ولكن حسن قاطعه بكبرياء: أنا لا أقبل محاكمة.
فهتف كمال منفسا عن غيظه، وإن كان يعلم أنه من الكاذبين: على أي حال أخبرتها بالحقيقة لتعلم أينا أصدق قولا.
فصاح حسن بوجه ممتقع: فلندعها توازن بين ما قال ابن التاجر وما قال ابن المستشار.
اندفع كمال نحوه مكورا قبضته فحال إسماعيل نحوهما، وكان أقوى الثلاثة رغم ضآلة حجمه، ثم قال بحزم: لا أسمح بهذا، كلاكما صديق، محترم ابن محترم، دعانا من هذا العبث الخليق بالأطفال.
عاد ثائرا هائجا جريحا يقطع الطريق بخطوات حادة اعتدائية، وباطنه يستعر بالألم، طعن في قلبه وكرامته، معبودته وأبيه، فما بقي له في الدنيا ؟ وحسن، الذي لم يحترم زميلا كما احترمه، ولا أعجب بخلق أحد كما أعجب بخلقه، كيف انقلب في ساعة من الزمان وقاعا سبابا؟ الحق أنه رغم حنقه عليه لم يستطع أن يؤمن بالتهمة التي اتهمه بها إيمانا خالصا من كل شك أو تردد، فلم يزل يعاوده التفكير في الأمر، فيسائل نفسه: ألا يجوز أن يكون من وراء ذلك الموقف الأليم ما وراءه من أسرار؟ أيكون حسن شوه كلامه؟ أم تكون عايدة قد أساءت الفهم، أو بالغت في التكهن، أو استسلمت للغضب؟ غير أن الموازنة بين ابن التاجر وابن المستشار رمت به في جحيم من الغضب والألم جعلا من محاولة إنصاف حسن ضربا من العبث. وقد ذهب بعد ذلك إلى سراي آل شداد في موعد اللقاء المعهود، فوجد حسن معتذرا عن التخلف بطارئ، وأخبره إسماعيل لطيف عقب انفضاض المجلس: بأنه - حسن - آسف جدا على ما بدر منه حين الغضب عن «ابن التاجر وابن المستشار» وأنه مؤمن بأنه - كمال - ظلمه ظلما فادحا باستنتاجاته الواهمة وأنه يرجو ألا تقطع هذه الحادثة العارضة أسباب الصداقة بينهما، وأنه - حسن - كلفه بإبلاغه ذلك عن لسانه، ثم تلقى منه خطابا بهذا المعنى مشددا الرجاء في ألا يعودا إلى الماضي إذا تلاقيا، وأن يسدلا عليه ستار النسيان، وختمه بقوله: «اذكر جملة ما أسأت به إلي وجملة ما أسأت به إليك لعلك تقتنع معي بأن كلانا مخطئ، وأنه لا يصح لأحدنا تبعا لذلك أن يرفض اعتذار صاحبه.» وطابت نفس كمال بالرسالة حينا، بيد أنه لاحظ أن ثمة تناقضا بين كبرياء حسن المعروف وبين هذا الاعتذار الرقيق غير المتوقع، أجل غير المتوقع! فما كان يتصور أنه يعتذر لأي سبب من الأسباب! فماذا غيره؟ لا يمكن أن يكون لصداقته هو هذا التأثير الضخم في كبرياء صاحبه، فلعله - حسن - أراد أن يسترد سمعته المهذبة أكثر مما أراد استرداد صداقته، ولعله حرص أيضا على ألا يستفحل الشقاق فتترامى أنباؤه إلى حسين شداد أن يستاء الشاب لموقف شقيقته من النزاع، أو يغضب بدوره إذا بلغه ما قيل عن ابن التاجر - وهو ابن تاجر - وابن المستشار! أي سبب من أولئك له وجاهته وهو أدنى إلى المنطق في حال حسن من اعتذار لا يراد به إلا وجه الصداقة وحدها؟ كل شيء يهون، فليصالحه حسن أو فليخاصمه، المهم حقا أن يعرف هل قررت عايدة الاختفاء؟ لم تعد تطوف بمجلسهم، أو تبدو في النافذة، أو تلوح في الشرفة. لقد أفشى لها قول حسن بأنه إذا شاء منعها من الاختلاط بأحد ليضمن - اعتمادا على كبريائها - إصرارها على زيارة الكشك فلا يحرم من رؤيتها. لكنها اختفت رغم ذلك، كأنما رحلت عن البيت كله، بل عن الحي كله، بل عن الدنيا كلها فما عاد يجد لها طعما، أيمكن أن يطول هذا الفراق إلى ما لا نهاية؟ ود لو كان قصدها أن تعاقبه حينا ثم تعفو، أو في الأقل أن يذكر حسين شداد سببا لغيابها يكذب مخاوفه، ود هذا أو ذاك كثيرا، وانتظر وطال انتظاره بلا فائدة.
