وروى المبرِّد قال: كان حارثة بن بدر الغداني رجل بني تميم في وقته، وكان قد غلب على زيادٍ، وكان الشراب قد غلب عليه، فقيل لزياد: إن هذا قد غلب عليك وهو مشتهرٌ بالرشاب، فقال زياد: كيف لي باطِّراح رجلٍ يسايرني مذ دخلت العراق، فلم يَصْكك ركابي ركابه، ولا تقدَّمني فنظرت إلى قفاه، ولا تأخر عني فأدرت عنقي إليه، ولا أخذ عليَّ الشمس في الشتاء قط، ولا الرَّوْح في صيف قط، ولا سألته عن علمٍ إلا ظننت أنه لا يحكم غيره، فلما مات زياد جفاه عبيد الله فقال له حارثة: أيها الأمير ما هذا مع معرفتك بالحال عند أبي المغيرة، فقال له عبيد الله: إن أبا المغيرة قد كان برع بروعًا لا يلحقه معه عيبٌ، ولا حدث، وإنما أُنسب إلى من يَغْلب عليَّ، وأنت رجل تُديم الشَّراب فمتى قرَّبتك وظهرت رائحة الشراب منك، لا آمن أن يُظن بي، فدع النبيذ وكن أول داخِل وآخر خارج عني، فقال له حارثة: أنا لا أدعه لمن يملك ضرِّي ونفعي، أفأدعه للمال عندك، قال: فاختر من عملي ما شئت، قال: توليني رام هرمز، فإنها أرض طيبة وسُرق فإن شرابًا وُصف لي، فولاّه إياها، فلما خرج شيَّعه الناس، فقال أنس بن أبي أُنيس:
أحار بن بدر قد وليت ولايةً ... فكن جُرذًا فيها تخون وتسرق
ولا تحقرن يا حار شيئًا وليته ... فحظك من ملك العراقيين (سُرقُ)
وباهِ تميمًا بالغنى، إن للغنى لسانًا به المرءُ الهيوبة ينطق
فإن جميع الناس إما مكذِّبٌ ... يقول بما تهوى وإما مصدِّقُ
وحكى الهيثم بن عدي قال: بعث الحجاج بن يوسف أربعة آلاف رجل من أهل الكوفة إلى خراسان فاصطحب في الجيش ثلاثة فتيان يقال لأحدهم أوس بن خلد، وللآخر نصر بن غالب والآخر أُنيس بن بدر، فنزلوا مدينة مَرْو فأقبلوا على لذتهم، مدمنين على شرابهم بالخوض في مستعذب الحديث وإنشاد الشعر ومذاكرة أيام الناس والمؤانسة، فاعتلَّ أوسٌ فمات، فاشتد عليه جَزَعُ أخويه وطال بكاؤهما وحنينهما إليه وكانا يخرجان كل يومٍ إلى قبره فيرثيانه ويتحدثان ويتناشدان كالذي كانوا يفعلون، وإذا دارت الكأس شرب كل واحدٍ كأسه لاوصبَّا على قبر أوس كأسًا، فإذا أمسيا رجعا إلى رحلهما فلبثا على ذلك برهةً من زمانهما، ثم إن أُنيسًا مرض أيامًا فمات، فدُفن إلى جنب صاحبه، فكان نصر يخرج كل يوم فيجلس بين قبريهما فيرثيهما ويبكي عليهما، وكلما شرب كأسًا صبَّ على قبر كل واحدٍ منهما كأسًا ومعه غلام كان يخدمهم، قال: فلما عمل الشراب فيه ذات يوم جعل يلزم هذا القبر تارةً وهذا أُخرى ويبكي ويقول:
خليليَّ هبَّا طالما قد رقدتما ... أجِد كما ما تقضيان كراكما
أجِد كما ترثيان لموجعٍ ... حزينٍ على قبريكما قد رثاكما
أُقيم على قبريكما لست نازحًا ... طوال الليالي أو يجيب صداكما
تنامان عمَّن لا ينام صبابةً ... كأن الذي يسقي العقار سقاكما
أُناديكما وجدًا وشوقًا إليكما ... فلا تسمعان الصوت ممن دعاكما
أصبُّ على قبريكما من مدامتي ... فإلاَّ تذوقاها تروِ ثراكما
سأبكيكما طول الحياة وما الذي ... يُرَدُّ على ذي لوعةٍ إن بكاكما
فلم يزل يردد هذا الشعر حتى زفر زفرةً فاضت فيها نفسه فدفن إلى جانب صاحبيه، فقبورهم تسمى قبور الإخوة، وفتيان المدينة ينتابون قبورهم فيشربون ويصبون من شرابهم عليها.
وكان يحيى بن عبيد الله الحارثي ماجنًا شاعرًا متهمًا في دينه، وهو القائل:
أقول لذي طربٍ فاتكٍ ... إذا ملَّ ذو النسك من نُسكه
دع النسكَ ويحكَ لا تبغِهِ ... وعاون أخاك على فتكه
لا تقع الدهر في صاحبٍ ... وإن أكثروا فيه بل نَكِّهِ
ولا تبكين على ناسك ... وإن مات ذو طربٍ فابكِهِ
ومنهم عليٌّ بن الخليل وكان مشتهرًا في الشراب مدمنًا عليه، وهو الذي قال:
لا تكمل اللذات إلا بالقيان وبالخمور
هتك الستور وإنما اللذاتُ في هتك الستور
واخلع عذارك في الهوى ... واصبر لنوبات الدُّهور
ودع العواذل لا يفقن عليك من دقِّ الصدور
واعلم بأنك راجعٌ ... حقًا إلى ربٍّ غفور
1 / 44