كان بيت آل شوكت بالسكرية من البيوت التي لا تحظى بنعمة الهدوء والسكينة، لا لأن أدواره الثلاثة أصبحت مأهولة بالسكان من آل شوكت فحسب، ولكن بسبب خديجة قبل أي شيء آخر. كانت الأم العجوز تقيم في الدور التحتاني. وخليل وعائشة وأبناؤهما: نعيمة، وعثمان، ومحمد في الدور الفوقاني، ولكن ضوضاء أولئك جميعا لم تكن شيئا بالقياس إلى ضوضاء خديجة وحدها، سواء ما يصدر عنها مباشرة أو ما يصدر عن الآخرين بسببها. وقد حدثت تغيرات في نظام البيت كانت خليقة بحصر أسباب الضوضاء في أضيق الحدود، كاستقلال خديجة ببيتها ومطبخها، وكاستئثارها بالسطح لتربية دواجنها، وغرس بستان متواضع في جانب منه على مثال بستان البيت القديم بعد أن أجلت عنه حماتها ودواجنها، كان كل ذلك خليقا بتخفيف الضوضاء إلى حد كبير، ولكن الضوضاء لم تخف، أو لعلها خفت بقدر لم يلحظه أحد. على أن روح خديجة اعتورها هذا اليوم فتور، ولم يكن سره - فيما بدا - خافيا؛ فإن عائشة وخليل انتقلا إلى شقتها ليشاركا في تفريج الأزمة - أجل الأزمة - التي أزمتها. جلسوا: الأخوان، والأختان في الصالة على كنبتين متقابلتين، وكانت الوجوه جادة، وكانت خديجة متجهمة، وكانوا يتبادلون نظرات ذات معنى، ولكن أحدا منهم لم يشأ أن يطرق الأمر الذي جمعهم حتى قالت خديجة بنبرة شاكية حانقة معا: هذه المنازعات تقع في كل بيت، هكذا كانت الدنيا منذ خلقها ربنا، وليس معنى هذا أن ننشر متاعبنا على الناس، خصوصا أولئك الذين لا ينبغي أن يشغلوا بالكلام الفارغ، ولكنها أبت إلا أن تجعل من شئون بيتنا فضائح عامة، حسبي الله ونعم الوكيل.
تحرك إبراهيم في معطفه كأنه يستوي في مجلسه، ثم ضحك ضحكة مختزلة لم يدر أحد على وجه الدقة ماذا أراد بها، فحدجته خديجة بنظرة ارتياب وهي تتساءل: ماذا تعني بهئ هئ؟ ... ألا يهتم قلبك بشيء في الدنيا؟
وأعرضت عنه كاليائسة، ثم استطردت تقول مخاطبة خليل وعائشة: هل يرضيكما ذهابها إلى أبي في الدكان لتشكوني إليه؟ هل يجوز إقحام الرجال - خاصة من كان على شاكلة أبي - في منازعات النسوان؟ ما كان ينبغي أن يعلم بشيء من هذا، ولا شك أنه تضايق من زيارتها وشكواها، ولولا أدبه لصارحها بذلك ... ولكنها ما زالت تلح عليه حتى وعدها بالمجيء. ما أبشع تصرفها! لم يخلق أبي لهذه الصغائر، فهل يرضيك هذا التصرف يا سي خليل؟
فقطب خليل في استياء، وقال: أمي أخطأت، صارحتها أنا نفسي بذلك حتى صبت علي غضبها. غير أنها ست كبيرة، وأنت تعلمين أن الإنسان في مثل سنها يحتاج إلى المداراة والحلم كالأطفال، حبذا ...
فقاطعه إبراهيم في ضجر قائلا: حبذا ... حبذا! ... كم كررت حبذا هذه حتى مللتها، أمك كما قلت ست كبيرة، ولكن قرعتها وقعت على من لا ترحم.
التفتت خديجة إليه بحدة، وقد عبس وجهها واتسع منخراها، وقالت: الله ... الله ... لم يبق إلا أن تعيد هذا الكلام الجائر أمام بابا.
فقال إبراهيم وهو يلوح بيده آسفا: بابا ليس معنا الآن، وهو إن جاء فلن يجيء ليستمع إلي أنا، ولكني أقرر الحقيقة التي يسلم بها الجميع ولا تستطيعين أنت إنكارها، أنت لا تطيقين أمي، ولا تحتملين ظلها، أعوذ بالله، لم كل هذا يا شيخة! بشيء قليل من الحلم والكياسة كان يسعك أن تأسريها، ولكن القمر أقرب منالا من حلمك، هل تستطيعين أن تنكري كلمة واحدة مما قلت؟
فرددت عينيها بين خليل وعائشة لتشهدهما على هذا «الظلم» الصارخ، فبدوا حائرين بين الحق والسلامة، حتى تمتمت عائشة وهي من الإشفاق في نهاية: سي إبراهيم يقصد أن تغضي قليلا عما يبدر منها.
وهز خليل رأسه بالموافقة في ارتياح من ظفر أخيرا بسلم النجاة، ثم قال: هو ذلك، أمي سريعة الغضب، ولكنها بمنزلة والدتك، وبشيء من الحلم تعفين أعصابك من مشقة المشاحنة.
فنفخت خديجة وهي تقول: الأصوب أن يقال إنها هي التي لا تطيقني ولا تحتمل لي ظلا، لقد أتلفت أعصابي، وما من مرة نتلاقى إلا وتسمعني - تصريحا أو تلميحا - كلمة تهيج الدم وتسم البدن، ثم أطالب أنا بالحلم! كأنني مخلوقة من ثلج، أليس يكفيني عبد المنعم وأحمد اللذان استنفدا صبري وحلمي؟ يا هوه أين أجد منصفا؟
Shafi da ba'a sani ba