فاتحة
القديم والحديث1
الشعوبية1
العلم الصحيح1
علاقة العرب بالغرب1
ارتقاء العرب وانحطاطهم1
أعداء الإصلاح
تعليم اللغات1
اللغات الإفرنجية1
الحافظة والحفاظ1
الإنشاء والمنشئون1
الخطابة عند العرب
الخطابة عند الإفرنج
أصل المعتزلة1
أصل الوهابية1
دولة الأدب في حلب1 على عهد سيف الدولة بن حمدان
بين دمشق والقاهرة1
مدن العرب1
سماع الألحان1
شرف الموسيقى
الاستشفاء بالموسيقى1
الموسيقى الغربية
الاستقلال والاتكال1
الهجرة
الهجرة إلى مصر1
التفاضل بالبلاد
النزلاء المسلمون1
غوطة دمشق1
شبه جزيرة كليبولي
جبال طوروس
على قبر أبي الفدا في حماة1
نحن والمسكرات1
المآدب والإسراف1
التمدن الأنثوي1
تكريم النزاهة1
الحاج مصطفى حولا1
المستشرقون ومؤتمرهم1
الألقاب العلمية1
التمييز في الألبسة1
السلطتان1
حرية الأمم1
صلاح الدين ومدونو سيرته
سيرة صلاح الدين
مصطفى كامل1
النبوغ المصري1
فاتحة
القديم والحديث1
الشعوبية1
العلم الصحيح1
علاقة العرب بالغرب1
ارتقاء العرب وانحطاطهم1
أعداء الإصلاح
تعليم اللغات1
اللغات الإفرنجية1
الحافظة والحفاظ1
الإنشاء والمنشئون1
الخطابة عند العرب
الخطابة عند الإفرنج
أصل المعتزلة1
أصل الوهابية1
دولة الأدب في حلب1 على عهد سيف الدولة بن حمدان
بين دمشق والقاهرة1
مدن العرب1
سماع الألحان1
شرف الموسيقى
الاستشفاء بالموسيقى1
الموسيقى الغربية
الاستقلال والاتكال1
الهجرة
الهجرة إلى مصر1
التفاضل بالبلاد
النزلاء المسلمون1
غوطة دمشق1
شبه جزيرة كليبولي
جبال طوروس
على قبر أبي الفدا في حماة1
نحن والمسكرات1
المآدب والإسراف1
التمدن الأنثوي1
تكريم النزاهة1
الحاج مصطفى حولا1
المستشرقون ومؤتمرهم1
الألقاب العلمية1
التمييز في الألبسة1
السلطتان1
حرية الأمم1
صلاح الدين ومدونو سيرته
سيرة صلاح الدين
مصطفى كامل1
النبوغ المصري1
القديم والحديث
القديم والحديث
تأليف
محمد كرد علي
فاتحة
بسم الله وبه الثقة
دعوت منذ بدأت بالاشتغال في الصحافة العربية سنة 1315ه إلى نبث دفائن المدنية العربية، وبث خزائن الحضارة الغربية، وأبرزت هذه الدعوة فيما نشرته في جميع الصحف والمجلات التي أنشأتها وآزرتها في مصر والشام من موضوعات في العلم والاجتماع، والتاريخ والأدب، والنقد والتربية، وها أنا ذا أهدي لقراء العربية نموذجات مما كتبت، عسى أن يكون منها لهم في عصر القوميات عبرة وذكرى، ولبنيهم وبناتهم في تأليف وحدتنا الاجتماعية درس وسلوى، فمفاتيح كنوز الأجداد التي انتقلت إلى النشء بالإرث الصحيح لا غنية لهم عن معالجتها بالفتح؛ لاستمالة ما فيها والاستظهار بمعنوياتها، ثم بمادياتها؛ لأن هذا الحاضر الذي يحاول بعضهم الاقتصار عليه هو ربيب ذاك الغابر ووليده، بل سليله وحفيده وطريده، والجمود على القديم هو العقم بعينه، وقطع الصلة مع المدينة الحديثة، مضرة ومعرة. ولا خير فيمن جهلت أصوله، ولم يتخلق بأخلاق جيله وقبيله، والله الموفق سبحانه .
محمد كرد علي
دمشق 6 جمادى الأولى 1343 / 2 كانون الأول 1924
القديم والحديث1
لم يأت على هذه الأمة دور مثل هذا اشتد فيه النزاع بين القديم والحديث، وانهزم القديم بضعف القائمين به، وقوة أنصار الحديث، عنينا بذلك أرباب التقليد، ممن يرون السعادة في الاكتفاء بما تعلموه من آبائهم، وورثوه عن أجدادهم من العلوم والآداب، ويعدون ما عداها ضررا يجب البعد عنه ومحاربته بكل وسيلة، كما عنينا أرباب التجديد الذين يزعمون أن الاكتفاء بعلوم أهل الحضارة الحديثة وحدها كافية في رفع شأننا.
نشأت للأمة ناشئة بعد أن كثر احتكاكنا بأوروبا في أواسط القرن الماضي. عادت القديم معاداة خرجت فيها عن طور التعقل، وذلك نكاية بما رأته من دعاة ذاك القديم، وأكثرهم مثال الجمود والبلاهة، ونموذج الفساد وسوء التربية، فقامت تزهد فيهم وفيما يدعون إليه، تحمل عليهم حملاتها، وتتحامل عليهم بتحملاتها، وكذلك كان شأن أنصار القديم مع دعاة الحديث، يرمونهم بكل كبيرة، ويسلبونهم كل فضيلة، ويطعنون بعلومهم إلا قليلا، ويعدون النافع منها مما لا يضر ولا ينفع.
لا خلاف في أن ملكة الدين والآداب ضعفت في البلاد الإسلامية لضعف حكوماتها، والعامل الرئيسي في كل البلاد هو السياسة، إذا ضعفت يتبعها كل شيء، فجهل الحكام والملوك منذ نحو ألف سنة، هو الذي رفع شأن المنافقين من العلماء الرسميين، فصار العلم الديني يتعلمه المرء لا لينال السعادتين ويكون عضوا مهما في جسم المدينة الفاضلة، بل ليخدم به أغراض أمراء السوء، ويستولي على عقول العامة، وتقبل يداه ويكرم بالباطل، وهذا ما حدا حجة الإسلام الغزالي، وأضرابه في عصره وبعده، أن ينحوا على فقهاء السوء إنحاءهم على أمراء السوء؛ لأنهم يتعلمون علوم الفقه والفتيا؛ ليتقربوا بها فقط من السلاطين، ويجعلوا من الدين سلاحا يقاتلون به من يناصبهم في شهواتهم وأهوائهم. ولقد فضل الغزالي في الإحياء وتهافت الفلاسفة من يتعلمون الطب على الفقهاء، وقال: إن من يقولون إن علوم الدنيا تنافي الدين يجني على الدين.
شغلت الأمة زمنا بنفسها، فضعفت ملكاتها، وكانت الحروب الصليبية وغارات التاتار من العوامل المنهكة لقواها، ثم قام ملوك الطوائف وفرقوا الشمل بعد اجتماعه، إلى أن جاءت الدولة العثمانية وهي تاتارية لا تقيم للمدنية وزنا، ولا تعرف لعلوم العمران لفظا ولا معنى، قوتها بجندها، وعلمها في إرهاف حدها، وعظمتها ببطشها، ومجدها باكتساح البلاد، وإخضاع النفوس لسطوتها، فحاول محمد الفاتح أحد ملوكها أن يجعل من القسطنطينية دار علم، كما هي دار ملك؛ مجاراة لدولة الجراكسة في مصر والشام، وأعظم لذلك الأعطيات والهبات، وأنشأ المدارس وحبس الأوقاف، ولكن ذلك لم يدم إلا بدوامه، حتى إذا مضى لسبيله عادت الحكومة إلى زهدها في العلوم، وقد صارت رسمية على عهد المفتي أبي السعود الذي سعى لجعل العلم وراثيا، وصار ابن العالم يرث أباه ووظائفه ورواتبه، وإن كان أجهل من قاضي جبل. وعالم هذه حاله هو الجناية الكبرى على الدين والدنيا، والبلاء العمم على البلاد.
ومع أن الفرس والترك سواء في العجمة، فالفرس أقدر من الترك على تلقف اللغة العربية منذ القديم. والعربية لغة الدين لا يبرز في علومه من لم يتعلمها، ولا يفهم الكتاب والسنة من لم يحكم بيانها. وما تراه من حال علماء فارس اليوم وإتقانهم العربية، وارتقاء علومهم الشرعية، وانحطاط العربية في بلاد الترك، وضعف ملكة العلوم الدينية فيها، لا يرجع إلا إلى أن ميل أبناء فارس إلى إحكام العربية قديم فيهم، وأن الترك بأمرائهم المتبربرين جمدوا على فروع قليلة من الفقه والكلام، وزهدوا فيما عداها، فجنوا على البلاد جناية كبرى.
ولما أرادت الدولة أن تنهض وتتشبه بأوروبا، وأخذت على عهد سليم الثالث تتعلم فنون الحرب والبحر والسياسة، وما ينبغي لها من الطبيعة والرياضة والاجتماع، أخذت روح التفلسف تسري إلى الآستانة، ومنها سرت إلى الولايات ومصر. فلم يعبأ أنصار القديم بما رأوه أولا، واحتقروا ذاك السيل الجارف الآتي عليهم من أوروبا، وارتأى بعضهم أن خير ما يقابل به المتزندقون أن يكفروا أو يحرموا أو يضربوا، أو يحبسوا أو يهددوا بالقتل أو يقتلوا، ولم يعدوا لذلك من العدد اللازمة لبث دعوتهم، وحفظ ملكة الدين في القلوب، لتسير مع علوم الدنيا كتفا إلى كتف، وجاءت أدوار أصبح الوزراء وولاة الأمر إلا قليلا من الطائفة التي نزعت ربقة القديم، فلم يبق عليها إلا اسمه، بل كان بعض المتطرفين في انحلالهم يدعون سرا وجهرا إلى عدم التأدب بآداب الدين، محتجين بما هو ماثل للعيان من فساد القائمين عليه، وانحطاط المنتسبين إليه.
وها قد أصبحنا بعد هذا النزاع بين علوم الدين والدنيا والأمة شطرين، شطر هو إلى البلاهة والغباوة، وشطر إلى الحمق والنفرة، وبعبارة أخرى نسينا القديم ولم نتعلم الجديد، ومن الغريب أن معظم المستنيرين بقبس العلوم الأوروبية منا لا يرجعون إلى آداب دينهم، ويميلون في الظاهر والباطن إلى أن يكون الدين فقط جامعة تجمع الأمة على مثال الجامعات السياسية والجنسية، وإذا سألتهم عن الحلال والحرام وعما شرعته الأديان، صعروا إليك خدودهم وقالوا لك: إن الأمة تعيش بحديثها دون قديمها، وإن ذاك القديم إن لم يضرنا الأخذ به فهو لا ينفعنا، والعاقل لا يقبل إلا على ما ينفعه ويعلي قدره.
تلك هي شنشنة أنصار الحديث أو الملاحدة والزنادقة الطبيعيين، كما يطلق عليهم المتدينون، وهذه حالة هؤلاء مع أولئك، وستكون الغلبة لأنصار الحديث إذا لم يقم خصومهم بلم شعثهم على صورة معقولة مقبولة، وبين هذين الفريقين فريق ثالث اختار التوسط بينهما، فلم ير طرح القديم كله، ولا الأخذ بالحديث بجملته، بل آثر أن يأخذ النافع من كل شيء ويضم شتاته، وهذا الفريق المعتدل على قلته لا يقاومه العقلاء من أهل الفريقين الآخرين مقاومة فعلية، وعامتهما غير راضين عنهم بالطبع؛ لأن أكثر الناس يحبون أن تكون معهم أو عليهم ولا وسط بين ذلك.
ولقد كتب إلينا أحد علماء المشرقيات في برلين وهو ممن طافوا بلاد الشرق وسكنوا فيه زمنا، وانقطعوا لدرس أحواله الاجتماعية وعلومه الإرثية، كتابا بالعربية يصف فيه المقتبس، وما يجب للمسلمين أن يقوموا به لقيام أمرهم بعد ذاك السبات الطويل قال فيه:
أما الرسائل التي هي لبها «المجلة» فرأيتها تدور أبدا على حث الناس على درس العلوم المدنية، التي تركت في العالم الشرقي منذ نحو خمسمائة سنة، واقتباس الآثار الإفرنجية الحديثة فيها وإحياء الآداب العربية، وهذا مطابق بحسب اختباري للطريقة الصحيحة لسعادة الأمم؛ إذ لا فائدة من تقليد الأجانب وحده، ولا فائدة من التناغي فقط بالآثار الشعبية «الوطنية» وحده، بل الخير كل الخير في الأخذ من هنا وهناك، وتعميم الدرس، والبحث مع إضرام تلك الشعلة العظيمة التي هي ذات نور، وذات حرارة، وذات إنبات؛ وأعني بها المبدأ الشعبي، ولنا أن نسميه الشعوبية على شرط أن نجرده من الرائحة غير المقبولة.
اجتهد الإسلام والنصرانية أن ينشئا جمعية تقوم بالدين وحده؛ ليكون أهل الشهادة بذلك الدين ظاهرين على الدين كله إلا أنهما فشلا. ولقد تنبأ بعض المسلمين بأن الجامعة الإسلامية التي ستكون في أواخر هذه السنة، لن تأتي بما يرجوه أكثرهم من تقوية عروة الدين، بل ستقوي الأحزاب الشعبية، وربما يتسع الخرق بين الجماعات من جهة المذهب الديني. أما أنا فأقول: إن تقوية روابط المسلمين مع من حولهم من غير المسلمين المبنية على وحدة التربية والأخلاق والعادات، وعلى وحدة اللسان، لا تخلو حقيقة من تقوية الدين نفسه؛ لأن هذا الاجتماع من شأنه أن يدعو إلى نمو عامة التقوى، فيزيد من له ميل إلى الحياة الدينية اعتقادا وعملا، كما يزيد من له ميل إلى غير الدين قوة فيما اختاره؛ وعلى هذا فمن مصلحة كل دين أن يكون نصف منتحليه مجتهدين مخلصين، أكثر من أن يكون الجميع فاترين غير مكثرين بشيء. ا.ه.
هذا ما كتب لنا به العالم الغربي الشرقي منذ أشهر، نشرناه ليطلع عليه أنصار القديم والحديث، فيعلم الجامدون على مسطور القديم ألا قيام لأمرنا بغير الأخذ من مدنية أوروبا، ويدرك أنصار الحديث بأن هذه المدنية الجديدة التي بهرتهم بزخارفها وسفاسفها، لا تنفعهم وتنفع بني قومهم إلا إذا رافقها ما يجملها من علوم الأسلاف وآدابهم، والأمة التي تنزع ربقة قديمها جملة واحدة، وتنتقل إلى طور آخر دفعة، قد ينعكس عليها الأمر ويلتوي عليها القصد، ولم تنجح اليابان إلا لكونها اقتبست المدنية الغربية ومزجتها بأجزاء مدنيتها؛ وهذا سر قول العالم المشار إليه: «لا فائدة من تقليد الأجانب وحده، ولا فائدة من التناغي فقط بالآثار الشعبية»؛ أي ما ورثناه عن أجدادنا من التشبث بأهداب الوطنية، وذكر القديم والحرص عليه.
