Labarin Rayuwa
قصة حياة
Nau'ikan
وكان ضحكنا لأنى لست طفلا حتى يظنوا أنى تهت وضللت الطريق وكان قلبى يعصره الألم كلما تصورت جزع أمى وجدتى، وبكاءهما، وقد هممت مرارا أن أبعث إليهما بخبر مطمئن، ولكن الوقت كان يمضى ولا أفعل، وكان التردد فى هذا والحيرة شر ما أعانى، ولكنى كنت راضيا مغتبطا بقرب الفتاة وحسن رعايتها لى، وصدق سريرتها فى كتمان سرى، حتى عن أمها وأختها. ولم أكن أبالى الرطوبة أو الظلام فقد كان الوقت صيفا، والظلام جنة، وألفت عيناى النظر فيه فكان حسبى أن أرى محيا الفتاة.
ولكن الحب - بالغا ما بلغ من القوة والعمق - لا يمنع أن يضيق المرء صدرا بهذا الحب، وأن تلح الرغبة فى الخروج من مثل هذا المحبس على ما كان فيه من الأنس، ولم تنكر الفتاة منى ما كان يبدو من تململى وضجرى واشتهائى الخروج إلى النور، بل تطوعت فكانت رسولى إلى أمى تطلب لى منها الصفح، فما كان من أمى إلا أن ائتزرت وخفت إلى، وضمتنى إلى أحلى صدر وأرق قلب كأنما كنت قد غرقت أو خطفت..!
كلا، قد تنسى الفتاة كل شىء إلا هذه الحادثة ولكن أين هى؟ فوق الثرى أم تحته ياترى؟ قد تكون ماتت! أو تكون الآن عجوزا شمطاء! فهل أنا أحب اليوم أن أراها، وأن أعرف كيف صارت من بعدى؟ لا!
وإنى لأذكر أنى كنت يوما أتمشى مع صديقى الأستاذ العقاد، فرأيت رجلا قصيرا مرسل اللحية أبيضها، مقوس الظهر، مغضن الوجه، فقلت لصديقى «انظر.. هذا هو المازنى فى السبعين من العمر! تالله ما أقبح ما نحن صائرون إليه من الضعف والتهدم والدمامة! لا ياسيدى، خير من هذا المصير عمر قصير مع الصحة والقدرة.»
نعم؟ أكره أن أرى الفتاة فى حاضرها، وأن أفسد على نفسى صورة صباها النضير، وشبابها الريان، وهبها ماتت، فما ماتت عندى، وإنى ليموت منى كل شىء، ولكنها هى عندى ومعى حية لاتموت ولاتهرم مابقيت.
الفصل الخامس عشر
أراني منذ بضع سنوات أزداد كل يوم انقباضا عن الناس، وفتورا عن لقائهم، ومخالطتهم، ونفورا من الاتصال بهم، وكنت قبل ذلك أحس الضيعة إذا لم أجد من أجالس وأحادث، وكان يسرني أن أسمع صوتى - لا شاديا بل متحدثا - وكانت لذة الحديث لاتعادلها عندى لذة، وكنت في سبيل هذه المتعة البريئة أصنع كل ما يراني الإخوان ذا ولوع به أو طلب له، من برىء، وكانت الوحدة تتلف أعصابي، وتعصف باتزاني، وتكلفنى شططا، ثم ألفيتني - من حيث أشعر، ولا أشعر، أضيق الدائرة، أو أوسع لنفسي المخرج من محيطها، وأتسلل شيئا فشيئا، حتى أصبحت أتلفت فلا أجد حولى أحدا، وصرت إذا احتجت إلى لقاء صديق قديم، أتردد، وبى من التهيب والخجل مثل ما يحس المرء عادة عند لقاء غريب لاعهد له به.
