132

Ƙima Daga Gado

قيم من التراث

Nau'ikan

فإذا افترضنا أن حادثتين «أ»، «ب» قد شوهد اطراد التتابع أو التلازم بينهما، فصيغ قانون علمي على هذا الأساس، فإن أتباع الحتمية العلمية في هذه الحالة يقولون: إنه يستحيل أن تحدث «أ» إلا وتحدث «ب» بعدها أو معها، بينما أنصار الاحتمالية العلمية يقولون: إن «ب» يستحيل عليها الحدوث إلا إذا سبقتها أو صحبتها «أ»، لكن العكس غير صحيح بمعنى أنه إذا وقعت «أ» فلا ضمان يؤكد حدوث «ب» معها أو بعدها. ونأخذ مثلا من الأمثلة التي أوردها صاحب السؤال، وهو أنه باتحاد الأوكسجين والأيدروجين يتكون الماء حتما، فنقول: نعم إنه إذا كان هناك ماء قلنا إنه لا بد أن يكون ذانك العنصران قد اتحدا، فاتحاد الأوكسجين والأيدروجين هو نفسه الماء، فكأننا بذلك لا نقول شيئا أكثر من قولنا إن اتحاد الأوكسجين والأيدروجين هو اتحاد الأوكسجين والأيدروجين. لكننا إذا كنا قد عرفنا بادئ ذي بدء أن ثمة أوكسجين وأيدروجين، فوجودهما لا يحتم أن يتحدا ليتكون الماء، إذ قد يظلان هكذا عنصرين مستقلين أحدهما عن الآخر، ومرة أخرى أقول إن الحتمية في العلاقة بين «أ، ب»، معناها أن وجود «أ» يحتم أن تلحق بها «ب»، ووجود «ب» يحتم أن تسبقها «أ»، وأما الاحتمالية بمعناها أن وجود «ب» يحتم أن تكون «أ» قد وجدت كذلك، وأما وجود «أ» فلا يحتم أن تلحق بها «ب»، إذ قد تلحق بها أو لا تلحق بها.

وإذا راجع السيد ف. ف. كل أمثلته التي أرسلها إلي في رسالته، والتي اكتفيت بذكر بعضها هنا، وجدها جميعا تصور تتابعات في وقوع الأحداث، رصدناها في صورة قوانين، عندما لحظنا اطراد حدوثها. وأود أن ألفت نظر سيادته إلى الفرق بين نوعين نسوي عادة بينهما، مع أنهما ليسا متساويين وهما: الاستحالة بناء على ما خبرناه في مشاهداتنا وتجاربنا، والاستحالة التي هي استحالة «منطقية». ولنأخذ واحدا من أمثلتك، وهو الذي نقول فيه إن دوران الأرض حول نفسها يؤدي حتما إلى تعاقب الليل والنهار، فكأنك تقول بهذا أنه يستحيل أن تدور الأرض (وحتى في حالة توقف الأرض فرضا عن الدوران، كما قلت أنت في جملة اعتراضية) دون أن يتعاقب الليل والنهار، وهذه - كما ترى - استحالة مبنية على ما قد شاهدناه حتى الآن، لكن ماذا يحدث لتعاقب الليل والنهار إذا ما أراد الله سبحانه وتعالى يوما أن يطمس عين الشمس؟ إن الاستحالة التي تصورتها يا سيدي، هي استحالة «تجريبية»، وليست هي بالاستحالة المنطقية، وإلا فقارن ذلك بمثل قولنا: إنه يستحيل على العدد 2 ألا يجيء سابقا على العدد 3 في سلسلة الأعداد الطبيعية، وأنه يستحيل على المثلث على سطح مستو أن تجيء زواياه غير مساوية لزاويتين قائمتين. وهكذا تجد أن الاستحالة المنطقية لا تكون إلا فيما يسمونه بالجمل التحليلية، أي الجمل التي تعيد شطرها الأول في شطرها الثاني برموز مختلفة عن رموزها في الشطر الأول.