ولنا في الغرب دولتان كبريان، هما مثال في اقتباس الجديد والحرص على القديم، فقد شهدنا ألمانيا إلى اليوم تجري في مدارسها وكلياتها على آداب النصرانية المنقحة، فلا تسند التدريس فيها إلا لرجل عرفت ترجمته وحياته؛ مخافة أن يفسد عليها تربية أبنائها فتكون مدنية دينية، أما فرنسا فناهضت الدين منذ زهاء مائة سنة، وزادت مناهضتها له في السنين الأخيرة، حتى نزعت لفظ الجلالة من المعاهد العامة، وأخذت تضيق الخناق على أهل التدين من حملة العلم والأقلام، حتى صار المتدين سرا يتجاهر بالانحلال جهرا؛ ليأمن على معاشه ورزقه، وسموا هذا حرية، ولكن الله يحصي على الأمم ذنوبها كما لا يغفل عن الأفراد، وها قد أخذت المدنية الإفرنسية التي بهرت العيون في الزمن الماضي، ترجع القهقرى وعلماء الأخلاق فيها يبكون دما على انبتات شملهم وتراجع عمرانهم، حتى روى بعض الإحصائيين أن عدد الفرنسيس سينزل في أواخر القرن العشرين إلى ثلاثة ملايين؛ لأن المواليد أخذت تنقص عن الوفيات. أما في ألمانيا فبفضل التربية الدينية والحرص على الأخلاق قبل الحرص على تلقين العلوم، فإن النفوس تتزايد سنة عن سنة، بحيث خيف من تكاثر نسلهم على البلاد المجاورة لهم مع ما هم عليه من المدنية الصحيحة، والعلم بالصناعات والفنون. ولا غرو؛ فإن من خلق الألماني أن يترك من القديم كل ما لا ينفع منه، أما الفرنسوي فيجرف منه النافع مع الضار، وشتان بين الخلقين والمدنيتين، وها هي النتيجة قد ظهرت للعيان مذ الآن.
وبعد، فإن كل عاقل عرف تاريخ هذه الأمة، يرى الخير كل الخير في احتفاظها بقديمها، وضم كل ما ينفع من هذا الجديد، على أن تكون للدين والعلم حريتهما، فتكون المعتقدات بمأمن من طعن الطاعنين بها، كما تجري المدنية على الشوط الذي يراه، وإذا رأى بعضهم في بعض المعتقدات ما لا ينطبق على روح الحضارة والعلوم العصرية، فالأولى أن يطبقوا العقل على النقل، كما هو رأي كبار علماء الإسلام منذ القديم، وإذا عجزت عقولهم عن ذلك فالأجدر بهم أن يأخذوا بعض القضايا بالتسليم، ويتركوا العالم حرا يسير وحده دون أن يعوقه عائق، وما نخال كل عاقل إلا ويعتقد أن صحيح النقل لا يخالف صريح العقل والله أعلم.
الشعوبية1
يقوى تفاخر كل عنصر بعنصرهم، وأهل كل جنس بجنسهم، كلما كانوا أقرب إلى الهمجية والعصبية الجاهلية، جاء الإسلام فكان من أعظم إصلاحه، إسقاط دعوى الجنسيات، أو القضاء على التفاخر بالآباء والأجداد، فساوى بين العربي والفارسي والأحمر والأصفر والأبيض والأسود، وكانت قاعدته العامة ألا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.
والظاهر أن دعوة الشعوبية؛ أي عدم الاستعداد بالعرب وتفضيل العجم عليهم، دخلت بدخول أجيال كثيرة من الفرس والترك والنبط في خدمة الدولة الإسلامية، فنشأت منها العداوات بين العرب أهل الدولة وبين العجم، كما كانت تنشأ في هذه البلاد بين تركي وعربي كلما اشتد الأول في إرهاق الثاني.
سألنا أستاذنا الشيخ طاهر الجزائري عن الشعوبية، فكتب إلينا ما يأتي: «أما الزمن الذي ظهرت فيه الشعوبية فلا يحضرني فيه شيء. والوقوف على أوائل الأشياء من أصعب المسائل وأدقها، إلا أن الذي ظهر لي أن ذلك حدث بعيد عصر الخلفاء الراشدين؛ لوجود الداعي إلى ذلك وهو التفاخر بالجنس، الذي هو من عادات الجاهلية التي أتى الدين بإبطالها، ومن نظر لمنزلة سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي في أوائل الأمة، زال عنه الشك في هذه المسألة، ولا يدخل في هذا الأمر بحث المؤرخ عن خصائص الأجناس، مما يقصد به الوقوف على الحقائق، فإن هذا نوع آخر، إلا أن من بحث عن أحوال الأمم ووفى النظر حقه، تبين له أن العرب في الجملة لا تساميهم أمة البتة.
وأظن أن لا بد أن تؤلف بعد حين كتب في خصائص الأمم، وكتب في خصائص البلاد، كما ألفت كتب في خصائص اللغات، وتجعل من الفنون التي يعنى بها، وتميز من غيرها، ولا تذكر بطريق العرض ، إلا أن فن خصائص الأمم تتيسر المشاغبة فيه والمغالطة أكثر من غيره، وكل فن وضعت مقدماته ونقحت مسائله يبدو بسرعة عوار المغالط فيه. هذا وكما حدث بعد عصر الخلفاء أمر المفاضلة بين العرب والعجم، حدث أمر المفاضلة بين العدنانية والقحطانية، وهما الفريقان اللذان يجمعهما اسم العرب، ونشأ بسبب ذلك من الفتن ما يعرفه المولع بالأخبار، ولم يزل أثر ذلك باقيا في بعض الجهات إلى ما قبيل عصرنا، وقد رأيت في بعض البلاد أناسا يقولون إلى الآن: نحن قيسية، وآخرين يقولون: نحن يمانية.»
هذا ما قاله أستاذنا، وفيه من كشف الغامض ما لم نظفر به في كتاب. والشعوبي بالضم محتقر أمر العرب، قال ابن منظور: وقد غلبت الشعوب بلفظ الجمع على جيل العجم، حتى قيل لمحتقر أمر العرب شعوبي، أضافوا إلى الجمع لغلبته على الجيل الواحد، كقولهم أنصاري، وهم الشعوبية، وهم فرقة لا تفضل العرب على العجم، ولا ترى لهم فضلا على غيرهم. وأما الذي في حديث مسروق: أن رجلا من الشعوب أسلم، فكانت تؤخذ منه الجزية، فأمر عمر ألا تؤخذ منه، قال ابن الأثير: الشعوب ههنا العجم، ووجهه أن الشعب ما تشعب من قبائل العرب أو العجم، فخص بأحدهما، ويجوز أن يكون جمع الشعوبي؛ كقولهم اليهود والمجوس في جمع اليهودي والمجوسي.
قال شارح المفصل في شرح قول الزمخشري: «الله أحمد على أن جعلني من علماء العربية، وجبلني على الغضب للعرب وللعصبية، وأبى لي أن أنفرد عن صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز.» والشعوبية مصدر الشعوبي بضم الشين، وهو الذي يصغر شأن العرب، ولا يرى لهم على العجم فضلا، إذ الفضل بالتقوى وهو منسوب إلى قوله تعالى:
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم . وقال ابن الحاجب في شرح المفصل أيضا: والشعوبية بضم الشين، قوم متعصبون على العرب، مفضلون عليهم العجم، وإن كان الشعوب جيل العجم إلا أنه غلبت النسبة إليه لهذا القبيل، ويقال: إن منهم معمر بن المثنى، وله كتاب في مثالب العرب، وقد أنشد بعض الشعوبية للصاحب بن عباد يمدحه:
غنينا بالطبول عن الطلول
وعن عنس عذافرة ذمول
فلست بتارك إيوان كسرى
لتوضح أو لحومل فالدخول
وضب بالفلا ساع وذئب
بها يعوي وليث وسط غيل
إذا نحروا فذلك يوم عيد
وإن ذبحوا ففي عرس جليل
يسلون السيوف لرأس ضب
هراشا بالغداة وبالأصيل
بأية رتبة قدمتموها
على ذي الأصل والشرف الأصيل
أما لو لم يكن للفرس إلا
نجار الصاحب العدل الجليل
لكان لهم بذلك خير عز
وجيلهم بذلك خير جيل
فقال له الصاحب: قدك. ثم قال لبديع الزمان: أجبه، فأجابه مرتجلا:
أراك على شفا خطر مهول
بما أودعت رأسك من فضول
طلبت على مكارمنا دليلا
متى احتاج النهار إلى دليل
ألسنا الضاربين جزى عليكم
فإن الجزي أقعد بالذليل
متى قرع المنابر فارسي
متى عرف الأغر من الحجول
متى علقت وأنت بها زعيم
أكف الفرس أعراف الخيول
فخرت بملء ماضغتيك فخرا
على قحطان والبيت الأصيل
فخرت بأن مأكولا ولبسا
وذلك فخر ربات الحجول
تفاخرهن في خد أسيل
وضرع من مفارقة وسيل
فقال الصاحب للشعوبي: كيف ترى؟ فقال: لو سمعت ما صدقت. ثم قال له: جائزتك جوازك. إن وجدتك بعدها في مملكتي ضربت عنقك.
وفد النعمان بن المنذر على كسرى، فوجد عنده وفود الروم والهند والصين، فذكروا من ملوكهم وبلادهم، فافتخر النعمان بالعرب، وفضلهم على جميع الأمم لا يستثني فارسا ولا غيرهم، فقال كسرى وأخذته عزة الملك: يا نعمان، لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم، فرأيت الروم كذا، ووصف من حالهم وجعل يثني عليهم، ورأيت الهند التي لها كذا وكذا، ثم قال مثل ذلك في الترك والخزر والصين، متى ذكر قبيلة أثنى عليها ووصف ما يفتخرون به، ثم قال: ولم أر للعرب شيئا من خصال الخير، وجعل يصف شأنهم وهو يحقرهم ويصغرهم، فقال النعمان: أصلح الله الملك، وجعل يثني عليه، ثم قال: ألا إن عندي جوابا في كل ما نطق به الملك في غير رد عليه ولا تكذيب له، فإن أمنني من غضبه نطقت به. قال كسرى: فأنت آمن، فقال النعمان: أما أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل؛ لموضعها الذي هي به في عقولها وأحلامها، وبسطة محلها، وبحبوحة عزها، وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك. وأما الأمم التي ذكرت فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها. قال كسرى: بماذا؟ قال النعمان: بعزها ومنعتها، وحسن وجوهها، ودينها وبأسها وسخائها، وحكمة ألسنها، وشدة عقولها وأنفتها ووفائها؛ فأما عزها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد، ووطدوا الملك وقادوا الجنود، لم يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيولهم، مهادهم الأرض، وسقفهم السماء، وجنتهم السيوف، وعدتهم الصبر، إذ غيرها من الأمم إنما عزها الحجارة والطين وجزائر البحور.
وأما حسن وجوهها وألوانها، فقد تعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المتحرقة، والصين المحتتمة، والترك المشوهة، والروم المقشرة. وأما أحسابها وأنسابها، فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيرا من أولها وآخرها، حتى إن أحدهم يسأل عما وراء أبيه دنيا فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا يسمي آباءه أبا أبا، حفظوا بذلك أحسابهم، وضبطوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه. وأما سخاؤها فإن أدناهم رجلا الذي يكون عنده البكرة أو الناب عليها بلاغه في حمولته وشبعه وريه، فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتزئ بالشربة، فيعقرها له ويرضى أن يخرج له من دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الثناء.
وأما حكمة ألسنتها فإن الله أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه، مع معرفتهم بالإشارة، وضرب الأمثال، وإبلاغهم في الصفات ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس؛ ثم خيلهم أفضل الخيول، ونساؤهم أعف النساء، ولباسهم أفضل اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة والحجارة، جبالهم الجزع، ومطاياهم التي لا يبعد عن مثلها سفر، ولا يقطع بمثلها بلد قفر.
وأما دينها وشريعتها فإنهم متمسكون بها حتى يبلغ أحدهم من تمسكه بدينه، أن لهم أشهرا حرما وبلدا حراما، وبيتا محجوجا ينسكون فيه مناسكهم ويذبحون ذبائحهم، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك دمه، فيحجزه كرمه، ويمنعه دينه عن تناوله بالأذى. وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومي الإيماء، فهي إلب وعقد لا يحلهما إلا خروج نفسه، وإن أحدهم ليرفع عودا من الأرض، فيكون رهنا بدينه، فلا يغلق رهنه، ولا تخفر ذمته، وإن أحدهم ليبلغه أن رجلا استجار به، وعسى أن يكون نائيا عن داره، فيصاب، فلا يرضى حتى تفنى تلك القبيلة التي أصابته، أو تفنى قبيلته؛ لما خفر من جواره، وإنه ليلجأ إليهم المجرم المحروب من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون ماله. وأما قولك أيها الملك إنهم يئدون أولادهم من الحاجة، فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار، وغيرة من الأزواج. وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضا وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم، فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم، إذا آنست من نفسها ضعفا، وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائرهم، فيلقون إليهم أمورهم وينقادون إليهم بأزمتهم.
فأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا أن يكونوا ملوكا أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطء والعسف. فعجب كسرى مما أجابه النعمان به، وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في إقليمك ولما هو أفضل. ثم كساه من كسوته وسرحه إلى موضعه من الحيرة. فلما قدم النعمان الحيرة وفي نفسه ما فيها مما سمع من كسرى من تنقيص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى أكثم بن صيفي، وحاجب بن زرارة، وجماعة من رءوس العرب سماهم، فلما قدموا عليه في الخورنق قال لهم: قد عرفتم حال هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منهم، وقد سمعت من كسرى مقالة أتخوف أن يكون لها غدر ... واقتص عليهم مقالة كسرى وما رد عليه فقالوا: وفقك الله أيها الملك، ما أحسن ما رددت عليه، وأبلغ ما حججته به! فمرنا بأمرك وادعنا إلى ما شئت. قال النعمان: إنما أنا رجل منكم ، وإنما ملكت وعززت بمكانكم، وبما يتخوف من ناحيتكم، وليس شيء أحب إلي مما سدد الله به أمركم وأصلح به شأنكم. والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها الرهط، وتنطلقوا بكتابي هذا إلى باب كسرى، فإذا دخلتم عليه نطق كل واحد منكم بما حضره؛ ليعلم أن العرب على غير ما ظن أو حدثته به نفسه. ووصاهم بوصايا، فذهبوا إليه. وقد ساق القصة صاحب العقد وأوردها البلوي في كتاب ألف با. •••
ومن حجة الشعوبية على العرب أن قالت: إنا ذهبنا إلى العدل والتسوية، وإن الناس كلهم من طينة واحدة، وسلالة رجل واحد، واحتججنا بقول النبي - عليه الصلاة والسلام: «المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»، وقوله في حجة الوداع، وهي خطبته التي ودع فيها أمته وختم بها نبوته: «أيها الناس، إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية وفخرها بالآباء، كلكم لآدم وآدم من تراب، ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.» وهذا القول من النبي - عليه الصلاة والسلام - موافق لقول الله تعالى:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، فأبيتم إلا فخرا، وقلتم: لا تساوينا وإن تقدمتنا إلى الإسلام، ثم صليت حتى تصير كالحني، وصمت حتى تصير كأوتار. ونحن نسامحكم ونجيبكم إلى الفخر بالآباء الذي نهاكم عنه نبيكم
صلى الله عليه وسلم
إذا أبيتم إلا خلافه؛ وإنما نجيبكم إلى ذلك، لاتباع حديثه وما أمر به
صلى الله عليه وسلم ، فنرد عليكم حجتكم في المفاخرة ونقول: أخبرونا إن قالت لكم العجم: هل تعدون الفخر كله أن يكون ملكا أو نبوة، فإن زعمتم أنه ملك قالت لكم: وإن لنا ملوك الأرض كلها من الفراعنة والنماردة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة، وهل ينبغي لأحد أن يكون له مثل ملك سليمان الذي سخرت له الإنس والجن والطير والريح، وإنما هو رجل منا، أم هل كان لأحد مثل ملك الإسكندر الذي ملك الأرض كلها وبلغ مطلع الشمس ومغربها، وبنى ردما من حديد ساوى به بين الصدفين، وسجن وراءه خلقا من الناس تربي على خلق الأرض كلها كثرة؛ لقول الله - عز وجل:
حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ، فليس شيء أدل على كثرة عددهم من هذا، أو ليس لأحد من ولد آدم مثل آثاره في الأرض، ولو لم يكن له إلا منارة الإسكندرية التي أسسها في قعر البحر، وجعل في رأسها مرآة يظهر البحر كله في زجاجتها. وكيف ومنا ملوك الهند الذين كتب أحدهم إلى عمر بن عبد العزيز: من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك، والذي تحته بنت ألف ملك، والذي في مربطه ألف فيل، والذي له نهران ينبتان العود والفوة والجوز والكافور، والذي يوجد ريحه على اثني عشر ميلا؛ إلى ملك العرب الذي لا يشرك بالله شيئا، أما بعد، فإني أردت أن تبعث إلي رجلا يعلمني الإسلام ويوقفني على حدوده والسلام.