وقلت لنفسي مرة: «ياهذا، إنك لتمشي فى شارع غاص بالخلق مائج بالرائحين والغادين والرائحات والغاديات، وتروح وتجيء مثلهم أو مثلهن ساعة أو بعض ساعة، وتقطع خمسة فراسخ فى الذهاب والإياب فلا يتفق أن تلقى وجها تعرفه. نصف المدينة القارئة تخرج إلى هذا الشارع وتسير فيه. وكل من ترى معه صاحب أو صاحبة، ولا تزال يده ترتفع بالسلام أو رأسه يهتز بالتحية لهذا وذاك، إلا أنت فما يمر بك من تعرفه أو يعرفك. ومع ذلك أنت أشهر من يمشى فى هذا الشارع ولعل كثيرين ممن تأخذهم عينك قد قرأوا لك، وأعجبوا بك أو سخطوا عليك فهم يعرفونك إذا كانوا يعرفونك - ورقات مغلفة أو مجلدة ولا يعرفونك فى الأحياء من أمثالهم، ومن يدرى، لعلهم يستغربون، بل يستنكرون أن يروك في الطريق! فكثيرا ما تحصل في نفوس القراء صور للكتاب ليس أغرب منها ولا أعجب. وقد خابت لى أنا آمال كثيرة فى أدباء عرفتهم قبل أن أراهم، لأنى وجدتهم علي خلاف ما كنت أتخيلهم مما أقرأ لهم. والصورة التى يرسمها المرء للمجهول تكون على هواه، وقلما يكون الأصل على حقيقته كذلك. والنفس بعد أن تفرغ من رسم الصورة وتلوينها وإنطاقها بالتعابير المستوحاة من الآثار المنشورة يعز عليها أن تتناولها بالتنقيح والتبديل بل بالتغيير التام فى أحيان كثيرة وهذه الصورة المتخيلة تكون من جهد النفس، والنفس لايطيب لها أن يذهب جهدها عبثا، وأثقل من ذلك على المرء أن يعترف بأن فراسته لم تكن صادقة، وأن التوفيق أخطأه فيما تعب فيه، وباهي فيما بينه وبين نفسه به، وما أكثر ماسمعت من الناس فى أول لقاء «غريب»! لقد كنا نتخيل المازني شيئا جسيما له طول وعرض. «أو قولهم» لقد كنا نتصور أنك تكور على رأسك عمامة عظيمة وترسل لحية كثة. «أو قولهم» أأنت المازنى أم اختزاله؟ «ومتى كان هذا هكذا أفلا يكون الأمثل أن أبقي في أذهان الناس كما يشاءون أن يتخيلونى، وأن أظل عندهم كتابا يقرأونه ويرضون عنه فيما أرجو - أو لا يرضون فقد استوى هذا وذاك عندي؟
وقلت لنفسي أيضا «إنك لم تعش إلى الآن» كما تحب وتؤثر أن تعيش، ولا سبيل إلى حياة تشتهيها مادمت تخوض العباب مع الخائضين وتضرب فى اللجة مع الضاربين، لأنه لا يسعك إلا أن تنزل فى الأغلب على حكم الجماعة، ولكل جماعة قواعد حياتها، والأمر في جد الحياة مثله فى لعبها ولهوها. وكما أن للعب أصوله ونظامه، كذلك للجد، ولا مفر من التزام هذه الأصول إلى حد كبير والنزول على حكمها؛ وإن كان كل خاضع لها يتسخطها ولا يرتاح إليها، إذ القيد قيد على كل حال فإذا أردت أن تحيا حياتك على النحو الذى هو آثر عندك فلا مهرب من التعزل ليتسنى لك أن تكون على هواك».
وقلت لنفسى أيضا - على سبيل التشجيع: «واعلم أنك لا تخسر شيئا تتحسر عليه، وتألم فقدانه إذا أنت انصرفت عن الناس وزهدت فى مخالطتهم، فسيكون عندك خير عوض عما يفوتك، ذلك أنك تكون كالذى يشرب عصارة ولا يمص، فهل من الخسارة أن تعفى نفسك أن تعب التقشير والمص، ومنظر النفاية التى لم يبق فيها خير، وأن تقنع بالعصارة التى هى الخير كله»؟
Shafi da ba'a sani ba