وما أُمنيتي إلا في لقائك، ورقعتي هذه، وقد أدرتُ زجاجات أخذت من عقلي، ولم تتحيفه، وبعثت نشاطًا حركني على الكتاب إليك، فرأيك في إنظاري سرورًا بسار خبرك، إذ حرمت السرور بالمطر في هذا اليوم، موفقًا إن شاء الله.
فكتب الحسن بن وهب: وصل كتاب الأمير أيده الله، ويدي عاملة، وفمي طاعم، ولذلك تأخر الجواب قليلًا، وقد رأيت تكافؤ إحسان هذا اليوم وإساءته، وما استحق ذمًا لأنه إن أشمَسَ حكى ضياءك وحسنك، وإن أمطر أشبه سخاءك وبرَّك وجودك، وإن أغام ولم يشمس ولم يُمطر، فقد أشبه طيب ظلك ولذة فنائِك، وسؤال الأمير، أيده الله، عنّي، نعمة من نِعَم الله عليَّ، أُعفي بها آثار الزمان المسيء، وأنا، كما يحب الأمير، صرف الله الحوادث عنه وعن حظِّي منه.
وقال أحمد بن أبي سلمة الكاتب: حضرت مجلسًا فيه عمرو بن مسعدة وأحمد بن يوسف، فغنت قينة صوتًا أجادته وهو:
أُناس مضوا كانوا إذا ذكر الأُلى ... مَضوا قبلهم صلُّوا عليهم وسلموا
فقال عمرو بن مسعدة: هو والله حسن، إلا أنه بيت مفرد، فأضيفوا إليه بيتًا آخر فإنه أحسن له، وأمكن للغناء فيه، فقال أحمد بن يوسف:
وما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلًا بعدهم وتَقدموا
فأضيف إلى البيت الأول، وغنَّت فيه القينة، وطربوا وشربوا عليه بقية يومهم، وما زال أحمد بن يوسف مكينًا عند المأمون، يتولى له ديوان الضياع، حتى غضب عليه.
وكان سبب ذلك؛ أن المأمون جلس يومًا فقال لأصحابه: نجلس غدًا مصطبحين، نجلس خلوةً فلا يكون معنا من نحتشمه، ثم أقبل على أحمد بن يوسف، فقال: كن المختار لمن يجالسنا في غدٍ، فقال: نعم، يا أمير المؤمنين: إبراهيم بن المهدي يلهيك ويؤنسك، وابن سمير يحدثك، قال نعم، وأنت يا أحمد، قال: وأنا يا أمير المؤمنين. وبكروا، فحجب الناس، وجاء الحسن بن سهل فاستُؤذن له فقال: يدخل، فقال أحمد: وكان الحسن اصطنعه، يا أمير المؤمنين، هذا خلاف ما ضمنت، قال: ويحك، أبو محمد لا يُحجب، فدخل فقال له المأمون، يا أبا محمد، هذا مجلس اقتضبناه ولولا ذلك لبعثت إليك، فأقم عندنا، فقال: يا أمير المؤمنين، تمم الله لك السرور، وأنا أجد في بدني شيئًا يمنعني من خدمة أمير المؤمنين، وحضور مجلسه، فإن رأى أن يأذن لي في الانصراف، وأَلحَّ المأمون في مسألته، ثم أذن له لما امتنع، فلما خرج، قال أحمد، يا أمير المؤمنين: [ليتك] ما اعتذرت إلى الحسن، قال: ليس هو باعتذار، قال أحمد: فترضى بإبراهيم بيننا حكمًا، فأعانه إبراهيم، فقال له المأمون: لقد شاورت الناس فيك فكلهم أشار بقتلك، وما منعني من ذلك غير أبي محمد، وهو أجلسك هذا المجلس، فإذا لم تشكره فأنت حرٍ، أَلا تشكر غيره، والله لا جلست مجلسك هذا أبدًا، وألزمه منزله حتى مات.
قال سليمان بن وهب: لما نكبني الواثق قال لمحمد بن عبد الملك، عذب سليمان بن وهب، وضيّق عليه وطالبه بالأموال، قال: فألبسني جبة صوف وقيَّدني، وكان يحضرني دار الخليفة، ويخاطبني أغلظ مخاطبة، ويتهددني، ويعاملني أقبح معاملة وأشنعها، ويُثبت أصحاب الأخبار بالخبر إلى الواثق فيعجبه ذلك، وإذا كان الليل، أمر بنزع قيودي وأخذ الجبة عني وخَلَع عليَّ، فنأكل ونشرب ونأنس، ونخرج إلى خواص جواريه تخدمنا ويفضي إليَّ بأسراره وأُموره، فإذا كان وقت انصرافنا، ضرب بيده على يدي وقال: يا أيوب أَيُوب، هذا حق المودة، وذاك حق السلطان، فلا تنكر هذا ولا تنكر ذاك، فأشكره على فعله، فإذا كان من غدٍ عدنا إلى ما كنا عليه كأنا ما تعارفنا، وهذا حديث غريب عن ابن الزيات.
1 / 14