131

Ƙima Daga Gado

قيم من التراث

Nau'ikan

وكذلك إذا وجهنا أنظارنا إلى البلاد المتقدمة، فلا أظننا واجدين أعمالهم «دائما» متطابقة مع أقوالهم، وإلا لما رأينا الحكم متداولا بين الأحزاب، فيحكم أصحاب اليمين مرة واعدين بأشياء لا يحققونها، ثم يتولى بعدهم الحكم أصحاب اليسار، وبدورهم يعدون بأعمال يعجزون عن إنجازها وهكذا دواليك.

لكنني بعد هذا التحفظ، لا بد أن أوافق صاحب السؤال على أن البلاد النامية تكثر فيها المفارقات بين القول والعمل، بدرجة لا نراها في البلاد المتقدمة، ولهذه الظاهرة علتان رئيسيتان، إحداهما يمكن أن تفتقر لحسن النية التي يغلب أن تكون كامنة في نفوس العاملين، وأما الأخرى فلا وجه فيها لمغفرة. ولشرح ذلك نقول: إن ما يسمى بالبلاد النامية، هو نفسه البلاد التي ظفرت بحريتها واستقلالها منذ عهود قريبة، فحدث في كل بلد منها أن تولت الحكم فيه حكومة من أبنائه، بعد أن كان الحكم قبل ذلك في أيدي أجانب غاصبين. فماذا وجد الحكام الوطنيون؟ وجدوا شعبا محروما من حقوقه، محروما من إشباع حاجاته الضرورية من تعليم وصحة وعمل، ومحروم من العيش على مستوى اقتصادي معقول. فكان لا بد لهؤلاء الحكام الجدد أن يسرعوا بإشباع جانب من تلك الحاجات بقدر المستطاع، لكن أقل قدر من ذلك الإشباع كفيل بأن يبتلع الجزء الأكبر من الإنتاج، فيرى المسئولون أنفسهم بين اثنتين: فإما أن يواصلوا إشباع الحاجات لمن حرموا منها أعواما طوالا، فيتبخر الناتج كله في غمضة عين، ولا يبقى بين أيديهم فائض يضيفونه إلى تنمية الإنتاج، وإما أن يقيدوا الإنفاق على سد حاجات الجماهير التي طال حرمانها، فيفتئتون بذلك على فكرة العدالة الاجتماعية. فضلا عن تعرضهم لسخط هؤلاء الجماهير أنفسهم. بعبارة أخرى، فإن الحكومات الوطنية سرعان ما تجد نفسها قادرة إما على كفاية الإنتاج، وإما على إشباع حاجات الناس. ولما كان كلا الجانبين مطلوبا، بغض النظر عن تعذر التحقيق، أو حتى عن استحالته، اضطرت تلك الحكومات الوطنية في البلاد النامية أن تعد بما لا تحققه، وذلك بأن تعد الناس بالجانبين معا وهو محال.

وفي مواجهة هذه المفارقة في حياة الدول النامية بعد استقلالها، رفع شعار ينادي بما أسموه بالمعادلة الصعبة. وكان المقصود بها هو أن تحاول الحكومات الوطنية الجديدة، التماس خط يحقق أكثر ما يمكن من آمال الشعوب المحرومة (لأن تحقيقها كلها محال إذا أردنا تنمية الإنتاج) ويحقق في الوقت نفسه أكثر ما يمكن من التنمية الإنتاجية (لأن التنمية بالدرجة الواجبة مستحيلة إذا أردنا أن نشبع شيئا من حاجات المحرومين) لكن شعار «المعادلة الصعبة» عسير، مما يجبر المسئولين إجبارا أن يقولوا (أحيانا) ما ليس يفعلون، لا عن كذب أو قصور أو خيانة، بل عن ضرورة ألزمتهم بها طبيعة الموقف الذي يواجهونه، وذلك هو ما قلت عنه إنه خطأ مغتفر لما ينطوي عليه من حسن النوايا.

لكن هنالك هوة أخرى بين القول والعمل في البلاد النامية لا سبيل فيها إلى غفران، وتلك هي أن من تئول إليهم مقاليد الحكم بعد إخراج المستعمر الخارجي، أو إبعاد المستبد الداخلي، قد تذهلهم السلطة التي جاءت إليهم فجأة، بكل ما يتبعها من مكاسب، فتأخذهم خشية أن يكون هذا «العز» المفاجئ مصيره إلى زوال مفاجئ أيضا (وأنا أتكلم هنا عن حالة شائعة في البلاد النامية)، فيحاولون جمع أكثر ما يمكن جمعه، وفي أقصر مدة ممكنة، قبل أن يباغتوا بأحكام القدر. ومن هنا تراهم يقسمون حياتهم قسمين: أحدهما في العلن، والآخر في الخفاء، فيبشرون بكل ما يطيب وقعه على الأسماع، لكنهم من وراء ظهر المجتمع يكنزون ويكدسون، وما دام المعيار الخلقي قد ازدوج بين خفاء وعلانية، تحتم أن يسود الحياة نفاق يخلق الهوة العميقة التي تفصل بين القول والعمل.

ذلك عن أحد السؤالين اللذين ألقى بهما السائل في رسالته، وأما عن السؤال الثاني الذي يسأل عن العلة التي من أجلها تجيء حلول المشكلات في البلاد النامية مؤقتة، ذلك إذا لم تجد نفسها في طريق مسدود لا يقدم حلولا، لا دائمة ولا مؤقتة، بينما نلاحظ في البلاد المتقدمة ضربا آخر من التناول، يؤدي بتلك البلاد إلى حل مشكلاتها على نحو يكفل لها مزيدا من التقدم.

