وليس مثل هذا الاتجاه في السير هو الملحوظ دائما عند جميع الشعوب ومختلف الثقافات، فهنالك من يرون أن نقطة البدء لم تكن مبدأ كاملا، أو فكرة عامة، بل كانت نقطة البدء خبرات إنسانية في ممارسة الحياة مع وقائع الطبيعة والمجتمع، ثم استخلص الإنسان مع الزمن ما قد نفعه، وما قد ألحق به الضرر، فجعل الأول خيرا والثاني شرا. ومعنى ذلك أنه بينما أسس الحياة الخلقية نراها نحن وكأنها هبطت علينا من السماء، فقد يراها سوانا وكأنها نبتت لهم من جوف الأرض.
4
ومن وقفة العربي في فلسفته الأخلاقية، حيث جعل الأسبقية للمبادئ العامة، يتلقاها وحيا أو حدسا أو تقليدا وعرفا، وعليه تطبيقها بغض النظر عن النتائج التي تترتب في مجرى حياته العملية على هذا التطبيق، أقول: من تلك الوقفة في مجال الأخلاق، ننتقل إلى وقفة له أخرى شبيهة، في مجال الفنون، سواء في ذلك فن الأدب أو فن التصوير أو غيرهما من فروع الإبداع الفني. فها هنا كذلك نجد اتجاه السير نازلا من «الفكرة» العامة إلى تفصيلات تجسدها. إن الفنان العربي لا يبدأ من لقطة حسية إلى فكرة تكمن وراءها - كما قد تكون هي الحال عند رجال الفن في ثقافات أخرى - بل يبدأ الفنان العربي من تصور عقلي مجرد، ثم يضع له التفصيلات التي تلائمه.
ولما كان الشعر هو الفن العربي الأول بلا نزاع ولا شك، فانظر إلى الشاعر العربي من أين يبدأ، وإلى أين ينتهي. إنه إذا ما تغزل، فالأرجح أن ترتسم في ذهنه صورة مثلى للمرأة على إطلاقها، كأنما هو يبدأ بتعريف منطقي للمرأة «النوع» وليس الذي أمام تصوره امرأة بعينها، حتى ولو أطلق على الصورة التي يتمثلها اسما، فقال إنها ليلى، أو هند، وحتى لو حاول أن يخلع ذلك الثوب العام لامرأة بعينها؛ لأنه في هذه الحالة يرفع تلك المرأة المفردة إلى الفكرة المثلى المقصورة، ولا ينتقص من الصورة المثلى لكي تتناسب مع البشر ونواقصه .
وإذا وصف الشاعر العربي حصانا، فقال عنه إنه: «مكر، مفر، مقبل مدبر معا، كجلمود صخر حطه السيل من عل» فهو إنما يصور المثال الأفلاطوني للحصان كما ينبغي أن يكون، ثم يخلع ذلك التعريف الأمثل على حصانه الفرد، ولا يعنيه ألا يكون حصانه الفرد مطابقا للمثل الأعلى المرسوم. وهكذا قل في شتى الصفات التي ينعت بها الشاعر العربي سائر الأشياء، فشعره أقرب إلى أن يكون صورة لفكره منه إلى أن يكون صورة لحسه. ولقد كان العقاد في تعريفه للشاعر إنما يعرف الشاعر العربي قبل أي شاعر سواه، وذلك حين قال عن الشعر إنه مقتبس من نفس الرحمن، وأن الشاعر الفذ هو للأناسي بمثابة الرحمن للشاعر؛ أي أن الشاعر ينزل منزلة وسطى بين الخالق من جهة وسائر المخلوقات من جهة أخرى، فيستلهم من الله سبحانه وتعالى صورا مجردة، ومنها يهبط إلى الكائنات الجزئية التي تتفاوت بعدا أو قربا من تلك الصور المجردة، وبذلك يكون الشاعر أقرب من غيره إلى فهم حقائق الكائنات؛ لأن بين يديه النماذج الإلهية التي على ضوئها ينفذ إلى حقائق الأفراد.
ولعل شيوع «الحكمة» في الشعر العربي أن يكون دالا على تلك الخاصة المميزة التي أشرنا إليها، وهي نزوع العقل العربي نحو إدراك الحقيقة في صورتها المجردة العامة، حتى ولو لم يكن قد صادف لها في دنيا الكائنات الجزئية أفرادا تؤيد صوابها. ومن ناحية أخرى نقول كذلك إن نزوع العقل العربي نحو ما هو مجرد، يدركه بلمعة مباشرة، لا استخلاصا من أمثلة فردية، قد جر وراءه نتيجة أخرى في الأدب العربي القديم، وهو خلوه من أدب القصة وأدب المسرح، لماذا؟ لأن هذا الأدب إنما يرتكز أساسا على تصوير اللحظات الجزئية، متمثلة في سلوك الأفراد، وفي خاطرات الوجدان، فإذا لم تكن «الجزئيات» المفردة من أحداث ومن أشخاص تسترعي انتباه الأديب، انصرافا منه إلى ما هو مجرد وعام، سقط من حسابه - بالتالي - أدب القصة، وأدب المسرح.
