وكان فوزه الأكبر في مماته. فإن عظامه محفوظة تحت القبة في الجامع الحامل اسمه بمحلة الشيخ، وما زالت روحه، بعد سبعمائة سنة، منارة علم وهدى لألوف من أشياع الطريقة القادرية في الشرق.
كنج عثمان والباز الأشهب
وللشيخ عبد القادر فوق ما ذكرت صفة حربية تذكر بقصة يشوع بن نون. فهو مثله هدام أسوار وفاتح مظفر.
في السنة 1621م فتح بغداد شاه فارس عباس الصفوي، وملك أربع سنوات، فخلفه الشاه صفي خان، ثم صفي الدين، وما تجاوز حكماهما الإحدى عشرة سنة؛ ذلك أن سلطان العثمانيين مراد الرابع زحف بجيشه على بغداد ليطرد منها الفرس. فحاصرها في 8 رجب سنة 1048 / 15 تشرين الثاني 1638 ودخلها ظافرا في الشهر التالي، ثم أقام عليها واليا من قبله، وعاد إلى الأستانة، تاركا ببغداد للدفاع عنها المدافع التي غنمها من الشاه الصفوي، وتلك التي كانت معه، ومنها طوب أبو خزامة.
هذه هي رواية التاريخ، وليس فيها شيء من سيرة المدفع العجيب، وعلاقته بالشيخ عبد القادر، ولا مما للائنين من الفضل في فتح بغداد. إنها لقصة عجيبة قد تجدها في مخطوطة من مخطوطات المدرسة المرجانية، وقد تظفر في أحد المقاهي بمن يستطيع من القصاصين أن يكمل التاريخ. وبينما كنت أسعى لهذا الغرض لقيت صديقي الدجيلي الشيخ كاظم، الناثر الناظم، فقصر علي الطريق بأن جاءني في اليوم التالي بمجلة «لغة العرب» وفيها ما ابتغيته، مكتوب بقلمه، ومؤيد بوافر علمه.
قال الراوي: لما أخذ الشاه عباس بغداد أذل أهلها، وجعل جوامعهم الكبيرة مرابط لخيله وبغاله. فثار ثائر الناس وقالوا: ما لنا غير السلطان نستغيثه. ولكن السلطان في الأستانة، والشاه عباس منع السفر من بغداد، فكيف الوصول إلى السلطان. أجاب على هذا السؤال رجل من بيت السويدي، وكان جوابه غير الكلام، فقد تزيا بزي درويش، وسافر إلى الأستانة؛ ليحمل إلى السلطان خبر سقوط بغداد. وبعد وصوله ظل متخفيا ليدرك غرضه، فوفقه الله إلى خطيب جامع السلطان، فقال له: إنه طالب علم وعارض خدمة. فاستخدمه الخطيب، لما بدا من نجابته. وفي ذات يوم من أيام الجمع كان الخطيب مريضا، فما استطاع أن يذهب إلى الجامع ليلقي الخطبة، فقال له السويدي: إنه ينوب عنه، فسر بذلك. ولما رقي السويدي المنبر نادى بأعلى صوته: أيها المؤمنون المسلمون. إن الدين ذهب، وإن بغداد قد ضبطها الشاه عباس وربط خيله وبغاله في حضرة أئمتها، وفعل من المنكرات ما لا يوصف ولا يحصر في بال إنسان. فلما سمع الحاضرون كلامه ضجوا بالتكبير، وأخذوا بالبكاء والعويل.
وكان السلطان مراد حاضرا، فأمر أن يجيء السويدي إلى القصر، فاستقصه القصة، ثم أعلن الجهاد، ونادى المنادي في الأستانة أن لا يصحب السلطان من عسكره إلا الكهول، والذين يغرز المشط في لحاهم. فحشد الجيش وفيه الشبان والكهول لا غير، ثم مشى به السلطان قاصدا بغداد.
ولما صار قرب سامراء خطر له خاطر في اختيار رجاله. قال الراوي: أراد أن يجعل على الجيش قائدا محنكا، وأن يذهب هو بنفسه إلى بغداد متجسسا، فأخذ يسأل كل من ظن فيه الكفاية للقيادة: أين بغداد؟ فأجابه الأول: على بعد ثلاثة أيام منا، فأمر بقطع رأسه. وأجاب الثاني: على بعد يومين، فصاح السلطان: اقطعوا رأسه. وأجاب آخر: على بعد يوم، فطاح رأسه حالا. هذا في يوم واحد. وعندما أمر القواد في اليوم التالي بالمثول بين يدي السلطان سأل أحدهم: أين بغداد؟ فوثب إلى صهوة جواد، وراح غائرا يهز اللواء ويقول: بغداد تحت حافر هذا الجواد. فهتف السلطان قائلا: الآن وجدت ضالتي.
ثم دعا القائد إليه وقال له: اصدقني الخبر. من علمك هذا؟ فأجاب القائد: لي ابن أحبه حبا شديدا فلم أطق فراقه، فحملته معي مخفى في صندوق، فأخرجه منه في الليل وأسامره. وفي الليلة البارحة رآني في ضيق وكنت أقول في نفسي: هي الليلة الأخيرة من دنياي، فسألني عن حالي، فقصصت عليه القصة، فدبر لي هذا الأمر.
قال السلطان: أين ابنك هذا؟ فأجاب القائد: في الصندوق. فأمره أن يأتيه به، ففعل. فلما رأى السلطان الولد استسماه فأجاب: اسمي كنج عثمان (عثمان الصغير).
Shafi da ba'a sani ba