وطريقته: خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى، فجعلت أترنم به وأُردده لكي يستوي [وكان] الخمَّار قد قرَّب الإناء واكتال فيه حتى امتلأ وفاض وهو يزيد فيه والشراب يجري حتى استغدر بين يديه، فقلت له: ويحك، أتلفتَ شرابك وهرَقَت، فما بالك، فقال: والله يا مولاي، ما هو إلا أن سمعت ترجيعك في هذا الصوت فذهب عقلي فما أسمع ولا أُبصر، فذهبت لأزن له ثمن شرابه فحلف بدينه ألا يأخذ مني ثمنًا ولو حملت كل ما في حانوته، وقبَّل أطرافي ورغب إلي في المُقام عنده، فأقمت في ضيافته ثلاثًا، لأولاني فيها من الخدمة والبر والإكرام ما لا أقدر على صفته، فكنت بعد ذلك لا أُفارقه زمنًا طويلًا.
وحكى جحظة عن موسى بن هرون، قال: كنت مع إسحق بن إبراهيم الموصلي في نزهة فمرَّ بنا أعرابي، فوجه اسحق غلامه زيادًا فجاء بالأعرابي فلما شرب وسمع حنين الوتر والدَّواليب، قال:
حنَّت وليس تحن عن وَجدِ ... وأَحِنُّ من طرب إلى نجد
لو قيس وجدُ العالمين إلى ... وجدي لزاد عليه ما عندي
قال: فما انصرف إسحق إلى بيته إلا محمولًا من السُّكر، وما شرِبَ إلا على هذه الأبيات، وغنى فيها إسحق بالبِنْصَر.
وكان عُروة بنُ الوَرد أحد الصعاليك المجَّان المشهورين، مشتهرًا بالشراب، فشرب الخمر بكل شيءٍ يملكه حتى ارتهن امرأته سلمى الغفارية ثم ندم وقال:
أرقت وصحبتي بمضيق عمروٍ ... لبرقٍ من تهامةَ مستطيرِ
لآنسةِ الحديث رضابُ فيها بُعَيدَ النوم كالعنب العصير
سقوني الخمر ثم تكنفوني ... عُداةُ الله من كذب وزور
فلا والله لو مُلِّكت أمريومن لي، بالتدبُّر في الأُمور فيا للناس كيف غُلبت أمريعلى شيءٍ ويكرُهُه ضميري
وعن إسحق بن إبراهيم قال: كانت بالبصرة قينة لبعض ولد سليمان بن عليّ، وكانت محسنة بارعةً، وكان بشار صديقًا لسيدها، فحضر مجلساص يومًا والجارية تغني، فإذا سكتت أخذ بشارٌ في إنشاده ونوادره، فسُرَّ الرجل ببشار وشرب حتى سكر ونام، ونهض بشار، فقالت له الجارية: يا أبا معاذ، أُحبُّ أن تذكر يومنا هذا في قصيدة ولا تذكر اسمي ولا اسم سيِّدي، فانصرف وكتب إليه:
وذات دَلٍّ كأن البدر صورتُها ... باتت تغني عميد القلب سكرانا
[إن العيون التي في طرفها حورٌ قتلننا ثم لم يحيين قتلانا] [يَصرَعنَ عن ذا اللبِّ حتى لا حراك به وهنَّ أضعف خلق الله إنسانا]
فقلتُ أحسنتِ يا سؤلي ويا أملي ... فأسمعيني جزاكِ اللهُ إحسانا
[يا حبَّذا جبلُ الرَّيان من جبلٍ وحبَّذا ساكن الرَّيان من كانا]
فقلتُ أحسنتِ أنت الشمس طالعةً ... أضرمت في القلب والأحشاءِ نيرانا
فأسمعيني صوتًا مطربًا هَزَجًا ... يزيد صبًّا محبًا منك أشجانا
يا ليتني كنتُ تفاحًا تقبله ... أو كنت من قضب الريحان أفنانا
حتى إذا وجدت ريحي فأعجبها ... ونحن في خلوةٍ مُثِّلت إنسانا
[أصبحت أطوعَ خلق اللهِ كلَّهِمُ لأكثر الخلق لي في الحب عصيانا]
لو كنت أعلم أن الحب يقتلني ... أعددت لي فيك إذ لقاك أكفانا
فلما وقف على الأبيات سُرَّ بها وبعث إليه ثلاثة آلاف درهم.
وحكى إبراهيم الموصلي قال: حدَّثني رجل ظريف من أهل الطائف قال: عشق العرجي امرأة من قريش فجعلني رسولًا إليها، فأتيتها برسالته وأخذت موعدها لزيارته لموضعٍ سمَّاه، ثم بكرت أنا وهو وحملنا معنا سُفرة وزُكرة على أتانٍ، فجاءت ومعها جارية، وجاءَ على حمار ومعه غلام، فأكلا وشربا وتحدثا ثم قمت عنهما فوثب عليها، ووثب الغلام على الجارية، والحمار على الأتان، وقعدت أسمع النخير من كل ناحية، فأنعظت ولم يكن لي حيلة إلا أن جلدتُ عُميرة، فرفع العرجيُّ إلي رأسه وقال: هذا يومٌ غابت عواذله؛ فما لي حسنة أرجو ثوابها رجائي لثواب ذلك اليوم.
1 / 35