ومن وقفة العربي إزاء الفن الأدبي، ننتقل إلى وقفته في مجال الفن التشكيلي من تصوير وزخرفة وما إليهما، فها هنا كذلك نرى في وضوح ما قد زعمناه، وهو ميل العربي نحو رؤية المجرد العام، غاضا بصره - عن عمد أو عن غير عمد - عن التفصيلات التي تميز الأفراد. إن المصور العربي والإسلامي، إذا ما صور شخوصا إنسانية أو حيوانية، صورها على كثير من الإبهام، فالملامح مدمج بعضها في بعض، وليست مفصلة، على نحو ما يرسم الفنان التجريدي في عصرنا، إلى حد كبير، فهل نسرف في التعليل إذا قلنا إن الفنان العربي بمثل هذا التجريد والتبسيط، يستهدف الأنواع والأجناس، لا الأفراد، أو قل إنه يستهدف تصوير «الفكرة» وليس تصوير الفرد المتعين الذي يجسدها؛ إذ الأفراد - في عقيدته - مصيرهم إلى زوال، وهو إنما ينشد الدوام والخلود، والدائم الخالد هو «الفكرة» لا تجسيداتها المشخصة الفانية، حتى ليحق لنا أن نؤكد ما كررناه في مناسبات كثيرة أخرى، وهو أن ثقافتنا العربية التقليدية، محورها «مبادئ» لا «أشياء»، أي أن محورها «أخلاق» لا «جمال» (وأستخدم هذه الكلمة بالمعنى المقصود بها في الأستاطيقا أو ما يطلق عليه في مباحث الفلسفة اسم علم الجمال)، وربما كان ذلك هو ما قصد إليه ماسنيون، في حديثه عن طرق التعبير الفني عند المسلمين؛ إذ قال: إنه لا وجود «للأشياء» في الفكر الإسلامي، والمسلمون في فن التصوير يسقطون الوجوه والملامح لبطلانها.
وهذه الإشارة من ماسنيون تفتح لنا بابا للحديث عن موقف المسلم من الفن التشكيلي بصفة عامة، فلماذا لم يوجه إليه الفنان الإسلامي اهتماما كافيا، وصب معظم طاقته الفنية في هذا المجال التشكيلي على فن الزخارف؟ أكان ذلك خوفا على نفسه من الردة إلى الوثنية؟ أكان استجابة منه لمانع ديني ورد صراحة في الشريعة الإسلامية؟ أم كان ذلك قصورا من الفنان الإسلامي، لا أكثر ولا أقل؟
والجواب عندنا هو أن الأمر لا يعلله شيء من هذه الفروض، بل يعلله على الوجه الصحيح طريقة العربي في إدراك الحقيقة المجردة قبل تجسيداتها المفصلة، وتطبيق ذلك في مجال الفن هو أن يتجه الفنان إلى هندسة الأشكال لما تنطوي عليه من حقائق رياضية، ولأن رؤية الحقائق في تجريدها، هي عنده أقرب الطرق التي ينتقل بها إلى شهود الله عز وجل. ويخيل إلي أنك إذا ما سألت فنانا عربيا أو إسلاميا: لماذا لا تتجه إلى «الواقع»؟ لأجاب: وهل يكتمل الواقع إلا إذا مددنا الوجود الجزئي إلى ما يرتبط به من جوانب وراء هذا الواقع؟ إن «الواقع» لا يقتصر على الجزئي كما تحدده حدوده المرئية، بل إن ما هو متضمن وراء تلك الحدود، جزء من حقيقة ذلك الجزئي نفسه، وأنا (والكلام للفنان الذي نفترضه) أصور «الحقيقة» الواقعة، بجانبيها المنظور والمستور معا.
ولست أريد أن تفلت مني هذه الفرصة، قبل أن أدحض الزعم بأن الإسلام يحرم الفن التشكيلي (التصوير والنحت) بدليل الحديث الشريف: «يعذب المصورون يوم القيامة.» ولن أجد ما أستند إليه خيرا من نص ورد في ذلك عند «أبي علي الفارسي» النحوي، في مخطوطة ذكرها بشر فارس في كتابه عن «سر الزخرفة العربية»، وقال إن تلك المخطوطة موجودة في مكتبة البلدية بالإسكندرية، فأبو علي الفارسي يقيم رأيه على أساس لغوي في فهمنا للحديث الشريف السالف الذكر، قياسا على فهمنا للآية القرآنية الكريمة:
Shafi da ba'a sani ba