Labarin Rayuwa
قصة حياة
Nau'ikan
قصة حياة
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
Shafi da ba'a sani ba
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
Shafi da ba'a sani ba
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
قصة حياة
مقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
Shafi da ba'a sani ba
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
Shafi da ba'a sani ba
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
قصة حياة
قصة حياة
تأليف
إبراهيم عبد القادر المازنى
قصة حياة
هذه ليست حياتي، وإن كان فيها كثير من حوادثها. والأولى أن تعد قصة حياة.
Shafi da ba'a sani ba
ابراهيم عبد القادر المازني
مقدمة
فتحت عينى أول ما فتحتها فى حداثتى على دنيا تنتزع الكرة من يد الطفل وتقول له: «أتظن نفسك طفلا، له أن يلهو، ومن حقه أن يرتع ويلعب؟ لشد ما ركبك الوهم يا صاحبى! لا كرة ولا لعب. وعليك أن تثب الآن وثبا من هذه الطفولة التى كان ظنك أن ترتع فى ظلها إلى الكهولة دفعة واحدة! حتى الشباب يجب أن تتخطاه وثبا أيضا».
وأنكفى إلى أمى أسألها عن الكرة لماذا حرمتها دون غيرى من لذاتى فلا تقول إنها آسفة ولا إنها ترثى لى، أو أن قلبها يعصره الألم من أجلى، بل تضع راحتها الرخصة على كتفى وتقول لى بصوت متزن: «اسمع يا ابنى إنك لم تعد طفلا، وإنما أنت رجلنا الآن، وسيد البيت ورأس الأسرة وكبيرها! أى نعم. فقد ترك لنا أبوك مالا كان فوق الكفاية ولكن المال ذهب. ولم يبق لنا شىء».
فسألتها: «هل معنى هذا أننا سنجوع ونعرى»؟
فلم ترحمنى. وقالت: «قد نجوع ونعرى! من يدرى؟ ولكن أملى فى الله كبير. وعندى حلى ومتاع لا حاجة بى إليه. فسأبيع من هذا ونقتات ونكتسى. وستواصل التعلم - ما من هذا بد - حتى ينفد المال، وينضب المورد. وعسى أن يكون بعد العسر يسر فما يئست من رحمة الله ولكننى لا أرى أن نعتمد على غير ما بأيدينا، وهو قليل فاعرف هذا، روض نفسك على السكون إليه والنزول إلى حكمه».
قلت: «ولا اللعب»؟
قالت: «بلى، ولكن بغير كرة نضيع فيها مالا بنا حاجة إليه لقوتنا. إن الكرة تشجع على الركض، وتغرى بالنط. فاركض بدونها، ونط بغيرها وسترى أنك لن تخسر شيئا».
فصرت أركض لأن هذا واجبى، وما تتطلبه الحيوية التى لاتزال مقصورة على أعضائى. على حين كان يركض غيرى للهو والتسلية.
فعرفت فى التاسعة من عمرى - وهى سن غضة جدا - أن هناك واجبات تؤدى لذاتها، وحقوقا تقضى لأنها حقوق، لا لأن فيها متعة ولذة. وأحسست من صغرى أن شأنى غير شأن الناس، وإنى فقير وإن كنت مستور الحال. ولكن الستر لا ينفى الشعور بالفقر وغضاضته ومضضه. فأرهف ذلك إحساسى، حتى صار ينحى بمثل حد المبراة على قلبى فيحزه ويقطعه. فنزعت شيئا فشيئا إلى الانقباض عن الناس، واتقاء الخوض معهم فيما يخوضون، مما يستدعى نفقة وتكون فيه كلفة.
Shafi da ba'a sani ba
وقوى هذا الميل فى نفسى وعمقه أنى بعد الذى سمعته ووعيته من أمى. قصدت إلى أخى الأكبر - وهو من غير أمى - وسألته عن مال أبينا أين وكيف ذهب؟ فقال وهو يكاد يشرق بدمعه - وأنا أنطر إليه جامد العين: إنه هو الذى أضاعه، وجر علينا هذه المحنة، ولكنه يرجو أن يعوضنا خيرا مما أتلف. فأحسست أنى شببت جدا عن الطفولة فى تلك اللحظة!
وانصرفت وأنا أتساءل: «أليس لكل امرئ حقه؟ فكيف يتسنى لواحد أن يجنى على جماعة! وكيف ولماذا يجد الوسيلة إلى ذلك»؟
وصرت أخاف الناس وأنظر إليهم شذرا. وإذا كان الأخ يجنى على إخوته وأمهم وجدتهم، فما ظنك بالغريب الذى لا تصلك به رحم، ولا تعطفه عليك عاطفة من قرابة أو نسب»؟
وأقبل علينا قريب لنا يقول إن فى وسعه أن يرفع عن كاهلنا عبء نفقات التعليم ولكن «الواسطة» يطمع فى جزاء أو «رشوة» فأبت أمى كل الاباء. فما زال بها حتى ملت إلحاحه، فدفعت إليه ما يطلب. وغاب شهور الصيف. ثم جاءنا يقول إن الوزارة أعفتنى من نصف نفقات التعليم، فقلنا شىء خير من لا شىء. ولكنه كان كاذبا. وتبينا أنه لم يرش أحدا، وإنما استحل أن يسرق مالنا نحن الفقراء بهذه الخدعة.
فزاد سوء ظنى بالناس، وانزويت عنهم، وأقبلت على دروسى لأفرغ من التحصيل بأسرع ما يستطاع، فيتسنى لى بعد ذلك أن أكسب رزقى، وأنقذ نفسى وأهلى من هذه الفاقة التى منينا بها لغير ذنب جنيناه.
وترك هذا كله أثره فى نفسى، فاجتنبت أن أعاشر إلا الذين أرى حالهم يشبه حالى أو يقاربه، وصرت أشعر أنى غريب إذا ألقت بى المصادفات بين قوم من السراة أو الأثرياء أو المتظاهرين بالغنى، كأنهم ناس من شاكلة أخرى، وخلق مختلف. فكنت أنفر أشد النفور من مجالستهم أو مخالطتهم. ويكبر فى وهمى أنهم لا يخفى عليهم أنى نشأت فقيرا. وأنى امتحنت فى صباى أقسى امتحان، وأن ما أراه من مظاهر غناهم ليس إلا مخايلة مقصودة يشقون لى بها جفونى ويطلعونى على ما بينى وبينهم من بون.
وكنت قد كبرت وأصبحت معلما، وعندى فوق الكفية من الرزق فأشفقت أن يورثنى هذا عقدة نفسية أو «مركب نقص» كما يسمى. فعالجت ذلك بالتمرد، ورحت أعد الذين نشأوا فى حجر النعمة وظل اليسار، من المنبوذين، لأنهم متكلفون غير مخلصين لأنفسهم ولآدميتهم، ولأنهم مترفون، متطرون خرعون، لا يعرفون شرف الكد، ولا يدركون مزية الكدح والسعى، وإنما يعيشون عيشة الفضول والتطفيل، ولا يحيون حياة صحيحة، ملأى بحركة الشعور والعقل، فلا احتفال بهم ولا اكتراث لهم، وأنا وأمثالى أحق منهم بالكرامة وأولى باستيجاب التعظيم.
وارتفعت بى السن شيئا فشيئا، وزادت التجربة، ورحب الأفق على الأيام. فأدركت أنى أسرفت على نفسى وعلى الناس. وتبينت أن لا داعى للمرارة، فقد أفادتنى المحنة صلابة وعزما وثقة بالنفس وجرأة على الحياة والمغامرة فيها، ولو كنت نشأت فى نعمة سابغة لكنت حريا أن يفسدنى التدليل ، ولا ذنب للناس جميعا فيما كان من أحدهم أو بعضهم وفى الدنيا الصالح والطالح، ومن الظلم أن يبوء البرىء بإثم المذنب، وأن تؤخذ الجماعة بجريرة واحد، وكل امرئ يزل، والعصمة لم يؤتها إنسان وحتى ما جنى أخى قمن بالغفران. فما هو فى ذاته بالذى توصد دونه أبواب العفو، وما عدا المسكين أنه طاش طيشة كان من الجائز أن أطيشها لو كنت مكانه وكان حبلى على غاربى كما كان على غاربه، وما أعرفه أفاد إلا متعة قصيرة وحسرة طويلة على ما ضيع، وما أهداه إلينا من الكرب الجسام، فهو جدير بالرثاء والرحمة والنقمة. وما شهدت النعمة التى تقلب فيها زمنا وجيزا، ولكنى شهدت الندامة التى ظلت تأكل قلبه بقية حياته، وكنت على الرغم مما أساء أوقره وأنزله منزلة الوالد لأنه أسن منى، ولكنه هو كان أشد توقيرا لى منى له، وأعظم بى تحفيا. ولما نشرت أول كتاب لى - وكان ديوان شعر - حملت إليه أول نسخة منه أخرجتها المطبعة. فتناولها معجبا، وقلبها جذلا، وشرع يقرأ، فما راعنى إلا دمعه المنهمر، من فرط الحنو والزهو. فنهضت إلى زوجته وتشاغلت بالحديث معها، فما أطيق البكاء، ولا أعرفه، وإنى لأدرى أن الدمع رحمة وأنه كما يقول ابن الرومى:
لم يخلق الدمع لامرئ عبثا
الله ادرى بلوعة الحزن
Shafi da ba'a sani ba
ولكن قسوة الكفاح ومرارة الصبر على طول الحرمان، جففتا عبراتى وعلمتنى أن أبكى بقلبى دون عينى، وأن أستر ضعفى عن الناس، فلا أبدو لهم إلا بصفحة وجه يقرأون فيها آيات الرضى والاستبشار والثقة. والفضل فى ذلك لأمى. فقد جئتها يوما أبكى لأن غلاما ضربنى فأوجعنى، فنظرت إلى باسمة ولم تربت على كتفى، ولم تكفكف دمعى، ولا واستنى وإنما قالت لى: «رجلنا يبكى؟ فماذا عسانا نصنع نحن النساء الضعيفات»؟ فخجلت، ولم أكن خبرتها الخبر. فقلت - كأنما كنت فعلت - «ولكنه أكبر منى» قالت: «لا شك، ولكن حيلتك ينبغى إذن أن تكون أوسع» فما غلبنى بعد ذلك اليوم غلام أسن أو أكبر جسما، حتى خافنى صبية الحارة وحرصوا على اتقاء شرى .
والعبرة بالخواتيم - وقد انتقلت بى الحال بعد طول الضنك إلى سعة مرضية وخير كثير فالحمد لله على ما أنعم ويسر.
ورضيت عن الدنيا وانشرح صدرى للحياة ووجدت أن التسامح الذى مبعثه الفهم وصحة الإدراك أجلب لسرور القلب وطمأنينة الخاطر، وسكينة النفس، من تلك المرارة القديمة التى كان ينضح بها الوجه ويقطر اللسان. وألفيتنى أغتبط بأن أتلمس ما يروق ويسر من جوانب الحياة، وأن أبرز هذه الجوانب الوضيئة للناس وأشركهم معى فى نعيمى بها، وأحاول أن أفتح لهم كوى تدخل منها الشمس فتضىء لهم وجوه العيش وتمنحهم الدفء، وتشيع الابتسام والجذل فى وجوههم وقلوبهم، وأن أقطف لهم من أزهار الحياة ريحانا وآسا ونرجسا، وأن أجمل ما كان يبدو لى ولهم دميما، وأزين العاطل، وأرقرق الماء فى حواشى النسيم ليعود أندى على القلب وأثلج للصدر.
وتوسعت فى هذا وتعمقت. فقلت: إنى مثل الناس غيرى ومنهم، وكلنا مجبول من طين واحد، ولست خلقا قائما بذاته، أو بدعا فى هذه الدنيا، ومن الممكن أن أعرف الناس معرفتهم إذا أنا وسعنى أن أعرف نفسى، فصار دأبى بعد هذا أن أخلو بنفسى، وأحاسبها، وأراجعها، وأغوص فى أعمق أعماقها على بواعثها، وعلى ما تغرى بها غرائزها المهذبة أو الساذجة، وأن أقف على دواعى ضعفها ونقصها، وأسباب قوتها، وجعلت كدى كلما بدا لى ما يسوء، أو يريب أو يسخط، من أحد أن أحاول أن أضع نفسى فى مكانه، وأن أنظر ماذا كنت خليقا أن أصنع لو أننى كنت محله، وكان يحيط بى ما يحيط به، وكان لى مثل حظه الكثير أو القليل من العلم والتجربة؟ فأصبحت فيما أعتقد - غير مغرور أو مخدوع فيما أرجو - أعدل وزنا وأكثر إنصافا، وأسرع إلى تمهيد العذر منى إلى سوء الرأى.
