وكان الحسن بن وهب يتعشق [بنان] جارية ابن حماد، وكان لا ينقطع عن منزلها، وأنفق عليها أموالًا جسيمة، وبلغ من اشتهاره بها أن الواثق أمر إيتاخ بعمل حُلتين على صورة دفعها إليه، فتقدم إيتاخ بذلك إلى سليمان بن وهب، وهو يومئذٍ كاتبه، فجد في أمر الحلتين حتى فرغ الصنّاع منهما وأُحضرتا، وعرضتا على الواثق، فاستحسنهما وأمر بقطعهما، وسأل سليمان الحسن النيابة عنه في ذلك، فقطع إحداهما وخلعها على " بنان " واتصل الخبر بسليمان، فقامت عليه القيامة وأمر بإحضار الوشائين وطلب شكلًا لهما فلم يجده، فابتاع ما يقاربهما بخمسة آلاف دينار، وصدق إيتاخ عن خبره، وطلبهما الواثق، فرافعه إيتاخ، وتعلل عليه، إلى أن فَرَغَ الخياطون منهما، فلما رآهما الواثق أنكرهما، ودعا بإيتاخ، فسأله عن السبب فصدقه، فضحك ضحكًا شديدًا، ونفَّذ خادمًا إلى الحسن وأمره بإحضاره، فلما دخل إليه قال له: تأخذ ثوبي وتقطعه لصاحبتك، جرأة عليَّ، قال: يا أمير المؤمنين أنت تقدر على أمثاله وأنا لا اقدر على ذلك، فازداد ضحكًا، وخلع عليه وصرفه.
وسأل الحسن " بَنان " زيارته فقالت: أفرقُ من مولاي، فقال: ويقول الحبيب أفرقُ مولاي فقل لي، مولاي، من مولاكا لك عبدٌ، عبيدُه فوق مولاكَ، ومولاك ليس ينكر ذاكا قال أبو الفرج الأصبهاني: كان الحسن بن وهب قد عشق " بنان " جارية محمد بن حمَّاد عشقًا مبرحًا، وكانت من الحسن والظرف والأدب وجودة الغناء، على غاية ما تسمو إليه النفوس، فأنفق عليها في مدة قريبةٍ ثلاثين ألف دينار، وإنما يزورها في بيت مولاها، فلامه بعض إخوانه على ذلك وعَذَله، وقالوا: لو أعطيت مولاها بعض ما أنفقت عليها لباعها فحظيت بملكتها، ولم تشارك فيها، فقال: هيهات، عندي ثلاثون جارية ما منهن واحدةٌ دونها، لو سُئِلتُهُن بساعةٍ منها لبذلتُهُن ثمنًا لها، إن الملكة والإحاطة، تورث الملالة، وإنكم لا تدرون طعم لذة الممانعة، وكيف طيبُ المسارقة، والمخالسة، واستغفال الرقيب بانتهاز الفرصة وإيقاع المكشحَةِ بالمولى.
قال: وغضبت عليه مرة غضبًا شديدًا، فأعرضت عنه وهجرته، فقامت قيامته، ولم يدر كيف يترضاها، فركب إلى أحمد بن المدبر وعليه ثياب سوادٍ، فقال: ما هذا اللباس وليس من عادتك، قال: غضبت عليَّ " بنان " فلبست الحداد حتى أموت أو ترضى، وقد عولتُ عليك في ترضِّيها لي، قال: فركب إليها أحمد بن المُدبر فلم يزل يستعطفها بلطافته وبلاغته ويترضاها حتى قالت: قد رضيت عنه بشفاعتك فيه، على أن تلبث عندي وترسل إليه حتى يجيء فأكايده بك قليلًا، ووقع ابم المدبر من قلبها موقعًا لطيفًا، فقال: نعم، وأرسل إليه، يعلمه أنها قد رضيت عنه، ويسأله أن يصير إليها، حتى يتولى بينهما العهد وتأكيد الصلة، فأقبل مسرعًا لا يعقل سرورًا، فلما رأته أعرضت عنه وأقبلت على ابن المدبر بالضحك والمداعبة والمجاذبة، والحسنُ بنُ وهب جالسٌ في ناحية، فلما طال عليه ذلك، دعا بدواةٍ وقرطاسٍ وكتب إليه:
بعثت رسولًا، فأضحى خليلًا ... على الرغم مني فصبرًا جميلًا
وكنت الخليلَ وكان الرسول ... فصرتُ الرسول وصار الخليلا
كذا من يوجِّه في حاجةٍ ... إلى من يحب رسولًا نبيلا
ثد دفع القرطاس إليها، فلما قرأت ما فيه استحيت، وتذممت وأقبلت عليه، بالرضا والضحك، وعانقته وعانقها وتفرقوا ومضى من فوره، الحسنُ بن وهب، فأهدى إليها ثوبًا بمائتي دينار، مُمسكًا بمائتي دينار، مبرودًا في العنبر، والعنبر محشوٌ في برنيةِ بلور.
وكان قد تعلق فيما بينها وبين ابن المدبّر، في مجلسها ذلك، هوىً أخذ بقلبيهما معًا، فبعث ابن المدبر يستزيرها فزارته، ولبست ذلك الممسك، فقال: ما هذا؟ قالت: أهداه وحياتك لي أمس، حسن ابن وهب فلبسته اليوم وجئتك به، قال: فليس يجب أن نقصر في حقِّه ولا نعطله من برِّهِ، قالت: رأيك أرشد وأمرك طاعة، وقربك أسعد السعادة، فقام إليها فأشبعها عملًا فيه ثم كتب إلى الحسن:
أهدى إليها قميصًا ... والنَّيْكُ فيه لغيره
فيها سعادة حرِها ... ويا شقاوة أَيْرِهِ
1 / 15