خلوت بها والليل يقظان قائم ... على قدمٍ كالراهب المتبتلِ
فلما استردت من دجى الليل دولة ... وكاد عمودُ الليل بالصبحِ ينجلي
كررنا أحاديث الوداع ذميمة ... ليبلغ كلٌّ حاجةً، غير مُعجلِ
فلم نرَ إلا عبرةً بعد زفرةٍ ... مودعةٍ أو نظرةً بتأملِ
فقال له جعفر: والله لكأنك بلساني نطقت، وعن ضميري عبَّرت، فقال: أيها الأمير أن هذا الشعر لم يُنشر، فأجعله لك، قال: أنا إلى أن أنحلك مالي أحرى أن أنتحل شعرك وأمر له بمالٍ جليل.
وكانت البرامكة، ويزيد بن مزيد ومحمد بن منصور بن زياد يُفضلون عليه ويتفقدون من أحواله، فظهر ذات يوم، فلقي يزيد بن منصور الحميري بباب الرشيد فسلَّم عليه وسأله يزيد عن حاله، فخبرَّه أنه كان كاليائس من قرب الخليفة، وأن يُعد في مادحيه، فقال له: سيتأتى وصولك إلى الخليفة، بعد أن أُقرر عنده قرب نسبك، وتقدمك لسلفك، ودخل فأصاب الرشيد قد اشتمل عليه الفكر فقال له يحيى: ما بك يا أمير المؤمنين قال: الفكر في سُرعة تقضي الدنيا وأنَّ ما نحن فيه منها كالظل الزائل، فقال له جعفر: يا أمير المؤمنين أتظن أن هذا شيء يحبس عنك الأيام، كان أنوشروان يقول: من أعظم الخطأ التشاغل بما لا يمكن دفعُهُ، وقال له سليمان بن أبي جعفر: يا أمير المؤمنين يروى عن لقمان أنه قال: الهمُّ نصف الهرم، والفقر الموتُ الأكبر، فكأنه نشط، فقال له الحميري: يا أمير المؤمنين، خلَّفت، بالباب آنفًا رجلًا من إخوانك الأنصار، متقدمًا في شعره وأدبه أنشدني قصيدة يذكر فيها صبوته ولهوه ولعبه ومجالسه بأبلغ قول وأحسن وصف، يبعث، والله يا أمير المؤمنين، على الصبابة والفرح ويباعد من الهم والترح، قال، فأستفزه السرور إلى دخوله واستماع قصيدته أن جعل يُتبع الرُسل بعضهم بعضًا حتى دخل إليه، وكان حلوًا ظريفًا حسن العبارة، فأمهل حتى تراجع عقله، وسَكَنَ جأشه، ثم أُذن له في الجلوس فأنبرى يُنشد قصيدته، وجعل الرشيد يتطاول لها ويستحسن ما حكاه من وصف شرابٍ ولهوٍ وغزلٍ، فأمر له بمالٍ وقام من ساعته إلى مجلس خلوتِهِ ولهوه، وجعل هو ومن معه يتذاكرون قصيدة مسلم، ويعارضون بها ما هم فيه، وسماه الرشيد يومئذٍ بآخر بيت منها: صريع الغواني، والقصيد:
أديرا عليَّ الكأسَ لا تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذَحْلي
فما حزني أني أموت صبابةً ... ولكن على من لا يَحِلُّ له قتلي
أُحبُّ التي صدَّت وقالت لتربها ... دعيهِ، الثريا منه أقربُ من وصلي
أماتت وأحيت مهجتي فهي عندها ... معلقةٌ بين المواعيد والمطلِ
وما نلت منها نائلًا غير أنني ... بشجو المحبين الأُلى سلفوا قبلي
بلى ربما وكلتُ عيني بنظرة ... إليها تزيد القلبَ خبلًا على خبلِ
كتمت تباريح الصبابةِ عاذلي ... فلم يدر ما بي، فاسترحتُ من العذل
ومانحة شرابها المُلك قهوة ... يهودية الأصهار مسلمة البعل
ربيبة شمسٍ لم تُهجن عروقُها ... بنارٍ ولم يجمع لها سعفُ النخلِ
بعثنا لها منا خطيباُ لبعضنا ... فجاء بها يمشي العِرِضْنة في مَهل
ق استودعت دنًا لها فهو قائمٌ ... بها شفقًا بين الكروم على رجلِ
فوافى بها عذراء كلَّ أخي ندى ... جزيل العطايا غير نكسٍ ولا وَغْلِ
معتقةٌ لا تشتكي وطء عاصِرٍ ... حروريةٌ في جوفها دمها يغلي
أغادرت على كفّ المدير بلونها ... فصاغت له منها أنامِلَ كالذُّبلِ
أماتت نفوسًا من حياةٍ قريبةٍ ... وماتت فلم تُطلب بوترٍ ولا ذَحْلِ
شققنا لها في الدنِّ عينًا فأقبلت ... كما أَخضلت عين الخريدة بالكُحلِ
كأن فنيقًا بازلًا شُكَّ نحرُهُ ... إذا أسفرت منها الشعاعَ على البزل
كأن ظباءً عكَّفًا في رياضها ... أباريقها أوجسن قعقعة النبل
1 / 27