كان إذا مضى لزيارة السراي أقبل عليها بعينين قلقتين تضطربان في محجريهما بين اليأس والرجاء، فيسترق إلى شرفة المدخل نظرة، وإلى نافذة الممر الجانبي نظرة، ثم يلحظ شرفة الحديقة وهو في طريق الكشك أو السلاملك، ويجلس بين الأصدقاء ليحلم طويلا بالمفاجأة السعيدة التي لا تريد أن تقع، وينفض المجلس فيغادره ليختلس نظرات متعبة حزينة من النافذة والشرفات، خاصة نافذة الممر الجانبي التي كثيرا ما تظهر في أحلام يقظته إطارا للصورة المعبودة، ثم يذهب متجرعا اليأس، زافرا الكرب، وبلغ به اليأس أن كاد يسأل حسين شداد عن سر اختفاء عايدة، غير أن تقاليد الحي العتيق التي تشبع بها عقلته فلم ينطق، وجعل يتساءل في قلق عن مدى إلمام حسين بالظروف التي أدت إلى تواري المعبودة، أما حسن سليم فلم يشر إلى «الماضي» بكلمة، ولم يبد في صفحة وجهه أنه يفكر على أي وجه فيه، ولكن لا شك أنه كان يرى في كل جلسة تجمعهم شاهدا على هزيمته - كمال - المجسمة، وكم كان يتألم كمال لهذا الخاطر، تعذب كثيرا ، شعر بالعذاب ينفذ إلى نخاعه، وبهذيان العذاب يخالط عقله، وكان شر ما يعذبه لوعة الفراق، ومرارة الهزيمة، وضيقة اليأس، وأفظع من هذا كله الإحساس بالهوان، بأنه المنبوذ من روضة الرضا، المحروم من أنغام المعبود وأضوائه، فجعل يردد وروحه تذرف دموع الأسى والقهر: «أين أنت من أولئك السعداء أيها المخلوق المشوه؟» ما معنى الحياة إن أصرت على الاختفاء؟ أين تجد عيناه النور؟ ويتلقى قلبه الحرارة؟ وتنعم روحه بالغبطة؟ فلتبد المعبودة بأي ثمن ترضاه، فلتبد لتحب من تشاء حسن كان أو غيره، فلتبد ولتهزأ برأسه وأنفه ما شاء لها المزاح واللعب، إن اشتياقه إلى اجتلاء طلعتها وسماع صوتها فاق طاقة النفس على الاشتياق، فأين منه نظرة رانية لتمسح عن صدره سخام الكآبة والوحشة! ولتسر قلبا أمسى مفتقد السرور منه كالنور من فقيد البصر، فلتبد وأن تتجاهله، فإنه إن خسر سعادة القبول عندها فلن تضيع سعادة رؤيتها، ورؤية الدنيا بعد ذلك في مجتلى ضوئها البهيج، أما بغير ذلك فلن تكون الحياة إلا لحظات متصلة من الألم المخلخل بالجنون، وهل كان خروجها من حياته إلا كخروج العمود الفقري من الجسم الإنساني يرده من بعد توازن وتكامل إلى شبه جثة ناطقة؟
وأخرجه الألم والقلق عن الصبر، فلم يعد يحتمل الانتظار حتى يجيء يوم الجمعة؛ فكان يذهب مع الأصدقاء إلى العباسية، فيحوم حول السراي من بعيد لعله يلمحها في نافذة أو شرفة أو في خطراتها وهي تظن أنها بمنأى عن عينيه، على أن الانتظار في بين القصرين كان من فضائله اليأس بخلاف حومان المحموم حول مقام المعبودة، كحومان مجموعة من الديناميت حول عمود من النيران. ولم يرها، ولكنه رأى مرات أحد الخدم وهو ذاهب إلى الطريق أو عائد منه، فكان يتبعه عينا متفحصة متعجبة كأنما تسائل المقادر عما جعلها تخص هذا الإنسان بحظوة القرب من المعبودة كأنما تسائل المقادير عما جعلها تخص هذا الإنسان بخطوة القرب من المعبودة، والاختلاط بها، والاطلاع على شتى أحوالها، مستلقية أو مترنمة أو لاهية، كل ذلك من حظ هذا الإنسان الذي يعيش في المحراب ولا تشغل قلبه العبادة.