وإن زعمتم أنه لا يكون الفخر إلا بنبوة، فإن منا الأنبياء والمرسلين قاطبة من لدن آدم ما خلا أربعة هودا، وصالحا، وإسماعيل، ومحمدا، ومنا المصطفون من العالمين: آدم ونوح، وهما العنصران اللذان تفرع منهما البشر، فنحن الأصل وأنتم الفرع، وإنما أنتم غصن من أغصاننا، فقولوا بعد هذا ما شئتم وادعوا.
ولم تزل للأمم كلها من الأعاجم في كل شق من الأرض ملوك تجمعها ومدائن تضمها، وأحكام تدين بها، وفلسفة تنتجها، وبدائع تفتقها في الأدوات والصناعات، مثل صنعة الديباج وهي أبدع صنعة، ولعب الشطرنج وهي أشرف لعبة، ورمانة القبان التي يوزن بها رطل واحد ومائة رطل، ومثل فلسفة الروم في ذات الخلق والقانون، والإسطرلاب الذي يعدل به النجوم، ودوران الأفلاك وعلم الكسوف. لم يكن للعرب ملك يجمع سوادها، ويضم قواصيها، ويقمع ظالمها، وينهى سفيهها، ولا كان لها قط نتيجة في صناعة، ولا أثر في فلسفة إلا ما كان من الشعر وقد شاركتها فيه العجم؛ وذلك أن للروم أشعارا عجيبة قائمة الوزن والعروض. فما الذي تفخر به العرب على العجم؛ فإنما هي كالذئاب العادية، والوحوش النافرة، يأكل بعضها بعضا، ويغير بعضها على بعض، فرجالها موثوقون في حلق الأسر، ونساؤها سبايا مردفات على حقائب الإبل ، فإذا أدركهن الصريخ استنقذن بالعشي، قال بجير، يعير العرب باختلافها في النسب واستلحاقها للأدعياء:
زعمتم بأن الهند أولاد خندف
وبينكم قربى وبين البرابر
وديلم من نسل ابن ضبة ناسل
وبرجان من أولاد عمرو بن عامر
فقد صار كل الناس أولاد واحد
وصاروا سواء في أصول العناصر
بنو الأصفر الأملاك أكرم منكم
وأولى بقربانا ملوك الأكاسر
أتطمع في صهري دعيا مجاهرا
ولم تر سترا عن دعي مجاهر
وتشتم لؤما رهطه وقبيله
وتمدح جهلا طاهرا وابن طاهر
وقال الحسن بن هانئ على مذهب الشعوبية:
وجاورت قوما ليس بيني وبينهم
أواصر إلا دعوة وبطون
إذا ما دعا باسمي العريف أجبته
إلى دعوة مما علي يهون
لأزد عمان بن الملهب نزوة
إذا افتخر الأقوام ثم تلين
وبكر يري أن النبوة أنزلت
على مسمع في البطن وهو جنين
وقالت تميم لا ترى أن واحدا
كأحنفنا حتى الممات يكون
فلا لمت قيسا بعدها في قتيبة
إذا افتخروا إن الحديث شجون
قال ابن قتيبة في كتاب تفضيل العرب: وأما أهل التسوية فإن منهم قوما أخذوا ظاهر بعض الكتاب والحديث، فقضوا به ولم يفتشوا عن معناه، فذهبوا إلى قوله عز وجل:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وقوله:
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ، وإلى قول النبي
صلى الله عليه وسلم
في خطبته في حجة الوداع: «أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية، وتفاخرها بالآباء. ليس لعربي على عجمي فخر إلا بالتقوى، كلكم لآدم وآدم من تراب»، وقوله: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»، وإنما المعنى في هذا أن الناس كلهم من المؤمنين سواء في طريق الأحكام والمنزلة عند الله - عز وجل - والدار الآخرة، لو كان الناس كلهم سواء في أمور الدنيا، ليس لأحد فضل إلا بأمر الآخرة، لم يكن في الدنيا شريف ولا مشروف، ولا فاضل ولا مفضول. فما معنى قوله
صلى الله عليه وسلم : «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه»، وقوله
صلى الله عليه وسلم : «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم»، وقوله
صلى الله عليه وسلم
في قيس بن عاصم: «هذا سيد الوبر»، وكانت العرب تقول: «لا يزال الناس بخير ما تباينوا، فإذا تساووا هلكوا»؟ نقول: لا يزالون بخير ما كان فيهم أشراف وأخيار، فإذا حملوا كلهم جملة واحدة هلكوا، أو إذا ذمت العرب قوما قالوا: سواسية كأسنان الحمار. وكيف يستوي الناس في فضائلهم، والرجل الواحد لا تستوي في نفسه أعضاؤه ولا تتكافأ مفاصله، ولكن لبعضها الفضل على بعض، وللرأس الفضل على جميع البدن بالعقل والحواس الخمس، وقالوا: القلب أمير الجسد، ومن الأعضاء خادم ومنها مخدومة.
قال: ومن أعظم ما ادعت الشعوبية فخرهم على العرب بآدم - عليه السلام - وبقول النبي - عليه الصلاة والسلام: «لا تفضلوني عليه؛ فإنما أنا حسنة من حسناته.» ثم فخرهم بالأنبياء أجمعين، وأنهم من العجم غير أربعة هود، وصالح، وإسماعيل، ومحمد - عليهم الصلاة والسلام - واحتجوا بقول الله - عز وجل:
إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ، ثم فخروا بإسحاق بن إبراهيم، وأنه لسارة، وأن إسماعيل لأمة تسمى هاجر، قال شاعرهم:
في بلدة لم يصل عكن بها طنبا
ولا خباء ولا عك وهمدان
ولا لجرم ولا نهد بها وطن
لكنها لبني الأحرار أوطان
أرض تبنى بها كسرى مساكنه
فما بها من بني اللخناء إنسان
فبنوا الأحرار عندهم العجم، وبنوا اللخناء عندهم العرب؛ لأنهم من ولد هاجر وهي أمة. وقد غلطوا في هذا التأويل، وليس كل أمة يقال لها اللخناء، إنما اللخناء من الإماء الممتهنة في رعي الإبل وسقيها وجمع الحطب، وإنما أخذ من اللخن وهو نتن الريح، يقال: لخن السقاء إذا تغير ريحه، فأما مثل هاجر التي طهرها الله من كل دنس، وارتضاها للخليل فراشا، وللطيبين إسماعيل ومحمد أما، وجعلهما سلالة، فهل يجوز لملحد فضلا عن مسلم أن يسميها اللخناء؟!
قال بعض من يرى رأي الشعوبية فيما يرد به على ابن قتيبة في تباين الناس وتفاضلهم، والسيد منهم والمسود: إننا نحن لا ننكر تباين الناس ولا تفاضلهم، ولا السيد منهم والمسود، والشريف والمشروف، ولكنا نزعم أن تفاضل الناس فيما بينهم ليس بآبائهم ولا بأحسابهم، ولكنه بأفعالهم وأخلاقهم، وشرف أنفسهم وبعد هممهم، ألا ترى أنه من كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف، وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، ومن قيس في أشرف بطن منها، إنما الكريم من كرمت أفعاله، والشريف من شرفت همته، وهو معنى حديث النبي
صلى الله عليه وسلم : «إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه»، وقوله في قيس بن عاصم: «هذا سيد أهل الوبر»، إنما قال فيه لسؤدده في قومه بالذب عن حريمهم وبذله رفده لهم، ألا ترى أن عامر بن الطفيل كان في أشرف بطن في قيس يقول:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر
وفارسها المشهور في كل مركب
فما سودتني عامر عن وراثة
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي
أذاها وأرمي من رماها بمنكب
وقال آخر:
إنا وإن كرمت أوائلنا
لسنا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وقال قس بن ساعدة: لأقضين بين العرب بقضية لم يقض بها أحد قبلي، ولا يرددها أحد بعدي؛ أيما رجل رمى رجلا بملامة دونها كرم فلا لوم عليه، وأيما رجل ادعى كرما دونه لؤم فلا كرم له. ومثله قول عائشة أم المؤمنين: «كل كرم دونه لؤم، فاللؤم أولى به، وكل لؤم دونه كرم، فالكرم أولى به»؛ تعني بقولها أن أولى الأشياء بالإنسان طبائع نفسه وخصالها، فإذا كرمت فلا يضره لؤم أوليته، وإن لؤمت فلا ينفعه كرم أوليته، وقال الشاعر:
نفس عصام سودت عصاما
وعلمته الكر والإقداما
وجعلته ملكا هماما
وقال آخر:
مالي عقلي وهمتي حسبي
ما أنا مولى ولا أنا عربي
إن انتمى منتم إلى أحد
فإنني منتم إلى أدبي
روى ابن العيناء الهاشمي عن الفخذمي عن شبيب بن شبة قال: كنا وقوفا بالمربد؛ موضع بالبصرة، وكان المربد مألف الأشراف، إذ أقبل ابن المقفع، فبششنا به وبدأناه بالسلام، فرد علينا السلام، ثم قال: لو ملتم إلى دار نيروز، وظلها الظليل، وسورها المديد، ونسيمها العجيب، فعودتم أبدانكم تمهيد الأرض، وأرحتم دوابكم من جهد الثقل، فإن الذي تطلبونه لم تفلتوه، ومهما قضى الله لكم من شيء تنالوه. فقبلنا وملنا، ولما استقر بنا المكان قال لنا: أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضنا إلى بعض، فقلنا: لعله أراد أصله من فارس، فقلنا: فارس. فقال: ليسوا بذلك؛ إنهم ملكوا كثيرا من الأرض، ووجدوا عظيما من الملك، وغلبوا على كثير من الحق، ولبث فيهم عقد الأمر، فما استنبطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حكم في نفوسهم. قلنا: فالروم. قال: أصحاب صنعة. قلنا: فالصين، قال: أصحاب طرفة. قلنا: الهند. قال: أصحاب فلسفة. قلنا: السودان. قال: شر خلق الله. قلنا: الخزر. قال: بقر سائمة. قلنا: فقل. قال: العرب. قال: فضحكنا، قال: أما إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذا فاتني حظي من النسبة فلا يفوتني حظي من المعرفة؛ إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها ولا آثار أثرت؛ أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم، يجوز أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما شاء فيحسن، ويقبح ما شاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، فلم يزل حياء الله فيهم، وحياؤهم في أنفسهم، حتى رفع لهم الفخر، وبلغ بهم أشرف الذكر، وختم لهم بملكهم الدنيا على الدهر، وافتتح دينه وخلافته بهم إلى الحشر، على الخير فيهم ولهم، فقال سبحانه:
إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، فمن وضع حقهم خسر، ومن أنكر فضلهم خصم، ودفع الحق باللسان، أكبت للجنان. ا.ه. •••
أما عناية الإسلام بإسقاط الجنسية فتراه ماثلا من حسن معاملتهم للموالي؛ فقد ولى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
جيش مؤتة زيدا مولاه، وقال: «إن قتل فأميركم جعفر»، وأمر رسول الله أسامة بن زيد، فبلغه أن قوما قد طعنوا في إمارته، وكان أمره على جيش فيه جلة المهاجرين والأنصار، فقال عليه السلام: «إن طعنتم في إمارته لقد طعنتم في إمارة أبيه قبله. ولقد كان لها أهلا، وإن أسامة لها لأهل.» وقالت عائشة: «لو كان زيد حيا ما استخلف رسول الله غيره.» وقال عبد الله بن عمر لأبيه: «لم فضلت أسامة علي وأنا وهو سيان، فقال: كان أبوه أحب إلى رسول الله من أبيك، وكان أحب إلى رسول الله منك.» أوصى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بعض أزواجه لتميط عن أسامة أذى من مخاط أو لعاب، فكأنها تكرهته، فتولى منه ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بيده، وقال له يوما ولم يكن أسامة من أجمل الناس: «لو كنت جارية لنحلناك وحليناك حتى يرغب الرجال فيك.» وفي بعض الحديث أنه قال: «أسامة من أحب الناس إلي.» وكان
صلى الله عليه وسلم
أدى إلى بني قريظة مكاتبة سلمان، فكان سلمان مولى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال علي بن أبي طالب - عليه السلام: «سلمان منا أهل البيت.» ويروى أن المهدي نظر إليه ويد عمارة بن حمزة في يده فقال له رجل: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: أخي وابن عمي عمارة بن حمزة، فلما ولى الرجل ذكر ذلك المهدي كالممازح لعمارة، فقال له عمارة: انتظرت أنه يقول: ومولاي، فانفض والله يدك من يدي. فتبسم أمير المؤمنين المهدي. ولم يكن الإكرام للموالي في جفاة العرب.
زعم الليثي أنه كانت بين جعفر بن سلمان وبين مسمع بن كردين منازعة، وبين يدي مسمع مولى له بهاء ورواء ولسن، فوجه جعفر إلى مسمع مولى له لينازعه ومجلس مسمع حافل فقال: إن أنصفني والله جعفر أنصفته، وإن حضر حضرت معه، وإن عند عن الحق عندت عنه، وإن وجه إلي مولى مثل هذا، وأومأ إلى مولى جعفر فقال: مولى مثل هذا عاضا لما يكره، وجهت إليه، وأومأ إلى مولاه. فعجب أهل المجلس من وضعه مولاه ذلك الموضع الذي تباهي بمثله العرب. وقد قيل: الرجل لأبيه والمولى من مواليه، وفي بعض الأحاديث أن المعتق من فضل طينة المعتق، ويروى أن سلمان أخذ من بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تمرة من تمر الصدقة فوضعها في فيه، فانتزعها منه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: «يا أبا عبد الله، إنما يحل لك من هذا ما يحل لنا.» ويروى أن رجلا من موالي بني مازن يقال له عبد الله بن سليمان، وكان من جلة الرجال نازع عمرو بن هداب المازني، وهو في ذلك الوقت سيد بني تميم قاطبة، فظهر عليه المولى حتى أذن له في هدم داره، فأدخل الفعلة دار عمرو، فلما قلع من سطحه سافا كف عنه ثم قال: يا عمرو، قد أريتك القدرة وسأريك العفو. وقد كان في قريش من فيه جفوة ونبوة.
