة ومذهبها المسامحة؟! فسبحان من جعل أخلاقك وفق أعراقك وقولك وفق عملك، ومن جعل ظنك أكثر من يقيننا، وفراستك أثبت من عياننا، وعفوك أرجح من جهدنا، وبداهتك أجود من تفكرنا، وفعلك أرفع من وصفنا، وغيبتك أهيب من حضور السادة، وعتبك أشد من عقاب الظلمة. وسبحان من جعلك تعفو عن المتعمد، وتتجافى عن عقاب المصر، وتتغافل عن المبادئ، وتصفح عن المتهاون، حتى إذا صرت إلى من ذنبه نسيان وتوبته إخلاص وهفوته بكر وشفيعه الحرمة، ومن لا يعرف الشكر إلا لك، ولا الإنعام إلا منك، ولا العلم إلا من تأديبك، ولا الأخلاق إلا من تقويمك، ومن لم يقصر في بعض طاعتك إلا لما رأى من احتمالك، ولا نسي بعض ما يجب لك إلا لما داخله من تعظيمك، صرت تتوعد بالصرم وهو دليل كل بلية، وتستعمل الإعراض وهو قائد كل هلكة. وقد علمت أن عتابك أشد من الصريمة، وأن تأنيبك أغلظ من العقوبة، وأن منعك إذا منعت في وزن إعطائك إذا أعطيت، وأن عقابك على حسن ثوابك، وأن جزعي من حرمانك في وزن سروري بفوائدك، وأن شين غضبك كزين رضاك، وأن موت ذكري بانقطاع سببي منك كحياة ذكري مع اتصال سببي بك، وما لي اليوم عمل أنا إليه أسكن ولا شفيع أنا به أوثق من شدة جزعي من عتبك وإفراط هلعي من خوفك، ولست ممن إذا جاد بالصفح ومن بالعفو لم يكن لصاحبه منه إلا السلامة وإلا النجاة من الهلكة، بل تشفع ذلك بالمراتب الرفيعة والعطايا الجزيلة والعز في العشيرة والهيبة في الخاصة والعامة، مع طيب الذكر وشرف العقب ومحبة الناس.
وأما ذكري القد والخرط والطول والعرض وما بيننا وبينك في ذلك من التنازع والتشاجر والتحاكم والتنافر، فإن الكلام قد يكون في لفظ الجد ومعناه معنى الهزل، كما يكون في لفظ الهزل ومعناه معنى الجد. ولو استعمل الناس الدعابة في كل حال والجد في كل مقال، وتركوا التسمح والتسهيل، وعقدوا في كل دقيق وجليل، لكان السفه صراحا خيرا لهم، والباطل محضا أرد عليهم. ولكن لكل شيء قدر ولكل حال شكل. فالضحك في موضعه كالبكاء في موضعه، والتبسم في موضعه كالقطوب في موضعه، وكذلك المنع والبذل والعقاب والعفو وجميع القبض والبسط. فإن ذممنا المزاح ففيه لعمري ما يذم، وإن حمدناه ففيه ما يحمد. وفصل ما بينه وبين الجد أن الخطأ إلى المزاح أسرع وحاله بحال السخف أشبه. فأما أن يذم حتى يكون كالظلم وينفى حتى يصير كالغدر، فلا؛ لأن المزاح مما يكون مرة قبيحا ومرة حسنا، والظلم لا يكون مرة قبيحا ومرة حسنا. فإذا ملنا إلى الجد ورغبنا عن الهزل وتركنا المزاح وجلسنا للحكمة، فقد أغناك الله عن الحجة كما سلمك من الشبهة، ولم يكلفك الاحتجاج كما رغب بك عن الاعتلال، فأصبحت لا محتجا ولا محجوجا، ولا غفلا ولا موسوما، ولا ملوما ولا معذورا، ولا فيك اختلاف ولا بك حاجة إلى ائتلاف. وليس مع العيان وحشة ولا مع الضرورة وجمة
35
ولا دون اليقين وقفة. وهل في تمامك ريب حتى تعالج بالحجة؟ وهل رد فضلك جاحد حتى يثبت بالبينة، وهل لك خصم في العلم أو ند في الفهم أو مجار في الحكم أو ضد في العزم؟ وهل يبلغك الحسد، أو تضرك العين، أو تسمو إليك المنى، أو يطمع فيك طامع، أو يتعاطى شأوك باغ؟ وهل يطمع فاضل أن يفوقك، أو يأنف شريف أن يقصر دونك، أو يخشع عالم أن يأخذ عنك؟ وهل غاية الجميل إلا وصفك؟ وهل زين البليغ إلا مدحك؟ وهل يأمل الشريف إلا اصطناعك؟ وهل يقدر الملهوف إلا غياثك؟ وهل للطلاب غرض سواك؟ وهل للغواني مثل غيرك؟ وهل للماتح رجز إلا فيك،