وفي جولة من جولاته رأى عبد الحميد بك شداد وحرمه المصون وهما يغادران القصر ليركبا المنرفا التي كانت في انتظارهما أمام الباب، رأى الشخصين السعيدين اللذين تقف عايدة أمامهما - من دون العالمين - بإجلال واحترام، اللذين يخاطبانها بلسان الأمر أحيانا فلا تملك إلا أن تطيع، وهذه الأم المقدسة التي حملتها في بطنها تسعة أشهر، فما من ريب في أن عايدة كانت جنينا فوليدة كتلك المخلوقات التي كان يرنو إليها طويلا في فراشي عائشة وخديجة، وليس من إنسان هو أعرف بطفولة معبودته من هذه الأم السعيدة المقدسة. سوف تبقى الآلام ما بقي في متاهة الحياة أو في الأقل لن تمحى آثارها. أين تذهب ليالي يناير الطوال وهو دافن في الوسادة عينيه الهامعتين؟ وبسط راحتيه إلى رب السماوات وهو يدعو من الأعماق: «اللهم قل لهذا الحب كن رمادا كما قلت لنار إبراهيم كوني بردا وسلاما»؟ وتمنيه لو كان للحب مركز معروف في الكائن البشري لعله يبتره كما يبتر العضو الثائر بالجراحة؟ وهتافه باسمها المحبوب ليتلقى صداه في سكون الحجرة الصامتة بقلب خاشع كأنما كان غيره المنادى؟ ومحاكاته لصوتها حينما دعت باسمه ليستعيد حلم السعادة المفقودة؟ وتقليبه البصر في كراسة الذكريات للتثبت من أن ما كان كان حقيقة لا وهما من الخيال؟
ولأول مرة منذ أعوام تطلع إلى ما قبل الحب من الماضي بلهفة كما يتطلع السجين إلى ذكريات الحرية الضائعة، أجل لم يتصور شخصا هو أشبه بحاله من السجين، غير أن قضبان السجن بدت أطوع للتحطيم وأرق أمام الزمام من أغلال الحب الأثيرية التي تستأثر المشاعر في القلب والأفكار في العقل والأعصاب في الجسد، ثم لا تؤذن بانحلال، ووجد نفسه يوما يتساءل: ترى هل ذاق فهمي مثل هذا العذاب الذي يعانيه؟ وهفت عليه ذكريات أخيه الراحل مثل لحن كامن حزين. تنهد في أعماق النفس. فذكر كيف قص يوما على مسمعه مغامرة مريم مع جوليون، فأغمد خنجرا مسموما في قلبه بلا حيطة أو حذر. وجعل يستحضر في ذاكرته وجه فهمي، فتخيل إليه هدوءه الذي انخدع به وقتذاك، ثم تصور تقلصات الألم في قسماته الجميلة حين خلا إلى نفسه، ومناجاته الشاكية التي لا شك غرق فيها كما هو يغرق الآن في تأوهاته وأنينه، فشعر بغمز في قلبه وراح يقول: لقد عانى فهمي ما هو أشد من الرصاص قبل أن يستقر الرصاص في صدره. ومن عجب أنه وجد في الحياة السياسية صورة مكبرة لحياته، فكان يطالع أنباءها في الصحف وكأنما يطالع مواقف مما مر به في بين القصرين أو العباسية. هذا سعد زغلول - مثله هو - شبه سجين، وهدف للطعنات الباغية، والحملات الظالمة، ولخيانة الأصدقاء وغدرهم، وكلاهما - هو وسعد - يكابدان أحزانا من اتصالهما بأناس علوا بأرستقراطيتهم وسفلوا بفعالهم. تقمص شخص الزعيم في كدره كما تقمص حال الوطن في قهره، وكان يلاقي الموقف السياسي وموقفه الشخصي بعاطفة واحدة وانفعال واحد، فكأنما كان يعني نفسه وهو يقول عن سعد زغلول: «أتليق هذه المعاملة الظالمة بهذا الرجل المخلص؟» وكأنما كان يعني حسن سليم وهو يقول عن زيور: «خان الأمانة واستحل القبيح في سبيل الاستيلاء على الحكومة.» وكأنما كان يعني عايدة وهو يقول عن مصر: «هل تخلت عن رجلها الأمين وهو يذود عن حقوقها؟»
21
Shafi da ba'a sani ba