كان نافع بن جبير أحد بني نوفل بن عبد مناف إذا مر عليه بالجنازة سأل عنها، فإن قيل: قرشي قال: وا قوماه! وإن قيل: عربي قال: وا مادتاه! وإن قيل: مولى أو عجمي، قال: اللهم هم عبادك تأخذ منهم من شئت وتدع من شئت. ويروى أن ناسكا من بني الهجيم بن عمر بن تميم كان يقول في قصصه: اللهم اغفر للعرب خاصة وللموالي عامة، فأما العجم فهم عبيدك والأمر إليك.
ومثل ذلك ما كان بعضهم يقولونه: «لا يقطع الصلاة إلا ثلاثة: حمار، أو كلب، أو مولى.» وكانوا لا يكنونهم بالكنى، ولا يدعونهم إلا بالأسماء والألقاب، ولا يمشون في الصف معهم، ولا يتقدمونهم في الموكب، وإن حضروا طعاما قاموا على رءوسهم، وإن أطعموا المولى لسنه وفضله وعلمه، أجلسوه في طريق الخبار؛ لئلا يخفى على الناظر أنه ليس من العرب. ولا يدعونهم يصلون على الجنائز إذا حضر أحد من العرب وإن كان الذي يحضر عزيزا. وكان الخاطب لا يخطب المرأة منهم إلى أبيها ولا إلى أخيها، وإنما يخطبها إلى مواليها، فإن رضي زوج وإلا رد، فإن زوج الأب والأخ بغير رأي مواليه فسخ النكاح، وإن كان قد دخل بها كان سفاحا غير نكاح.
وذكر عمرو بن بحر الجاحظ في كتاب الموالي والعرب، أن الحجاج لما خرج عليه ابن الأشعث وعبد الله بن الجارود ولقي ما لقي من قراء أهل العراق، وكان أكثر من قاتله وخلعه وخرج عليه الفقهاء والمقاتلة والموالي من أهل البصرة، فلما علم أنهم الجمهور الأكبر والسواد الأعظم، أحب أن يسقط ديوانهم ويفرق جماعتهم؛ حتى لا يتألفوا ولا يتعاقدوا، فأقبل على الموالي وقال: أنتم علوج وعجم، وقراؤكم أولى بكم. ففرقهم وفض جمعهم كيف أحب، وصيرهم كيف شاء، ونقش على يد كل رجل منهم اسم البلدة التي وجهه إليها، وكان الذي تولى ذلك منهم رجل من بني سعد بن عجل بن لجين، يقال له حراش، وقال شاعرهم:
وأنت من نقش العجلي راحته
وفر شيخك حتى عاد بالحكم
يريد الحكم بن أيوب التميمي عامل الحجاج على البصرة.
ولقد أورد ابن بسام في الذخيرة في ترجمة الأديب أبي جعفر أحمد الدودين البلنسي رسالة ابن غرسية، يخاطب بها أبا جعفر بن الجزار في فضل الشعوبية وذم العرب، ابتدأها بقوله:
يا ابن الأعارب ما علينا باس
لم نحك إلا ما حكاه الناس
وقال:
ولم أشتم لكم حسبا ولكن
حدوت بحيث يستمع الحداء
وقال فيها في وصف العجم:
هم ملكوا شرق البلاد وغربها
وهم منحوكم بعد ذلك سؤددا
حلم وعلم، ذوو الآراء الفلسفية الأرضية والعلوم المنطقية الرياضية، حملة الإسترلوميقا والجومطريقا، والعلمة بالإرتماطيقا والأنولوطيقا والقومة بالموسيقى والطوبيقا، والنهضة بعلوم الشرائع، والطبائع والنفرة في علوم الأديان والأبدان ما شئت من تحقيق وترقيق، حبسوا أنفسهم على العلوم الدينية والبدنية لا على وصف الناقة العدنية، فعلهم ليس بالسفاف كفعل نائلة وإساف، أصغر بشأنكم إذ بزق خمر باع الكعبة أبو غسانكم، وإذ أبو رغالكم قاد فيل الحبشة إلى حرم الله لاستئصالكم.
والرسالة كلها على هذا النسق، استغرقت مع الردود عليها سبع عشرة ورقة من الذخيرة، وقد رد عليها كثيرون من أدباء الأندلس في عصر كاتبها، ومن جملتهم المخاطب بها أبو جعفر، وردودهم كلها إلى السفاهة والبذاءة أقرب، وكتابة ابن غرسية أمتن وحججه أوضح.
وقال الجاحظ في رسالته إلى أبي الوليد محمد بن أحمد بن أبي دؤاد في النابتة: وقد انتظموا - إلى ولاة الأمر في عهده - معاني العناد أجمع، وبلغوا غاية البدع، ثم قرنوا بذلك العصبية التي هلك بها عالم بعد عالم، والحمية التي لا تبقي دينا إلا أفسدته، ولا دنيا إلا أهلكته، وهو ما صارت إليه العجم من مذهب الشعوبية، وما قد صار إليه الموالي من الفخر على العجم والعرب، وقد نجمت من الموالي ناجمة، ونبتت منهم نابتة، تزعم أن المولى بولائه قد صار عربيا لقول النبي
صلى الله عليه وسلم : «مولى القوم منهم»، ولقوله: «الولاء لحمة كلحمة النسب، لا يباع ولا يوهب»؛ فقد علمنا أن العجم حين كان فيهم الملك والنبوة كانوا أشرف من العرب، وأن الله لما حول ذلك إلى العرب صارت العرب أشرف منهم، قالوا: فنحن معاشر الموالي بتقديمنا في العجم أشرف من العرب، وبالحديث الذي صار لنا في العرب أشرف من العجم، وللعرب القديم دون الحديث، ولنا خصلتان جميعا وافرتان فينا، وصاحب الخصلتين أفضل من صاحب الخصلة، وقد جعل الله المولى، بعد أن كان أعجميا، عربيا بولائه، كما جعل حليف قريش من العرب قرشيا بحلفه، وبعد أن جعل إسماعيل أعجميا عربيا، ولولا قول النبي
صلى الله عليه وسلم
إن إسماعيل كان عربيا ما كان عندنا إلا أعجميا؛ لأن الأعجم لا يصير عربيا، كما أن العربي لا يصير أعجميا، فإنه علمنا أن إسماعيل صيره الله عربيا بعد أن كان أعجميا بقول النبي
صلى الله عليه وسلم
فكذلك حكم قوله: «مولى القوم منهم»، وقوله: «الولاء لحمة»، إلى أن قال: وليس أدعى إلى الفساد ولا أجلب للشر من المفاخرة، وليس على ظهرها إلا فخور إلا قليل، وأي شيء أغيظ من أن يكون عبدك يزعم أنه أشرف منك، وهو مقر أنه صار شريفا بعتقك إياه.
العلم الصحيح1
قالوا: العلم علمان؛ علم الأبدان وعلم الأديان، أو دنيوي وديني، فالدنيوي علم ما فيه صلاح المعاش، وحفظ النظام في عالم الكون والفساد، والديني كل ما له مساس بالمعاد، وتهذيب النفس، والابتعاد عن المنكرات في هذه الفانية؛ للظفر بالباقيات الصالحات في تلك الدار الباقية.
كان العلم الديني لأول أمره، موجزا مندمجا، لم ينقد، قواعد مقررة، وأصولا نافعة، فكان العربي يقصد الرسول - عليه السلام - يعلمه الدين في ساعة، ثم يحيله على القرآن، ويقول له اذهب راشدا وبشر عشيرتك وأهلك، فقد عرفت من الدين جوهره وسره، وما ينبغي له؛ فمن ثم دام الإسلام إلى السذاجة حتى قامت قائمة العصبيات من أجل التنازع على الملك، وتجاذب حبل السلطة، فمزج الدين بالسياسة، ودخل في الإسلام من لا يهمه منه غير المغانم، وراح بعضهم يدسون ما لم يقل فيما قيل، وكثر المنافقون ممن سعوا بالدين في سرهم، وهم من أتباعه في جهرهم، وأنشئوا يلبسون ثياب الأصدقاء وهم له أعداء ماكرون.
دسوا عوامل إفسادهم، وفي القوم يومئذ صفوة من الأخيار، توفروا على محاربة البدع والموضوعات بكل لسان وبنان، بكل سيف وسنان، وكانوا على إخلاصهم وتأثيرهم كلما استأصلوا شأفة فاسد نبض من الأفسد نابض، ورجال السياسة وأكثرهم لا يرجع في الغالب إلى رأي ومذهب، يدهنون من وراء ذلك لحملة الدين، ويبذلون لهم ما يستغوونهم به؛ لينطقوا بألسنتهم، ولا يفسدوا عليهم أمرهم، إذا رفعوا أصواتهم ونعوا عليهم تبديلهم لما أنزل، وإلصاقهم به ما ليس منه، ولما رأى العقلاء عائث الفساد يدب دبيبه في علوم المعاد، خافوا أن يتدرج من العبث بالأعراض إلى العبث بالجواهر، فلم يروا بدا من التدوين والتقييد، والدلالة على مواضع الضعف والسخف ليبدو السليم لا شائبة فيه، وأنت خبير بما يقتضي ذلك من التطويل، دع ما يتخلله بالطبع؛ لأن في القائمين به العالم العامل، وفيهم صاحب البدعة والمقالة.
مضى على هذه الحال ردح من الزمن، وعلوم الدين لم تمتزج بشيء من علوم الدنيا، إلى أن دخلت علوم الحضارة في الملة وسموها علوم الأوائل، ورأت من بعض خلفائنا من أخذ بيدها وهيأ لها أسباب انتشارها، فعندها كثرت المذاهب والآراء، ونشأ العراك الأول بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية؛ أي بين الدين القائم بالتسليم، وبين الفلسفة المبنية على البرهان.
وظلت حال العلم الديني تابعة لمجرى السياسة، إن جاء عاقل من الأمراء والملوك يكل أمره لجهابذة من المحققين ينظرون فيه وهم مؤتمنون مأمونون، وإذا ولي رقاب الناس جاهل ينزل نفسه في كل المنازل، فيتولى من الخلق أمور دنياهم ودينهم، ويقرب إليه كل من يتابعه على أهوائه، ولا ينكر عليه مغالاته، والعقلاء بمعزل لا ينطقون إلا كارهين، وربما تدرعوا الخمول وآثروا الانقطاع على الدخول في المجتمع لإمحاضه النصح، وتخليصه من المفاسد الطارئة عليه.
نعم، إن التاريخ لم يخل من وجود عقلاء في كل دور من أدواره، ولكن قوتهم ضئيلة لا تنفع، وصوتهم خريد لا يسمع، إذا نسبتهم لأولئك المنافقين في خدمة الآمرين والناهين. وقد قل عددهم كثيرا في هذه الديار، خصوصا بعد الدولتين النورية والصلاحية، وصار العلم أشبه بتقاليد ورسوم منه بعلم وعمل، ومناطيق ومفاهيم، وما فتئت العادات يتخيلها بعضهم من الدين، ويدسونها فيه، وللجهل الكلمة النافذة في الهيئة الاجتماعية، إلى أن كان القرن التاسع والعاشر وما يليهما من قرون الهجرة، وهي من العصور المظلمة من تاريخ الإسلام حقيقة، فعندئذ قل المميز والمفكر، وبطلت علوم الحكمة جملة واحدة، وصار من يتعاطاها في نفسه وبين خاصته كمن يأتي أمرا إدا، ويخون دينه وأمته، وبطل النظر في الأصول، وتحتم على كل عقل ألا ينظر في غير الفروع مما أملته خواطر المتأخرين، فأصبح بذلك يعد العالم كل العالم من يحقق من هذه الفروع أكثر. اعتبر ذلك بما تتلوه في تراجم أعيان العلماء في هذه القرون، فإنك لا تراها تتعدى الأقوال والآراء. وأهل كل جيل يقدسون قول من سلفهم ولو ببضع سنين. نعم إنك لو أنصفت لا تكاد ترى لهم تأليفا تقرأ فيه نور العقل والخلاص من التقليد البحت. ولقد أتت أيام في معظم الأصقاع الإسلامية حرم النظر فيها حتى في الكتاب والسنة، وعد الناظر فيهما محاولا للخروج عن سنن الجماعة. فإذا خالف فرد ما ألفوه أهانوه، ومن قاوم بفكره سجنوه أو نفوه وشردوه، وإذا خافوا بأسه قتلوه، وجعلوه عبرة ومثلا للآخرين.
تأصلت الأوهام فعدت من أقدس القربات، وسار الناس مع تيار الجهل وتقديس أقوال أدعياء العلم والتقوى، وصدرت الأحكام بعوامل الأوهام، وغدت هذه البلاد كبرج بابل في التبلبل والتشويش؛ اتخذت كل منهما لها أئمة وأولياء، وأنشأت تكبر أمرهم وتدعي لهم مقاما ادعوه لأنفسهم؛ وراح الفقيه يكفر الصوفي، والصوفي ينقم على تقديسهم، والطعن فيمن عداهم ممن لم يصوروا لهم بالصورة المناسبة لما وقر في نفوسهم وركز في طبائعهم، وعشش في مخيلاتهم.
وهكذا امتزجت علوم الدين بالمشاغبات والمماحكات. لو بعث الشارع وأصحابه لرأوا الاختلاف بين ما ورد وما صار إليه، مستحكما بعيد الأطراف يصعب الجمع بينهما كما يصعب الجمع بين النقيضين. وماذا أصف من تسريب الجهل إلى العبث بالعقول في تلك القرون. وإنك لترى أثرا من آثاره لهذا العهد عن بعض من فطموا أنفسهم من النظر في المعقولات منا، فترى كلمات التضليل والتكفير والتبديع والتفسيق أسرع إلى أفواههم من الماء إلى الحدور، وتشهد الغر الغمر يتحكم بالجنة فيعطيها لمن يشاء، ويخرج منها من يشاء. فوا رحمتاه على أناس أضاعوا فضل عقولهم في الجدل، ولكم كان الخير يأتي من جهتها لو اشتغلت بالمفيد، ونبذت الأهواء ظهريا، ولكن إذا أراد الله بقوم سوءا رزقهم الجدل ومنعهم العمل.
