أجابت وثغرها يفتر عن ابتسامة غامضة: نعم. - ماذا قرأت فيهما؟
فرفعت حاجبيها كالمتعجبة، وهي تقول: هذا ما أردت معرفته.
أيبوح لها بسره المكنون قائلا بكل بساطة «أحبك» وليكن ما يكون؟! لكن ما جدوى البوح؟ وماذا يكون من أمره لو قطع الاعتراف ما بينه وبينها من صداقة ومودة - كما هو الراجح - إلى الأبد؟ وانتبه - وهو يتأمل - إلى النظرة التي تلوح في عينيها الجميلتين، نظرة مطمئنة، شديدة الثقة بنفسها، جريئة، لا يعتورها ارتباك أو خجل، نظرة كأنما تهبط عليه من عل بالرغم من أنها في مستوى نظره، فلم يرتح لها وزادته ترددا، ماذا وراءها يا ترى؟ وراءها فيما رأى شعور بالاستهانة، وربما العبث كأنما هي بالغ ينظر إلى طفل، ولعلها لم تخل كذلك من تعال لا يمكن أن يبرره فارق السن وحده؛ إذ لم تكن تكبره إلا بعامين على أكثر تقدير، أفلا تكون هذه النظرة الخليقة بأن يلقيها هذا القصر الشامخ بشارع السرايات على البيت القديم ببين القصرين؟ ولكن لم لم يلمحها في عينيها من قبل ذلك؟ ربما لأنها لم تنفرد به من قبل، أو لأنه لم يتح له أن ينعم فيها النظر إلا هذه الساعة، وآلمه ذلك وأحزنه حتى فترت نشوته أو كادت. ورفعت بدور نحوه يديها داعية إياه لحملها، فتناولها في حضنه، وإذا بعايدة تقول: يا للعجب! لماذا تحبك بدور كل هذا الحب؟!
فقال وهو ينظر في عينيها: لأني أكن لها مثله وأكثر.
فتساءلت كالمرتابة: أهذا قانون يركن إليه؟ - الحكمة السائرة تقول: «من القلب للقلب رسول».
فجعلت تنقر المنضدة بأنملتها وهي تتساءل: هب فتاة جميلة أحبها كثيرون، فهل تحبهم جميعا؟ أرني كيف يصدق قانونك في هذه الحال.
فقال وقد أذهله سحر الحوار عن كل شيء حتى أحزانه: يكون من أمرها أن تحب أصدقهم حبا لها. - وكيف تفرزه من الآخرين؟
لو يدوم هذا الحوار إلى الأبد! - أحيلك مرة أخرى إلى الحكمة السائرة «من القلب للقلب رسول».
فضحكت ضحكة مقتضبة مثل رنة الوتر، وقالت في تحد: لو صح هذا ما خاب محب صادق في حبه! فهل هذا صحيح؟
صدمه قولها كما تصدم حقائق الحياة المستنيم إلى المنطق وحده، فلو صح منطقه لوجب أن يكون أسعد الناس بحبه ومحبوبه، ولكن أين هو من ذلك؟ الحق أن تاريخ حبه الطويل لم يعدم لحظات أمل خلت، كان يضيء ظلمات قلبه بسعادة وهمية على أثر ابتسامة حلوة يجود بها المحبوب، أو كلمة عابرة قابلة للتأويل، أو حلم سعيد عقب ليلة فكر، وسهاد، ولواذا بقول سائر له احترامه في نفسه مثل: «من القلب للقلب رسول»، فكان يتعلق بالأمل الخلب في إصرار اليائس حتى تعيده الحقيقة إلى وعيه، ها هو الساعة يتلقى هذه الجملة الساخرة الحاسمة كالدواء المر ليتداوى بها مستقبلا من كواذب الآمال، وليعرف على وجه اليقين موضعه أين يكون، ولما لم يحر جوابا على سؤالها الذي تحدته به، هتفت معبودته ومعذبته بلهجة المنتصر: غلبت ...؟!
Shafi da ba'a sani ba