وهنا أرجوك يا سيدي القارئ ألا تكون فضوليا فتسأل: متى كان سعادته في القسطنطينية، ومتى انتظم في المدرسة الحربية ومتى غزا وقاتل إذ هو لم يغب عن عيون أهل مصر في يوم من الأيام؟ لا تكن بالله فضوليا، فتوجه إلى نفسك أو إلى غيرك مثل هذه الأسئلة، وأنت على كل حال حر في تقبل الحديث وفي رده، ولا ضير في هذا الرد على أحد، ولله در العامة إذ يقولون في مثل هذا المقام: «البايرة على بيت أبوها!»
وبعد، فقد عرفت أن صاحبنا قائد عسكري من أمهر قادة الجيش التركي، وما عرض أحد بين يدي مجلسه لذكر موقعة حربية حديثة، إلا هتف بما أبلى فيها وجاهد، ونازل وجالد، وما نصب للعدو من كمين، وما أوقع بهم من الشمال ومن اليمين.
على أن من واجب الإنصاف أن نقرر أن الرجل لم يكن قائدا عسكريا بريا فحسب، بل لقد كان في بعض الأحيان قائدا بحريا من أمهر أمراء البحر، ولقد أذكر أنه ضمنا به مجلس في قيام الحرب الكبرى الماضية، وجرى ذكرى الغواصات وكيف يعصف «تربيدها» بالسفن عصفا؟ فقال: اسمعوا: لقد كنت أقود ذات يوم طرادا تركيا في الدردنيل، فرمته إحدى غواصات الحلفاء «بتربيد» فنسف وغرق من فيه في الحال، ولم يبق منه إلا أنا ونرجيلتي - الشيشة - يحملنا لوح من الخشب، ولبثنا على هذه الحال اثنتي عشرة ساعة حتى أنقذتنا سفينة عابرة، وكانت الشيشة هي سلوتي في هذه الساعة المهولة!
فقال له خبيث من الحاضرين: ألم تنطفئ الشيشة يا فلان بك في كل هذه المدة؟ فأجاب من فوره، ما أنا كنت بكركر فيها!
ومن أروع عبقرياته التي لا تلحق أبدا والتي تعز على طول الزمان، وتعصى، أننا كنا في بعض الأمسية نسمر في دار قريب له، وكان معه أكبر أولاده، وكان ذلك في أثناء حرب البلقان سنة 1913 على ما أذكر، وجعل الحاضرون يهتفون بفضل رءوف بك قائد الطرادة حميدية، ويشيدون بجرأته ومهارته وفعله الأفاعيل بطرادته، فقال: ألا تعرفون أن رءوفا هذا هو ابني؟ فلم يتداخلنا شك في أنه يعني أنه تلميذه، تخرج عليه في مدرسة البحرية فلعله كان أستاذا فيها أيضا ومن يدري؟ فلما قلنا له في ذلك، قال: بل ابني من صلبي لا تلميذي، فقال ابنه: وكانت سنه تبلغ نحو الثامنة عشرة: وهل سبق لك يا أبي أن تزوجت غير «نينتي»؟ فأجابه في عنف وغضب بل هو ابني من أمك، اخرس بقى واخرج من هنا فتولى الفتى ساكتا مبهوتا؟
وأظن أن هذا أيسر جزاء لمن لا يعرف شقيقه الأكبر!
رحمه الله ومن مات من رصفائه الأجلاء، وبسط في أعمار تلاميذهم من الأحياء، حتى يبلغ الفن على ألسنتهم ما هو مقدور له من القوة والنماء.
تقاليد الفن في مصر
وكانت مصر إلى عهد قريب حريصة شديدة الحرص على التقاليد، فكانت من هذه الناحية أشبه بإنجلترا، إذا لم يكن أهلها أشد محافظة من الإنجليز.
والتقاليد - ولا ريب - من مشخصات الأمة، وعنصر من عناصر مقوماتها في الحياة، على أننا جعلنا من أعقاب الحرب العظمى إلى الآن نهدمها بأيدينا هدما، وننسفها بكل ما يدخل في طاقتنا نسفا، إما لمجرد المحاكاة والتقليد، وإما لمحض الإغراب والإتيان الجديد، ولو كان هذا الجديد الغريب شمجا مليخا ناشزا على الأوراق!
Shafi da ba'a sani ba