قلت - فيما سلف: إن علوم الدنيا دخلت في الملة لما رأت من يعضدها من رجال السياسة، وكان ذلك في القرن الأول، بيد أنها لم تنتشر الانتشار المطلوب إلا في القرن الثاني والثالث. شاعت قرنين ثم أخذت تضعف إلى أواخر القرن السابع أيام قل المشتغلون، ولو على طريقة نظرية بعلوم العقل التي لا قائمة لأمة بدونها مهما أخلصت في دينها. وإذا استفتيت تواريخهم تجد المتلبسين بشعار العلماء لا يعدون في جملتهم ذاك الرياضي والجغرافي، وربما فضلوا عليهما المعمار والثرثار. من أجل هذا نرى المدارس، على تفنن القوم في إنشائها بعد القرون الوسطى، منازل خاصة بالفقيه والمحدث والقارئ، والرباطات للمجذمين المعدمين والكسالى. ولم نجد مدرسة - اللهم إلا بعض مدارس الطب والهندسة - موقوفة على الرياضيين والطبيعيين والفلكيين والمؤرخين؛ كأن علومهم هذه أباطيل لا تصح الإعانة عليها، وحسب الرياضي أن يغضي الفقيه عنه ما دامت الحالة بين هبوط وصعود، والأجود بها أن تدعى سقوطا إلى منتصف القرن الماضي أيام أخذ السلطان عبد المجيد في البلاد العثمانية، ومحمد علي في هذا القطر، يسهلان السبل لهذه العلوم، ويعدان أهلها في مصاف العلماء، وأنشئت المدارس لتعليمها، وغدا المشتغلون بالعلوم الدنيوية حزبا، والمتوفرون على تعليم العلوم الدينية حزبا آخر؛ على أنه لم تحمد عودة تلك العلوم الدنيوية التي سماها بعضهم عصرية، وبعضهم دعاها حديثة؛ لما نتج عنها من حركة كانت أشبه برد فعل ما، ظلت الأمة معها صائما أخذ منه الجوع فلم يجد ما يطعمه، حتى ساقته الأقدار إلى مائدة موسر، وقد حوت ما طاب، وحلا من صنوف الأطعمة والحلواء، فأخذ يلتهم ما وصلت يده إليه بدون ترو؛ يزدرده بلا مضغ، ويمزج بارده بحاره، وحلوه بحامضه، ويؤخر ما يقتضي تقديمه ويقدم ما يحسن تأخيره، ونشأت ناشئة لم تدر من العلم الحقيقي غير قشوره، شربت مصة من مورده ظنتها غاية ما يرتوي به المرتوون، وراحت تعد المروق غاية النور، والإزراء على النبوات من آيات الحكماء، والطعن في الشرائع من عمل الجهابذة النحارير، وإنكار القديم مهما كان نفعه، والتعلق بالحديث مهما ضؤل قائله، من دواعي النهوض والاستنارة؛ وعلى الجملة ينبذون كل ما ليس لهم به علم من تراث أجدادهم، حاسبين الصحيح منه والسقيم في مقام واحد، مماحكين ولو بان لهم الراجح من المرجوح.
يقول فتية اليوم: إنه لا نجاح للأمة إلا بنبذ ذاك القديم مباشرة، والأخذ بهذا الحديث على علاته. وفاتهم أن ما يسوغ في الغرب لا يتم في الشرق، وأن لكل أمة طبيعة ومنازع لا بد من مراعاتها، وأن إقامة مدينة جديدة في بادية أسهل من إصلاح مدينة قديمة لا غنية عن البناء فيها، وأن من العقل ألا ينبذ ذاك القديم، بل يرجع فيه إلى الأصل القليل، ويؤخذ النافع منه، ويترك ما عدا ذلك من تخريف المخرفين وضلالات المبتدعين، والأخذ من هذا الحديث بالعلم الصحيح الذي تمس إليه الحاجة، وإطلاق الحكم للعقل يعمل عمله في طريقه.
العلم الصحيح هو الذي يبعث صاحبه على عمل النافع ، ولو كان في ذلك ضياع مصلحته الشخصية، فلا يبالي حامله بغضب الرؤساء والزعماء، ولا يستغويه رضى الغوغاء والدهماء، يتجشم المخاطر في نشر خاطر، ويركب كل صعب وذلول لإنارة مظلمات العقول.
العلم الصحيح هو الذي خلص من ضغط الأهواء السياسية والمذهبية، وسلم من التأثيرات والغايات، فلقنه صاحبه بريئا من شوائب النزعات والنزغات، وأثر في نفسه تأثيرا مجردا، فإذا نطق بعده فلا ينطق إلا بما يوحي إليه هاتف الفهم السليم، والعقل الحكيم، فلا يتعصب للآباء والجدود، ومألوفات المحيط، وعادات الأهل والإقليم، ويتحزب لشيخه وأستاذه ولو تجلى له أنهما تنكبا عن طريق الحق.
العلم الصحيح هو الذي يحترم صاحبه به آراء غيره، ولو كانت مباينة لأفكاره كل المباينة، ولا يعدها سخافات وترهات فينكر كل ما لا يعلم ويستكثر ما وعى، ولا يعد حطة عليه أن يتسقط الحكمة أنى وجدها وفي أي المظاهر ظهرت، فيأخذ نفسه بالتعلم ولو شاب وجاوز الثمانين.
العلم الصحيح هو الذي تكون نتائجه أكثر من مقدماته، وفروعه خيرا من أصوله، يأخذ له حامله من نفسه، فلا يتكبر عن إفادة، ولا يستنكف من استفادة، ويسعى إلى بث ما يعرف في كل أفق، ويعد البشر إخوة فلا يقصر في تعليمهم مما علم، يقينه أن صلاح الأفراد سلم للوصول إلى إصلاح الجماعة، والمصلحة العامة هي أبدا موضوع نظر من رزق حظا من هذا العلم.
العلم الصحيح هو الذي يربي الملكات ويهذب النفوس، فلا يستخدم صاحبه علمه أداة للغلبة بالباطل، والإدلال على الأقران، والذهاب بفضل الشهرة والمحمدة الزائلة والتبجح والتنطس، فامنح اللهم بفضلك هذه الديار شيئا من هذا العلم، وكثر فيها سواد أهله بمنك وحسن تسديدك.
علاقة العرب بالغرب1
فأميرنا هو الذي وضع المسألة العربية على بساط البحث، ووجه إليها أنظار العالم الغربي، وكانت مسألتنا من قبل مندمجة في المسألة الشرقية، فميز بصحة عقله بين المسألتين الشرقية والعربية، وأبان للغربيين أن العرب غير الترك، وأننا أمة قوية الشكيمة، يبلغ عددنا أكثر من نصف سكان تلك الإمبراطورية العثمانية المنحلة، وأبعد منهم كعبا في المدنية، وليس لهم من المزايا علينا إلا أن الطالع ساعد ملوكهم الأقدمين، وقاموا بغفلة الدهر عنهم، فأنشئوا ذاك الملك الضخم بقوة سلاحهم الذي لم يبرحوا شاهريه إلى ساعة انهزامهم من بين أظهرنا؛ أي إنهم اكتفوا مدة أربعة قرون باستصفاء البلاد، وما استطاعوا أن يستصفوا القلوب، وشتان بين من يخضع الأجسام الجامدة، ومن يخضع الأجسام الحية.
ربما كان بين أهل الغرب اليوم عدد قليل من الناس لا يثبتون مزية للمدنية العربية القديمة، وهؤلاء ممن أخذوا معلوماتهم عن كتب أملاها المتعصبون منهم، وبعضهم من سكان الأديار الذين ضاقت عن تحملهم، مثل أرض فرنسا، وسويسرا الحرة، ولكن هناك مئات من علماء المشرقيات أخصوا بعلوم الشرق ولغاته، ولا سيما بسيدتها اللغة العربية، فدرسوا الحضارة العربية والتاريخ العربي في مظانه وبلغته، وأزالوا غشاوة الأوهام عن العوام بما أنشئوه من المجلات، ونشروه من الكتب بلغاتهم المختلفة، يبينون للناس مجد هذه الأمة الغابر، وأيامها الغر المحجلة، وربما كان منهم المتعصب للعرب وتحبيذ دولهم السالفة أكثر من تعصبه لمدنية الأمم الحديثة، وهؤلاء هم الذين يخدمون العلم للعلم، لا يتبعون فيه على الغالب هوى النفوس في السياسة، ولا سلطان للأديان تمليه على ضمائرهم.
ومن قرأ دائرة المعارف الإسلامية التي لا تزال تصدر إلى اليوم في مطبعة ليدن من عمل هولاندة بلغات العلم الثلاث: الإنكليزية والألمانية والفرنسوية، وهو أصح كتاب كتب في تاريخ بلاد العرب وجغرافيتها، وتراجم رجالها وأصول شعوبها، ومن عرف أن أمهات كتبنا في الدين والعلم والتاريخ لا تزال تطبع في مطابع الغرب من زهاء أربعمائة سنة؛ أي على أوائل عهد اختراع الطباعة، وأن المطبوع منها بالعناية الفائقة تتألف منه خزانة كتب كبرى تحتوي على كل فن ومطلب، وأن ما طبع من أسفار أسلافنا في أوروبا وأميركا على أيدي المستشرقين من أهل تينك القارتين يبلغ أضعاف أضعاف ما طبع بلغات الشرق كله؛ من عرف كل هذا يدرك ولا جرم مبلغ عناية الإفرنج بلغتنا ومدنيتنا وتاريخنا.
أكدوا - أيها السادة - أن تفسير القرآن الكريم يقرأ درسا على طلاب الجامعات في الغرب، كما تقرأ دروس الفلسفة والتاريخ والأدب، وما أنس لا أنس، وقد دعاني في بودابست الأستاذ غولد صهير العلامة المجري إلى داره، وهو يقول: إني الآن ذاهب إلى الكلية لإلقاء درسي وأعود إليك بعد مدة، فسألته ماذا تقرأ الآن لتلاميذك يا أستاذ، فقال: تفسير القرآن. وأغرب من هذا ما ذكره لي صديقي العلامة أحمد زكي باشا المصري، قال: دخلت على الأستاذ درانبورغ في مدرسة اللغات الشرقية الحية، فرأيته إسرائيليا يدرس كتاب المسلمين لجماعة من المسيحيين. أما الحديث والفقه والأصول والتصرف فهو أيضا مما يعانونه، كما يعانون غيره من آدابنا وتاريخنا وعلومنا. ورجال الإفرنج يدركون حقيقة العرب وعلومهم منذ توطد سلطان الأمويين في الأندلس، وأخذ بعض المتنورين منهم يدخلون تلك المملكة العربية ويدرسون العلوم على علمائها، ويعودون إلى فرنسا وإيطاليا ينشرونها بين قومهم. وكان بعض المشتغلين على علماء العرب من الإسرائيليين، وبعضهم من المسيحيين الذين تولوا بما تعلموه أعظم منصب ديني في النصرانية، وكأن الله سخر العرب ليفتحوا الأندلس ويعمروها؛ حتى ينقلوا لأهل أوروبا العلم والحضارة، ولما أنهوا مهمتهم عادوا أدراجهم من تلك المملكة البديعة.
امتاز المسلمون بإحسانهم إلى من خالفهم إذا كان مما تحمد سيرته السياسية والوطنية؛ ولذلك حموا الإسرائيليين مواطنيهم في الأندلس، ويوم أخرجوا منها فكروا في حماية الإسرائيليين ومصالحهم، كما نظروا في حماية أبناء دينهم، اشترطوا على الغالب شروطا تقيهم بأسه، وكان الإسرائيليون إذ ذاك في الغرب مضطهدين في كل مكان إلا في الأندلس، وكم استمتع الإسرائيليون بحريتهم على عهد العرب في الأندلس على صورة لم يعد لهم مثلها إلا في القرن الأخير في أوروبا.
حمى العرب الإسرائيليين في الغرب كما حموهم في الشرق، واعتمدوا عليهم في مصالح الدولة؛ لأن الإسرائيليين كانوا إذ ذاك يعضدون الحكومة التي تحكمهم كما هو اليوم في إيطاليا، حيث كان لهم القدح المعلى في قيام الوحدة الإيطالية منذ نحو خمسين سنة، وكان لهم من النفوذ الاقتصادي العظيم ما خدموا به الوحدة، وأخلصوا لها وخدموا سياسة إيطاليا، حتى أصبح منهم الولاة ورؤساء النظار وكبار العمال
2
لا ينازعهم منازع؛ وذلك لأن الإسرائيلي في إيطاليا إيطالي أولا، ثم إسرائيلي خلافا لما عليه سائر الممالك.
ولو لم يكن حكم العرب في الأندلس إلى اللين والعدل ما دام ثمانية قرون، وكذلك حكمهم في جزائر صقلية، وسردانية، ومنورقة، وميورقة، وقرسقة، وغيرها من جزر الطليان. وكان اختلاط العرب بالأمم اللاتينية ولا سيما بالبرتغاليين والإسبانيين والفرنسيس والطليان؛ ولذلك تجد في لغات هذه الأمم مئات من الألفاظ العربية، ولم ير الإيطاليون أن يغيروا شيئا من مصطلحات العرب، حتى إن الملك رجار الذي عاد فاستولى على صقلية سنة 845 كان يتكلم بالعربية، ومثله كثير من ملوك إيطاليا، وكان يفضل كثيرا على علماء العرب، وهو الذي وضع له الشريف الإدريسي الجغرافي كرة أرضية بالفضة، كانت من أعاجيب القرون الوسطى دهشت لها أجيال الإفرنج كلهم.
3
وكانت دراسة العربية شائعة في شبه جزيرة إيطاليا، ينظر إلى تعلمها أنه من الحاجات الماسة لكل تجار المدن البحرية، وقد وضع أحدهم سنة 1265م باللغة العربية كتاب المعاهدة التجارية بين تونس وجمهورية بيزا، وظلت العربية مألوفة في عدة أماكن من إيطاليا الجنوبية عقيب احتلال العرب صقلية، فكانت في بلاط نورمانديا، وهوهانستوفين، وفريدريك الثاني، ودي منفروا لغة العلم العالي والشعر والأدب، وكان من سقوط الدولة البيزنطية في القسطنطينية وهجرة علماء من اليونان إلى إيطاليا، وكثير من نصارى الشرق واختراع الطباعة وقيام الإصلاح الديني، أن هبت في أرجاء إيطاليا حركة النهضة العلمية التي تجلت في أجمل مظاهرها في الدروس الشرقية، ولا سيما في دروس العربية والإسلام.
وشاعت في القرون الوسطى في أوروبا
4
لغتان فقط من لغات الشرق بين العلماء، وهي اللغة العبرانية التي كانت تعتبر لغة الإنسانية الأصلية، واللغة العربية التي كانت مهمة؛ لكثرة البشر الذين يتكلمون بها؛ ولشهرة فلاسفة الإسلام أمثال، ابن رشد، وابن سينا، وابن زهر، والفارابي؛ لذلك أنشئ في باريز منذ أواسط القرن الثالث للميلاد درس عام لتدريس اللغة العربية، وفي سنة 11م شرع في باريز، وأكسفورد، وبولون، وفلمنكة بتدريس العربية مع العبرانية والكلدانية، وكان لأسرة ميديسيس الإيطالية فضل على الآداب العربية، كما لها الفضل على الشعر والموسيقى والتصوير والهندسة.
ثم إن الإفرنج زاد اختلاطهم بالعرب في الحروب الصليبية، فإن هذه وإن كلفت أمم أوروبا ملايين من الأنفس والأموال، إلا أن أهلها عادوا منها بعد جهاد نحو قرنين، وقد لقنوا أمورا كثيرة من العرب أثرت في حضارتهم وأخلاقهم وعلومهم وصناعاتهم؛ لأنهم شاهدوا أمة أرقى منهم إذ ذاك، فأخذوا عنها ما اتسعت له أوقاتهم، وكانوا على اختلاط تام مع الأمم التي يحاربونها.
