فوجدته رجلًا جليلًا من أهل العلم، نهضت به فضائله، واجتمع فيه العقل والفهم وممارسة العلوم طول عمره، وكان على ذلك معظم زمانه، ثم بدا له الانصراف عن طريق العلماء، فدخل في غمار العمال، ثم تصوف فهجر العلوم وأهلها، ودخل في علوم الخواطر، وأرباب القلوب، ووساوس الشيطان، ثم شابها بآراء الفلاسفة ورموز الحلاج، وجعل يطعن علي الفقهاء والمتكلمين، ولقد كاد أن ينسلخ من الدين.
فلما عمل كتابه، سماه "إحياء علوم الدين" (١) عمد يتكلم في علوم الأحوال ومرامز الصوفية، وكان غير أنيس بها، ولا خبير بمعرفتها، فسقط على أم رأسه، فلا في علماء المسلمين قرّ، ولا في أحوال الزاهدين استقر، ثم شحن كتابه بالكذب على رسول الله ﷺ (٢)، فلا أعلم كتابًا على وجه بسيط الأرض أكثر كذبًا على الرسول منه، ثم شبكه بمذاهب الفلاسفة، ورموز الحلاج، ومعاني رسائل إخوان الصفا، وهم قوم يرون النبوة اكتسابًا، فليس النبي عندهم أكثر من شخص فاضل تخلّق بمحاسن الأخلاق وجانب سفسافها، وساس نفسه حتى ملك قيادها، فلا تغلبه شهواته، ولا يقهره سوء أخلاقه، ثم ساس الخلق بتلك الأخلاق، وأنكروا أن يكون الله تعالى -من أقر منهم بالصانع- أن يبعث للخلق رسولًا، وزعموا أن المعجزات حيل ومخاريق. ولقد شرف الله الإِسلام، وأوضح حججه، وأقام برهانه وقطع عذر
_________
(١) ذكر الإِمام الذهبي عن أحد الحفاظ أنه قال: إن أبا الوليد الطرطوشي ذكر في غير هذه الرسالة كتاب "الإحياء" فقال: هو -لعمرو الله- أشبه بإماتة الدين. سير أعلام النبلاء: ١٩/ ٤٩٤.
(٢) قال الإِمام الذهبي تعليقًا على هذا الموضع: "أما "الإحياء" ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير، لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء ومنحرفي الصوفية، نسأل الله علمًا نافعًا، تدري ما العلم النافع؟ هو ما نزل به القرآن، وفسره الرسول ﷺ قولًا وفعلًا، ولم يأت نهي عنه، قال ﵇: "مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنتي فَلَيْسَ مِني" فعليك يا أخي بتدبر كتاب الله، وبإدمان النظر في "الصحيحين" وسنن النسائي ورياض النووي وأذكاره تفلح وتنجح، وإياك وآراء عباد الفلاسفة ووظائف أهل الرياضيات، وجوع الرهبان، وخطاب طيش رؤوس أصحاب الخلوات، فكل الخير في متابعة الحنيفية السمحة، فواغوثاه بالله، اللهم اهدنا إلى صراطك المستقيم". سير أعلام النبلاء: ١٩/ ٣
1 / 57