36
وهل يحدو الحادي إلا بذكرك؟ فلولا أن يأخذ الواصف بنصيبه منك وبحصته من الصدق فيك، وبسهمه من الشكر لك، لكان الإطناب عندهم في وصفك لغوا، وكان تشقيق الكلام عجزا، ولكان تكلفه فضلا، ومن هذا الذي يضعه أن يكون دونك، أو يمتحن بالتسليم لك، أو يعد إقراره إحسانا وخضوعه إنصافا؟ وهل تقع الأبصار إلا عليك؟ وهل تصرف الإشارة إلا إليك؟ أم من الشبيه لك في منزلتك؟ ألست خلف الأخيار وبقية الأبرار؟ وأي أمرك ليس بغاية، وأي شيء منك ليس في النهاية؟ وهل فيك شيء يفوق شيئا أو يفوقه شيء أو يقال لو لم يكن كذا لكان أحسن أو لو كان كذا لكان أتم؟ وأين الحسن الخالص والجمال الفائق والملح المحض والحلاوة التي لا تستحيل والتمام الذي لا يحيل إلا فيك أو عندك أو لك أو معك، خالصة لك ومقصورة عليك، لا تليق إلا بك ولا تحسن إلا فيك، فلك منه الكل وللناس البعض، ولك الصافي وللناس المشوب! هذا سوى الغريب الذي لا نعرفه، والبديع الذي لا نبلغه. لا بل أين الحسن المصمت، والجمال المفرد، والقد العجيب، والكمال الغريب، والملح المنثور، والفضل المشهور إلا لك وفيك؟ وهل على ظهرها جميل حسيب أو عالم أريب إلا وظلك أكبر من شخصه، وظنك أكثر من علمه، واسمك أفضل من معناه، وحكمك أثبت من نجواه، وصمتك أفضل من فحواه؟ وهل في الأرض حليم سواك، وهل أظلت الخضراء ذا لهجة أصدق منك، وهل حملت النساء أجل منك؟!
ولربما رأيت الرجل حسنا جميلا وحلوا مليحا وعتيقا رشيقا وفخما نبيلا، ثم لا يكون موزون الأعضاء ولا مقدود الأجزاء، وقد يكون أيضا الأقدار متساوية غير متقاربة ولا متفاوتة، ويكون قصدا ومقدارا عدلا، وإن كانت هناك دقائق خفية لا يراها إلا الألمعي، ولطائف غامضة لا يعرفها إلا الذكي. فأما الوزن المحقق والتعديل المصحح والتركيب الذي لا يفضحه التفرس ولا يحصره التعنت ولا يتعلل جاذبه ولا يطمع في التمويه ناعته، فهو الذي خصصت به دون الأنام ودام لك على الأيام. وكذا الحسن إذا كان حرا مرسلا وعتيقا مطبقا لا يتحكم عليه الدهر ولا يذبله الزمان ولا يحتاج إلى تعليق التمائم ولا إلى الصون والكن ولا إلى المناقش والكحل، ولو لم يكن لحسن وجهك إلا أنه قد سهل في العيون تسهيلا وحبب إلى القلوب تحبيبا وقرب إلى النفوس تقريبا، حتى امتزج بالأرواح وخالط الدماء وجرى في العروق وتمشى في العظم بحيث لا يبلغه السم ولا الوهم ولا السرور الشديد ولا الشراب الرقيق، لكان في ذلك المزية الظاهرة والفضيلة البينة. ولو لم يكن لك إلا أنا لا نستطيع أن نقول في الجملة وعند الوصف والمدحة: هو أحسن من القمر وأضوأ من الشمس وأبهى من الغيث، ولهو أحسن من يوم الحلبة، وإنا لا نستطيع أن نقول في التفاريق: كأن عنقه إبريق فضة، وكأن قدمه لسان حية، وكأن وجهه ماوية، وكأن بطنه قبطية، وكأن ساقه بردية، وكأن لسانه ورقة، وكأن أنفه حد سيف، وكأن حاجبه خط بقلم، وكأن لونه الذهب، وكأن عوارضه البرد، وكأن فاه خاتم، وكأن جبينه هلال، ولهو أطهر من الماء وأرق طباعا من الهواء، ولهو أمضى من السيل وأهدى من النجم، لكان في ذلك البرهان النير والدليل البين. وكيف لا تكون كذلك وأنت الغاية في كل فضل، والنهاية في كل شكل. وأما قول الشاعر:
يزيدك وجهه حسنا
Shafi da ba'a sani ba