ومن أسرار هذا الكون أن كل أمة تحرص على سلطانها ولسانها وأوضاعها، وتدافع عنها جهدها. والوقائع التاريخية الكبرى تظهر آثارها في الأمم حتى بعد قرون، فغارات الصليبيين والتاتار على هذا الشرق الأقرب أثرت فيه قرونا، وغارات العرب على أوروبا أثرت فيها، بحيث يشهد التاريخ أن العرب يوم زحزحوا عن بواتيه في فرنسا على يد شارل مارتل هم غيرهم يوم جلوا عن أرض الأندلس.
إذا كان الاختلاف طبيعيا بين أهل قطرين لسان كل منهما يختلف عن صاحبه، أما العادات والتقاليد فواحدة إلا قليلا، أفلا يكون أشد بين أمم متباعدة في معظم مشخصاتها ومقوماتها؟ ونضرب لذلك مثال أمتين حيتين في الغرب: البلجيك وسويسرا، وهما مملكتان صغيرتان أدهشتا العالم بمدنيتهما ووطنيتهما وحريتهما، ولم يمنع اختلاف العناصر فيهما من اتفاق كلمة كل منهما على الثاني في حب الكمال، بحيث أصبح في أهلها عادة وجبلة، وغدتا نموذجا ينقل عنه حتى أرقى شعوب أوروبا كعبا في المدنية من مجاوريهما؛ كما هو الحال في البلجيك، فإنها بين ثلاث ممالك هي مصدر لمدنية: إنكلترا وفرنسا وألمانيا، وسويسرا وهي بين أربع: ألمانيا وفرنسا والنمسا وإيطاليا، وكل هذه الممالك الكبرى تغبط تينك المملكتين الصغريين على أوضاعهما واستعدادهما. بلاد البلجيك مؤلفة من عنصرين مختلفين في الأصل، وهما العنصر الغلاندري أو الفلامندي سكان الشمال، والعنصر الفالوني سكان الجنوب، وهم فرنسيس يجيدون التصوير والآخرون الموسيقى،
6
ولكن بلاد الموسيقى لا تحملهم، فتقبلهم فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا، وحال البلجيك مع الدول المجاورة حال سورية مع غيرها على عهد الأتراك، فقد كانت هذه البلاد تضيق على رحبها بأبنائها، فيهاجرون إلى القارات الخمس في طلب الرزق، ولكن أين مساحة بلاد البلجيك من مساحة بلادنا؟
7
والنزاع بين الفلامنديين والفالونيين على أتمه بشأن اللغة، فتجد الفلامنديين سكان الفلاندر من أحرص الأمم على لسانهم، وقد حاولت البلجيك بعد سنة 1830 أن تفنلس الفلاندر، فثارت هذه على كل ما أريدت عليه، ولم تستطع ذلك، بل احتفظت بروحها، وأخلاقها، وأفكارها، وتقاليدها، وعواطفها، وأساليب تصورها، قال شاريو: الأمة بلغتها، وما من أمة بدون لغة. ولذلك تجد الجدال قائما قاعدا في فنلندا، وبولونيا، والنمسا، والمجر، وسويسرا، وإسبانيا، بل وفي كل مكان في هذا الشأن.
دعا نابليون الأول أرض بلجيك بأنها ساحة حروب أوروبا، وسماها اليزمركلو ساحة اختبار أوروبا، وسماها بعضهم مغرس بقولها، كما سموا الأندلس حديقة زهرها ، وكما أصبحت سويسرا بالعلم مصيف أوروبا ومشتاها.
قلنا: إن اللسان منبع الخصام بين كثير من الأمم المختلطة العناصر، ومع أن في سويسرا ثلاثة عناصر: وهي الألماني، والفرنساوي، والإيطالي، وأربع لغات: وهي الألمانية، والإفرنسية، والإيطالية، والرومانشية، فإنها أشبه بفسيفساء من الشعوب، تلاقت وامتزجت وتعاشرت، ونشأت من هذه العناصر الممزوجة روح سويسرية؛ أمر غريب لم يعهد له نظير في أمة من الأمم، وأغرب منه أن ثلاثة من فلاحي سويسرا يؤسسون هذه الجمهورية السعيدة منذ عشرة قرون، فتبلغ بالعلم هذه الدرجة من الرقي، وما أظن في الأرض أمة سعدت بحكومتها كالأمة السويسرية، ولا شعبا أكثر لطفا من أهلها وهم في غناهم واقتصادهم يعلمون الأمم الغنية المقتصدة. وكان امتزاج الفكر الجرماني بالفكر اللاتيني من آكد الأسباب في هذا التركيب الغريب، فأخذ السويسري عن الألماني صفات التدين والرزانة والشعور بالتضامن، والنظام والثبات، والرغبة في الماديات والحقائق، واقتبس من العنصر اللاتيني تقاليد البشاشة والأدب، وصحة الحكم، وحسن التقليد والظرف، ولم تصبح سويسرا جمهورية، بل فسيفساء مؤلفة من عدة جمهوريات صغرى، ملونة براقة غريبة في حجمها ونظامها وأفكارها وأخلاقها السياسية.
8
هذا مثال من تشدد الأمم حتى الصغرى منها في عادتها ولسانها، فأحر بالعرب أن يحافظوا على شخصياتهم، وكانوا في القديم أشبه بأمة الرومان يفتحون البلاد ويدخلون إليها من عاداتهم وأخلاقهم ما هو في استطاعتهم، ويأخذون عنها ما ينفعهم وما لا غنى لهم عنه، فأصبحت بلادهم مهد الوطنية السياسية في أيامهم، كما هي الحال اليوم عند الأمم التي عظمت فيها الحكومة، وانحصرت السلطة في رءوسها ، وأعظم مثال لها الأمم الفرنسوية، والألمانية، والروسية، والطليانية، والإسبانية، كما قال ديمولان في كتابه سر تقدم الإنكليز السكسونيين: وكل أمة في القديم والحديث تأخذ من غيرها ما يناسبها، أو تدخله الأحوال في روحها وجسمها على غير شعور منها، فإنا شاهدنا في الأوروبيين مثالا مجسما من هذا المعنى.
Shafi da ba'a sani ba