وليس معنى هذا أننى الآن أرى أن الدنيا وأحوالها على خير ما يمكن أن تكون، أو أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، أو ما هو كائن. كلا ولكنى أرى أن معالجة الأسواء والفساد بحسن الإدراك، وصحة الفهم، والرفق والحسنى، أجدى وأرشد . وماذا يفيد تعذيب النفس بالتسخط وتلهب الغضب واحتدام النقمة؟ إن الذى له قيمة هو أن ندرك أن هناك ما يستوجب الإصلاح والتقويم، وأن نهتدى إلى وسيلة الإصلاح ومداه وليست ثورة النفس بالتى تعين على هذا وتيسره، فإنها خليقة أن تورثنا اضطرابا فى التفكر، وأن تجمح بنا إلى غير ما يشير به العقل، وتصفه الحكمة. وإنما الذى يعين على الصلاح والخير، والتفكير الهادئ والتدبر الرصين، وقياس مبلغ القدرة إلى الأمل، وأصالة الرأى، والحذق فى التدبير، ولا سبيل إلى شىء من هذا إذا اهتاجت النفس، وقامت قيامتها وثارت كاللجة المزبدة.
ولماذا أكتب كل هذا؟ ما صلته بموضوع الكتاب؟ لا أدرى! سوى أنى لطول اعتبارى أن أتدبر نفسى وأدير عينى فى جوابها، أصبحت أعتقد أنى أستطيع أن أعرف الناس بنفوسهم إذا وسعنى أن أكشف لهم عن عيونهم صورة صافية - لا مزورة ولا مموهة - من هذا الإنسان الذى هو أنا، والذى هو أيضا كل امرئ غيرى. وليس هذا بالمطلب الهين، وما كان مناله قط، ولن يكون دانيا. غير أن ما لا يدرك كله، لا يترك كله، وعلى المرء أن يسعى جهده وعلى الله التوفيق، وإن طاقة الإنسان لمحدودة ولكنه ليس عاجزا كل العجز، ولو أن كل إنسان أخلص وصدقت سريرته وبذل ما يدخل فى وسعه، لعادت الحياة أطيب وأبعث على الرضى.
وأحسب أن من بواعثى على هذا الاستطراد، أنى أقول لنفسى إذا أنا لم أنفع بتجربتى وفهمى هذا الجيل الذى يغذ الخطى وراء جيلى، فما خير أنى كنت وعشت، وفهمت أشياء وجربت أمورا، وألممت الحقائق؟ إن من ألأم اللؤم أن تبخل بعلمك على غيرك. وقد يعذر الذى يضن بالرغيف - وهو جائع - على رفيقه، وفى الطباع الإنسانية أن يؤثر المرء نفسه، فى خصاصته، على غيره وقد يبلغ المرء من الحرص على الذات فى المحنة أن يخطف اللقمة من فم ابنه وهو ضنئوه وفلذة كبده لان التضور وخوف التلف الوحى يثيران غريزة حفظ الذات فيذهل الإنسان عن واجب المروءة، وواجب الأبوة، ولكن المعرفة ليست مادة يحفظ بها البدن من الوبال، وهى لا تنقص بالشيوع والاستفاضة ونصيبك منها لا يقل إذا بلغ فيها غيرك مبلغك، وفى وسعك أن تهدى منها ولا تخشى عليها النقص، ومن المحقق أنك أحرى أن تكون أسعد إذا صار الناس أعلم وأفطن وأوسع مدارك وألطف حسا.
فالضن بالمعرفة ضيق عقل وسوء رأى، ولؤم نفس وخسة طباع - بلا مسوغ ما، ولا فائدة ما - لأن الناس يصلون إلى المعرفة أردت أو لم ترد، وبمعونتك أو بغيرها. فما أنت فى الدنيا بالوحيد الذى ينظر فيجد، ويبحث فيهتدى، ويعالج فيوفق.
وأمر آخر أردته - وأظنه مما ساقنى فاستطردت - ذلك أن الناس أشباه متماثلون وإن تفاوتت بهم الأموال، وليس اختلاف النشأة بمانع أن تكون التجربة من معدن واحد، وإن كان المظهر يوقع فى الروع لأول وهلة أن المخبر شىء آخر.
الفصل الأول
Shafi da ba'a sani ba
تلك كانت حياتى - فقد نشأت فى بيت صارم التقاليد فى ساحته الواسعة مصلى وميضاة، وعلى جانبى مدخله غرف لإقامة الأتباع والتلاميذ والمريدين، وكانت آخر هذه الحجرات، مما يلى الساحة مباشرة - غير مسقوفة، وكانت تتخذ اصطبلا لمن له بغلة أو فرس أو حمار، وبعد المغرب من كل خميس يجتمع المفرقون من هؤلاء الأتباع فى المصلى، ويتلون «الورد» وهم قعود ثم يذكرون الله، ثم يقومون إلى صلاة العشاء، ثم إلى الطعام فالخلوة، وفى الفجر يخرجون إلى مقبرة الشيخ الكبير.. وهناك يتلى «الورد» مرة أخرى، وتعقد حلقة الذكر.. ثم يؤكل «الفول النابت» والخبز.
وكان يروقنى هذا ويستولى على خيالى، فأشاركهم فيه، وأتلو الورد الذى يتلونه، وأصلى على النبى كما أراهم يصلون، وأهز رأسى وجسمى فى الصف عند «الذكر» كما يفعلون، وأحاول - عبثا - أن أجعل صوتى غليظا عميقا، وأرافقهم فى الفجر إلى المقبرة، وأزيد عليهم فأعرج على قبر أبى فأزوره ثم أرتد إلى الحارة واللعب، والقلب راض والنفس ساكنة.
ولم يكن هذا بيت أبى، وإنما كان بيتا يسع من شاء من الأسرة أن يذهب إليه ويقيم فيه، فقد كان واسعا كبيرا، فلما مات أبى وساءت حالنا بعده، اتخذنا لنا فيه شقة اقتصادا فى النفقة، وعز على ذلك فى أول الأمر فقد كان لنا بيت خاص لا يشاركنا فيه مشارك، وكان عندنا الخادم والخادمة والبواب والبستانى، ومن العجيب أنى أذكر مدخل البيت وساحته الرحيبة وحديقته والنافورة والحجرات من حول ذلك، وفيها مكتب أبى ومكاتب الوكيل ومساعديه ولكن ماعدا ذلك بهتت صوره، وأذكر أنى كنت أدخل على أبى فى مكتبه وعنده أصحاب القضايا، فأقف إلى جانبه وهو منكب على الورق، وأنا ساكت لا أقول شيئا ولا أتحرك، حتى يرفع رأسه ويمد يده إلى فنجان القهوة، فأقول بصوت خفيض «أبويا. أبويا. أبويا هات قرش..» فيضع يده فى جيبه ثم يخرجها بما تخرج به - بقرش أو نصف فرنك، أو أقل أو أكثر - فأتسلل بما أعطيته، فألفى أخى الأصغر ينتطرنى عند الباب، فنخرج إلى الحارة حيث نجد بائع الدندرمة.. فندفع إليه ما معنا، ونأكل حتى نشبع ونحمد الله، أو لا نحمده فنميل على دكان مجاورة لبيتنا فنشترى كرات وبليا وما إلى ذلك - نبدد الفلوس والسلام وكان أخى أصغر منى وكان جميلا مشرق الديباجة سمينا وبضا غضا، فكان أبى يخاف عليه أن تصيبه العين، ومن هنا أمر ألا يدخلوه عليه فى المكتب لئلا يراه ذو عين فيحسده، فاتفق يوما أنى كنت عند عمتى، فلما مر «بائع الدندرمة» أقبل عليه الغلام بالطلب كالعادة، فناوله من مثلجاته، ولم يجد أخى معه ثمن ما أكل، فخلع طربوشه. وعرض على الرجل أن يقبله بديلا من الثمن وكان أخى ولا يزال عظيم الرأس، فطربوشه يصلح للكبار، فمضى الرجل به ولم يعد بعدها لسوء حظه.
ومن الصور التى لا تزال ماثلة أمام عينى، أن جدى دخل على أبى فى مكتبه يتوكأ على عكازه، فنهض له أبى واقفا وأفسح الزباين له ليقعد ولكنه لم يفعل والتفت إلى أبى وطلب منه شيئا، فاستمهله هذا فما كان من الجد إلا أن رفع «العكاز» وأهوى به على كتف أبى، فتأوه واختبأ تحت المكتب، وانصرف جدى غاضبا ساخطا يلعن العقوق، وعاد إلى كرسيه فى مدخل البيت.
وكنت أنا حاضرا هذا الذى حدث، فشق على أن أرى جدى يضرب أبى بهذه الهراوة الضخمة، فخرجت إليه فنادانى وأدنانى منه وأجلسنى على حجره وشرع يلاطفنى ويدعو لى، ولكنى كنت مغيظا محنقا فتناولت شعرات من لحيته الكثة وشددتها وفى نيتى أن أنتفها كلها عقابا له، فزجرنى وأدار وجهه ورفع يده له لتخليص لحيته، فبدا لى قذاله فصفعته فطار عقله ودفعنى فارتميت على الأرض ورأيته يميل على هراوته ويتناولها فوضعت ذيلى بين أسنانى وانطلقت أعدو.
وقد ظل جدى شهرا يأبى أن يكلمنى أو ينطر إلى، وأنا أكاد أجن من ثقل الشعور بالحرمان من عطفه، فلما فاءت نفسه إلى الرضى كتب لى حجابا وجلده - حفظا له من التلف - وعلقه على جنبى الأيسر ليقينى الله سوء الأدب، إذا كان قد وقع فى روعه ووقر فى نفسه أن الناس حسدونى فكان منى هذا الذى أسخطه على.
وكان شر ما يمكن أن يعاب به الواحد منا نحن الصبيان، أن يراه أحد واقفا يحدث بنتا أو يلاعبها. يا حفيظ! ولد يلعب مع بنت ... هذا إثم كبير ومعصية توصد من دونها أبواب الغفران، فإنه عيب وسوء أدب وقلة حياء وفساد تربية وأشنع من هذا وأبلغ فى العيب وسوء الأدب أن تلعب البنت فى الشارع أو فى ساحة البيت، ألا تكفيها حجرات البيت التى تطل نوافذها على الطريق وعلى فناء الدار؟ وصحيح أن الشبابيك مسمرة؛ ولكن النظر من الثقوب ميسور وهذا يكفى؟ بل كان من العيب أن يرى الرجل زوجة أخيه إذا كانت غريبة أو من غير قريباته.
وتغرب الشمس فيجمعنا الخادم من الشارع، ويهش علينا كما يهش على الغنم أو الدجاج، ويردنا إلى البيت والحجرات ذات الشبابيك المسمرة مخافة أن يخطفنا أحد إذا بقينا نلعب فى الحارة؛ أو يصادفنا «السماوى» فيميتنا، أو يظهر لنا عفريت فيركبنا أو يرعبنا أو يفعل بنا غير ذلك مما تفعل العفاريت، ويكون الحر شديدا والليل جميل وتزهق أرواحنا فى الغرف المكتومة ونشتهى أن ننعم بالليل والسماء الحافلة بالنجوم الخفاقة اللمعان، ولكن لا سبيل إلى ذلك.
وكانت بنت خادمتنا فى مثل سنى، فكنت أتوق إلى ملاعبتها بعد إذ نهش إلى الغرف فى الليل فتأبى أمى وأمها ذلك علينا وتصرفاننا عنه لأنه عيب، وتجر الخادمة بنتها إلى حجرتها - تجرها من أذنها وتشد عليها وتقرصها وقد تضربها علقة، وتجرنى أمى فى يدى أو من شعرى إذا حزنت، أو تحملنى وأنا أضرب بيدى ورجلى من الهواء وأصرخ وأصيح وترقدنى برغم أنفى على السرير وتغطينى باللحاف وتروح تحدثنى عن العفاريت وتصف لى ما تصنع بالأطفال الذين «لا يسمعون الكلام» ولا يفعلون ما يؤمرون، وتروى لى قصصا يقف لها شعر الرأس ويتقبض الجلد عن «المريرة المؤتزرة» و«أبى رجل مسلوخة» وغيرهما وغيرهما فأتضاءل ويدخل بعضى فى بعض، وتهم بأن تتركنى وقد اطمأنت إلى سكونى ووثقت أنى غير مفارق فراشى فى ليلتى تلك، فأصيح بها وأناديها وأدعوها أن تبقى إلى جانبى لأن «اللحاف» يحدق فى بعينين تقدحان شررا، أو لأن دهان الحائط يبدو لى عليه رسم يشبه ما سمعت من أوصاف أبى رجل مسلوخة فأنا أخاف أن يتجسد ويخرج من الجدار ويميل على بأسنانه وأظافره.
