دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعلُ الأخوانِ
فما ظنُّ ذا الواشي بأبيضَ ماجدٍ ... وبيضاء خودٍ حين يلتقيان
ودخل بعض الأدباء مجلسًا فرأى فيه نبيذًا حسنًا للأكابر، ونبيذًا دونه لقومٍ دونهم فقال:
نبيذان في مجلس واحدٍ ... لإيثار مُثرٍ على مُعسِرِ
فلو كنت تَفعلُ فعلَ الكرامِ ... فعلت كفِعل أبي البختري
تتبع إخوانه في البلاد ... فأغنى المقلَّ عن المكثر
فبلغت الأبيات أبا البختري فبعث إليه خمسة آلاف درهم.
وكان لأبي البختري إخوان يغشونه ولا يكادون يفارقونه فلما وُلي القضاء، شَغِل عنهم فقاطعوه، وجعلوا يسبونه ويقعون فيه وينسبونه إلى قلة الوفاء، فلما عُزل وجَّه إليهم فأحضرهم وقال: كأني بكم وقد أخذتم عليَّ في اشتغالي عنكم ونلتم مني إذ جفوتكم، وقد رجوتم نفعي فأسأتم بي ظنًا، قالوا: قد كان ذلك، فقال: والله ما قطعتكم إلا نظرًا لكم وتوفيرًا عليكم، وأمر بإحضار ما اجتمع له أيام عمله من أرزاقه وصلاته، فأُحضرت أكياسٌ فيها عشرة آلاف دينار فقسمها فيهم وأخذ منها مثل ما صار إلى أحدهم وعادوا إلى ما كانوا عليه من المؤانسة.
وفي مثل الأبيات الأُول:
رأيت نبيذين في مجلسٍ ... فقلت لصاحبنا ما السبب
فقال الذي نحن في بيته ... يُفضل قومٌ بسوء الأدبْ
وكان المعروف بأبي هريرة المصري، من أهل الحديث والأدب، ظريفًا مليحًا، مُملقًا في حداثته وإنما معاشُهُ من النسخ، قال: فكنت أوانَ الربيع إذا أخذت الأرض زُخرفها، وازينت أخرج متنزهًا إلى بركة الحَبَش، في خُفي بلنسية فيها شراب وفي كُمي منديل نظيف فيه أوساط وكتاب أُنادمه، وأجلو بصري على ذلك الماء الرقيق والروض الأنيق إلى أن تصوب الشمس للغروب فانصرف إلى منزلي وأنا ثمل، فانصرفت عشية، فإذا بفارس خارج من مصر لا يتبين منه غير عينيه، فسلم وقال: من أين أقبل الشيوخ، فقلت في نفسي، أَجُنَّ الرجل، ومن الذي يرى معي، والتفتُّ فإذا ذَودٌ من تيوس يسوقها راعٍ، فقلت: حضرنا نكاح الوالدة حفظها الله، فضحك حتى كاد يسقط من سرجه، فلما كان بعد أيام يسيرة لقيني الأمير بُكير في موكبه، فقال لبعض غلمانه، ألِحقني بالرجل فأرتعت لذلك روعًا شديدًا، فلما دخلت عليه، إذا بين يديه كيس فيه ثلاثة آلاف درهم، فقال لي: هذا حق حضور ذاك النكاح فغلمت أنه هو الذي لقيني.
وخرج أبو هريرة هذا إلى (دَيْهور) مع إخوان له يشربون فسكروا وناموا، وأتى حمار أبي هريرة وقد عطش إلى جفنة مِزر فشرب حتى سَكِر ورقد، فاستيقظ أصحابه فوجدوه لا يقدر على النهوض، فأرادوا أن يركبوه الحمار سكران، فأكثروا جملًا وعادَلُوا بينه وبين حماره، ودخلوا به فقرعوا بابه، وقالوا لإمه، خذي إليك النديمين فأنهما سكرا جميعًا.
ورُوي أن جعفر بن يحيى استأذن الرشيد في ليلة يخلو فيها، فأذن له، فوجَّه إلى كل من يتشوقه من أصحابه، وبعث إلى مسلم بن الوليد فلما صار إليه، قال له جعفر: أنشدني من شعك ما يشاكل ليلتنا هذه، فأني إنما خلوت لفرط صبابة بجارية لِنخَّاس تحكم عليَّ في ثمنها، ووالله ما يزداده ولكني أكره الخديعة، فقال: أصلح الله الأمير، لك أجل المراتب وأعلى الأمثال، وأنا أقول على قدري، وقد كانت لي ليلة مثل هذه فقلت فيها شيئًا، فدعني بخساسة عيشي واجعل وصفها لك فأنت أحقُّ به، فأنشده:
تحملتُ هجر الشادِنِ المتدللِ ... وعاصيتُ في حُبِّ الغواية عذَّلي
وما أبقت الأيام مني ولا الصِّبا ... سوى كبدٍ حَرَّى وقلبٍ مُقتَّل
وكنتُ نديم الكاس حتى إذا طغت ... تعوَّضتُ منها ريق أحورَ عيطل
نهاني عنها حبُّها أن أَسوءَها ... بلمسي فلم أفتِك ولم أَتبتل
أخذت لطرف العين منها نصيبه ... وأخليتُ من كفّي مكان المخلخَلِ
سقتني بعينيها الهوى وسقيتُها ... فدَبَّ دبيبَ الراح في كل مفصلِ
وما العيش إلا أن تبيت موسدًا ...،صريع مُدامٍ، كفَّ أحورَ أكحلِ
وممكورة رَوْد الشباب كأنَّها ... قضيب على دعصٍ من الرمل أهيل
1 / 26