Matafiya Musulmi a Karni na Tsakiya
الرحالة المسلمون في العصور الوسطى
Nau'ikan
1
وعرض ابن جبير في وصف بغداد لقصور الخليفة وأسرته. وذكر أن بني العباس كانوا وقتئذ متعلقين اعتقالا جميلا لا يخرجون ولا يظهرون ولهم المرتبات القائمة، ولم يكن للخليفة وزير؛ بل كان له موظف لشئونه الخاصة ، يعرف بنائب الوزارة، وله فضلا عن ذلك قيم على الدولة كلها يعرف بالصاحب أستاذ الدار، ويدعي له في الخطبة إثر الدعاء للخليفة. •••
وانتقل ابن جبير إلى الموصل مارا بسر من رأى وتكريت وأعجب بما في الموصل من عمائر حربية ودينية ومستشفيات. ثم واصل الرحلة بين مدن الشام المختلفة فوصف آثارها، وتحدث عن عادات أهلها وعن عنايتهم بالغرباء. ودون «أن النصارى المجاورين لجبل لبنان إذا رأوا به أحد المنقطعين من المسلمين جلبوا لهم القوت وأحسنوا إليهم، ويقولون: هؤلاء ممن انقطع إلى الله - عز وجل - فتجب مشاركتهم».
والحق أن ابن جبير نبه إلى ما كان من مودة وعلاقات تجارية بين أفراد المسلمين والمسيحيين، حتى في العهد الذي كانت الحروب الصليبية ناشبة فيه بين أمراء الفريقين، فقد كتب في رحلته: «ومن أعجب ما يحدث به أن نيران الفتنة تشتعل بين الفئتين مسلمين ونصارى، وربما يلتقي الجمعان ويقع المصاف (القتال) بينهم، ورفاق المسلمين والنصارى تختلف بينهم دون اعتراض عليهم. شاهدنا في هذا الوقت الذي هو شهر جمادى الأولى من ذلك خروج صلاح الدين بجميع عسكر المسلمين لمنازلة حصن الكرك، وهو من أعظم حصون النصارى، وهو المعترض في طريق الحجاز والمانع لسبيل المسلمين على البر، بينه وبين القدس مسيرة يوم أو أشق قليلا، وهو سرارة أرض فلسطين، وله نظر عظيم الاتساع متصل العمارة، يذكر أنه ينتهي إلى أربعمائة قرية، فنازله هذا السلطان وضيق عليه وطال حصاره، واختلاف القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين من دمشق إلى عكة كذلك، وتجار النصارى أيضا لا يمنع أحد منهم ولا يعترض، وللنصارى على المسلمين ضريبة يؤدونها في بلادهم. وهي من الأمنة على غاية. وتجار النصارى أيضا يؤدون في بلاد المسلمين على سلعهم، والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشتغلون بحربهم، والناس في عافية، والدنيا لمن غلب. هذه سيرة أهل هذه البلاد في حربهم، وفي الفتنة الواقعة بين أمراء المسلمين وملوكهم كذلك، ولا تعترض الرعايا ولا التجار، فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلما أو حربا، وشأن هذه البلاد في ذلك أعجب من أن يستوفى الحديث عنه.»
ولاحظ ابن جبير أن الفلاحين المسلمين في الأرض التابعة للمسيحيين كانوا في رخاء، بينما كان إخوانهم الفلاحون المسلمون عند الملاك من بني دينهم لا ينعمون بمثل ذاك الرفق والعدل. قال ابن جبير: «ورحلنا من تبنين سحر يوم الاثنين وطريقنا كله على ضياع متصلة وعمائر منظمة، سكانها كلها مسلمون وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه ... وذلك أنهم يؤدون لهم نصف الغلة عند أوان ضمها وجزية على كل رأس دينار وخمسة قراريط، ولا يعترضونهم في غير ذلك، ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة يؤدون أيضا، ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم، وكل ما بأيدي الإفرنج من المدن بساحل الشام على هذا السبيل، رساتيقها كلها للمسلمين وهي القرى والضياع، وقد أشربت الفتنة قلوب أكثرهم، لما يبصرون عليه إخوانهم من رساتيق المسلمين وعمالهم؛ لأنهم على ضد أحوالهم من الترفيه والرفق. وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين أن يشتكي الصنف الإسلامي جور صنفه المالك له، ويحمد سيرة ضده وعدوه المالك له من الإفرنج ويأنس بعدله.»