وبعد لأى يغلبنى النعاس فأنام وأنا أحلم بالعفاريت والإمساخ والليل المخوف والنهار الذى يعيد الطمأنينة، والسلالم المظلمة وما يختبئ لى عندها، ولم تكن أحلامى تخلو من متع منغصة، وما أكثر ما رأيت فى منامى أنى لاعبت هذه أو تلك من البنات وأن أهلى دهنونى بالسمن والعسل وقيدونى ورمونى فى ركن حالك السواد وتركونى للحشرات وغيرها من المؤذيات والمرعبات.
Shafi da ba'a sani ba
ويصبح الصباح فأحمل إلى «الكتاب» حملا، وهناك توضع قدماى فى «الفلقة» ويهوى عليها «سيدنا» - فقيه الكتاب - «بالجريدة» أو «المقرعة» أو بكل ذلك إلى مساعده «العريف» وبهذا يبدأ النهار.
الفصل الثاني
لم يطل مكثى فى «الكتاب» لأن أمى أصرت على المدرسة. وكان أبى مشغولا عنا بزوجة جديدة وكان عمله يضطره إلى السفر إلى «استنبول» فكان يقضى هناك ماشاء الله أن يقضى - شهورا أو عاما أو قرابة ذلك - ثم يعود ومعه زوجة. وأحسبه كان يضطر إلى الزواج اتقاء من الإثم . ولكن الغريب أنه كان إذا احتاح إلى السفر مرة أخرى، يحمل معه الزوجة ويسرحها هناك ويجىء بغيرها وأظنه كان يحب التركيات ويؤثرهن على سواهن، وعسى أن يكون قد راقه منهن بياضهن وحسن التدبير والنظافة والطاعة والأدب فإن يكن ذاك فما ورثت عنه إلا نقيضه ولست أعنى - كما لا أحتاج أن أتول - إنى احب الوساخة وسوء التدبير وقلة الأدب والعياذ بالله، وإنما أعنى أن اللون الأسمر آثر عندى وأحب إلى، وأنه إذا اجتمعت اثنتان واحدة بيضاء والأخرى سمراء، وكانتا من الحسن فى منزلة واحدة، فالسمراء عندى أجمل وأندى على القلب، وعسى أن يكون هذا من التعصب لأمى ولنفسى، فإنى أسمر - أو إلى السمرة أقرب - ولعلى أكره أن تزهى على واحدة ببياض جلدها، ولكن هذا شطط فلأرجع إلى ما كنت فيه.
ولم تكن الزوجة الجديدة من استنبول وإن كانت تركية، وكان لها ولد من زوج سابق ترك على أرنبة أنفها آثار أسنانه، ذلك أنه عض أنفها فى ساعة من ساعات الغضب أو الجنون، وكانت أسنانه نضيدة فتركت حزا واضحا. ولبعض الناس ولع بالأنوف فى ساعة الغضب، فقد كان لى قريب يتناول أنف زوجته إذا ساءه منها فعل أو قول ويهزه يمنة ويسرة فيدور رأس المسكينة، وتتساقط دموعها.
ولم يهجر أبى (البيت الكبير) فى سبيل هذه الزوجة الجميلة - فقد كانت جميلة - والشهادة لله - وكان الرجل معذورا - ولكنه كان يقضى عندنا ليلة، وعند هذه الزوجة ليلة، فأما ليلته فى البيت الكبير فكان يقضيها مطرقا يسمع التقريع والتأنيب من جدى تارة، ومن أمى تارة أخرى، وكان عظيم الحلم، طويل البال قليل الكلام، فكان لا يزيد على الابتسام، وهذا ما خالفته فيه أيضا، فإنى أحمق طياش سريع الغضب حاد الطبع وثرثار لا يفرغ الناس من هذره، ومن الإنصاف لأبى أن أقول: إنه ما بين شغله بزوجته الجميلة وما يكابده فى البيت الكبير فضلا عن عمله المضنى، لم يبق له وقت يعنى فيه بنا نحن - بنيه الصغار - وكان لنا أخ كبير غير شقيق أذاق أبانا الأمرين وأراه النجوم فى الشهر الأحمر، ومن حوادثه التى تروى أنه كان يصلى الفجر فى مسجد الحسين، فخرج مرة إلى صلاة الفجر على عادته فألفى باب المئذنة مفتوحا، وكان المؤذن شيخا هرما ضخم الجسم، كالفيل الصغير، وكان أعمى، فخطر لأخى أن يعابثه فصعد على أطراف أصابعه ووقف وراء المؤذن المسكين الذى لا يدرى أن وراءه هذا الشيطان، وأنه ليرفع الصوت بالأذان ويصيح فى سكون الليل (حى على الصلاة) وإذا بصوت من ورائه يرتفع فجأة ويصيح متمما (حى على الفلاح) فريع الرجل وله العذر، وكان ضخما كما قلت، وعلي صدره قنطار من الشحم، وكانت صدمة المفاجأة عنيفة فسقط مغشيا عليه وميتا على قول، ولم يضطرب الأخ المحترم بل أتم الآذان وانحدر إلى المسجد للصلاة ثم احتال فأغرى خدم المسجد بالبحث عن المؤذن المسكين وانصرف هو إلى بيته قرير العين راضيأ عن نفسه ونام نوم الصالحين.
وكان أبى فى وقت من الأوقات مدرسا للغة العربية فى المدرسة الخديوية فألحق بها ابنه ليكون تحت عينيه، فكان هذا الابن البار هو الذى زهد أبى فى التعليم فنفض يده منه واشتغل بغيره، ولم يطل بقاء أخى فى هذه المدرسة فقد طردوه فأدخله أبوه مدرسة صناعية، أو زراعية لا أذكر وكان يبيت فيها. فصار يغرى الطلبة زملاءه بالخروج فى فحمة الليل، وكان يربط البطاطين بعضها ببعض، ويدليها من النافذة ويتخذ منها هو وزملاؤه حبلا يتعلقون به، ويتدلون وبه يصعدون أيضا حين يعودون مع «الديكة» وظهر الأمر فاشتجر أخى مع ضابط المدرسة، وتماسكا وتضاربا فانكسرت رجل الضابط ولا آخر لحوادث هذا الأخ وقد ظل إلى آخر لحظة من حياته مولعا بالعبث.
وكنت فى السادسة أو حوالى ذلك لما أخرجتنى أمى من «الكتاب» وبعثت بى إلى مدرسة عجيبة الحال، تمهيدا لإدخالى مدرسة حكومية، ذلك أنها كانت مدرسة بنات، ولكن فيها «فصلا» واحدا للصبيان، وكانت صاحبة المدرسة «خياطة» ومن هنا كانت معرفة أمى بها، وإرسالى إليها وكان يساعد هذه السيدة رجل قصير نحيف ولكنه غليظ الكبد، وكل ما أذكره أننا لم نكن نرى البنات أو نختلط بهن، بل كنا نوضع فى حجرة ضيقة، توصد علينا بالمفتاح؛ فكانت هذه الحجرة هى المكان الذى نتلقى فيه الدروس وهى الساحة التى نلعب فيها، وإليها يجيئنا طعامنا ظهرا وكنا إذا تركنا المعلم نزحزح الأدراج عن موضعها. لنفسح مكانا لنا ونحن نتقاذف الكرة أو نجرى «البلى» على البلاط، وما أكثر ما كسرنا زجاج النوافذ وغرم آباؤنا ثمنه.
وكان مساعد المديرة رجلا فظا - كما قلت - إذا أخطأنا أو قصرنا يأمر الواحد منا أن يخلع الطربوش ثم يضربه على رأسه العارى بالخيزرانة. وكنا فى الفصل سبعة أو ثمانية، فحدث يوما أن أوسعنا ضربا على رءوسنا فثرنا به من فرط الألم، وتمردنا عليه وأشبعناه لكما وركلا، ومزقنا له سترته الطويلة - الاستانبولين - وخطفنا العصا من يده وأذقناه وقعها على أصابع يديه وعلى ركبتيه ولا أحتاج أن أذكر أننا طردنا وأن المدرسة استغنت بالبنات الوديعات عن الصبيان الملاعين.
وكان ابن زوجة أبى معى فى هذه المدرسة، فلما طرد كما طردت، وكان الوقت قبل الظهر خاف أن يذهب إلى أمه بالخبر، فأشرت بأن لا يفعل، واقترحت أن نبحث بقية يومنا عن مدرسة أخرى ندخلها، فنخرج من هذا المأزق، فوافق ففعلنا، واهتدينا إلى مدرسة فى شارع «تحت الربع» أو «درب سعادة» لا أذكر، وكان من الغريب أن صاحبها قبلنا بلا كلام أو سؤال أو مراجعة.
وبعد نحو أسبوع عرف أبى ما كان، فلم يقل شيئا ولكنه أخرجنا من هذه المدرسة وألحقنا بمدرسة أخرى فى شارع محمد على، على مقربة من القلعة وتسمى مدرسة «القرشوللى» وأظن أن زوجته هى التى هدته إليها وأشارت بها، فقد كان صاحبها تركيا، وفى هذه المدرسة كان الضابط - وهو تركى أيضا - يجلدنا بالسوط، ولا نكران أنه كان يترفق بالصغار أحيانا ولكن السوط كان فى يده، وكان يكفى أن يلمسنا بطرفه وقد بقيت بهذه المدرسة إلى آخر العام واجتزت امتحانها، ولكن صاحبها أبى أن ينقلنى إلى «فصل» أرقى، لأنى صغير السن، فبقيت فى السنة الأولى عاما آخر بلا موجب سوى حذلقة هذا المدير أو الناظر الذى استضأل جسمى واستصغر سنى، واستكثر على السنة الثانية من أجل ذلك.
Shafi da ba'a sani ba
وكنت أعود عصر كل يوم فأرمى كتبى وكراساتى، وأخرج إلى الشارع لألعب مع أقرانى، فأزجر عن اللعب فأصعد وأطل على اللاعبين من الشرفة، وبى حسرة ولهفة. وأسمعهم يصفوننى، «بالعقل» و«الهدوء» فألعن «العقل» وأذم «الهدوء» فقد كنت مكرها على ذلك لا مدفوعا إليه بطباعى وميولى، ومتى رأيت طفلا ساكنا قليل الحركة، فاعلم أنه مريض أو ضعيف أو ممسوخ ومتى يلعب الواحد ويجرى وينط إذا لم يفعل ذلك فى طفولته؟
ويدخل الليل فأجلس قريبا من المصباح وأفتح الكتاب وأقرأ خوفا من السوط لا رغبة فى التعليم، ويرانى أبى فيشفق على عينى أن تؤذيهما القراءة فى الليل، فينهانى عنها، فأطوى الكتاب وأسكت، وأضيق ذرعا بهذا الصمت، فأفتح فمى وأهم بكلام فينهانى أبى وينهرنى، ويقول لى: «لا تقاطع الكبار، ولا تحشر نفسك معهم» فأقول: إنه ليس هنا صغار أحشر نفسى معهم فمع من أتكلم؟ فيعبس ويضع أصبعه على فمه، فأسكت ثم ينفد صبرى فأعود إلى الكلام فيقول لى: ألم أقل لك إن هذا الكلام لا يليق؟ فأعترض بأبى أراه يتكلم وأرى أمى تتكلم فلماذا يليق بهما مالا يليق بى؟ فيبتسم ولا أدرى لماذا؟ ويربت لى على كتفى وخدى، وقد يقبلنى ويمسح لى شعرى، فأتململ وأقول له إنى أريد أن أتكلم وألعب فمع من؟ بنت الخادمة لا يليق أن ألاعبها لأنها بنت، وأخى أصغر منى بأربع سنوات وهو على كل نائم.
