إذا بدأت من كلمة «عقد» - مثلا - انبثقت لك فروع قد تبدو متباعدة المعاني، لكنها معان من أسرة واحدة، جدها الأول هو هذا الثلاثي، فمنه تجيء: عاقد، ومعقود، وعقد (بسكون القاف)، وعقد (بكسر العين) وعقيدة، وعقدة، ومعقد ... إلخ. وإنك لتعرف مدى علمية هذه اللغة واطرادها، إذا حاولت أن ترجع إلى ما يقابل هذه المعاني الفرعية في الإنجليزية - مثلا - فعندئذ تجد كل معنى قد جاء من ناحية، بحيث لا يدرك الفاحص صلة الرحم بين أفراد الأسرة الواحدة، وعليك في الإنجليزية - في حالة كهذه - أن تحفظ كل لفظة بمعناها، مستقلة عن أخواتها. وأما في العربية فإذا عرفت الجد عرفت شجرة الأسرة بكل فروعها، من الإخوة إلى أبناء العمومة والخئولة، إلى الأحفاد وما بعد الأحفاد.
وبسبب هذه الروابط العضوية في مفردات اللغة العربية، كان في مقدور بعض علماء اللغة (ولا سيما مدرسة البصرة) أن تضع القواعد «العقلية» العلمية التي يقاس إليها في معرفة الصواب والخطأ، وفي صياغة كلمات جديدة للمواقف الجديدة، دون الخروج على أصول اللغة وروحها.
3
ونسوق مثلا آخر للنهج العقلي عند أسلافنا، وهو النهج الذي يجعل سيره - كما قلنا - متجها من مبدأ عام مجرد، إلى تطبيقاته. وسنأخذ هذا المثل من أحد ميادين الفكر الفلسفي، وهو ميدان «الأخلاق». ولقد تعمدنا اختيار هذا الميدان، لكون «الأخلاق» طابعا مميزا للثقافة العربية والإسلامية، إذا ما أجرينا موازنة بينها وبين ثقافات أخرى؛ فبينما نجد من الثقافات الأخرى ما يضع ارتكازه على التحليل العلمي لظواهر الطبيعة، ومنها ما يدير أرجاءه حول محور العسكرية والقتال والغزو، منتصرا مرة ومدحورا مرة أخرى، ومنها ما يجعل الأولوية للإبداع الفني من عمارة ونحت وتصوير؛ نجد الثقافة العربية والإسلامية قد أقامت بناءها على ركيزة أساسية، هي المبادئ التي ينبغي أن تحكم طرق التعامل بين الناس، وتلك هي مبادئ الأخلاق.
ونرجع إلى ألمع فيلسوف عربي في مجال «الأخلاق»، وهو ابن مسكويه، لنطالع كتابه «تهذيب الأخلاق، وتطهير الأعراق»، متجهين بأنظارنا نحو منهج السير، فلا نكاد نقرأ صفحاته الأولى، حتى يتبين ذلك المنهج في جلاء، ويظل يزداد لنا وضوحا كلما أوغلنا في القراءة، فهو منذ البداية يبحث عن المبدأ العام الذي يصلح لأن تشتق منه قواعد الأخلاق، التي على أساسها نميز بين ما هو خير وما هو شر في الفعل الإنساني.
وكان ذلك المبدأ العام عند ابن مسكويه هو: طبيعة النفس الإنسانية؛ ما جوهرها الذي تتميز به من سائر الطبائع؟ لأننا إذا ما عرفنا حقيقة الإنسان التي فطر عليها لكي يكون إنسانا، عرفنا بالتالي بأي مقياس نقيس الأفضل والأرذل، فكل صفة أو فعل، تدنو بصاحبها - أو يدنو بصاحبه - من تمثل الجوهر الإنساني، كانت تلك الصفة، أو كان ذلك الفعل فضيلة. وضد ذلك هو الرذيلة. ولا يفوت ابن مسكويه أن يلفت أنظارنا إلى أن الكمال في الإنسان من حيث هو إنسان، ليس مجرد حاصل جمع كمالات أجزائه، كأن يكون البصر سليما والسمع دقيقا، والكبد والرئتان ... إلخ؛ إذ الحكم على أخلاقية الإنسان لا يبنى على هذه الأعضاء في أدائها لوظائفها البدنية، وإنما يبنى ذلك الحكم على أن يحقق الإنسان من حيث هو كائن متكامل، الغاية التي من أجلها صوره الله إنسانا.
ولا يطول النظر بابن مسكويه، حتى يتبين له أن للنفس قوتين، ولكل منهما كمالها، فله - من جهة - «القوة العالمة» وكمالها إدراك المعارف والعلوم، ثم له - من جهة أخرى - القوة العاملة، وكمالها تدبير وسائل العيش ونظمه تدبيرا محكما.
وما دمنا قد وضعنا الأساس العام، فيسهل علينا بعد ذلك أن نستخرج القواعد الفرعية التي يجب اتباعها، لكي يتحقق لنا الكمال الذي تتطلبه فطرة الإنسان. ولعل هذا الموضع من الحديث، أن يكون أنسب موضع تجري فيه مقارنة سريعة بين الوقفة العربية في منهاجها، والوقفة اليونانية؛ وذلك لأن أقل إلمام بالفلسفة اليونانية، يدفع صاحبه دفعا إلى السؤال: ولماذا يكون هذا الاتجاه في السير من المبدأ العام إلى المواقف التطبيقية، مميزا للعقل العربي؟ أليس هو بعينه ما قد جرى عليه فلاسفة اليونان، بل وغيرهم من فلاسفة سائر العصور؟ وأضف إلى ذلك أن ابن مسكويه قد أخذ عن أفلاطون أخذا مباشرا تحليل النفس إلى جوانبها الثلاثة: الناطقة، والغضبية، والشهوانية.
وجوابنا على هذا السؤال ذو شقين: أولهما أنه لولا أن العقل العربي قد تميز بهذه الصفة نفسها التي تميز بها العقل اليوناني، من حيث وضع المبدأ الأول، ثم النزول منه إلى نتائجه، لما استطاع ذلك العقل العربي أن يتمثل الفلسفة اليونانية التي نقلها إلى لغته العربية نقلا كاد أن يكون كاملا. وثانيهما أن ابن مسكويه - شأنه في ذلك شأن سائر الفلاسفة المسلمين - لم يقصر نفسه على الحدود الأفلاطونية، بل إنه استخدمها مع غيرها من المصادر التي بين يديه، في تكوين فكرته الخاصة. على أن ما يعنينا نحن في هذا المقال، هو معالم الوقفة العربية والإسلامية عند التفكير النظري. ولا يغير من الأمر شيئا بعد ذلك، أن يكون هنالك من شاركوه في تلك المعالم؛ كلها أو بعضها.
ولقد جاء هذا الطريق النازل من المبدأ العام إلى الموقف الخاص، من حيث التفكير النظري في فلسفة الأخلاق، متطابقا أشد التطابق مع ما تقتضيه العقيدة الإسلامية في هذا الباب؛ إذ إن مبادئ الأخلاق عند تلك العقيدة، هي ما نزل وحيا من الله سبحانه على نبيه المصطفى، عليه الصلاة والسلام. وإذن فنحن مرة أخرى أمام فكرة ترتسم لنا بادئ ذي بدء، ومنها نبدأ سيرنا نحو التطبيق في عالم السلوك. فلو سئلنا بعد ذلك: كيف عرفتم أن الفعل الفلاني فضيلة؟ كان جوابنا: عرفناه فضيلة؛ لأنه متفق مع الفكرة الأولى الموحى بها.
Shafi da ba'a sani ba