شربت مدامةً وسَقيتَ خلًا ... لقد جاوزت في اللؤم اللئاما
شرابًا كان للمقرور دهرًا ... فجُرِّع من يُسَقَّاه الحِماما
أُشبِّهُهُ بوجهك فهو وجه ... عبوس قمطرير لن يُراما
وأما أحمد بن يوسف فأظرف الكتاب وأكمل الناس مروءة وأشهرهم في إدمان الشراب وهو القائل:
فأصبحت مخمورًا أُحدث عن نفسي ... وما لي علم بالذي كان بالأمسِ
سقاني عبيدٌ من يديه ثلاثةً ... وأعجلني فيها ولام على الحبسِ
فيا رب يومٍ قد حمدت مساءَه ... وباكرني ذمٌّ له مطلع الشمس
فأصبحت قد حدثت نفسي بتوبةٍ ... ويعتادني للهوِ عندي إذا أُمسي
ودعا محمد بن هارون بن أبان صديقًا له يوم عَرفة فتأخر عنه فكتب إليه:
باكِر الصهباء يوم عرفة ... من عقارٍ جاوزت حدَّ الصِّفةْ
بنت حولين إذا ما صفقت ... خِلتَ فيها سُرُجًا مختلفة
إنما النُّسك لمن حلَّ (مِني) ... ولِمن أصبح (بالمزدلفة)
فاشرب الراح وداهِن كأسها ... لا تكوننَّ قليل المعرفة
وعلى دجلة بين حدِّ السَّواد وأرض تكريت دير قديم يعرف بدير الجاثليق، وعنده كانت الحرب بين عبد الملك بن مروان ومصعب بن الزبير، فقال ابن الرُّقَيَّات:
لقد أورث [المصريون] حزنًا وذِلَّة ... قتيل بدير " الجاثليق " مقيمُ
فما قاتلت في الله (بكر بن وائلٍ) ... ولا صبرت عند اللقاءِ (تميمُ)
وكان بكر بن خارجة يتعشق غلامًا نصرانيًا كان فيه فقال بكر:
فبالإنجيلِ تتلوه شيوخٌ ... رهابنةٌ بدير " الجاثليقِ "
وبالقربان والصلبان إلاّ ... رثيت لقلبي الدِنفِ المشوقِ
أَجِرني، متُّ قبلك من همومي ... وأرشدني إلى نهج الطريق
فقد ضاعت عليَّ وجوه أمري ... وأنت المستجار من المضيقِ
وكان دعبل بن عليّ يستحسن قوله فيه: زناره في خصره معقودُ كأنه من كبدي مقدود وكان كثير المقام بهذا الدير مشتهرًا بالشراب فيه افتتانًا بهذا الغلام النصراني وفيه يقول أُرجوزة مليحة منها قوله:
من عاشِقٍ ناءٍ هواه دانِ ... ناطق دمع صامِتِ اللسانِ
موثَقِ قلبٍ مطلَقِ الجثمانِ ... معذب بالصَّدِّ والهجران
من غير ذنب كسبت يداهُ ... إلاّ هوىً نمت به عيناه
شوقًا إلى رؤية من أشقاه ... كأنما عافاه من أبلاه
يا ويحه من عاشقٍ ما يلقى ... بأدمعٍ منهلةٍ ما ترقا
ذاب إلى أن كاد يخفى عشقا ... وعن دقيق الفكر فيه دقّا
لم يبق فيه غير طرف يبكي ... بأدمعٍ مثل نظام السِّلكِ
كأنه قطرَ السماء يحكي ... يُخمد نيران الهوى ويذكي
إلى غزالٍ من بني النصارى ... عِذارُ خديه سبى العذارى
يترك ألباب الورى حيارى ... في ربقةِ الحب له أَسارى
ريم بدير الروم رام قتلي ... بمقلةٍ كحلاء لا من كُحلِ
وُطرَّةٍ بها استطار عقلي ... وحسنِ دلٍّ وقبيح فعل
ها أنا ذا من قدِّهِ مقدودُ ... والدَّمع من خدِّي له أُخدود
ما ضرَّ من قلبي به معمود ... لو لم يكدِّر صفوه الصدود
يا ليتني كنت له صليبًا ... فكنتُ منه أبدًا قريبا
أُبصر حسنًا وأَشمُّ طيبا ... لا واشيًا أخشى ولا رقيبا
أو ليتني كنتُ له قُربانا ... أَلثُمُ منه الفمَ والبنانا
أو " جاثليقًا " كنت أو مطرانا ... كيما يرى الطَّاعة لي إيمانا
أو ليتني كنتُ له زنارا ... يدور بي خصراه حيث دارا
حتى إذا الليل طوى النهارا ... صرت له تحت الدُّجى إزارا
يا ليتني في النحر منه عُوذَة ... أو خمرةٌ يشربني ملذوذة
1 / 54