فتحملنى أمى إلى الخادمة، وتوصيها بى، وتتركنى معها، فتسرى عنى بحكاياتها وأحاديثها حتى يغلبنى النعاس.
وكنت أرى أبى يدخن وهو متكئ بكوعه على مخدة فيتلوى الدخان فى جو الغرفة ويتلوى خياله على الحائط، فأتتبعه بعينى تارة، وبأصبعى تارة أخرى. واشتهيت مرة أن أقلد أبى: فجئت بورقة ولففتها على صورة سيجارة وجعلت أضعها فى فمى وأنا متوكئ على الوسادة وأنفخ كما يفعل أبى، ولكنه لم يكن هناك دخان يتصاعد ويتلوى، فأشعلت عود كبريت وأضرمت النار فى اللفافة واتفق أنى وضعتها على الوسادة فاتصلت بها النار وامتدت إلى حشوها من القطن تحت الكسوة ففزعت وخرجت أعدو، واختبأت وبعد قليل كانت النار مندلعة فى البيت، وكان كل من فى البيت يجرى بالطشوت والأباريق والقلل لإطفاء الحريق فلم يجد ذلك شيئا وامتدت النار إلى غرفة أخرى ولم تكن شركة الماء قد مدت أنابيبها إلى البيوت. وكان السقا يمر بنا كل يوم فيملأ لنا الأزيار والطشوت وما إلى ذلك من الأوعية وكانت وسائل الاتصال بطيئة، ولا سيما فى الأحياء الوطنية، فلا تليفون ولا ترام ولا سيارات ولا شىء إلا الدواب ومركبات الخيل، وكانت إدارة المطافئ تتقاضى خمسة جنيهات إذا دعيت لإطفاء حريق. على أنى لا أدرى بماذا كانت تطفئ الحرائق ولا ماء هناك يجرى فى الأنابيب. فإذا قلت إن البيت احترق، وأن الحارة كلها شبت فيها النار فلا يصدقنى القراء، والمثل يقول «يعملها الصغار ويقع فيها الكبار» أى والله.
الفصل الثالث
كان لأخى الأكبر زوجتان من قريباته تقيمان معنا فى بيت واحد لهما منه الدور الأوسط، ولنا: جدتى وجدى وأبى وأمى - الدور الأعلى - وللمكتب الغرف - أو المناظر - التى كانت فى ساحة البيت، أو فنائه. وكان أخى - كأبى - مزواجا. فأما أبى لا أعرف لماذا كان هكذا، فما أعرف فى أسرتنا كلها من كانت له زوجتان فى وقت واحد، أو من طلق زوجته أما أخى فقد يبدو من المستغرب أن يتخذ امرأتين فى حياة أبيه، وهو لا يكسب قرشا بعرق جبينه، ولا مورد له إلا ما يجود به عليه الوالد، ولهذا يحسن أن أقول، إن أباه زوجه وهو صغير - كما كانت العادة فى ذلك الزمان - ليفرح به، وكانت ليلة الجلوة ليلة سوداء أعنى أن السرادق أقيم، وأضيئت الأنوار ونشرت الرايات، ومدت الموائد، وراحت الموسيقى تعزف، وشرع المغنى يصعد إلى «التخت» وإذا بنبأ يجىء من سمخراط أن المرحوم إبراهيم أفندى الوكيل توفى فجأة، فأطفئت الأنوار، وانفض السامر وشرع الذين كانوا فى جذل وسرور وحبور، يتهيأون للسفر إلى المأتم.
ومضت سنوات فلم يعقب أخى نسلا فقلق أبى، وقال قائل: إن الزوجة عاقر، وقال آخرون قد يكون العقم علته من «الولد» فما العمل؟ العمل أن يزوجوه من أخرى على سبيل التجربة وعند الامتحان يكرم المرء أو يهان وقد كان، ولكن «الولد» - أعنى أن أخى - ظل لا يعقب شيئا، ولم يفد من هذه التجربة، إلا أنه صار ذا زوجتين.
وعلى ذكر العقم، أقول إن أخى هذا وشقيقته - عليهما رحمة الله - من أخرى ماتت قبل أن يتزوج أبى أمى، وقد شاءت الأقدار أن يكون نسلها عقيما، وأن يحرم أبناها - أخى وأختى - بعض زينة الحياة الدنيا وأن يقاسيا من جراء ذلك ما يقاسيه كل راغب فى الذرية، وكان بلاء أعظم، فقد اضطرت أن تصبر على الحرمان، وأن تحتمل ما يبديه بعلها من اللهفة على البنين وأن تنصح له بالزواج، فلما فعل ورزق طفلا طلق أمه - أو ماتت لا أدرى، فتولت هى تربيته وتبنته وتعهدته وأولته ما انطوت عليه نفسها من عطف الأمومة المخنوقة وحفظ لها هو ذلك، فكان أبر الناس فى حياته وأحناهم عليها وأعمقهم حزنا لما وافاها الأجل.
وأعود إلى أخى بعد هذا الاستطراد فأقول إنه كان على هذا لا يجرؤ أن يسهر، أو أن يدخن أمام أبى، فقد كان السهر والتدخين محرمين على غير جدى وأبى، فأما جدى فكان يتخذ ما يسمى «الشبك» - بضم الشين والباء - وهو قصبة طويلة جدا نحو ذراع ونصف ذراع يتصل باخرها شىء يحشى بالدخان وتوضع عليه الجمرة. وأما أبى فكان يتخذ السجاير ولكن ما كان مباحا لهما، كان محرما على سواهما - لا أدرى لماذا؟ وإن كان أخى ذا زوجتين.
وقد رأيت أخى مرة يدس السيجارة فى جيبه وقد خرج عليه أبى فجأة فتحرق الجيب، فيطبق عليه أصابعه ليخمد ما اضطرم.
Shafi da ba'a sani ba
وما أكثر ما كان أبى يضربه، لأنه يسهر، ويدخن! ولكن العلقة الكبرى كانت لما هو أدهى من السهر والتدخين، حدثنى أخى بعد أن كبرت وأصبحت رجلا مثله لى شاربان أفتلهما ولحية أحلقها، قال: (لم يكن باقيا على العيد إلا بضعة أيام، فخطر لى أن أقص شعرى قبل أن أذهب إلى الحمام) - وكان أخى مغرما بحمام السوق أو الحمام التركى، يؤثره على ما عداه - وكنت قد مللت حلاقنا، وكان شيخا وقورا له لحية كثة هائجة لا يعنى بتشذيبها وتقليمها، وسئمت فوطته الحمراء المخططة، والطشت الذى يضعه لى عند رقبتى ويترك لى حمله، فيسيل الماء الذى يصبه على رأسى بلا حساب، على ثيابى وينفذ إلى بدنى، فقلت ألتمس حلاقا آخر، وذهبت أجوب الشوارع وعينى على دكاكين الحلاقين، حتى خرجت من الأحياء الوطنية ودخلت فى الشوارع التى يكثر فيها الأجانب، واهتديت إلى حلاق أجنبى، فتوكلت على الله ودخلت فأقبل على يرحب بى، وأجلسنى على كرسى وثير لا عهد لى بمثله ونشر على صدرى فوطة بيضاء مكوية، لها كمان يدخل فيها ذراعاى، وقص شعرى، ثم نفض الفوطة وجاء بغيرها وحلق لى ذقنى بماء الكولونيا، ثم راح يقترح على أن يصنع كيت وكيت مما لم أكن أعرف مثل «الماساج» و«الشامبو» إلى آخر ذلك، وأنا جذل أهز له رأسى أن نعم، كلما عرض على شيئا من ذلك، ثم قال: «مانيكور» فهززت رأسى موافقا وإن كنت لا أعرف ماذا يعنى، فدعانى إلى ماوراء ستار ونادى فتاة شقراء حلوة لا أدرى من أى الفراديس جاءت، وقال لها كلاما فابتسمت لى وتناولت كفى الكبيرة الخشنة التى يغطى ظهرها الشعر، وعكفت على أظافرى تنظفها وتقصها، ثم تناولت شيئأ جعلت تدهنها لى به وأنا أكاد أموت من الخجل، وصدقنى حين أقول لك إن هذه أول فتاة غريبة لمست كفها كفى، فإذا أضفت إلى هذا أنها كانت ساحرة الجمال، ذهبية الشعر، وضاءة المحيا، مشرقة الجبين، نظيفة الأسنان، وأن ابتسامتها فاتنة، وفى صوتها عذوبة تذيب المرء، وأنها هيفاء ممشوقة، وخفيفة لطيفة، وأن فى نظرتها لينا يغرى بتطويقها وضمها، وأنى ماعرفت من النساء إلا البدينات اللواتى يخنق روحهن ما عليهن من أكداس اللحم - إذا أضفت هذا كله - فإن فى وسعك أن تدرك عذرى حين أقول لك إنى عشقتها ولم أستطع أن أقول لها شيئا.
وكنت أنظر إليها كالأبله، ثم فتح الله على، وأطلق لسانى من عقاله فقلت وأنا مضطرم الوجه من الخجل: إنى لم أكن أدرى أن المانيكور هو هذا، وإنى آسف فإن كفى كبيرة كالرغيف وعليها غابة من الشعر، وأحسب أنه لا يليق بى أن أدعها تصبغ لى أطافرى، فإنى أخشى أن أضطر إلى إخفاء يدى حتى يذهب هذا اللون، وهممت بأن أنزع يدى من يدها، فشدت عليها ولم تتركها لى، وقالت بأعذب ابتسامة رأيتها فى حياتى:
إنه يسرها أن تنظر إلى هذا الكف الكبيرة الخشنة، وإن أكثر ما ترى من الأكف لين بض غض كأكف النساء، فلم أدر ماذا أقول لها فى جواب ذلك، ولكنى أنفت أن تصبغ لى أصابعى، وأبيت أن أناولها يدى الأخرى وقلت حسبى واحدة، وسألتها: متى يزول ذلك؟ فقالت: «أوه! إنه لا يدوم.. لا تخف» فاشتهيت أن أقول لها أنى أحب أن أراها مرة أخرى، ولكن لسانى وقف فى حلقى، فلم أنطق بحرف، واكتفيت بأن أمد لها يدى مصافحا، فوضعت فيها راحتها الصغيرة فهززتها كأنما كنت أصافح رجلا فأدهشنى أنها قالت: «أرجو أن أراك» فكان جوابى السخيف: «ولكنى لا أستطيع أن أقص شعرى كل يوم» فابتسمت وخيل لها أنها تكاد تميل على وقالت: «إنى أخرج من هنا كل يوم الساعة السابعة مساء»، قلت: «آه! إذا كان هذا فسأنتظرك على الرصيف الآخر.. كل يوم».
قال أخى وهو يقص على هذا الخبر: «وقد كان. تعلقت بها، وصرت أراها كل يوم فنذهب نتمشى، وعرفتنى أشياء كثيرة لم أكن أعرفها، ولو استطعت أن أتزوجها لفعلت، وقد أطلعتها على كل شىء ولم أخف عنها شيئا، ففهمت وعذرت، وبقينا صديقين حوالى عامين حتى خطبها واحد من أبناء جنسها، وأحسست منها زهدا فيه، فأقنعتها بالرضا به إشفاقا عليها، ورغبة فى الاطمئنان على مستقبلها.
ولكن هذا موضوع آخر، فلنرجع إلى المانيكور، وكانت يمناى لسوء الحظ هى التى صبغت أظافرها، فلما عدت إلى البيت وقابلت أبى تناولت يده لأقبلها، فسألنى: ما هذه الحناء التى فى اصابعك؟ فأخبرته بما حدث، وفى ظنى أنى لم أصنع سوءا، وما كنت أعرف ما هو المانيكور، وقد قلت له: إنى لما عرفت ما هو أبيت أن أصبغ أظافر يدى الأخرى، ولكن وجهه اربد وهو يقول: «وما فرق ما بينك وبين النساء الآن»؟ ونهض فدعا إليه الخادم «العم محمد» كما نسميه وأسر إليه شيئا فخرج، وما لبث أن عاد ووراءه ثلاثة من الزبالين الأقوياء، فأشار إلى فربطونى بالحبال، وألقونى على الأرض، وأنا من فرط الذهول لا أقاوم. وجاء أبى بخيزرانة طويلة وأهوى بها على، لا يتقى شيئا ولا يبالى أين وقعت وماذا أصابت من بدنى ولم ينقذنى إلا خالتى (يعنى أمى، فقد كان يدعوها خالتى) فقد أسرعت وانحدرت إلى ولم تبال هؤلاء الزبالين، ولم تعبأ بظهورها أمامهم سافرة وفى ثياب البيت، وارتمت على، وجعلت نفسها بينى وبين الخيزرانة فاضطر أبى أن يكف ولكنه أمر فسجنت فى إحدى «المناظر» ثم خرج.
