واستحكم الصمت مرة أخرى، فعاود مسمعيه حفيف الغصون، وخشخشة الأوراق الجافة، وزقزقة العصفور، غير أنه تلقاها هذه المرة بوجد فاتر وقلب خائب، ولاحظ أن عينيها تتفحصانه بإمعان لا داعي له، وأن نظرتها تزداد جرأة وثقة وما يوحي بالعبث، وأنها أبعد ما يكون عن منظر أنثى تصدت لذكر، فشعر بغمز في قلبه وبرودة، وتساءل هل قدر له أن ينفرد بها لتتقوض أحلامه دفعة واحدة؟ ولاحظت قلقه، فضحكت ضحكة لاهية، وقالت في دعابة وهي تومئ إلى رأسه: لا يبدو أنك شرعت في تربية شعرك؟
فقال باقتضاب: كلا. - ألا يروقك ذلك؟
وهو يمط بوزه باستخفاف: كلا. - قلنا لك: إنه أجمل. - هل ينبغي للرجل أن يكون جميلا؟
فقالت باستغراب: طبعا الجمال محبوب، سواء في الرجال والنساء!
هم بأن يردد بعض محفوظاته مثل: «جمال الرجل في أخلاقه» ... إلخ، ولكن غريزة من غرائزه أوحت إليه بأن مثل هذا القول - مع صدوره عن شخص في صورته - لن يلقى عند معبودته إلا الهزء والسخرية، فقال وهو يعاني وخزا في قلبه داراه بضحكة مصطنعة: لست من رأيك. - أو لعلك تنفر من الجمال كما تنفر من البيرة ولحم الخنزير!
فضحك ضحكة يعالج بها يأسه وقهره، فعادت تقول: الشعر الطبيعي غطاء طبيعي، أعتقد أن رأسك في حاجة إليه، ألا تعلم أن رأسك كبير جدا؟
ذو الرأسين! أنسيت ذلك النداء القديم؟ ... يا للتعاسة! - هو كذلك. - لمه؟
أجاب وهو يهز رأسه في إنكار: سليه بنفسك فإنني لا أدري.
ضحكت ضحكة خافتة، أعقبها صمت، معبودك جميل ، فاتن، ساحر، ولكنه ذو جبروت كما ينبغي له، ذق جبروته، وتلقن شتى أنواع الألم. ولم ترحمه فيما بدا، لم تزل عيناها الجميلتان تصعدان البصر في وجهه وتصوبان حتى ثبتتا على ... أجل، على أنفه! ... هنالك وجد قشعريرة في أعماقه حتى قف شعره، وغض البصر وهو خائف يترقب، وسمعها تضحك، فرفع عينيه وهو يتساءل: ماذا يضحكك؟ - ذكرت أمورا مثيرة طالعتها في مسرحية فرنسية معروفة، ألم تقرأ «سيرانو دي برجراك؟»
أنسب الأوقات للاستخفاف بالألم وقت يزيد فيه الألم عن حده، قال بهدوء واستهانة: لا داعي للمداراة، أنا أعرف أن أنفي أكبر من رأسي، ولكن أرجو ألا تسألي مرة أخرى «لمه؟» سليه بنفسك إن شئت.
Shafi da ba'a sani ba