وبينا كان السيف والنشاب والمجانيق تعمل عملها بين الفريقين، كان تجار الإفرنج يدخلون بلاد العرب ويتجرون على الرحب والسعة، لا ينازعهم منازع، فأعجب بهذه الأخلاق مؤرخو الحروب الصليبية منهم وأقر بمنافعها لهم أهل الأجيال الخالقة، وفي مقدمتهم ميشو في تاريخ الحروب الصليبية، وقد ذكر على تعصبه أشياء كثيرة مما أخذه الإفرنج عن العرب، دع مئات من كتاب الغرب وباحثيهم ذكروا في كتبهم ومقالاتهم كثيرا مما استفادته أجيال الفرنجة، وغيرهم من امتزاج الصليبيين بالعرب، وقد أدهشهم ما شهدوه من عدل صلاح الدين يوسف بن أيوب - رحمه الله - حتى ادعى شاعره عبد المنعم الجلياني أنهم رسموه في هياكلهم فقال:
وخطوا بأرجاء الهياكل صورة
لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم
يدين لها قس ويرقى بوصفها
ويكتبه يشفى به في التمائم
وإن ما نقرؤه في تاريخ شواطئ البحر الأبيض حيث ينزل العرب من مراكش بالجزائر، فتونس، فطرابلس، فبرقة، فمصر، فسورية من وقائع حدثت في أزمان مختلفة بين العرب، وبين البنادقة، والجنويزبين، والبيزين، والإسبانيين، والبرتغاليين لا تطعن في حسن الصلات بين العرب وجيرانهم على الشاطئ المحاذي لهم من هذا البحر؛ لأن هذه الغزوات البحرية كانت بصنع قراصين ومتشردين وغاغة ظالمين، لا دخل فيها للأمم ولخاصتها على الأقل، ولا سلطة فيها للأديان؛ لأن الأديان كلها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، ومن أعظم المنكرات فيها قتل النفس التي حرم الله؛ ولذلك تجد المعاهدات تعقد الحين بعد الآخر بين صاحب تونس، أو مصر، أو الشام، أو الغرب الأقصى، وبين الملوك النازلين من الإفرنج في جنوبي أوروبا، وهذه الغزوات البحرية أشبه بالغزوات البرية التي طالما حدثت لها أمثال بين الأمة الواحدة من الإفرنج أو الأمة الواحدة من العرب.
ولطالما غزا سكان جنوبي فرنسا سكان شمالها ودينهم واحد، ولسانهم واحد، وعاداتهم وتقاليدهم متقاربة، ولم يتيسر نزع هذا الخلق، وهو من أخلاق البداوة في الغالب إلا بما قام في فرنسا من الأعمال المالية التي ربطت ابن الشمال بابن الجنوب برباط معنوي مادي، فارتفعت الخصومات من بينهما؛ لأن المصلحة المادية مفضلة على كل شيء، فقد قال الجاحظ: «وليس يكون أن تصفو الدنيا وتنقى من الفساد والمكروه، حتى يموت جميع الخلاف وتستوي لأهلها، وتتمهد لسكانها على ما يشتهون ويهوون؛ لأن ذلك من صفة دار الجزاء وليس كذلك صفة دار العمل.»
قال الكونت هنري دي كاستر في كتابه الإسلام خواطر وسوانح: ولقد زادت محاسنة المسلمين للمسيحيين في بلاد الأندلس، حتى صاروا في حالة أهنأ من التي كانوا عليها أيام خضوعهم لحكم قدماء الجرمانيين الذين يقال لهم الفيزيغوت، ويقول دوزي: إن هذا الفتح لم يكن مضرا بالأندلس، وما حصل من الاضطراب والهرج بعده لم يلبث أن زال باستقرار الحكومة المطلقة الإسلامية في تلك البلاد، وقد أبقى المسلمون سكانها على دينهم وشرعهم وقضائهم، وقلدوهم بعض الوظائف حتى كان منهم موظفون في خدمة الخلفاء، وكثير منهم تولى قيادة الجيوش مثل «سيد»، وتولد عن هذه السيادة الرحيمة أن انحاز عقلاء الأمة الأندلسية إلى المسلمين، وحصل بينهم زواج كثير، وكم من أندلسي بقي على دينه، ولكنه أعجبته طلاوة التمدن العربي فتعلم اللغة وآدابها، وأصبح القسس يلومونهم على ترك ألحان الكنيسة، والتعلق بأشعار الفاتحين. وكانت حرية الأديان بالغة منتهاها؛ لذلك لما اضطهدت أوروبا الموسويين لجئوا إلى خلفاء الأندلس في قرطبة، ولما دخل الملك كارلوس إلى سرقسطة أمر جنوده بهدم جميع معابد اليهود ومساجد المسلمين، قال: ونحن نعلم أن المسيحيين أيام الحروب الصليبية ما دخلوا بلادا إلا وأعملوا السيف في يهودها ومسلميها، وذلك يؤيد أن اليهود إنما وجدوا مجيرا وملجأ في الإسلام، فإن كانت لهم باقية حتى الآن، فالفضل فيها راجع لمحاسنة المسلمين ولين جانبهم. ا.ه .
وقال سيديليو في كتابه حضارة العرب: مما يدل على شأن الأمة العربية أنها فتحت بلادا أجنبية، ولم يتغلب عليها غريب، مع اتصافها منذ أربعة آلاف سنة بما انفردت به من جميل الأخلاق والعادات، فكانت منذ نشأة أقدم الدول مدبرة لأمورها، متأهبة للإغارة على مجاوريها؛ أخذت مملكتي مصر وبابل قبل الميلاد بتسعة عشر قرنا، ثم أخذ منها ما ملكته من البلاد الأجنبية، وانحصرت سطوتها في بلادها العربية، فأخذت تقاتل الفراعنة وملوك العراق، ونجت من تسلط قورش ملك الفرس وإسكندر المقدوني، وبقيت على استقلالها زمن أخذ الرومان الدنيا القديمة، ثم أتى النبي فربط علائق المودة بين قبائل جزيرة العرب، ووجه أفكارهم إلى مقصد واحد فعلا شأنها، حتى امتدت سلطتها من نهر التاج في إسبانيا والبرتغال إلى نهر القانج في الهند، وانتشر نور المعارف والتمدن في المشرق والمغرب، وأهل أوروبا إذ ذاك في ظلمة جهل القرون المتوسطة، وكأنهم نسوا نسيانا كليا ما وصل إليهم من أحاديث اليونان والرومان. واجتهد العباسية ببغداد، والأموية بقرطبة، والفاطمية في القاهرة، بترقية الفنون، ثم تمزقت ممالكهم، وفقدوا شوكتهم السياسية، واقتصروا على السلطة الدينية التي استمرت لهم في جميع أرجاء ممالكهم، وكان لديهم من المعلومات والصنائع والاكتشافات ما استفاده منهم نصارى إسبانيا حين طردوهم منها، كما أن الأتراك والمغول بعد تغلبهم على ممالك آسيا استفادوا معارف من تغلبوا عليهم. ا.ه.
وبعد، فإن أمة هذا ماضيها وهذا حاضرها كيف يجهل بعضهم أو يتجاهلون أمرها؟! وهي التي كانت الصلة والعائد بين المدنية القديمة والمدنية الحديثة، ولولا العرب لتأخرت نشأة الحضارة الغربية قرونا، كما أكد بعض المنصفين من علماء الغرب. فإذا كان ماضينا ما رأيت، وفي حالتنا الحاضرة بعض النواقص جاء لنا من الحكم الاستبدادي الذي نخر العظم قرونا طويلة، فإننا لا يصح إلا أن يقال عنا اليوم كما وصفنا رئيس الكلية الأميركية الدكتور هوردبلس في مؤتمر الصلح: أمة كسائر الأمم فينا من العيوب ما في غيرنا، أما استعدادنا للرقي إذا رفعت عن عيوننا العصائب، فقد أثبته رجالنا الذين تعلموا وتهذبوا ، فكانوا في مصر والسودان وفي أميركا وأوروبا على مستوى الغربي الراقي في علمهم وآدابهم ومتاجرهم وصناعاتهم، وأثبته دعاة الثورة العربية وما ظهر من تفانيهم في وطنيتهم لإرجاع مجد أمتهم بعد ذبوله.
وإليك مع هذا ما ذكره غستاف لوبون - صاحب كتاب مدينة العرب - في كتابه علم النفس السياسية
5
في باب الأسباب النفسية: ألق بالمدينة الأوروبية عن تحويل الشعوب المنحطة عن حالتهم قال: «لا تعمل التربية إلا أن تلخص المدنية، والأوضاع والمعتقدات تمثل حاجيات هذه المدنية، وإذا لم يكن بين المدنية وأفكار شعب وعواطفه اتصال، فإن التربية التي تؤلف هذه المدنية لا يكون لها تأثير فيه، وكذلك الحال في الأوضاع المناسبة لبعض الحاجات فإنها لا تطابق الحاجات المختلفة، ويدرك المرء بأدنى نظر الفرق بين عقول أمم الشرق، ولا سيما المسلمون والهنود الصينيون، وبين عقول أهل الغرب، فيجده عظيما بحيث يتعذر تطبيق أوضاع بعضهم على الآخر، فإن الأفكار والمناحي والمعتقدات وطرق العيش تختلف بين الفريقين اختلافا ظاهرا.
فبينا نرى أمم الغرب تشتد كل يوم في نزع مؤثرات الأجداد نجد الشرق يعيش بماضيه إلا قليلا، فالمجتمعات الشرقية ثابتة في عاداتها، وهي في الشرقيين خالدة على صورة ليست لها في أوروبا اليوم، فإن المعتقدات التي أضعناها يعنون هم بالاحتفاظ بها جد الاحتفاظ، والعائلة التي تقوضت من أساسها في الغرب لم تبرح متينة الدعائم في الشرق على نحو ما كانت منذ أبعد عصور التاريخ، والمبادئ التي فقدت من تأثيرها فينا أصبحت محافظة على تأثيرها فيهم. غاية الشرقيين قوية جدا، وحاجاتهم ضعيفة كل الضعف ، وغاية الغربيين غير أكيدة، وحاجاتهم عظيمة جدا، فإن الدين والأسرة والسلطة العالية والعادات، وجميع هذه الأسس القويمة في المجتمعات القديمة التي نزعها الغرب من أصولها، قد احتفظت بنفوذها في الشرق، ولا من منازع لها؛ وذلك لأن الاهتمام بالاستعاضة عنها لم ينفذ بعد إلى عقول الشرقيين. ويتجلى الفرق الفاحش بين الشرق والغرب من أوضاعهما، فإن جميع الأوضاع السياسية والاجتماعية في الشرقيين، عربا كانوا أو هنودا، تنبعث خاصة من معتقداتهم الدينية، على حين نرى أكثر الشعوب الأوروبية تدينا قد فصل منذ زمن طويل بين الأوضاع السياسية والمعتقدات.
ليس في الشرق قانون مدني، بل هناك قانون ديني فقط. وكل جديد مهما كان نوعه لا يقبل إلا على شرط أن يكون نتيجة قواعد لاهوتية. وليس الاختلاف بين الغربيين والشرقيين في تركيب العقول والأوضاع والمعتقدات فقط، بل في أدنى أسباب الحياة، ولا سيما في بساطة الحاجات بالنسبة إلى تشعب حاجاتنا، فإن مطالب الحياة عندهم قليلة جدا إذا قيست بمطالبنا وتشعباتها؛ ولذلك يلقى الشرقي إذا قبل المدنية الأوروبية؛ لأنها تلزمه بأمور لا يستطيع تطبيقها، ولا تستلزمها حالته وبيئته، فتقضي فيه على ما وردته من ماضيه وتتركه لا يعرف كيف يستقر أمام الحاضر.
والنتيجة القطعية الوحيدة من التعليم الأوروبي سواء كان في الزنجي أو الهندي، هو أن تتبدل الصفات الإرثية فيه دون أن تتمكن من إبلاغ التربية الأوروبية إليه، وقد يحصل الشرقي على قطع من الأفكار الأوروبية، ولكن انتفاعه بها يكون بعواطف وأفكار وحشية أو نصف متحضرة، وتتقاذف عقول الشرقيين آراء متضاربة ومبادئ في الأخلاق متعارضة، ولا يخدعنا هذا الطلاء الضعيف الذي يظهر فيه الشرقي إذا لقف شيئا من التربية الأوروبية، فإن ذلك أشبه بالألبسة الموقتة في دور التمثيل لا يجب أن ينظر إليها عن أمم.
قال: ولقد حدثت مئات من المرات أناسا من أدباء الهنود تخرجوا في جامعات إنكلترا أو الغرب، فثبت عندي أن بين أفكارهم وأفكارنا، ومنطقهم ومنطقنا، وعواطفهم وعواطفنا، فروقا واسعة المدى وهوى سحيقة بعيدة. وليس معنى هذا أنه يستحيل على الشرقي أن يكون كالأوروبي حذو القذة بالقذة، كلا، فإن الشرقي يكون كالغربي، ولكن بعد تعاقب الدهور والأعصار؛ كما وقع لأجدادنا، فإنهم ظلوا نحو ألف سنة يتخبطون في حالة التذبذب والتوحش، حتى تأصل فيهم حب المدنية القديمة والأخذ منها. وقانون النشوء الاجتماعي كالنشوء الطبيعي لا بد من أن يستوفي حظه.
والسبب المهم في أن مدنيتنا عاجزة عن الوصول إلى الشعوب المنحطة، هو أنها متشعبة مركبة، والشرقيون أمم من السذاجة أقرب، فاقتضت لهم البسائط، فإنا نرى المدنية الإسلامية وما أثره المسلمون في الشرق، ولا يزالون يؤثرونه قد نجحت في هذا المعنى؛ ذلك لأن الأمم التي دانت للإسلام كانت أو هي في الغالب شرقية لها من العواطف والحاجات والعادات في الحياة، ما يماثل عواطف الفاتحين وحاجاتهم وعاداتهم. وليس في قبولهم أصول المدنية الإسلامية ما يتنافر مع حاجتهم. وعلى العكس، إذا صحت عزيمتهم على الأخذ بالمدنية الغربية فإنها تدك بنيان ما تعودوه بما فيها من الاختلاط والارتباك. •••
قال: وقد زعم المؤرخون أن التأثيرات العلمية والأخلاقية العجيبة التي أثرها المسلمون في الأرض كانت بفضل مادياتهم، ولكن لا يصح اليوم أن نجهل بأن هذه المؤثرات قد دامت في مجراها، حتى بعد أن أضاع المسلمون نفوذهم السياسي، فإن المسلمين في الصين يزيدون اليوم على 20 مليونا، وفي الهند على خمسين؛ أي إن سوادهم أوفر من العهد الذي بلغت فيه دولة المغول أرقى درجات عزتها ومنعتها، ولا يزال هذا العدد في نمو. إن المسلمين بعد الرومان هم الأمة الممدنة الوحيدة التي نجحت في نقل تهذيبها الاجتماعي ودينها وأوضاعها وعلومها إلى العناصر المختلفة التي افتتحتها وتسربت بينها. هذه التأثيرات لا تضمحل، بل نراها على العكس آخذة بالنمو، تتعدى الحدود التي بلغتها في أيام القوة المادية. إن القرآن وما اشتق منه هو إلى الفطرة بحيث يلتئم مع حاجات الشعوب الأولية، حتى إن قبوله آخذ حكمه على مر الدهور لا يعوقه عائق. وحيث ينزل المسلمون ولو كانوا تجارا سذجا تدخل أوضاعهم ومعتقداتهم، وكلما توغل الرواد من أهل المدنية الحديثة في صميم أفريقيا شاهدوا قبائل تنتحل الإسلام. والمسلمون الآن يمدنون قبائل أفريقيا على نحو ما يستطيعون، ويجاهدون في تلك القارة الغريبة، على حين يطوف الأوروبيون في الشرق فاتحين كانوا أو متجرين ولا يتركون وراءهم أثرا لنفوذ أدبي.
