دبه دب دب! اسمعي يا نيويورك، هل عندك من باعة فستق العبيد من ينطق بالشعر؟ دبه دب دب! اسمعي يا لندن، وأنت يا باريس، هل عندكما من باعة السمك أو الضفادع من يحسن النطق بالحكمة شعرا؟
هو ذا الشرق المهذب الوادع القنوع. إن هذا البغدادي لأكبر وأشرف من كل من ينصبون الأشراك للناس. إنه لمن الماضي القديم الجميل، وإنه من هذا الجيل، وهو مع ذلك يرضى بالقليل، ويرى بعينه الثاقبة الظاهر والخفي من الأحابيل. •••
ليس في القيافات البغدادية التي عرضناها لك قيافة واحدة جامعة تميز البغدادي عن سواه من أهل العراق، أو العراقي عن سواه من العرب، إلا إذا استثنينا السدارة والجراوية، ملبوس أقليتين من الأهالي الأفندية والفتيان. أما الأكثرية فإن هي إلا أشتات من الناس، تعلن صفاتها وجنسياتها، ومذاهبها المختلفة، في أشتات من القيافات.
على أن الأقلية العصرية في الملابس الفرنجية تزداد يوما فيوما. وكما أنك شاهدت السيارة البراقة في الدربونة المعتمة، فإنك تشاهد في المآدب وفي الحفلات الرسمية ما يدهشك لأول وهلة. وإذا كنت من الزوار المرموقين، وكنت تظن أن بغداد مدينة عربية أو صحراوية، لباس أهلها قميص وعباءة، فلا تعجب ولا تجزع عندما تجيئك رقعة مكتوبة على الآلة الكاتبة، أو مطبوعة بماء الذهب، تتضمن دعوة لمأدبة أو حفلة، وفيها، في الزاوية: «اللباس رسمي». أو إذا كانت من البلاط: «اللباس رسمي كامل!»
إني لا أزال أذكر يوم تشرفت للمرة الأولى بمثل هذه الدعوة. ولا بأس، ما دمنا في موضوع الثياب؛ أن أقص قصتي وأشرح محنتي، يوم كنت مقيما مع صديقي العزيزين؛ «أمين كسباني» سكرتير الملك فيصل في تلك الأيام، و«حسين أفنان» سكرتير مجلس النظار، في بيت واحد، جاءتني دعوة من البلاط الملكي، وفيها اللباس رسمي كامل.
إن معنى ذلك للضباط والموظفين أن يلبسوا أثوابهم الرسمية، العسكرية أو المدنية، ويزينوا صدورهم بما يحملون من الأوسمة ، ومعناه لمثلي ثوب فرنجي أسود ذو ذنب كذنب الحسون، واحر قلبي! أين لي بثوب نصف رسمي، فضلا عن الكامل ذي الذنب الطويل، وأنا قادم، أيها النجيب؛ من رحلة طويلة في البلاد العربية، ولم أتعود أن أحمل، مثل الإنكليز، حتى في البادية، جهاز العروس والعيد؟! فقد كان بيني وبين الثوب الرسمي بحور، عدا البوادي والجبال. هنالك في نيويورك تركت كل ما يسعد المرء في رحلة عربية، وما أدركت خطئي إلا في بغداد، عندما تلقيت رقعة الدعوة لمأدبة الملك.
وأين في بغداد الثوب الرسمي أحرزه بيوم واحد، بساعة واحدة؟ إن عاصمة العراق لا تزال، في التمدن الحديث، دون تلك المنزلة التي ينعم بأسبابها أولئك الذين يستأجرون أثوابهم الرسمية لليلة من ليالي الدهر، أو إنهم يرهنون ساعاتهم عند صاحب الدكان السعيد، أبي الكرات الثلاث المذهبة ليبتاعوا ثوبا مخيطا جاهزا من صاحب المخزن الآخر ابن عم أبي الكرات المذكورة.
ولم نكن في بغداد الرشيد، بغداد السحر والجن، فأفرك خاتم لبيك، فيقول عبده: «بين يديك»، ويجيئني في الحال بثوب رسمي كامل، يدهش بقماشه وخياطته حتى خياط الملك بلندن. ومع أني كنت أسكن في محلة الشيخ، بجوار مولانا عبد القادر الكيلاني - قدس الله سره - وأنا من الطامعين باليسير من بركته، لما ينور في روضتي الحين بعد الحين من زهيرات التصوف، فما حقق رجائي بزيارة تستكشف حاجتي، فيقضيها كما كان يقضي حاجات المقربين منه في قديم الزمان. ما جاءني يقول: «ما همك، يا أمين؟» فأجيب: «ثوب فرنجي رسمي يا مولانا.» فيهديني إليه، أو يقول: «هاكه»، فأراه بين يدي إذ ينطق بالكلمة المسعدة. لا، وربك، ما كان شيء من هذا.
بيد أن أملي ما خاب، فإن أحد رفيقي يمت بالنسب إلى مولانا عبد القادر؛ لأنه مثله سيد ابن سيد من سلالة الحسين ابن بنت الرسول - عليه السلام - والآخر هو من لبنان، من تلك البلدة التي أنجبت الشميل واليازجي وغيرهما من العلماء. ولكن علم الكسباني أمين لم ينفعني في تلك المحنة، ولا نفعتني ظاهرا سلالة السيد حسين أفنان.
إنما الأمل، كما قلت، «ما خاب»، وإليك البيان ، فقد كنا نحن الفرسان الثلاثة، على ما كان اضطراب الأحوال، نظفر بسويعة واحدة في النهار، بل في الليل، نحسبها دهرا من النعيم. وفي تلك الساعة كان ينقسم الكون إلى قسمين: العالم، وأنا وخليلي، فيظل العالم خارجا بعيدا، ونمسي نحن الثلاثة في حصن حصين، بل في واحة من السحر الحلال، ولم يكن لمولانا عبد القادر يد في هذا السحر أو كلمة. لا، وربك، إنما كان كله من بعقوبة، من فضل رمانها.
Shafi da ba'a sani ba