وأتم أنا الحكاية فأقول إنى توجعت لأخى وحزنت لما أصابه من الضرب الأثيم، وما هو فيه من السجن ولم يكن أحد يستطيع أن يصنع شيئا، وإلا حل به غضب أبى، ولكنى كنت طفلا لا أدرك هذا إدراكه، فصممت على إخراج أخى من محبسه وفك وثاقه. وكان لابد من الحيلة، ولكن الأطفال شياطين فدبرت الأمر مع أخى الأصغر، وجليلة بنت خادمنا، وكان مفتاح «المنظرة» مع الخادم فلم نزل به نلاعبه ونتحين منه غفلة حتى سرقت المفتاح، وأوعزت إلى أخى وجليلة أن يبعدا به عن فناء البيت ففعلا، ففتحت الباب وأعيانى حل الحبال فجئت بسكين وقطعتها، وأطلقت سراح أخى وقد ظل يحفظ لى هذا الجميل طول عمره.
وهنا ينبغى أن أذكر أنى عدت إلى الخادم فدسست له المفتاح فى جيبه وهو لا يدرك ولا يزال هذا الخادم حيا ولا يزال يتعجب لأخى كيف وسعه أن يقطع الحبال الغليظة التى كان موثقا بها، وأن يفتح الباب ويخرج، وكلما ذكر هذه الحادثة، هز رأسه وقال: الله يرحمه! لقد كان عفريتا».
وكان هذا أول سر حرصت فى طفولتى على كتمانه.
الفصل الرابع
قلت لنفسى بعد أن كتبت الفصول السابقة، وسردت فيها بعض ما أذكر من عهد الطفولة: «اسمع يا هذا، لقد رأيت أباك يضرب أخاك، ويلهب له جلده بالخيزرانة الطويلة، ولم يضربك - كما كان يضربه - لأنك كنت أصغر من أن تحتمل ذلك، أو لأنك كنت أشبه بالقطة الأليفة أو كلب البيت الذى يقبل منه أصحابه العبث ولا يرضون عنه أو يسرون به إلا إذا لعب وتشيطن وأظهر لهم نشاطه وذكاءه أو لعل اتقاءه ان يضربك ويشويك بالعصا، راجع إلى أن أمك حية ترزق، وفى البيت معك وأن أم أخيك لحقت بمن غبر فلك دونه من يحامى عنك وأخوك كان قد بلغ مبلغ الرجال فكان أبوكما لايسعه الا أن يثقل عليه الشعور الخفى بأن هذا الشاب يزحزحه شيئا فشيئا عن مكانه: وينزله يوما بعد يوم عن سلطانه، وأنه هو الذى سيحل محله عاجلا أو آجلا، كما حل هو محل أبيه - أى جدنا - وإن كان على قيد الحياة، وعسى أن تكون بواعث الضرب لا هذا ولا ذاك بل تصادم الشعورين، شعور الابن بأنه هو الشاب، وأن أباه قد شيخ، كائنة ما كانت سنة فى الحقيقة وشعور الأب بأن ابنه هو ابنه فهو طفل بالغا ما بلغ طوله وعرضه، أو لا أدرى ما العلة والباعث الصحيح، وإنه ليخطر لى مائة تعليل وتعليل ولا أرى واحدا منها وحده يقنعنى.
Shafi da ba'a sani ba
وخطر لى وأنا أحدث نفسى بهذا أن هذا التفاوت بين الأب والابن من المصائب. فنحن الاباء، قد كبرنا فى نطر الأبناء، ولا يمكن أن يعد الابن أباه إلا شيخا هرما، تقضى شبابه من زمان طويل، ولا يمكن أن عليه أن يتعرى هو منه، فلا يجوز له ما يجوز للشاب ويعقل منه، ولا يليق به إلا حال الشيوخ الفانين ولو كانت الحقيقة أنه ما انفك قويا كفئا للحياة.
وذكرت - وأنا أدير هذا المعنى فى نفسى - أنى لم أسمع ولم أر قط: فى طفولتى، شيئا - كلمة أو ايماءة أو نظرة - تشى بالحب بين أمى وأبى. وكان يخيل إلى أن العلاقة بينهما قوامها الاحترام المتبادل أكثر مما كان قوامها الحب. وهذا خطأ. ولكنه هو الذى كان يبدو لى فى تلك السن الغضة. ولقد مات أبى وأنا صغير وخلف لى أمى فحزنت عليه اثنتين وثلاثين سنة، لم تخلع فيها السواد يوما واحدا، وقد يكون هذا من الإكبار لا الحب، ومن أجل ماطابت به نفسا فى حياته، ولكنى أظنهما كانا متحابين أيضا فقد كنت أسألها فتبتسم وتطرق استحياء ويضطرم وجهها حتى فى كهولتها الذاوية، وألح عليها بالسؤال فتنهرنى، وتزجرنى عما تظنه عبثا منى، وكنت أغالطها أحيانا وأفاجئها بالسؤال على هذا النحو «ماذا كنت تحبين فى هذا الرجل المزواج المتعب الذى جعل حياتك معه جحيما فائرا بالغيرة»؟ فكانت تؤخذ على غرة وتقول - قبل أن تفكر: «إنك لاتساوى الظفر الذى كان المقص يطيره من أصبعه». وترانى أبتسم فتدرك أنها اعترفت فتغضب أو تتكلف الغضب، وأحيانا تطردنى من مجلسها، وهى تجاهد أن تعبس ويأبى وجهها إلا أن يضحك وتقول لى: «قم، طيب قم، كفى قلة حيا». فأنهض طائعا وأميل على رأسها فأقبله فترضى عنى وتدعو لى فأقول لها ويدى على الباب. «اسمعى.. لم أعرف أبى كما ينبغى أن أعرفه، فقد مات قبل أن أكبر، ولكن القليل الذى عرفته مضافا إلى الكثير الذى سمعته منك، يقنعنى بأنه «هو» لم يكن يساوى الظفر الذى يطيره المقص من أصبعك وعزيز على أن أقول هذا عن أبى؛ فقد كان على العموم رجلا فاضلا ذا كرامة، وإذا كنت أبخسه حقه فذاك لأنك عندى بمنزلة لا تدانيها منزلة، أنت خير الناس وسيدة الدنيا؛ وكل من عداك هباء. واسمعى أيضا: أنا أحاول أن أحيا حياة فاضلة لأنك معى فى الدنيا. مجرد شعورى بوجودك يرفع نفسى، ويعصمنى من كثير، وما هممت بشىء إلا رأيتنى أسأل نفسى: هل ترضى عنه أمى لو علمت أو لا ترضى؟ فأقدم أو أحجم تبعا لجواب السؤال. ولو خلت منك دنياى لما بقى شىء يصدنى عن الشر والرذيلة، ولست أطيق البعد عنك لحظة ولكنى مقتنع أنه لو كان أبى حيا لما أمكن أن أحتمله، ولا أطقت أن أعيش معه تحت سقف واحد، ولعل ذاك لأنك - وأنت سيدتى - تدعيننى أشعر آنى أنا السيد ولكنى أظن السبب أنى أحبك وأجلك، وأنى مدين لك بكل ما جعلنى كما أنا، أطال الله عمرك.
ولكن - سبحانه وتعالى - لم يشأ أن يفعل كلا، لم يكن للحب ذكر، فى بيتنا ونحن أطفال. ولكنه كان معى - هذا - موجودا، بين أبوى على الأرجح، وإن كنت أنا لا أرى دلائله ومظاهره، وبين جدى وجدتى على التحقيق. وكان جدى قد قارب المائة، وجدتى قد ناهزت السبعين، ولكنهما كانا كالطفلين ولم يكن أحلى من تناجى هذين القديمين اللذين ردهما الهرم إلى مثل حال الطفولة وسذاجتها وطيبتها، وكانا لايعبآن شيئا بوجودى، وهما كما يقول الشريف الرضى:
تساقينا التذكر فانثنينا
كأنا قد تساقينا الطلاء
وكان الذى يتناجيان به سهل الفهم فقد كان قصصا وحكايات قديمة، مما وقع لهما وجرباه، ولكن الحنو، وعذوبة الصوت، والذوبان، وحلاوة اللمعة فى العين التى انطفأ نورها أو كاد، واضطراب الشفتين إذ يقول الشيخ برقة: «هل تذكرين ياحاجة..» فتهز رأسها المصبوغ بالحناء ويفتر ثغرها الأدرد ويومض السرور فى عينيها ويشرق به وجهها الأحمر - فقد كانت بيضاء حلوة - وتقول «إيه» ممطوطه طويلة، ولكنها «آية» الرضى والحمد لله والاغتباط بجمال الذكرى. لا الأسف والأسى، فقد كان حب هذين المتهدمين من الدنيا، إنهما معا فيها، وأن غرفة واحدة تجمعهما، وأن لهما بنين وحفدة، كلهم أحياء وبخير ولله المنة، وكنت أرى منهما ذلك فأدرك أنهما مسروران وإن كنت لا أدرك كنه السرور، وأحس بفرحة غريبة بهذين الوجهين اللذين غضنهما السن وحفرت فيهما أخاديد عميقة، فأرتمى على جدتى وأطوقها وأقبلها، فتضمنى وهى تقول ضاحكة: «إوع تفعصنى يا ولد» ثم تهوى على رأسى أو خدى بفمها الفارغ وتقبلنى فيكون لقبلتها صوت كقولك «مق».
وأنا الآن رجل، ولى زوجة وبنون، لا بنات، فقد أبت مشيئة الله أن يكون لى بنات على إيثارى لهن، وأنا ابن هذا الزمن، لا ذاك الذى عاش فيه أبى وجدى من قبله ومع ذلك أرانى أستحى أن أقول لزوجتى إنى أحبها، وأشعر أنه لا يليق بى أن أقول ذلك، ولى كل هؤلاء البنين، وأحس أن زمن الكلام فى ذلك قد فات وهو لم يفت فى الحقيقة، لكنا جربنا وعانينا وفكرنا، فعرفنا - عرفنا ماذا يحق للمرء أن ينتظر، سحره، وزالت فتنته، وفقد الحب تلك القدرة على خداع النفس ومغالطتها وإيهامها.
ويا ربما قلت لنفسى، حين أخلو بها وتتدفق خواطرى فى هذا المجرى: «لماذا أخجل أن أقول لزوجتى إنى أحبها، أمام هؤلاء الأبناء»؟ وأقول فى جواب السؤال إن هؤلاء الأبناء يروننا كبارا، ولا يتوقعون منا ما هو متوقع من الشبان، ولعلهم يظنون بنا أننا كنا فى صدر حياتنا كل شىء إلا شبابا، ويهيجنى ذلك ويثير نفسى فأقول ساخطا معاندا: «ولكنى لا أنوى أن أجعل حياتى وفق ما يظنون، قاتلنى الله إن فعلت. وأدخل على زوجتى ويكون معها هؤلاء البنون وغيرهم من الضيفان - من الأهل أو الغرباء - فأتعمد أن أنثنى بالحديث إلى ذكر الحب، وأهم بأن أجرى مع العناد، فأحس كبح الخجل، فأضطرب وأخرج من المأزق بمزحه، فيظن السامعون أنى أهزل؛ وتعرف هى أنى أجد.»
