انتظروا يا معشر القراء، فإن الرواية لم تتم فصولا.
بعد قدومه ببضعة أشهر لقيته ذات يوم فقال: ألم أحدثك حديث ممثلة السينما الإنجليزية؟ فجمعت ذاكرتي ثم قلت: بلى. قال: لقد ذهبت ليلة أمس في جماعة من صحبي إلى دار سينما «كذا» فإذا صاحبتنا تمثل في إحدى الروايات المعروضة، وما أن رأتني حتى انفلتت من موقفها في الرواية، وأقبلت نحوي حتى ملأت وحدها وجه الشاشة، وحجبت كل ما يليها وانحنت انحناءة بديعة وهي تبتسم ابتسامة أبدع، ثم جمعت أطراف بنانها ولثمتها لثمة طويلة ثم فرقتها مومئة إلي بها ما تبالي النظارة ولا أصحاب الدار، ولا أولياء الشركة في سبيل الغرام، أرأيت يا فلان إخلاصا كهذا الإخلاص وغراما كهذا الغرام؟
فحلفت له بكل مؤثمة من الأيمان بأنه كان من يوم أرسل آدم وحواء إلى الأرض إلى اليوم، ولا يكون من اليوم إلى ساعة ينفخ في الصور إخلاص يداني هذا الإخلاص، ولا غرام يبلغ عشر هذا الغرام!
ولندخل الآن في البطولات الاختصاصية - إذا صح هذا التعبير - ولتجعل حديثنا الأول منها في البطولة العسكرية، فهي الأشكال بحال العالم في هذه الأيام:
فلان بك - رحمة الله عليه - انحدر من ناحيتيه من أصل تركي، أو تركي وشركسي، وكان أبوه الباشا ممن حكموا في مصر، واقتنوا الضياع وشيدوا القصور، وتركوا لورثتهم فوق ذلك جلائل الأموال، وحصل صاحبنا من العلم في أول نشأته ما لا أظنه يزيد على ما تلقته المدارس الابتدائية، اللهم إلا ما حصله من اللغة التركية فلقد كان يحذقها كدأب أمثاله من أولاد الذوات في ذلك العهد بحكم بيئتهم وكثرة حديثهم بهذه اللغة مع آبائهم، وأمهاتهم، وجواريهم وأغواتهم.
وقضى أبوه وأزل له بالإرث ما قضى الشرع من تلك الضياع والبيوت والمجوهرات والدنانير، وكان ذلك شيئا كثيرا،
1
وكان كلفا شديد الكلف بالدولة التركية، لا يرى جيشا أقوى من جيشها، ولا أسطولا أضخم من أسطولها - وإن كان محجوبا عن الأنظار الآن - ولا سياسة أحكم من سياستها، أما الحديث في «المايين» ورجال «المايين» والسلطان وما أدراك ما السلطان، فذلك شيء لا تتطاول إلى وصفه الأقلام.
شغل هذا ذهن الرجل حتى استغرقه وملك عليه جميع حواسه، واستهلكها استهلاكا فلا يحتويه مجلس في داره أو في دار غيره، أو في المقهى، أو في قطار السكة الحديد، إلا تحدث في هذا وأسرف في وصف ما رأى من عظمة تركيا، ودهاء ساستها، وقوة جيشها، وضخامة أسطولها أيضا!
ثم بدا له فجمع نحو أربعين غلاما أفرغ عليهم ثيابا عسكرية تركية، ودعا برجل من أساتذة الموسيقى، فقام على تعليمهم وتمرينهم في فنون الموسيقى التركية، وجاءهم بأحسن الآلات، وزودهم بأكثر ما دون من «النوتات» وأقام لهم دارا واسعة في إحدى ضياعه، فإذا أقبل عيد جلوس السلطان أو عيد ميلاده أو غير ذلك من المناسبات، دعا بالموسيقى إلى القاهرة فجعلت تطوف عازفة بشوارعها الكبرى، وهو يتقدمها وعليه الحلة العسكرية التركية على أنه كان متواضعا؛ فلا يضع على كتفه إلا شارة أمير اللواء «ميرالاي» التي نالها بكل استحقاق في أثناء خدمته في الجيش العثماني، وما أبلى في حروبه الكثيرة بعد تخرجه من المدرسة الحربية هناك، متفوقا على الأقران في الامتحان!
Shafi da ba'a sani ba