فلا التربية ولا الأوضاع ولا المعتقدات ولا غير ذلك من الأسباب التي يتذرع بها الأوروبيون للتأثير في الشرق تفيد في تمدينه؛ ولا سيما في الشعوب المنحطة منه. وحالة اليابان لا تقوم دليلا على نقض هذه القضية؛ لأن اليابان وقد بلغت درجة راقية في المدنية، كان السبب في تمدنها أنها قبلت نتائج المدنية الغربية بجملتها دفعة واحدة، فلم تغير في الحقيقة قوانينها الأساسية ولا معتقداتها ولا أخلاقها، فهي تشبه شريفا من أرباب الإقطاعات عاد إلى الحياة بعد موته، فتعلم استعمال القاطرات وإطلاق المدافع.»
هذا رأي الفيلسوف غستاف لوبون في مدنيتنا وحالتنا الاجتماعية، وتأثرنا بالمدنية الغربية وصلاتنا مع أهلها وصلاتهم معنا. وهو - كما ترون - صحيح من أكثر وجوهه، لا شائبة للتعصب والتقاليد فيه. وقد حمد حالتنا من حيث تكوين الأسرة والبيوت والسذاجة، وعسانا اليوم وقد زاد اختلاطنا بالغرب لا نأخذ منه إلا ما تمس حاجتنا إليه، ونبقي على القديم النافع، فقد قيل: إن القوة الحقيقية في كل مملكة ما عرفت به من الأخلاق الطبيعية. وتقليد الأجانب على أي صورة كانت عار على الوطنية.
لم يخل عصر من العصور من اختلاط العرب بالغرب، سواء كان بطرق الفتح أو التجارة، أو طلب العلم، أو للجوار، وقد قصد أوروبا كثير من رجالنا منذ زهاء عشرة قرون، وكذلك الأوروبيون وصلوا إلى بلادنا منذ القديم. وكان الطليان أسبق الأمم إلى هذا الاختلاط - كما رأيتم - ومع أنه على أتمه ولا سيما منذ استولى نابليون على مصر وجانب من الشام، لم يبرح الشرق شرقا والغرب غربا؛ أخذوا منا وأخذنا منهم، ولكن ما أخذوه عنا مزجوه في حضارتهم، وكذلك كانت حالنا معهم، وما اقتبسناه من نور علومهم وأساليب تربيتهم في القرن الماضي وهذا القرن.
ولا غضاضة علينا إذا وقفنا معاشر العرب مع الغرب عند حد الأخذ من حضارته وعاداته ؛ فإن التخوم إذا تناءت تختلف أهويتها وطباع أهلها، فما يفيد من القوانين هنا لا يطبق على سكان ما وراء النهر مثلا، وما ينفع سكان الأرجنتين لا يتأتى تطبيقه على أهل الصين.
ومن أسرار هذا الكون أن كل أمة تحرص على سلطانها ولسانها وأوضاعها، وتدافع عنها جهدها. والوقائع التاريخية الكبرى تظهر آثارها في الأمم حتى بعد قرون، فغارات الصليبيين والتاتار على هذا الشرق الأقرب أثرت فيه قرونا، وغارات العرب على أوروبا أثرت فيها، بحيث يشهد التاريخ أن العرب يوم زحزحوا عن بواتيه في فرنسا على يد شارل مارتل هم غيرهم يوم جلوا عن أرض الأندلس.
إذا كان الاختلاف طبيعيا بين أهل قطرين لسان كل منهما يختلف عن صاحبه، أما العادات والتقاليد فواحدة إلا قليلا، أفلا يكون أشد بين أمم متباعدة في معظم مشخصاتها ومقوماتها؟ ونضرب لذلك مثال أمتين حيتين في الغرب: البلجيك وسويسرا، وهما مملكتان صغيرتان أدهشتا العالم بمدنيتهما ووطنيتهما وحريتهما، ولم يمنع اختلاف العناصر فيهما من اتفاق كلمة كل منهما على الثاني في حب الكمال، بحيث أصبح في أهلها عادة وجبلة، وغدتا نموذجا ينقل عنه حتى أرقى شعوب أوروبا كعبا في المدنية من مجاوريهما؛ كما هو الحال في البلجيك، فإنها بين ثلاث ممالك هي مصدر لمدنية: إنكلترا وفرنسا وألمانيا، وسويسرا وهي بين أربع: ألمانيا وفرنسا والنمسا وإيطاليا، وكل هذه الممالك الكبرى تغبط تينك المملكتين الصغريين على أوضاعهما واستعدادهما. بلاد البلجيك مؤلفة من عنصرين مختلفين في الأصل، وهما العنصر الغلاندري أو الفلامندي سكان الشمال، والعنصر الفالوني سكان الجنوب، وهم فرنسيس يجيدون التصوير والآخرون الموسيقى،
6
ولكن بلاد الموسيقى لا تحملهم، فتقبلهم فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا، وحال البلجيك مع الدول المجاورة حال سورية مع غيرها على عهد الأتراك، فقد كانت هذه البلاد تضيق على رحبها بأبنائها، فيهاجرون إلى القارات الخمس في طلب الرزق، ولكن أين مساحة بلاد البلجيك من مساحة بلادنا؟
7
والنزاع بين الفلامنديين والفالونيين على أتمه بشأن اللغة، فتجد الفلامنديين سكان الفلاندر من أحرص الأمم على لسانهم، وقد حاولت البلجيك بعد سنة 1830 أن تفنلس الفلاندر، فثارت هذه على كل ما أريدت عليه، ولم تستطع ذلك، بل احتفظت بروحها، وأخلاقها، وأفكارها، وتقاليدها، وعواطفها، وأساليب تصورها، قال شاريو: الأمة بلغتها، وما من أمة بدون لغة. ولذلك تجد الجدال قائما قاعدا في فنلندا، وبولونيا، والنمسا، والمجر، وسويسرا، وإسبانيا، بل وفي كل مكان في هذا الشأن.
دعا نابليون الأول أرض بلجيك بأنها ساحة حروب أوروبا، وسماها اليزمركلو ساحة اختبار أوروبا، وسماها بعضهم مغرس بقولها، كما سموا الأندلس حديقة زهرها ، وكما أصبحت سويسرا بالعلم مصيف أوروبا ومشتاها.
قلنا: إن اللسان منبع الخصام بين كثير من الأمم المختلطة العناصر، ومع أن في سويسرا ثلاثة عناصر: وهي الألماني، والفرنساوي، والإيطالي، وأربع لغات: وهي الألمانية، والإفرنسية، والإيطالية، والرومانشية، فإنها أشبه بفسيفساء من الشعوب، تلاقت وامتزجت وتعاشرت، ونشأت من هذه العناصر الممزوجة روح سويسرية؛ أمر غريب لم يعهد له نظير في أمة من الأمم، وأغرب منه أن ثلاثة من فلاحي سويسرا يؤسسون هذه الجمهورية السعيدة منذ عشرة قرون، فتبلغ بالعلم هذه الدرجة من الرقي، وما أظن في الأرض أمة سعدت بحكومتها كالأمة السويسرية، ولا شعبا أكثر لطفا من أهلها وهم في غناهم واقتصادهم يعلمون الأمم الغنية المقتصدة. وكان امتزاج الفكر الجرماني بالفكر اللاتيني من آكد الأسباب في هذا التركيب الغريب، فأخذ السويسري عن الألماني صفات التدين والرزانة والشعور بالتضامن، والنظام والثبات، والرغبة في الماديات والحقائق، واقتبس من العنصر اللاتيني تقاليد البشاشة والأدب، وصحة الحكم، وحسن التقليد والظرف، ولم تصبح سويسرا جمهورية، بل فسيفساء مؤلفة من عدة جمهوريات صغرى، ملونة براقة غريبة في حجمها ونظامها وأفكارها وأخلاقها السياسية.
8
هذا مثال من تشدد الأمم حتى الصغرى منها في عادتها ولسانها، فأحر بالعرب أن يحافظوا على شخصياتهم، وكانوا في القديم أشبه بأمة الرومان يفتحون البلاد ويدخلون إليها من عاداتهم وأخلاقهم ما هو في استطاعتهم، ويأخذون عنها ما ينفعهم وما لا غنى لهم عنه، فأصبحت بلادهم مهد الوطنية السياسية في أيامهم، كما هي الحال اليوم عند الأمم التي عظمت فيها الحكومة، وانحصرت السلطة في رءوسها ، وأعظم مثال لها الأمم الفرنسوية، والألمانية، والروسية، والطليانية، والإسبانية، كما قال ديمولان في كتابه سر تقدم الإنكليز السكسونيين: وكل أمة في القديم والحديث تأخذ من غيرها ما يناسبها، أو تدخله الأحوال في روحها وجسمها على غير شعور منها، فإنا شاهدنا في الأوروبيين مثالا مجسما من هذا المعنى.
قال جول هوري:
9
يمكن إرجاع الأمم الرئيسة في أوروبا إلى ثلاثة عناصر مختلفة: العنصر اللاتيني، والعنصر الجرماني، والعنصر الإسكلافوني. فالعنصر اللاتيني هم الطليان، والفرنسيس، والإسبانيون، والبرتغاليون ، وقد ورثوا من الرومان مدنيتهم ولسانهم، والألمان، والسويسريون، والإنكليز، والسويدان، والدانمركيون، والهولانديون هم من الشعوب التويونية، والروس والبولونيون هم من الشعوب الإسكلافونية. وإن الأمم التي كان تهذيبها العقلي من أصل لاتيني، هي أعرق في المدنية من غيرها، ورثت، إلا قليلا، من ذكاء الرومان ومهارتهم في إدارة أعمال هذا العالم، وقبل أن تتأصل فيهم النصرانية قاموا بإنشاء معاهد اجتماعية بنيت على أساس الوثنية.
ولما جاءت أمم الشمال تفتح بلادهم قبلت هذه الأمم أخلاق البلاد التي افتتحتها، قال: وهذه الملاحظات تختلف، ولا شك باختلاف الأهوية والحكومات والحوادث التاريخية، فقد أثرت سلطة الكنيسة مثلا في إيطاليا آثارا لا تمحى، وكان من نتائج الحروب الطويلة مع العرب أن قويت العادات العسكرية، وفكرة الإقدام على العظائم في الإسبانيين. ويقال بالإجمال: إن هذا الجزء من أوروبا الذي اشتقت ألسنته من اللسان اللاتيني وامتزج منذ الزمن الأطول بسياسة رومية، تقرأ في صفحاته آثار مدنية قديمة كانت فيما مضى وثنية، وإذا كانت الأمم الجرمانية قاومت سلطة الرومان لم تتشبع بالمدنية إلا مؤخرا، دخلتها من طريق انتشار الديانة المسيحية، فلم تلبث في الحال أن انقلبت من نوع من البربرية إلى مجتمع مسيحي. أما مدنية الإسكلافونيين فهي أحدث المدنيات وأسرعها من سائر مدنيات الشعوب؛ ولذلك لا تزال ترى فيها حتى اليوم آثار النقل والاحتذاء، وتفقد فيها صفات الإبداع والاختراع. •••
ولو شئنا أن نعدد الأمثلة من هذا القبيل، لأصاب نفوس الحضور سأم، ولكن اكتفينا بما أوردنا على مسامعكم برهانا على تمازج أجدادنا العرب بأهل الغرب، تمازجا حمد الإخلاف عاقبته، وإن جمودنا عن الأخذ بكل ما في مطاوي مدنيتهم من الأوضاع أمر طبيعي يعد في باب حبنا لوطنيتنا. وإذا كانت أوروبا ظلت تتسكع في دياجي الجهالة قرونا حتى صحت نيتها على اقتباس المدنية القديمة الرومانية واليونانية والعربية، أفلسنا نحن أسرع منها خطى! ولقد رأيتنا في قرن أو بعض قرن اقتبسنا طرفا صالحا لا يستهان به من علوم الغرب وقوانينه في ترتيباته ومصطلحاته. وهاك الآن جملة لإمام العرب في العقل والعلم أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ - رحمه الله - فهي فصل الخطاب في هذا الباب، استمعوا إليها بقلوبكم، فإنها مثال العلم الناضج منذ أحد عشر قرنا، وأنموذج البيان العربي، أذكرها لا على سبيل التفاضل بين الأمم بل للعبرة والحكمة.
قال الجاحظ في رسالته إلى الفتح بن خاقان في مناقب الترك وعامة جند الخلافة: إن كل أمة وقرن، وكل جيل وبني أب وجدتهم قد برعوا في الصناعات، وفضلوا الناس في البيان، أو فاقوهم في الآداب، أو في تأسيس الملك، أو في البصر بالحرب، فإنك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية إلا أن يكون الله تعالى قد سخرهم لذلك المعنى بالأسباب، وقصرهم عليه بالعلل التي تقابل تلك الأمور وتصلح لتلك المعاني؛ لأن من كان متقسم الهوى مشترك الرأي متشعب النفس غير موفر على ذلك الشيء ولا مهيأ له، لم يحذق من تلك الأشياء شيئا بأسره، ولم يبلغ فيه غايته؛ كأهل الصين في الصناعات، واليونانيين في الحكم والآداب، والعرب فيما نحن ذاكروه في موضعه، وآل ساسان في الملك، والأتراك في الحروب. ألا ترى أن اليونانيين الذين نظروا في العلل ثم لم يكونوا تجارا ولا صناعا بأكفهم، ولا أصحاب زرع ولا فلاحة، ولا بناء وغرس، ولا أصحاب جمع ومنع وحرص وكد، وكانت الملوك تفرغهم وتجري عليهم كفايتهم، فنظروا حين نظروا بأنفس مجتمعة وقوى وافرة وأذهان فارغة، حتى استخرجوا الآلات والأدوات والملاهي التي تكون جماما للنفس، وراحة بعد الكد، وسرورا يداوي قرح الهموم؛ فصنعوا بعد المرافق، وصاغوا من المنافع كالقرسطونات والقبانات والإسطرلابات، وآلة الساعات ، وكالكونيا، والكشتوان، والبركار، وكأصناف المزامير، والمعازف، وكالطب، والهندسة، واللحون، وآلات الحرب كالمجانيق، والعرادات، والرتيلات، والدبابات، وآلة النفاط، وغير ذلك مما يطول ذكره، وكانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا فعلة يصورون الآلة ويخرطون الأداة ويصوغون المثال ولا يحسنون العمل به، ويشيرون إليها ولا يمسونها، يرغبون في العلم ويرغبون عن العمل.
فأما سكان الصين فهم أصحاب السبك والصياغة، والإفراغ، والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنحت والتصاوير، والنسج والخط، ورفق الكف في كل شيء يتولونه ويعانونه وإن اختلف جوهره وتباينت صنعته وتفاوت ثمنه، فاليونانيون يعرفون العلل ولا يباشرون العمل، وسكان الصين يباشرون العمل ولا يعرفون العلل؛ لأن أولئك حكماء، وهؤلاء فعلة، وكذلك العرب لم يكونوا تجارا ولا صناعا، ولا أطباء ولا حسابا، ولا أصحاب فلاحة فيكونوا مهنة، ولا أصحاب زرع؛ لخوفهم من صغار الجزية، ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم وطلب ما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين ورءوس المكاييل، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة، ولم يستغنوا الغناء الذي يورث التبليد - ترك الاتجاه لشيء - والثروة التي تحدث الغرة، ولم يتحملوا ذلا قط فيميت قلوبهم أو يصغر عندهم أنفسهم، وكانوا سكان فياف وتربية عراء لا يعرفون الغمق ولا اللثق - أي ركوب الندى الأرض وركود الريح وكثرة الندى - ولا البخار، ولا الغلظ، ولا العفن ولا التخم، أذهان حداد ونفوس مفكرة، فحين حملوا حدهم ووجهوا قواهم إلى قول الشعر وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة، وتصاريف الكلام، وقيافة البشر بعد قيافة الأثر، وحفظ النسب والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار، وتعرف الأنواء والبصر بالخيل والسلاح، وآلة الحرب والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المناقب والمثالب؛ بلغوا في ذلك الغاية وحازوا كل أمنية، وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر وهممهم أرفع، وهم من جميع الأمم أفخر ولأيامهم أذكر.