والعلة - يا سيدي - التي لا علة سواها، هي في منهج التفكير الذي يتناول به الناس حل مشكلاتهم، فبينما ذلك المنهج في البلاد المتقدمة هو أقرب شيء إلى مناهج التفكير العلمي، بكل ما يقتضيه ذلك التفكير من دقة في الإحصاءات ودقة في استدلال النتائج من المعطيات، تجد الطريقة في البلاد النامية يغلب عليها المزج بين علم وعاطفة، وبين صدق وكذب. فمثلا لا يبعد في البلاد النامية أن نضع مقياسا على أساس من قدرة الطالب على التحصيل، ثم ترانا نسرع إلى «الاستثناءات» العاطفية الخالصة، كأن نقول: إن لأولاد الشهداء الحق في تجاوز المقياس، وبهذا يلتحق بكلية الطب مثلا من ليست له القدرة على دراسة الطب، بل وقد يقع البلد النامي في أخطاء أفدح - صدورا عن عاطفة - كأن يتمنى لنفسه ما ليس في وسعه فيتمنى أن يتساوى مع البلاد الغنية والمتقدمة في بعض مظاهر الحكم، في إقامة مشروعات لا قبل له بها، أو غير ذلك مما كان التفكير العلمي ليأباه لو احتكمنا إليه. واختصارا فإن الفرق بين البلاد النامية والبلاد المتقدمة في معالجة مشكلاتها، إنما يكمن في التزام المنهج العلمي أو التفريط فيه.

وأشعر هنا بضرورة إضافة عامل آخر، وهو أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم في البلاد النامية ليست متشابهة كل التشابه مع تلك العلاقة في البلاد المتقدمة، فبينما هناك يكاد يمتنع خوف المحكوم من حاكمه، فها هنا نجد عكس ذلك، إذ يكاد ذلك الخوف أن يكون هو قاعدة التعامل، فينتج عن ذلك أن من يطلب منه النظر في معالجة مشكلة بعينها، فالأغلب أن يقدم ما يتوقع أن يصادف الرضا عند رئيسه، لا ما يرضى عنه التفكير العلمي المجرد النزيه. وما أكثر ما رأينا سياساتنا الاقتصادية وغير الاقتصادية تنقلب رأسا على عقب بين عشية وضحاها، لا لأن الباطل قد زهق في دقيقة واحدة ليحل محله الحق في دقيقة واحدة كذلك، بل لأن فكرة عند ولي الأمر قد حلت محلها فكرة أخرى.

وما دمنا نتحدث عن العلم ومنهجه، فهذه فرصة مناسبة لأتناول فيها ما كان أرسله السيد ف. ف. مسائلا عن الحتمية والاحتمال في القوانين العلمية، قال سيادته: قلت في مقالتكم «مغامرات محسوبة» عند الكلام على المنهج الاستنباطي والمنهج العلمي التجريبي، هذه العبارة: إن صاحب المنهج الجديد يكتفي بما هو محتمل الصواب القابل للتصحيح، فلا ثبات ولا ركون عند نتائج بعينها، يقال عنها إنها الحق الذي لا يتغير مع الأيام ولا يتبدل، فهل معنى هذه العبارات أن العالم الذي نعيش فيه أصبح خاليا من الظواهر الحتمية، وأصبح كل شيء فيه احتماليا نسبيا؟

فإذا قلت مثلا باتحاد الأوكسجين والأيدروجين بنسبة معينة، يتكون حتما الماء، وإذا تعرض بخار الماء لسطح بارد، فإنه يتكاثف ويتحول حتما إلى ماء، ودوران الأرض حول نفسها أمام الشمس يؤدي حتما إلى تعاقب الليل والنهار ... إلخ، فأين هي الاحتمالية في مثل هذه الظواهر العلمية الواقعية؟

وجوابي على السيد ف. ف. هو أن مفهوم الحتمية عندما كان ينسب إلى أحداث العالم - وبالتالي فهو ينسب إلى القوانين العلمية التي تصور سلوك تلك الأحداث - إنما كان يتضمن أن الحادثة السابقة تحمل في طبيعتها الحادثة اللاحقة، بحيث يستحيل استحالة منطقية أن تحدث الأولى ولا تحدث الثانية. ولذلك كان أنصار الحتمية خلال الفترة التي امتدت من عهد نيوتن حتى عهد أينشتين، يتصورون أنه يكفينا أن نلم بحقيقة حاضرة لنستدل منها كل الماضي وكل المستقبل بالدقة الرياضية، لماذا؟ لأن الحقيقة الحاضرة إنما هي وليدة حتمية، لما مضى، ووالدة حتما لما هو آت. وحين نقول إن فكرة الحتمية هذه قد فسحت مكانها لفكرة الاحتمالية، فنحن نعني بذلك على وجه التحديد، أن الحادثة اللاحقة في سلسلة الأحداث، قد جاءت «بعد» الحادثة التي سبقتها، لكن ذلك لا يعني أنها كانت منطوية فيها، تماما كما نلحظ اطراد التتابع بين دق الجرس في المدرسة ودخول التلاميذ غرف الدراسة، حتى وإن اختلفت الحالتان من حيث درجة الاطراد. فإذا قر في أذهاننا جيدا أن قوانين العلم ترصد «تتابع» الأحداث حيثما شاهدها اطرادا في ذلك التتابع، نتج عن ذلك نتيجة هامة، وهي أن القانون العلمي قد بني على ما «شوهد» وما «أجريت» عليه التجارب، فهو بمثابة حكاية تحكي عما حدث بالفعل، وليس في حكاية الماضي ما يحتم أنه سيطرد حدوثه في المستقبل كذلك.

Shafi da ba'a sani ba