وهذا وراء الثلاثة بغدادي في دشداشة وساكو عسكرية، هي من لون العصفر «كاكيه»، وهو من الركبة إلى الأخمصين كما جاء الدنيا الدنية.
وهذا الممنطق بالمنطقة الحمراء، فوق القنباز الأبيض، الحامل كرشا تحتهما عامرا، الملفوفة غطرته فوق كوفية صفراء، المزدانة رجلاه بيمانية حمراء، هو من أولئك البغداديين الهائلين - من عشيرة «أبو حمد» (أي القبضاي) - الذين يصيحون بوجه المعتدي عليهم: أنا بغدادي مو عجمي - فك عينك زين.
وفي الموكب ترى الحمالين، في دشداشة وجراوية، يحملون الأكياس والصناديق، والأشجار للغرس، والخشب والحديد. وهم يزاحمون الأفندي اللابس السدارة، والعالم ذا العمة البيضاء، والفقيه والسياسي - نحن بالقرب من السراي والمحاكم العدلية - ومن في الموكب من النساء.
النساء، وليس فيهن شجر الدر، أو فتنة القلوب، وهذه اليهودية أو المسيحية تلبس العباءة كالمسلمة ولا تلبس الحجاب، مع أن الوجه منهما أحق بالحجب مما حجبت من جسمها، وهذه مسلمة في ثوب إفرنجي قصير، وجوارب من حرير، وحذاء يرفعها قبضة فوق الأرض التي تشرفها بمشيتها المتكسرة، وهذه منهن أقرب شيء إلى الفتنة. بنت سافرة في عباءة سوداء، من تحتها فوق الجبين غرة من شعرها الذهبي، ووجهها بين طرفي العباءة كالبدر بين غيمتين سوداوين، فنصع البياض فيه، واشتد تورد الخدين.
ومن النساء من يخرجن إلى السوق بالمشاية، ومن المشايات ما ترفع صاحبتها بضع أصابع عن الأرض، ومنها المسحاء وتلك التي لا يظهر منها في الرجل غير رأسها، ومن النساء من يلبسن الحذاء الفرنجي، وجوارب الحرير، ويسدلن من رأس العباءة الحجاب، فلا ترى من محاسنهن غير الأرساغ - هل تصح الاستعارة ولا تذل؟ - اللهم إذا كانت دقيقة أنيقة. ومنهن من يلبسن جوارب الحرير فوق الخلاخل الضخمة. فتظن أن في الساق ورما، أو جرحا مضمدا، ويخفين تحت العباءة السوداء دراعات (فساتين) من الحرير تنم الأطراف عن ألوانها الزاهية، فهل تصدق الظواهر فيهن أم البواطن؟ وقد يكون في القلوب شيء من فضة الخلخال الخفي، وقد يكون فيها القيود الفضية!
ومن النساء في هذا الموكب المتحرك على الدوام الحمالات والمعولات - حمالات اللبن، وحمالات الحطب، واللاتي يحملن أطفالهن على أكتافهن. وجوه صفراء فوق وجوه سمراء، أرجل نحيلة على صدور عليلة، بيد أن هذه الصغيرة وردية الوجه، الضامة يديها على رأس أمها، وتلك الأم الحافية ذات القد الرديني، تعيدان إليك ما ذهب من أمل وتشعلان ما انطفأ في موقد الحياة.
إن ها هنا أيضا ما يباغتك في أملك، وينفخ في رماد موقدك، هاك زمرة من الصبيان في أطمار فرنجية، وأسمال بغدادية، يحمل أحدهم طبلا، وآخر لوحة، ويتقدمهم أبو اللفتين، رافع اليد، جاحظ العين. فيدق حامل الطبل طبله، ويرفع حامل اللوحة لوحته، ثم يرفع الخطيب أبو اللفتين عقيرته: هبوا على السينما الملكي، وشاهدوا أعجب الصور، وأغرب المخلوقات. ثعلب يقتل أسدا، خروف يأكل ذئبا، طفل ذو قرنين، وآخر ذو رأسين ... عجائب المخلوقات - هذا المساء - في السينما الملكي. هبوا على السينما الملكي: دبه دب دب، دبه دب دب!
من الناس من وقفوا ليسمعوا ويتعجبوا. ومنهم من قالوا: عجيب، وهم ماشون، ومنهم رجل يبيع بزر بطيخ مملح، كان واقفا عند مدخل السوق، وراء فرشه، وهو يسمع ويهز برأسه، هذا الرجل لا يؤمن بما قاله الخطيب، وإذ رآني أنظر إليه قال:
كل من في الحياة يطلب صيدا
غير أن الأشراك مختلفات
Shafi da ba'a sani ba