وكان سعيد بن القعقاع الطائي يتقدم بشارًا في المجانة، وكان لا يزال ينادمه، فقال له: ويحك يا أبا مُعاذ، إن الناس ينسبون إلينا الزندقة، فهل لك في أن تحج حجة تنفي بها عنا ذلك، فقال له: نِعم ما رأيت، فاشتريا بعيرًا ومحملًا وركبا حتى مرا بضيعة كثيرة البساتين والخمر، يقال لها زُرارة فقال له: ويحك يا أبا معاذ: مل بنا إلى زرارة ننعم بها فإن الحج بعيد، فإذا قفل الحاجُّ عارضناهم وكنا معه، فلم يشك الناس أنا جئنا من الحج، فقال له بشار: نِعم ما رأيت، لولا خبث لسانك فإني أخاف أن تفضحنا، قال: لا تخف، ومالا إلى زرارة، فما زالا يشربان الخمر ويفسقان حتى نزل الحاج بالقادسية راجعين، فحلقا رأسيهما وأقبى، وتلقاهما الناس يهنئونهما، فقال سعيد بن القعقاع:
ألم ترني وبشارًا حججنا ... وكان الحج من خير التجارة
خرجنا طالبي سفرٍ بعيدٍ ... فمال بنا الطريق إلى زُرارة
فآب الناس قد حجوا وبروا ... وأُبنا موقرين من الخسارة
وقال السندي بن الصبَّاح: شهد بشار مجلسنا، وقال: لا تصيروا مجلسنا هذا شعرًا كلَّه، ولا حديثًا كلَّه، فإن العيش فرصٌ، ولكن غنوا؛ وتحدثوا، وتناشدوا، وانتهبوا العيش انتهابًا.
وكان بالكوفة ثلاثة نفرٍ يقال لهم الحمَّادون: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحمَّاد بن الزبرقان، يتنادمون على الشراب، ويتناشدون الأشعار، ويتعاشرون ولا يكادون يفترقون، فكانوا كأنهم نفس واحدة، وكانوا يرمون بالزندقة جميعًا. ودخل مطيع ابن إياس ويحيى بن زياد على حماد الراوية، فإذا سراجُهُ على ثلاث قصبات قد جمع أعلاهن وأسفلهن بطين، فقال له يحيى بن زياد: يا حماد إنك لمسرفٌ تبذل حُرَّ المتاع، وقال له مطيع: ألا تبيع هذ المنارة وتبتاع أقل ثمنًا منها وتنفق على نفسك الباقي وتتسع فيه، فقال له يحيى: من أين يكون له مثل هذه، أظنها وديعة عنده أو عارية، فقال مطيع: أما إنه لعظيم الأمانة عند الناس حين أودعوه مثلها، قال يحيى: ما أظنها عارية ولا ويعة، ولكني أظنها مرهونة عنده على مالٍ، وإلا فمن يُخرج هذه عن يده، فقال لهما: قوما يا ابني الزانيتين اخرجا من منزلي، فشر منكما من يدخلكما منزله هذا.
وقد كان أحد خلفاء بني أُمية يصلُهُ بماية ألف فيتلف كلَّ ما أفاد في إدمان الشراب.
وقال إسحق الموصلي: حدثني أبو يعقوب الخُرَيمي قال: كنت في مجلسٍ فيه حماد الراوي ومعنا غلام أمرد فجعلنا نشرب، وينظر إليه حمَّاد، فقال لي: يا أبا يعقوب، قد عزمت الليلة أن أفتك بهذا الغلام، فقلت: شأنك، فلما سكرنا ونمنا لم أشعر إلا وحمَّاد ينيكُني، فكرهت أن أتكلم فينتبه الناس فأفتضح، فأخذت بيده فوضعتها على عيني العوراء ليعرفني، فقال لي: قد عرفتك الآن، فيكون ماذا، وفديناه بذبح عظيم، فما برح وأنا أُعالجه جهدي فلا ينفعني حتى أنزل.
قال أبو العباس المبرد، حدثني عبد الصمد بن المعذل، قال: سمعت إسحق بن إبراهيم الموصلي يقول: حججت مع أمير المؤمنين الرشيد، فلما قفلنا ونزلنا آخيت بها رجلًا كانت له سنٌ ومعرفةٌ وأدبٌ وكان يُمتِعُني، فإني ذات ليلةٍ في منزلي إذا بصوته يستأذن عليَّ، فظننت أمرًا أقدمه وفزع إليَّ فيه، فأسرعت نحو الباب وقلت: ما جاء بك؟ قال: إذن أُخبرك: دعاني صديق لي إلى طعام عتيدٍ وشرابٍ عتيقٍ وحديثٍ ممتع وغناء مطرب، فأقمت عنده إلى هذا الوقت، لإاخذت مني حميَّا الكأسِ مأخذها ثم غنيت بقول نُصيب:
بزينب أَلْمِمْ قبل أن يرحل الركبُ ... وقُل إن تملينا، فما مَلَّكِ القلبُ
فكدت أطير طربًا، ثم وجدت نقصًا في الطرب، إذ لم يكن معي أحد يفهم هذا كما فهمتُهُ، فنزعت إليك لأصف ذلك لك ثم أرجعُ إلى صاحبي، وضرب بغلته موليًا، فقلت: قف أُكلمك، قال: ما بي إلى الوقوف إليك من حاجةٍ.
1 / 36