فلا فرق بينى وبين أبى، وإن كان بين زمنينا كل فرق وما زلنا، تحس اللجام على أشداقنا، والأعنة الخفية التى تصدنا وتلوى رءوسنا، وتوجهنا وجهة غير التى تدفعنا إليها طباعنا وغرائزنا، وبعد عشر سنين من الزواج والألفة والحال الوثيق يحمر وجه الزوجة إذا همست فى أذنها بكلمة حب أو لفظ يشى به وإن كان لا يصارح، وما أعرفنى استطعت قط أن أقول لواحدة إنى أحبها بالغا ما بلغ جنونى بها، فإذا شق على الكبح ونازعتنى نفسى أن أقول، قلت ولكن مازحا، أو متظاهرا بالمزاح متصنعا له لأشككها، ولأنى أستحى أن أنطق باللفظ، أو على الأصح لأنى أشعر أنى إذا قلت الكلمة فقد صرت عبدها - أعنى عبدا للمرأة لا للكلمة - وأنها حقيقة إذن أن تتخذ منى حصانا تركضه بين الوعور، وأنا لا أطيق أن أحس بقيد ما، ولو كان من حرير، وما أحسست قط بقيد إلا نفرت وشردت وتمردت. وأنا فى كل يوم أقيد نفسى وألزمها أشياء شتى، ولا أزال قابضا على اللجام أشده وأصرفه إلى هنا وههنا، ولكن هذا لا يتسنى إلا إذا كان زمامى فى يدى، والأمر كله إلى إرادتى، فإذا شعرت أن يدا أخرى تريد أن تقبض على الزمام طار عقلى، وفقدت اتزانى وركبت رأسى، وأكون واثقا أن هذا خطأ، وأنه عناد صبيانى، وأنى لو وكلت إلى نفسي ورأيى لما فعلت إلا مايراد منى أن أفعل ولكن طبيعتى تغلبنى فأشقى، بين دعوة العقل العاجز ودعوة الطبع الجامح.
والناس لا يضربون بنيهم فى هذه الأيام كما كان أبى يضرب أخى. وهم فى هذا على حق، فإن الضرب ليس تأديبا وإنما هو ترفيه عن الوالد، ووسيلة لإراحته من ثقل الشعور الذى يجيش بصدره، فهو شىء ينفع الأب ولا ينفع الابن.
Shafi da ba'a sani ba
ودأب الناس فى زماننا أن يترفقوا بالأبناء ويجنبوهم التنغيص، وهذا جميل ولكنى أحس أنهم يبالغون فى الرفق ويسرفون فى اللين، ويجعلون حياة الطفل أرغد مما ينبغى وأخلى من المشاكل والعقد، ومن كل ما يستدعى إجهاد الفكر أو مايستثير الشعور ويوقظ النفس، فليتهم يضربون أحيانا - برفق أيضا - ولا بأس من أن يخرجوهم إلى العناد ويدفعوهم إلى التمرد، ليعرفوهم بأنفسهم ويكتشفوا لهم عن بعض خفاياها.
جرى هذا ببالى وأنا أكلم شابا فى الثانية والعشرين من عمره، ولم أكن أعرف ماذا تعلم أو يتعلم وكان كلامنا فى شىء من الهندسة فوافقنى على رأى كان يعرف - كما تبينت فيما بعد - أنه خطأ محض فقد كان طالبا فى مدرسة الهندسة وكان فنه ما خضنا فيه، ومع ذلك لم يخالفنى، ولم يصحح لى غلطى فإذا كان هذا لا يضرب حتى يدمى جلده ويتسلخ ليتعلم احترام النفس وليفهم أن المخالفة ليست عيبا وأنها ليست من سوء الأدب بل من الواجب ما دام يعتقد أنه على حق - فمن غيره الجدير بالضرب؟ وكيف تكافح هذه النعومة وذاك التطرى لتجعل من ابنك رجلا يعرف قدر نفسه ويكرم عقله؟ أما أنا فسبيلى كسبيل أبى، ولست أستعين «بالزبالين» ولا أنا أقسو قسوته، ولكنى لا أحجم عن قرص آذانهم ولكمهم إذا رأيتهم يجبنون أو يكذبون أو يبكون الغير «ما يبكى الرجل» وقد جاءنى واحد منهم وقال إن تلميذا معه فى المدرسة ضربه، فسألته عنه أهو أكبر منه.. وهل هو أضعف من أن يضربه كما ضربه.. فكانت نعم هى جواب السؤالين، فتناولت أذنه الصغيرة وقرصتها قرصا وجيعا وقلت له «ألم يكن فى الشارع حجر تتناوله وتقذفه به فتفتح له قرنه..» قال «بلى» قلت «لماذا تجيئنى باكيا وفى وسعك أن تنصف نفسك منه»؟ وأنذرته أنى لا محالة قاتله إذا تكرر منه ذلك، ولم يكن القتل ما أعنى، وإنما عنيت الضرب الأليف، وقد فهم عنى الطفل، وأثبت لرفاقه أنه كفء لهم، فكفوا عنه وهابوه، وقد احتجت بعد ذلك أن أجعل جرأته غير راجعة إلى مجرد الخوف منى.
أظن أن هذا خير وأهدى من هذه التربية الطرية التى تفضى إلى التخنث.
الفصل الخامس
حليمة وعم محمد
كان خادمنا رجلا يدعى «عم محمد» لا يعرف أحد من أين جاء؟ حتى ولا هو يعرف، وقد سألته من أى بلاد الدنيا هو؟ فشور بيديه وهز رأسه ولم يجب، ولعله نسى، فقد علت سنه جدا، والأرجح أنه جاء إلينا وهو صبى لا يفقه، فقد كان لكل أسرة خادمها الذى نشأ وترعرع، - وشاب أيضا - فى ظلها، ولم يكن أحد ينضو عنه ثوب هذه العمومة إلا ثلاثة: جدى وأبى، من الرجال، وجدتى من النساء أما سائر أهل البيت فكان اسمه عندهم «عم محمد» وكان هذا بعض ما يكرم به الناس خدمهم فى ذلك الزمان.
ولا أذكر كيف كان وجهه فى حداثتى، فإن مسافة الزمن بعيدة، ولكنى أنظر إليه الآن - فإنه لا يزال حيا يرزق - وأرى كيف كان يمشى معتدل القامة كالسيف يأبى أن يتخذ الترام أو غيره أو يقطع المسافات بين أرجاء القاهرة إلا على رجليه، وكيف أنه لا يمرض ولا يرقد ولا يشكو شيئا حتى فى هذه الشيخوخة العالية ، وكيف أنه لا يزال يشرب «البوظة» التى أعرفه - مذ عرفته - كلفا بها لا ينصرف عنها أو يتوب - ولو قطعوا رأسه وأوصاله - فيخيل إلى أنه كان دائما هكذا - بشاربيه الخفيفين، وأسنانه القوية التى لم تسقط ولم تتزعزع منها واحدة، ووجهه المغضن الحافل بالأخاديد والحفر، وحذائه الأصفر الباهت الذى يحرص مع ذلك على صقله فيمسحه بطرف المعطف العتيق الذى خلعته عليه منذ خمسة عشر عاما، ويأبى مع ذلك أن يبلى أو يتمزق.
وكان عمله مقصورا على ساحة البيت وما فيها من غرف أو «مناظر» - كما كانت تسمى - وعلى قضاء الحاجات من السوق، ولا يجوز له أن يصعد إلى حيث السيدات فإن لهن خادمتهن التى لا ينبغى لها تجاوز السلم إلى ساحة البيت وكانت حليمة هذه فتاة سمراء واسعة العينين مقوسة الحاجبين، طويلة الأهداب وممشوقة رشيقة، وكانت هى التى تنزل إلى عم محمد إذا احتاج البيت إلى شىء فتقف على آخر درجات السلم وتنقر على الباب فيجىء إليها، فحدث ما كان لابد أن يحدث - أحبها وأحبته.
وأقبل عم محمد يوما على جدى، وهو جالس على كرسيه فى الدهليز وفى يده نبوته وشفتاه تتحركان بالتلاوة، ووقف إلى جانبه يفرك كفيه ويتحين من الشيخ التفاته إليه، فلما فعل، مال عليه وأسر إليه أنه يطلب يد «حليمة» فهش له الشيخ لأن الزواج نصف الدين، ووعد أن يخاطب أبى فى الأمر وأن يحمله على الموافقة.
وقد كان - تزوجا - وصارت حليمة، تنتقل فى الليل إلى غرفة «عم محمد» فى البدروم كما يسمى فى مصر، أو السرداب كما يسمى فى العراق.
Shafi da ba'a sani ba
وقد جهزوها له بسرير وخزانة وصندوق أحمر، وحصيرة ملونه وبساط قديم مما كان فى البيت، وكانت حليمة هذه قوية جليدة لا تفتر ولا تهن، فكانت تعمل طول النهار وشطرا من الليل، فى البيت - تكنس وتمسح وتغسل، وتنفض وتشيل وتحط، وترتب، وتغربل وتعجن وتخبز وتساعد فى المطبخ، وتطلع وتنزل، حتى إذا جاء وقت النوم انحدرت إلى «عم محمد» وبقيت معه إلى الفجر، فتنهض لتوضئ الشيخ وتعد له «الشبوك» والقهوة .
وحملت حليمة، فعظمت بطنها، فأرادوا أن يترفقوا بها، وأن يعفوها من عملها الشاق حتى تضع حملها، ولكنها أبت وظلت تروح وتجىء وتشيل وتحط وتقوم وتقعد. وهى مسرورة وزاد وجهها إشراقا ولمعت عينها بنور البشر والجذل.
وكان جدى يصعد بعد الغروب بقليل. أما أبى فكان يترك المكتب ليصعد أو يخرج، بعد صلاة العشاء، وينصرف الكاتب، ويوصد الباب، ويصفق عم محمد فتطل عليه حليمة من إحدى النوافذ - فما بقى من هذا بأس بعد انصراف الرجال - فيسألها «عاوزين حاجة..» فتستفسر ثم تخبره، ويطمئن فيخرج متسللا ويغيب ساعتين أو ثلاثا ثم يعود وهو يتطرح من السكر، وكان لا يشرب إلا البوظة وكان جدى ينهاه ويعظه، وأبى يضربه وهو لا ينتهى ولا يرعوى، حتى يئسا من صلاحه فأهملا أمره وتركاه للأيام، فلم تزده إلا حبا «للبوظة».
وقد سألته مرة «ألا يمكن أن يزهدك شىء فى هذه البوظة»؟
فأجابنى بسؤال «أهى حرام»؟
قلت «من عاشر القوم أربعين يوما صار منهم».
فنظر إلى مستفسرا مستوضحا فقلت أعني أنك أصبحت تفنى. من طول ما عاشرت أهل القلم. ولكن قل لى. إنك تشربها منذ نحو سبعين سنة، أفلم تسأمها. سبعون سنة طويلة. إن المرء خليق بعدها أن يمل الحياة، فكيف بالبوظة؟
فقال معترضا «سبعين سنة إيه يا سيدى»؟
قلت «معذرة. لندع السن، ولكن ألم تسأم»؟
قال «لم يبق لى ما أتسلى به سواها».
Shafi da ba'a sani ba
قلت «وحليمة»؟
قال «حليمة. الله يطيل عمرها ويخليها لأولادها ويبارك لها فيهم» فأقصرت، وبودى أن أسأله «ألا يزال يحبها»؟
وكانت ليلة أحياها «عم محمد» بالسهر فى البوظة وهو آمن، فقد كان جدى نائما، وأبى فى بيت زوجته الأخرى، فلما عاد وتطرح إلى غرفته، ألفى حليمة راقدة، ولكن عينيها مفتوحتان، وإلى جانبها شىء مغطى بملاءة، فوقف عند السرير، ونظر إليها مستغربا ابتسامتها وكانت عادتها أن تنهض له حين يدخل عليها لتكون فى خدمته حتى ينام فلما طال تحديقه فيها، تحت الملاءة ورفعت ما تحتها، على كفيها ليراه، فأفاق وذهب عنه خمار السكر، وهوى على ركبتيه، وأسند جبينه إلى مرتبة السرير وراح يبكى - بكاء الفرح لا الحزن، فوضعت حليمة طفلتها، وجلست، ومدت يدها إلى رأسه لترفعه وتمسح له دموعه فتناول كفها ولثم راحتها، ونظر إليها وقال: «لو كنت أعلم لما خرجت».
قلت: «خروجك كان أحسن.. ماذا يصنع الرجل فى هذه الحالة»؟
فسألها «كيف.. من كان معك»؟
قالت «لا أحد.. لم أخبر أحدا.. ما الداعى»؟
فدهش ولكنها ابتسمت ونهضت، لتقوم بخدمته كعادتها، وحاول هو أن يمنعها، فسخرت منه، وسخنت له الطعام وقدمته إليه ليأكل، وكان لا يأكل إلا قبل النوم مباشرة، وبعد أن يرتوى من البوظة فعكف على طعامه وهو يتعجب لحليمة وقوتها وجلدها، حتى ليجيئها المخاض فتتشدد وتحتمل آلامه فى صمت، وتضع وحدها وبلا معين، وبعد ساعة أو ساعتين ترجع كما كانت، لا فاترة ولا متهافتة ولا مسترخية وجال بخاطره أن حليمه آية من آيات الله، وأنه سعيد بأن تكون زوجته، وحدثته نفسه، على ما روى لى أن يجعل مظهر شكره لله وإقراره بنعمته عليه، أن يكف عن معاقره البوظة، ولكنها كانت نجوى ليس إلا.
