وحُكي عن الحسين الخليع أنه قال: كنت مع أبي نواس إذ سمع غلامًا يقرأ: كلما أضاءَ مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، فقال اسمع، وأنشدني:
وسيارة ضلت عن القصد بعدما ... تجلَّلهم جنح من الليل مظلم
فلاحت لهم منا على البعد قهوةٌ ... كأن سناها ضوءٌ نار تَضرَّم
إذا ما حسوناها أقاموا مكانهم ... وإن مزجت حشو الركاب وأمموا
فلُمتُه على التعرض لمثل هذا، فقال: لسان نطق عن خاطرٍ لا يعتقد.
وقال محمد بن مصعب: لم يسرق أأبو نواس هذا من القرآن ولكنه أخذه من قول شاعرٍ سبقه:
وةليلٍ بهيم كلما غورت لهم ... كواكبه عادت فما تتزيَّلُ
يتيهون، إما أومض البرق يمَّموا ... وإن لم يلح فالقوم بالسير جُهل
وذكروا أن أبا نواس، وداوود بن رزين وحسين الخليع وعمرًا الوراق وحسينًا الخياط، اجتمعوا في منزل عنان جارية الناطفي، فتذاكروا وتناشدوا، فلما أرادوا الانصراف قالوا: أين نحن العشية، فقال كل واحد منهم عندي، فقالت عنان: بالله إلا قال كلُّ واحدٍ منكم شعرًا وتراضيتم بحكمه فيكم، فقال داوود بن رزين:
قوموا إلى طيب لهو ... في ظل بيت كنين
فيه من الورد والمزرجوش والياسمين
وريح مسكٍ ذكيٍّ ... من ابنة الزرجون
وقينة ذات غنجٍ ... وذات عقل رصين
تشدو بكل ظريفٍ ... من محكم ابن رزينِ
وقال أبو نواس:
لكن إليَّ ثقاتي ... قوموا بنا بحياتي
قوموا نلذ جميعًا ... بقول هاكَ وهاتِ
فإن أردتم فتاةً ... أتيتكم بفتاةِ
وإن أردتم غلامًا ... صادفتموه مواتي
فساوروه جميعًا ... في وقت كل صلاةِ
وقال الخليع:
أنا الخليع فقوموا ... إلى شراب الخليع
إلى شراب ولهوٍ ... وأكل جدي رضيع
ونيك أحوى رخيمٍ ... بالخندريس صريع
في روضة جادها صوب غاديات الربيع
قوموا تنالوا جميعًا ... منال ملك رفيع
وقال عمرو الوراق:
قوموا إلى بيت عمرو ... إلى سماع وخمر
وقُرطُقيٍّ رخيم ... يزهي بجيدٍ ونحرِ
فذاك برٌ وإن شئتمُ أتينا بهُجر
هذا وليس عليكم ... أولى ولا وقت عصر
وقال حسين الخياط: قضت عنان علينا بأن تزوروا حسينا
وأن تقروا لديه ... باللهو والقصف عينا
فما رأينا كظرف الحسين فيمن رأينا
قوموا قولوا أجزنا ... ما قد قضيت علينا
وقالت عنان:
لكن لدينا أقيموا ... بالله كي نتسلى
وكي تنالوا لدينا ... أشهى النعيم وأحلى
فإن عندي حرامًا ... من الشراب وحِلاّ
لا تطعموا في سوايَ ... من البرية كلاّ
يا إخوتي خبروني ... أجاز حكمي أمْ لا؟
فقالوا كلهم بكلمة واحدة: قد رضينا بحكمك وأجزنا اختيارك وأقاموا عندها فمرّ أطيب ليلٍ وألذه.
قال الكلبي: صحب ذو الرمة رجلًا من بني أسد فيما بين البصرة والكوفة، فلما دنوا من الكوفة، جعل ذو الرمة يتشهى النبيذ والأسدي يشتهي الخمر فقال رجل من القوم: يا أبا الحارث هل لك في النبيذ إذا دخلت الكوفة، فقال ذو الرمة:
فكيف لنا بالشرب إن لم يكن لنا ... دراهم عند الخاتوي ولا نقدُ
أنحتال أم ندان، أم ينبري لنا ... فتىً مثل نصل السيف شيمته الحمد
له معشر بيض الوجوه مصالتٌ ... سما بهم آباؤهم وسما الجدُّ
قال: فسما له الأسدي، وقال: أنا والله أنبري لك يا ذا الرمة، فأدخل ناقةً له السوق فباعها بأربعمائة درهم فقصف بها عليهم.
يروى أن الفرزدق قدم المدينة ونزل على الأحوص فأكل وشرب وقال: وددت لو سمعنا غناءَ، فأتاه بمغنٍ فغناه:
أتنسى إذ تودعنا سليمى ... بفرعِ بشامة سقي البشام
ولو وجد الحمام كما وجدنا ... بسُليمان لاكتأب الحمام
فطرب الفرزدق، وقال: لمن هذا الشعر فقالوا: لجرير: ثم غناه:
1 / 46