لاحظ ابن جبير أن الصليبيين كانوا يفرضون على المسلمين المغاربة ضريبة خاصة قدرها دينار على كل شخص. ودون أن السبب في ذلك أن طائفة من المجاهدين المغاربة اشتركت مع مسلمي الشرق الأدنى في فتح أحد الحصون الصليبية، وكان لهم الفضل الأكبر في هذا الميدان. والظاهر أن الصليبيين ضايقهم قدوم المغاربة من بلادهم البعيدة للمساهمة في قتالهم، فجزوهم بهذه الضريبة «وقال الإفرنج: إن هؤلاء المغاربة كانوا يختلفون على بلادنا ونسالمهم ولا نرزأهم شيئا، فلما تعرضوا لحربنا وتألبوا مع إخوانهم المسلمين علينا وجب أن نضع هذه الضريبة عليهم». ولكن الواقع أن اشتراك المغاربة في الحروب الصليبية في الشرق ليس غريبا في شيء، ولا سيما إذا تذكرنا أن بلاد المغرب والأندلس كانت في حروب صليبية مع المسيحيين قبل أن تنشب الحروب الصليبية في الشرق الأدنى. •••
ووصل ابن جبير إلى عكا في العاشر من جمادى الآخرة سنة 580ه/18 من سبتمبر 1184، ووصفها بأنها ملتقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق. ولا عجب فقد كانت حينئذ أهم ثغور الصليبيين. وعلم هناك أن مركبا في ثغر صور عازم على الإبحار إلى بجاية بتونس. فذهب إلى صور ولكنه استصغر المركب فقفل راجعا إلى عكا بطريق البحر وركب فيها سفينة جنوية كبيرة من سفن الحجاج المسيحيين والمسلمين كان قصدها ثغر مسينة بجزيرة صقلية. ودون ابن جبير أنها كانت كالمدينة الجامعة؛ فيها أكثر من ألفي مسافر، ويباع فيها كل ما يحتاجه المسافر، وأن المسلمين كانوا في المركب بمعزل عن الإفرنج. وأشار إلى أن عددا من المسافرين من المسلمين ومن البلغريين (تعريب لكلمة
بمعنى حجاج، في اللاتينية) هلكوا في السفينة فقذف بهم في البحر، وورثهم قائد المراكب؛ لأن المتبع عندهم أنه يرث كل من يموت في البحر. واستغرقت الرحلة إلى مسينة حول شهرين، وكان المقرر لها نحو أسبوعين. والحق أنها كانت رحلة غنية بالأحداث والأخطار، تشهد بما كان يتعرض له المسافرون في البحر حينئذ، وبما كان يستلزمه قيادة السفن من مهارة ومران وصبر. وقد أتيح لابن جبير في وصف عبور البحر الأبيض المتوسط قادما وعائدا. وفي وصف عبوره البحر الأحمر، أن يستعمل كثيرا من مصطلحات الملاحة وبناء السفن في العصور الوسطى، فحفظ لنا بذلك عددا وافرا منها، ويمكن الإفادة منه في فهم بعض الأخرى المدونة في ذلك العصر.
أرست السفينة أخيرا عند مدينة مسينة في صقلية، فوصفها ابن جبير، ولكنه وصف ملؤه المفارقات المتناقضات فبينما يقول: إنه «لا يقر فيها لمسلم قرار»، وإنها «لا توجد لغريب أنسا» إذ به يضيف إلى ذلك «أن أسواقها نافقة حفيلة، وأرزاقها واسعة بأرغاد العيش كفيلة، لا تزال بها ليلك ونهارك في أمان، وإن كنت غريب الوجه واليد واللسان». ويلوح أن ابن جبير لم يكن قد اطمأن بعد إلى حال المسلمين في صقلية، فإنه زار بعد ذلك بالرمة عاصمة البلاد، وزار غيرها من مدن الجزيرة، ووصف عمرانها، وثقة حكامها المسيحيين برعاياها من المسلمين، وقد كان عددهم وافرا في هذا الإقليم، الذي التقت فيه مختلف المدنيات الوثنية والمسيحية والإسلامية.
ولكنا لا نستطيع أن نركن إلى رحلة ابن جبير في الوقوف على حال المسلمين بصقلية، ومعرفة ما كانوا يتمتعون به من الحرية الدينية بعد أن زال سلطانهم عن هذه الجزيرة بقرن من الزمان. فإنا نراه يدون ما يشهد بأن المسيحيين كانوا يحسنون معاملة المسلمين، ويستخدمونهم في الوظائف والمهن، حتى في أعظمها شأنا ببلاط الأمير، وإنا نراه يروي حديث رجل مسلم لقيه في مسينة، اسمه عبد المسيح، وقال له: «أنتم مدلون بإظهار الإسلام فائزون بما قصدتم له، رابحون إن شاء الله في متجركم، ونحن كاتمون إيماننا، خائفون على أنفسنا، متمسكون بعبادة الله وأداء فرائضه سرا.»
Shafi da ba'a sani ba