وقال لها وهو يمسح يديه فى الفوطة: «يجب أن تستريحى غدا على الأقل.»
فاستغربت هذا الاقتراح وقالت «أستريح. أنت مجنون»؟
ولم تسترح حليمة ولا دقيقة واحدة، فكانت ترضع طفلتها وتتركها وتواصل عملها المتنوع.
Shafi da ba'a sani ba
ولا تزال حليمة إلى اليوم - وقد جاوزت الستين - أقوى وأقدر على العمل من عشر فتيات فليس أعجب من «عم محمد» إلا امرأته التى لاتكل ولا تفارقها ابتسامتها - كأنها مرسومة - ابتسامة العطف والرضى والتسامح، وما أكثر ما افتقرت إلى عطفها، ورضاها وتسامحها، وكان حسبى منها فى كل حال أن تنظر إلى بعينيها النجلاوين، وأن أرى ثغرها المفتر فتسكن نفسى ويشيع فى صدرى الاطمئنان، ويعمر اليقين قلبى، ولا يسعنى إلا أن أجيبها بابتسامة، فتهز رأسها على مهل وتربت لى على كتفى وتمضى.
صدق عم محمد فان حليمة آية ....
الفصل السادس
الحادثة الثالثة أن «جليلة» بنت حليمة وعم محمد - أكلتها النار وأنا أنظر إليها مسحورا. وبعد سنوات وسنوات طويلات المدد، قرأت أن نيرون أضرم النار فى رومية - عروس الدنيا يومئذ ووقف على تلها فى حاشيته المستهترة، وفى يده قيثارته يعزف عليها، وعيناه على الضرم المتأجح والدخان المتكاثف، فاستطعت أن أفهم، ولم يعينى أن أدرك سحر النار وفتنة هولها، وكان الذى تمثل لخاطرى وأنا أقرأ ذلك.. لا رومية وبناها العالية وقصورها الضخمة بل «جليلة» وقد ضربت النار عليها سرادقا.
ولم تطلق المسكينة إلا صيحة جزع واحدة، ثم وقفت كالتمثال، وذهبت النار تأكل ماعليها من خفيف الثياب وتحيل جسمها الأسمر الطرى جمرة مضطرمة.
وكنت واقفا على سلم البدروم - مسمرا هناك - وعينى عليها لا تتحول عنها، وفى مسمعى من اللهب الخفاق اللمعان مثل الدمامة والتدويم، وفى أنفى رائحة اللحم المشوى وعلى وجهى صهد الحر.
وكان الوقت شتاء، والبدروم يكون فى الصيف رطبا فكيف به في زمهرير الشتاء.. وكانت جليلة قد سبقت أمها إلى هذه الغرف التى تشبه القبور، فشرعت تضرم الفحم - أو السن كما يسمى تراب الفحم - فى الموقد لتدفأ به، ولم تكن عندها منفاخ تعجل به إيقاد النار وكانت ترتعد وتنتفض من البرد، وكان مصباح الغاز مضاء، فتناولته وانحنت به على الموقد ورفعت غطاءه النحاسى الذى يتدلى منه الشريط فى الغاز ولم تر أن تنزع الزجاجة وتطفئ الشريط قبل أن تصب الغاز على الفحم، فسال منه شىء على ثوبها وهى لا تدرى، أعادت الغطاء إلى مكانه من المصباح، ووضعته إلى جانبها على الحصيرة وأشعلت عودا وأدنته من البترول فى الموقد فارتفع منه اللهب فجأة، وكانت حانية عليه، فردت وجهها بسرعة، ونسيت أن تتناول المصباح وهى تنهض قائمة، فانقلب المصباح واشتعل طرف الثوب الذي كان مسفسفا بالبترول.
وليس هذا خيالا أتخيله فقد رأيته كله بعيني، وكنت قد غافلت أمى وحليمة، وانحدرت وراء جليلة، وفى مأمولي أن أجالسها وألاعبها وأسامرها قليلا، فقد كنت مشوفا بها، وكانت هى تأنس بى وتهش لى، ولا تضن على بما تعلم - مما سمعت أو رأت أو خطر لها. وكنت على عتبة الباب، وكنت أهم بأن أضع قدمى على درجة السلم نازلا إليها ، فرأيتها تمشى إلى «الصفة» وتعود بالمصباح فى يدها، وألهمت أن أقف حيث كنت - على العتبة - فلم يفتنى شىء من الفاجعة.
وألقيتها تهوى إلى الارض، والنار حولها، فأفقت وارتددت راجعا إلى ساحة البيت: ورحت أصيح، وأزعق وأدعو كل من يسمع أن يدرك جليلة فإنها تحترق. وسرى الخبر سريان النار فى الهشيم اليابس، وكان أخي الأكبر فى البيت، فنزل مع النازلين، ورأوا أن جليلة قد أكلتها النار، فصار هم الجميع أن يطفئوا الحريق، فقد امتد لسان النار إلى الحصير والسرير وسائر ما فى الغرفة.
وكنت بينهم، أروح وأجىء إلى حيث أراهم يروحون، ومن حيث يجيئون، ولا أعمل شيئا، وكانوا مضطربين وكان لغطهم كثيرا وعاليا، وكان النساء يبكين ويولولن وفى أيديهن الطشوط والأباريق، وأخى يتناولها منهن مترعة ويصب على النار، ولا يفتأ يسأل عن «محمد» - «ابن الكلب» أين غطس فى هذه الليلة السوداء، ويتوعده بعلقة، ويقول ليته كان هو الذى احترق، وبقيت جليلة، فتقول حليمة - عفى الله عنها «آه والنبى». وترسل الصوت مجلجلا فى سكون الليل بالنواح على بنتها، ولا تكف عن ذلك، وعلى الرغم من الحرقات، التى تعانيها لاتتوانى عن ملء الطشوت وحملها إلى أخى.
Shafi da ba'a sani ba
ورآنى أخى كالكلب الذى لا يترك قومه ولا ينفك يجرى معهم ويطوف بهم ويدخل من بين سيقانهم ويربكهم وهو يريد أن يعرب بخفة حركته بينهم عن مشاركته لهم فيما هم فيه، فزجرنى وطردنى وأمرنى أن أصعد.
ولكنى لم أطع - نعم نأيت عن البدروم، ولكنى بقيت فى فناء البيت وكيف أصعد إلى فوق. وكل من فى البيت قد ترك هذا الفوق إلى تحت؟ وكيف أكون وحدى فى مأمن من المخاوف التى كظوا لى رأسي بصورها فيما كانوا يقصون على كلما أرادوا تنويمى.. كأنما كان خير ما ينيم الطفل هو هذه المفزعات.
وجاء أبى: فقد دعى من البيت الصغير ورآنى فى الساحة وحدى، فأقبل على يسألنى بصوته الهادئ المتزن النبرات «أنت هنا»؟ فبكيت.. كأنما فتح لى هذا السؤال منفسا فتفجر ما كان محتبسا فربت على كتفى، ومضى عنى إلى البدروم، فألقي أهل البيت جميعا جالسين على درجات السلم.
وكان لابد أن تأتى الشرطة، وأن يجرى التحقيق، وكانت النار قد أطفئت، فذهب بى أبى إلى المكتب ولحق أخى بنا، بعد أن غير ثيابه وهناك قصصت عليهما ما رأيت، وكان الشرطى أخوف ما نخاف نحن الصغار، بعد العفاريت والأمساخ، وغير هذه، وتلك من المرعبات. وكان الذى نعرفه هو أن العسكر عدو لدود لخلق الله، وأنه مجعول للقبض عليهم والزج بهم فى المحابس، وأن «الكركون» - كما كنا نسمى مركز الشرطة - ليس أكثر ولا أقل من سجن فظيع، وأن العاقل من يتقى أن يمر من أمامه، فشرع أبى يذهب عنى الروع ويطمئنى، ويروضنى على السكون إلى لقاء هؤلاء الشرطة وغيرهم، ويفهمنى أنه ليس على أكثر من أن أروى لهم ما رأيت، ويؤكد لى أنى سأكون موضع عطفهم، وأنى سألقى منهم كل خير، وأنه لن يصيبنى منهم سوء، فنسيت وذهلت عن النار التى اشتوت بها جليلة، وعن فجيعتى فيها، ولم أعد أفكر إلا فى هؤلاء الشرطة المخوفين الذين سأقف أمامهم وأسأل وأجيب.
مضت على هذه الحادثة أربعون عاما، ولكنى لا أرى أثرها يمحى أو يبهت، وليس أبغض إلى ولا أقدر على إفزاعى وإطارة عقلى من النار، ويمضى شتاء بعد شتاء، وتحتاج إلى أضرام النار فى الموقد للتدفئة فيسألنى أهل البيت فأصيح بهم «يا خبر أسود! لا لا لا.. حاذروا» وترتفع قبل عيني جليلة «فى سرادق من اللهب الخفاق ...».
ويلحون على ويقولون إن البرد قارس، فأروح أتفلسف وأقول لهم إنهم بله، وإنهم يضعفون أجسامهم بتعويلهم فى المقاومة على الثياب والنار، وأن قدرة أجسامهم على المقاومة تزيد إذا خففوا ولم يسرفوا فى التوقى، ولم يجعلوا معولهم فى التماس الدفء على شىء أجنبى منهم، وأقول لهم أيضا إنى أضعف منهم جميعا، وأنحف وأحوج إلى وسائل الوقاية، ولكنى أحتمل ما لا يحتملون. فلماذا؟ لا سر هناك كل ما فى الأمر أنى لا أكثر من الثياب، ولا أتخذ المعاطف إذا وسعنى أن أستغنى عنها، ولا أستعين بالنار. وأذكر لهم أنى كنت فى صدر أيامى ألف رأسى عند النوم فى فوطة كبيرة وألبس ثيابا من الصوف حتى فى وقدة الصيف المحرقة، فكنت لهذا طول عمرى مزكوما، وكان السعال لا يترك لى راحة فى ليل أو نهار، ثم ضاق صدرى، وحزنت على نفسى وقلت، إذا كان هذا حالى فى شبابى، فماذا عسى أن أكون فى الكهولة والشيخوخة؟ وكان هذا يسود الدنيا فى عينى ويغرينى بالتشاؤم.
وكانت المرارة تقطر من قلبى على الورق، فى شعرى ونثرى، ويئست فتمردت وقلت إنه لن يصيبنى شر مما أعانى، فخففت، وصرت إذا نمت أخلع ثيابى جميعا ولا أبقى منها إلا الكفاية للستر، أى الجلابية ليس إلا، وكان الأوان يسمح بذلك، فقد كان الوقت صيفا، فلما جاءت مقدمة الشتاء، وسعنى أن استغنى عن الملابس الثقيلة التى اعتدت أن أتخذها، ودخلنا فى الشتاء فلم أشعر بحاجة إلى المعطف، ولكن بقية من الحذر القديم جعلتنى أحرص على حمله، ولكن على ذراعى، عسى أن أحتاج إليه فى الليل. وكنت إذا شعرت بهذه الحاجة، أظل أدافعها وأقاومها، وأرجئ الالتجاء إلى المعطف والدخول فيه، وأقول لنفسى «نصف ساعة آخر. لن يقتلنى نصف ساعة من البرد» ثم أرجئ الأمر مرة أخرى وهكذا، حتى أصبحت أحس أن المعطف حمل لا معنى له مادمت لا ألبسه، فصرت أتركه فى البيت، وأن لى الآن لمعطفا، ولكنه قديم.. قديم حتى لقد نسيت من طول عمره متى فصلته، وهو للزينة أكثر مما هو للمنفعة، بل ليس حتى للزينة، فقد أكلت منه الفيران نحو شبر فى شبر وخجلت أن أبعث به إلى الرفاء، ولم أر أن أكلف نفسى ثمن معطف جديد لا ضرورة إليه فتركته، وأمرى إلى الله، وأمره إلى الفيران.