ولقد ذكرت لك فيما أسلفته جانبا واحدا من الجوانب الكثيرة التي دعتنا إلى القول بأن الاحتمالية في العلوم قد حلت اليوم محل الحتمية. ويكفيني هنا أن أشير إلى مثلين آخرين من مجالين مختلفين، لأبين بهما جوانب أخرى من فكرة الاحتمالية في العلوم، أولهما القوانين الخاصة بالذرة من الداخل، أي القوانين التي تضبط لنا حركة الإلكترونات في أفلاكها، فها هنا نجد أنفسنا أمام حركة تحدث على أسس ليست هي الأسس في قانون الجاذبية كما تركه نيوتن (والسيد ف. ف. قد ضرب بقانون الجاذبية هذا مثلا)، وخذ مثلا آخر من مجال آخر، هو اختلاط الغازات أو السوائل حارها بباردها، فأظنك تعلم أن الذي يستخلصه العلم في حالات كهذه، إنما هو متوسطات إحصائية لسرعات الذرات المختلفة، وإذا قلنا «متوسطات إحصائية» فكأنما قلنا نتيجة احتمالية، وهذا نفسه تقوله عن أي قانون علمي نبنيه على مقاييس السرعة أو الطول أو الوزن أو أي شيء مما يقاس، فهنا أيضا لا مندوحة للعلم عن أخذ متوسطات إحصائية للأرقام المختلفة التي نراها على المراقم، فكلما كررنا العملية القياسية للسرعة أو لغيرها، وجدنا رقما مختلفا اختلافا يسيرا، فيلجأ الباحث العلمي إلى استخراج متوسطات الأرقام المختلفة عن الظاهرة الواحدة المعينة، وذلك يجعل النتيجة احتمالية كما ترى؛ لأن كل تقدم نحققه في أجهزة القياس، من شأنه أن يعطينا أرقاما أخرى «أدق» من الأرقام التي حصلنا عليها بالأجهزة القديمة. ولقد ذكرت أنت في رسالتك شيئا كهذا.

وإلى السيد ف. ف. أوجه الخطاب، فأقول: إنني ترددت في أن أجيب على رسالتك؛ لأني كنت أعلم أنها ستدخلنا في تفصيلات لا يسهل عرضها على القراء، وما دمت قد آثرت آخر الأمر أن أجيب هذه الإجابة الموجزة، فلا بد لي من عتاب أتوجه به إلى صاحب الرسالة، لسرعة قفزه من مناقشة تدور حول نقطة علمية خالصة، وتمس أسس المنهج العلمي، إلى الدخول في موضوعات تخص الدين في بعضها، وتخص السياسة في بعضها الآخر، فاستمع إلى عبارتك التي قلت فيها: «العقل يريد يقينا ثابتا ثبوت وجود الله الحق، الذي لا يتطرق إليه أي ذرة من الاحتمال أو الشك، أفي الله شك؟ كما تقول الآية الكريمة، لا أستبعد أن يكون علماء مذهب الاحتمال في العلم من الشيوعيين الذين يريدون أن يقولوا للعالم أجمع في النهاية، وتحت ستار العلم، إن الله يحتمل وجوده ويحتمل عدم وجوده.»

فيا سيد ف. ف. لقد كنت أتوقع من رجل كتب خطابا في مثل مستوى خطابك من الناحية العلمية ألا يخلط كما يخلط من هم دونه بدرجات تخلط بين معان مختلفات مثل هذا الخلط العجيب، ألا فلتعلم يا أخي أنه إذا كانت حادثات الكون تجري على حتمية علمية، فهي تجري هكذا بمشيئة خالقها سبحانه وتعالى، وإذا كانت تلك الحادثات تجري على احتمالية علمية فهي كذلك أيضا بمشيئة خالقها سبحانه وتعالى، وأقول «حتمية علمية» و«احتمالية علمية»؛ لأن الحتم والاحتمال هنا مقصوران على ما يستطيعه «علم البشر»، وأما «علم الله» بما خلق فشيء آخر ولا دخل في هذا الموضوع لشيوعية وغير شيوعية، اللهم إلا إذا كان مكتوبا علينا أن نستهوي عامة الجمهور حتى ولو كان الموضوع من أخص خواص العلوم ومناهجها.

وإني لأراه حراما علينا أن نتعمد الهبوط بأنفسنا لغير داع يوجب علينا ذلك الهبوط.

حوار على الورق (3)

ومرة أخرى أعود إلى القراء في رسائلهم، بادئا برسالة السيد عبد المنعم محمد أبو ريا، التي يشفق فيها على الفلسفة ممن يقولون عنها إنها ذهبت وذهب زمانها، فهو يقول:

اسمح لي أن أسألك، بصفتك أستاذا كبيرا من أساتذة الفلسفة في الجامعة، عما يشيع بين كثير من الناس، في هذا العصر المادي، أنه لم يصبح للفلسفة اليوم مكان، كما كان لها أيام أفلاطون وأرسطو، وما تلاها من عصور، وأن الفلسفة اليوم ليست إلا اللغو الفارغ.

فواضح أن الإجابة هنا، ليست موجهة إلى صاحب الرسالة نفسه، بقدر ما هي موجهة إلى أولئك الناس - وهم «كثيرون» كما وصفهم صاحب الرسالة - ولهذا فلا بد لي من أن أجيب إجابة تتناسب مع من لا يعرف عن الفلسفة لا كثيرا ولا قليلا، لعلي أستطيع أن أضيء لهم ولو عودا واحدا من أعواد الثقاب، لينزاح ما ينزاح من الظلام الذي يلفهم في عتمته فلا يرون أكفهم ولو بسطوها أمام أبصارهم.

Shafi da ba'a sani ba