أما الشرطة فقد زايلنى الخوف الصبيانى منهم. فما يسع من يشب عن الطوق إلا أن يدرك أن الشرطة لا يملكون ضرا ولا نفعا، وأن الأمر فيهم إلى القانون وأنهم ليسوا أداة إرهاب - أو لا ينبغى أن يكونوها - بل أداة حماية للناس. ولكنى مع ذلك أكره أن أدخل مركزا من مراكز الشرطة وأنفر من الحاجة إليهم وأحب أن أستغنى عن الالتجاء إليهم ولقد سرقت خادمة كانت عندى أشياء - أو هذا هو المرجح والذى تشير إليه القرائن جميعا - فقلت غفر الله لها ولا أحوجنا إلى الشرطة، وهنيئا لها ما أخذت ولا عذبها الله به، فما هى بعد كل ما يقال فيها إلا مسكينة، وهل ينفعها ما حملت إلا قليلا؟ وسينتهى بها الأمر إذا اعتادت ذلك، إلى الشقاء المحقق. فهى أحق بالعطف. وأولى بالرحمة ولو أنها لم تهرب بما حملت، لحاولت أن أعالجها وأن أفىء بها على الخير، ولكن الأمر خرج من يدى بفرارها، فالله هو القادر علي إنقاذها من ذلك المآل المخيف الذى أتوقعه لها.
ولى بين رجال الشرطة معارف وإخوان أحبهم وأكبرهم، ولكنى لا أحب أن أحتاج إليهم، ولست أكره مجالسهم، ولكنى أحس غضاضة حين أكون مع واحد من رجال «السلطة» وأحب أن يكون غيرى مثلى - لا سلطان لهم على خلق الله - ولعل هذا بقية من أثر النشأة الأولى. على أنى لست على يقين من هذا فقد تكون لهذا الشعور علل أخرى خفية راجعة إلى آرائى ومزاجى.
الفصل السابع
Shafi da ba'a sani ba
لا أعرف ما سر حبي للحى فى وجوه الناس، غيرى، ولكنى أعرف أنى مارأيت قط لحية طويلة تتدلى كالمخلاة إلا نازعتنى نفسى أن أجعل لها من أصابعى مشطا. وقلما أرى الآن لحية تستحق أن أعبث بها، فإن الناس فى زماننا يحلقونها أو يقصونها، ولا يرسلونها، اكتفاء بالمظهر واستفتاء به عن الحقيقة الخشنة أو الشائكة ولن تجد أحدا فى هذا الزمن يغضب إذا أحفى الحلاق له لحيته كما غضب شيخ من أصدقائنا كانت له لحية كثة منفوشة ذهب بها إلى برلين ليشترك فى تشيع جنازة زعيم من زعماء الترك قتل هناك. وقد احتفظ بجبته وقفطانه وعمامته فكان كل من يراه يتوهمه من أفتك البلاشفة وأخطر الفوضويين. قالوا. فذهب به صديق له إلى دكان حلاق، وذهب صاحبه يتمشى على الرصيف حتى يفرغ من هذا الأمر، فما راعه إلا صياح وزعيق لا يكونان فى برلين إلا من مثل الشيخ، فارتد إلى الدكان فألفى الشيخ واقفا وسط الدكان والفوطة على صدره وهو يرسل الصوت مجلجلا بالعربية الفصحى، والحلاق مبهوت فسأله صاحبه عن الخبر فقال: «خير، انظر..» وأشار إلى خده الأيمن فنظر صاحبه فإذا الغابة الكثيفة اللقاء قد ذهبت بقدرة قادر، ولم يبق إلا وسم، على حين بقيت الغابة على خده الأيسر هائجة كما كانت، فلم يسعه إلا أن نضحك، ثم عالجه حتى رده إلى الهدوء والسكينة وسأله (ماذا قلت للحلاق..).
قال الشيخ. (إنه رطن لى ولكنى فهمت أنه يسألنى ماذا أبغى، ولم أدر كيف أجيبه فأومأت إلى لحيتى وأشرت بيدى أن سوها - هه - أى بعض الشىء قليلا جدا، ولكنه لم يفهم فأجرى فيها الماكينة فذهبت بمعظمها).
وسأل الحلاق كيف حدث هذا الغلط فقال إنه سأله عما يريد أن يصنع بلحيته ويقصه منها فأشار الشيخ إليها وقال (هاف) أي النصف فهو لم يجر عليها ولم يجاوزها ما طلب.
كلا: لا يغضب أحد فى هذه الأيام كما غضب صديقنا الشيخ، إذا ما جار المقص على لحيته، فيندر أن أنعم بمنظر لحية حقيقية، أو تتاح لى فرصة للعبث بها وتمشيطها، على أنه لا أسف، فقد فزت من ذلك فى حداثتى بأكثر من نصيبى العادل، وكان حسبى لحية جدى. أفتل شعراتها أو أثنيها وأدسها فى أذنه فينتفض ويصيح بى ويطردنى فأذهب أعدو وأنا أكاد أموت من الضحك فلما مات جدى شعرت بأن خسارتى جسيمة، وأنى فقدت ما لا أرى عنه عوضا، ولكن الله كان أرحم وأكرم من أن يطيل عذاب الحرمان، فقد جاء أخو جدتى ليعزينا، فأمسكناه وكنت أنا أشدهم إلحاحا عليه وتعلقا به، وكان قصيرا فلحيته تبدو أطول مما هى فى الحقيقة فتسليت بها أسابيع حتى كان يوم وكنا جلوسا على وسائد وحشايا مبعثرة على البساط وكان هو مطرقا والسبحة فى يديه! وإذا به ينتفض قائما ويعلن إلينا عزمه على السفر. فاستغربنا وسألته جدتى: «ما هذه المفاجأة»؟
فقال «الحقيقة يا حاجة أنى سمعت صوتا كصوت أبى يدعونى ».
فزاد تعجبنا وقال إنى «أبوك يا خال.. أبوك يدعوك.. كيف تقول.. أين أنت من أبيك وبينكما ركوب خمس ساعات فى القطار»؟
فقال «نعم يدعونى: لقد سمعت صوته واضحا جليا ينادى: يا عمر ولا بد لى من السفر فما أشك فى أن به حاجة إلى..».
وأصر على السفر، وأبى أن يبقى، فاستودعناه الله وأرسلنا معه «عم محمد» بالحقيبة إلى المحطة وفى مساء اليوم التالي جاءتنا منه برقية ينعى إلينا فيها أباه أى جد أبى.
ومن تمام القصة أقول إنهم تحدثوا فيما بعد بأن هذا الجد كان راقدا ثم اعتدل فجأة وأطلقها صيحة قوية «يا عمر» ولم يزد.
وكان هذا الجد معدودا من القوم الصالحين، وكان يلبس عمامة - كما لا أحتاج أن أقول، فإن الصالحين لا يكونون على ما يظهر، إلا من أصحاب العمائم ولكن لفتها كانت خضراء، لأنه شريف من نسل الرسول - عليه الصلاة والسلام.
Shafi da ba'a sani ba
وكان السيد محمد هذا قويا، وقد احتفظ بقوته حتى في شيخوخته العالية، فقد جاوز التسعين أو قارب المائة. ولم يركب فى حياته قطارا ولا تراما ولا مركبة. وكان إذا زارنا فى القاهرة يجىء على قدميه، وعلى كتفه الخرج الذى فى شق منه ثيابه، وفى الشق الثانى هدية من التمر أو الجبن «الحلوم» أو غير هذا وذاك مما يرى أن يهديه إلينا. وكان أبى قد رزق قبلى بولدين. ماتا. فلما جئت أنا إلى الدنيا، خاف أبواى أن أموت أيضا. وصارا يجزعان كلما أصابنى برد أو غيره. وأنى لهما أن يعلما الغيب وأن يعرفا أنى ممن قيل فيهم إن «عمر الشقى بقى» واتفق أن جاء هذا الجد المبروك فاستكتبوه لى حجابا، فخطط شيئا فى ورقة، أو كتب آيات من القرآن الكريم. لا أدرى وطواها وأمر بها أن تغلف ونهى عن فتحها. وقال: علقوها له جنبه. فغلفوها فى قماش للتنجيد - أى لكسوة المراتب - وبعثوا بها إلى حذاء. ولم يكن حذاء فى الحقيقة. وإنما كان رجلا يصنع المراكيب فجلد الحجاب، وجعل له عينين للحيط. وعلقوه لى فصار كالحجر فيما أحس حين أرقد على جنبى.
ولم يفارقنى هذا الحجاب إلا بعد أن انتقلت جدتى إلى رحمة الله. حتى بعد أن كبرت ودخلت فى مداخل الرجال وتزوجت، كانت تصر على لبسه. وكنت أغافلها وأخلعه وأدسه تحت الوسادة. فإذا عرفت ذلك نظرت إلى نظرة أسف وعتاب وإشفاق. وكان لبس الحجاب يثقل على نفسى وكنت أنفر من ذلك نفورا شديدا. ولكنى كنت أقول لنفسى إن جدتى كبيرة السن وإنها فجعت فى ابنها وأنها تجزع كلما خطر لها أنها قد تفجع فى حفيدها الذى تتعزى به. فماذا على لو أرضيتها وسررتها وتركتها تقضى ما بقى من عمرها فى راحة واطمئنان. ثم إنى ما أحببت أحدا قط مقدار حبى لها ولأمى فكنت أشعر أن قلبى تعصره يد قوية غليظة حين أرى على وجهها آيات الفزع. ومن أجل هذا استخرت الله وتوكلت عليه وتركتها تفرح وتطمئن بالحجاب على جنبى. وكانت إذا رأتني مقبلا عليها لتحيتها كالعادة تبتسم لى بفمها الأدرد، وتمد يدها إلى جنبى لتتحسسه، فأضحك وأقول: «لا تخافى» إنه ما زال فى مكانه. وما أبقيه إلا لأنه يسرنى أن أراك راضية قريرة العين «فتمسح لى رأسى وتدعو لى بخير».
فلما ماتت، تركت الحجاب. وكانت أمى تقوم فى أول الأمر مقامها في الإلحاح على أن أحتفظ به فقلت لها يوما: «يا ستى. أنك عاقلة، فبينى لى لماذا ينبغى أن ألبس هذا الحجاب».
قالت: «إنه بركة من جدك».
قلت: «صدقنا وآمنا. وأنعم بجدى وأعظم ببركته! ولكن ما جدوى أن أضع حجرا.»
فأطرقت فقلت: «أنا أعلم أنك تخجلين أن تقولى إنه يقينى السوء ويحمينى من الموت لأنك أعقل وأذكى من ذلك. أليس الرب واحد والعمر واحد. أليس ما قدر يكون»؟
قالت: «آمنت بالله».
قلت: «كنت أعلم أنك ستوافقين على اطراح هذا الحجاب. ولكنى أحب أن احتفظ به للذكرى فاحفظيه لى عندك».
فأخذته، وبقى عندها مصونا حتى ماتت فقيل لى أنهم وجدوا حجابا بين أشيائها. وسألونى ماذا يصنعون به.. فأوصيت به أن يحفظوه فإنه أثر له تاريخه الطويل وصلته الوثيقة بأقوى العواطف الإنسانية ففعلوا، ولكنى لم أطلب أن أراه، والحق أقول إنى لم أقو على النظر إليه يومئذ. فقد كان موت هذه الأم الصالحة أوجع ما أصابنى فى حياتى وأعمقه أثرا فى نفسى، ولقد أبيت إلا البقاء فى البيت الذى وافاها الأجل فيه، لأن كل مافيه يذكرنى بها ولكنى كدت أجن، فقد كنت أتشدد وأظهر الجلد، ولكنى كنت أراها فى كل مكان، وأبصرها تروح وتجىء وأسمع صوتها، فكأنها لم تمت وإن كان غيرى لايعرف ذلك ولا يفطن إليه، وتلفت أعصابى فكانت هذه الخيالات تسرنى أحيانا، وأحيانا أخرى تفزعنى فأضطرب وأرتعد، وثقلت على وطأة الهواجس والوساوس وطال الأمر فلم أر علاجا أحسم به هذا البلاء إلا أن أفارق البيت، وأنأى بنفسى عن مواطن الذكرى ومثارها على قدر الإمكان، وأقول على قدر الإمكان لأن المرء يستطيع أن يهرب من بيت أو بلد ولكن أنى له أن يهرب من نفسه؟
الفصل الثامن
Shafi da ba'a sani ba