وكذلك الترك أصحاب عمد وسكان فياف، وأرباب مواش، وهم أعراب العجم كما أن هذيلا أكراد العرب، فحين لم تشغلهم الصناعات، ولا التجارات، ولا الطب، ولا الفلاحة، والهندسة، ولا غرس ولا بنيان، ولا بثق أنهار، ولا جباية غلات، ولم تكن هممهم غير الغزو والغارة والصيد وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال وطلب الغنائم وتدويخ البلدان، وكانت هممهم إلى ذلك مصروفة، وكانت لهذه المعاني والأسباب مسخرة ومقصورة عليها وموصولة بها؛ أحكموا ذلك الأمر بأسره وأتوا على آخره، وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم ولذتهم وفخرهم وحديثهم وسمرهم، فلما كانوا كذلك صاروا في الحرب، كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا وكآل ساسان في الملك والسياسة. قال الجاحظ: وليس في الأرض كل تركي كما وصفنا، كما أنه ليس كل يوناني حكيما، ولا كل صيني في غاية من الحذق، ولا كل أعرابي شاعرا فائقا، ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم، وفيهم أظهر وأكثر. ا.ه.
وقال الجاحظ في فخر السودان على البيضان يميز بين اليهود والصينيين: وأما الهند فوجدناهم يقدمون في النجوم والحساب، ولهم الخط الهندي خاصة، ويقدمون في الطب، ولهم أسرار بالطب وعلاج فاحش الأدواء خاصة، ولهم خرط التماثيل ونحت الصور بالأصباغ تجد من المحاريب وأشباه ذلك، ولهم الشطرنج وهي أشرف لعبة وأكثرها تدبيرا وفطنة، ولهم السيوف القلعية وهم ألعب الناس بها وأحذقهم ضربا بها، ولهم الرقى النافذة في السموم وفي الأوجاع، ولهم غناء معجب، ولهم الكنكلة وهي وتر واحد يمر على قرعة، فيقوم مقام أوتار العود والصنج، ولهم ضروب الرقص والخفة، ولهم الثقافة عند الثقاف خاصة، ولهم معرفة المناصفة، ولهم السحر والتدخين والدمازكية، ولهم خط جامع لحروف اللغات وخطوط أيضا كثيرة، ولهم شعر كثير، وخطب طوال، وطب في الفلسفة والأدب، وعنهم أخذ كتاب كليلة ودمنة، ولهم رأي ونجدة، وليس لأحد من أهل الصين ما لهم، ولهم من الرأي الحسن والأخلاق المحمودة مثل الأخلة والقرن، والسواك، والاحتباء، والفرق والخضاب، وفيهم جمال وملح واعتدال وطيب عرق، وإلى نسائهم تضرب الأمثال، ومن عندهم جاءوا الملوك بالعود الهندي الذي لا يعدله عود، ومن عندهم خرج علم الفكر، وما إذا يكلم به على السم لم يضر، وأصل حساب النجوم من عندهم أخذه الناس خاصة.
هذا أجمل وصف للأمم القديمة في الحضارة، وما امتاز به الأبيض والأصفر والأحمر والأسود، والفروق لا ترتفع من بين الأجيال إلا بالتربية والتهذيب، والعلوم الأدبية الصحيحة، وتبقى كل أمة في العاقبة على ما لا غنية لها عنه، وهو من دواعي أفقها وتاريخها، والرجاء معقود بأن يكون الدور الجديد الذي تدخل فيه العرب اليوم دور التجدد والنشوء الاجتماعي الكبير، فننبذ كل ما لا يمس أصلا من أصولنا القديمة، ونقبل كل جديد فيه النهوض والاعتلاء، وأن يعطينا الغرب القدر الذي أخذه من علم أجدادنا نستعين به على قيام أمرنا، فإن الأيام دول، والدهر بالناس قلب حول، فسبحان من لا يشغله شأن عن شأن وهو القابض الباسط المعز المذل.
ارتقاء العرب وانحطاطهم1
بحثت الأمم المتحضرة منذ الزمن الأطول في الأخلاق، وكان لمؤلفي العرب حظ وافر في هذا الموضوع، شأنهم في أكثر العلوم التي عالجوها ونجحوا في الخوض فيها.
وأكثر العلماء على أن الأخلاق تصلح بالتعليم والتربية، ولا سيما ما كان منها مستفادا بالعادة والتدرب، وليس من الغريزة في شيء، فإن من غلبت عليه السويداء أو الحدة مثلا، لا يطمع في استصلاحه إلا بطول الزمن والتوفر على المعالجة، والمرء ينتقل بالتأديب والمواعظ إما سريعا أو بطيئا، ومن قال: إن الخلق طبيعي لا يخرج الإنسان عن أحكامه، فقد قال على رأي ابن مسكويه بإبطال قوى التمييز والعقل، وبرفض السياسات كلها، وترك الناس همجا مهملين، وبترك الأحداث والصبيان على ما يتفق أن يكونوا عليه بغير سياسة ولا تعليم.
لا جرم أن للإقليم - كالحرارة والبرودة والاعتدال والخصب والقلة - تأثيرا كبيرا في الطباع، وهي من جملة العوامل في ارتفاع الأمم وتدليها، ولكن ما ينقص بتأثير المحيط والبيئة والهواء قد تجبره التربية.
فقد رأينا العرب قاموا من جزيرتهم وهي في غاية الحرارة وكانوا نصف متمدنين، فانثالوا على الشرق والشمال، ففتحوا فارس والشام ومصر وغيرها، ولم يعقهم عائق من إقليمهم وحرارته وأوغلوا عليهم، رأيناهم وقد طهر الإسلام من أخلاقهم، وهذبهم وعلمهم الصبر والمضاء والرفق والتسامح، والترفع عن الدنايا، فنشروا في البلاد المغلوبة في سنين قليلة دينهم ولسانهم على صورة لم يكد يسبق لها مثيل في العالم، ولا نذكر أنه كتب لأمة أن غلبت ونمت بمثل هذه السرعة، فقلبت وجه الأرض وأطاعتها العناصر والأديان المختلفة في آسيا وأفريقيا وأوروبا، فلو كان للحرارة في قيام الأمة أو الفرد كل ما يدعيه بعضهم من التأثيرات، لما أنشأت العرب مدنيتها، ولا ارتفعت في الأرض قرونا كلمتها. قال بنتام صاحب روح الشرائع: الظاهر كل الظهور أن سكان البلاد الحارة أقل قوة ونشاطا من سكان البلاد الباردة، وحاجتهم للعمل أقل لخصب أرضهم، وهم أميل إلى العشق واللذات تبادرهم مظاهرها.
وهذا القول لا يصح على إطلاقه؛ لأن التاريخ قد أتى بأمثلة كثيرة قديما وحديثا على نقض هذا الرأي، فالعرب في القدماء واليابان في المحدثين أكبر دليل على نقض قول بنتام، وإذا كان للهواء بعض التأثير في النشاط، فإن للبرودة تأثيرات أخرى تعوق العقل الإنساني عن كل ما ينتظر منه، وإذا قيل: إن شمالي كل مملكة في أوروبا وأميركا أرقى مدنية من جنوبها في العادة، فلذلك عوامل أخرى تاريخية وسياسية فيما نرى، وإذا كان شمال فرنسا يتقدم جنوبهما من حيث الارتقاء وشمال ألمانيا وشمال إيطاليا، أرسخ في المدنية من جنوبها، وأميركا الشمالية أعلى كعبا في هذا المعنى من أميركا الجنوبية، فقد رأينا جنوب أوروبا على عهد الرومان والعرب يتقدم شمالها، بل رأينا جنوب بلاد العرب أرقى من شمالها على عهد عز الأمة العربية، وهذا يرجع إلى الحكومة في أغلب الحالات، واتخاذ البلد الفلاني مركزا لتتوفر العناية به وبأهله، فتتناول المدنية الأقرب فالأقرب من نقطة دائرتها.
فالقول بأن شعوب البلاد الحارة يحكم عليها إقليمها، فلا تفوز بكبير أمر في المجتمع الإنساني قول فيه نظر؛ لأن العقل والتهذيب اللذين بهما حياة الممالك وسقوطها ينشآن من البلاد الحارة كما ينشآن من البلاد الباردة.
ولو اقتضى أن يكون سكان كل بلاد باردة راقين في مناحيهم وحضارتهم، لاستلزم أن يكون سكان سيبيريا أرقى من سكان إنكلترا، ولو كان أهل كل بلاد حارة منحطين لما شاهدنا المصريين اليوم أصبحوا بالتربية في أربعين سنة يشبهون الراقين من أهل أوروبا وأميركا، بل ولترتب على ذلك أن يكون سكان جنوبي أفريقيا، وأكثرهم من جالية هولاندة منحطين مثل جيرانهم السودان؛ لغلبة الإقليم على طباعهم بعد بطون وأجيال.
قال فوليه الفيلسوف الفرنساوي: لقد خرج كثير من الشعوب الفاتحة من البلاد الحارة مثل العرب على عهد عمر وعثمان، وكذلك الموحدون والمرابطون، أما القول بأن البلاد الحارة تولد القسوة على رأي مونتسكيو، فقد شوهدت القسوة ماثلة للعيان في تاريخ عامة بني الإنسان، رأيناها متجلية في اليونان، ورومية، وإيطاليا، وإسبانيا، وإنكلترا، وروسيا كما ظهرت في مصر وآشور وفارس. ولقد سكن الإسكيمو في بلاد باردة، فكانوا أكثر توحشا من الذئاب والدببة التي ملأت صحاريهم. ا.ه.
بغداد من البلاد الحارة نشأت فيها مدنية عربية مدهشة، ولما انتظمت حكومتها وحسنت تربية سكانها، أفاضت النور على الأرض كلها، فعد عصر المأمون فيها من العصور الزاهرة بكل العلوم والصناعات، كما عد عصر بركليسي في أتينة، وعصر أغسطس في رومية. وتعد القسطنطينية من الأقاليم الباردة المعتدلة، حاول محمد الفاتح أن ينشئ لها مدنية مع ما كان فيها من أثر لا يستهان به من بقايا عز قديم، فلم يوفق إلى ذلك، فغلبت طباع الترك طباع الإقليم. والترك أمة صربية لم تعهد للترقي الحقيقي عصرا، وكانت قرائح أبنائها محصورة على الدوام في الحرب فقط، فلما كانت الغلبة لهم والفتوح مواتية والعيش رخاء، لم يتأدبوا بأدب النفس، ولم يدخلوا في التربية الصحيحة من أبوابها؛ فلذلك لم تستقم لهم حضارة ثابتة، وقضى الترك على آخر آثار مدنية البيزنطيين يوم حلوا محلهم، واستولوا على تراثهم، كما قضوا على البقية الباقية من مدنية العرب، وغيرهم من الأمم ذات المجد المعتبر، ولم يتيسر لهم ويا للأسف إقامة شيء جديد، وليس الذنب في ذلك كله على طباع رسخت فيهم، بل العيب كل العيب على نظام حكومتهم، وغلوهم في تكبير رقعة مملكتهم مع سوء إدارتهم، فقد رأينا شعوبا أحط منهم جنسا أنشئوا لهم مدنية، وأحسنوا لمن انضووا تحت رايتهم على الأغلب، أما الترك فكان رائدهم في فتوحاتهم الغزو واستجلاب الغنائم، ففتحوا بلادا يستحيل عليهم أن يخضعوها لسلطانهم أبد الدهر؛ لأن أهلها أرقى منهم مدنية وعنصرا، ولا يرجى أن يكونوا منحطين عنهم أبدا، وفي تاريخ استيلاء الترك على المجريين، واليونانيين، والرومانيين، والصربيين، والبلغاريين، وفي حالة هذه الأمم على عهد الترك وحالتها بعدهم، أكبر دليل على أن العبرة في الفتوح بالأخلاق الفاضلة، والطباع اللينة، واقتباس النافع من أسباب النشوء والارتقاء بالقوس والنشاب والمدافع والحراب.
حكى لي أحد قناصل فرنسا على عهد العثمانيين في هذه الحاضرة أنه كان قنصلا في طرابلس الغرب، وكان صديقا لأحد كبار عمال الأتراك هناك، وكان هذا لا يفتأ يطعن في العرب، ويبدي الاشمئزاز من حالهم، فلما عيل صبر القنصل الفرنساوي، وكان محبا للعرب يعرف لسانهم وتاريخهم ومدنيتهم فاتح صاحبه ذات يوم بالأمر، وسأله عن سر كراهيته للعرب، فأجابه العامل التركي: إني لا أعرف لذلك سببا إلا ما أراه من انحطاطهم، فقال له: سامحك الله إن العرب استولوا قرونا على كثير من البلاد التي استوليتم أنتم معاشر الترك عليها، كما استولوا على غيرها، وها هي آثار مدنيتهم ظاهرة إلى اليوم من بلاد إسبانيا إلى بلاد الصين، وأنتم قد حكمتم قرونا أيضا، فأين مدنيتكم إن لم تكونوا قضيتم على حضارة من سبقوكم وخربتم العامر منها؟! فإذا انحط العرب فبسياستكم أنفسكم، فدهش العامل التركي ولم ينبس ببنت شفة، ورجع عن النيل من العرب.
وعندي أن ذاك العامل لو درس ولو قليلا لغة العرب وتاريخهم، لما بدا منه هذا السخف في إسقاط أمة عظيمة جديرة بالتجلة، وهيهات أن يلبسها غير صورتها الحقيقية بمجرد ثرثرات يلوكها وترهات يدلي بها.
ومثل هذا العامل إذا تولى ولاية وكان ذا إرادة قوية يؤخر من تحت يده، ولا سيما إذا كانوا عربا عقودا من السنين إلى الوراء، وبهذه المناسبة أذكر لكم قصة وقعت لي بالذات مع وال من ولاة دمشق على عهد العثمانيين، وكان ثرثارا مثل أكثر عمالهم تظنه لأول وهلة على شيء من العلم والفهم، حتى إذا ما درست أخلاقه وجدته قاسيا جاهلا ليس عنده شفقة، ولم تتشبع روحه بالتربية الفاضلة وعلمه طلاء، كالقصب الذي يعلقه على صدره؛ ليتراءى لك لأول أمره ذهبا إبريزا، كتب إلي قائم مقام عجلون مرة يقول لي: إن أهل قضائه عزموا على أن ينشئوا ستين مكتبا أهليا لتعليم أحداثهم، وأنهم جمعوا لذلك المال فهو يرجو أن أنتخب له ستين معلما، فشرعت أبحث مدة ثلاثة أشهر عن كفاة يليقون للتعليم، فلم أجد سوى ثلاثة عشر، ولما عزمت على تسفيرهم من الغد أخذتهم إلى الوالي، وذكرت له قضيتهم؛ ليطلع على الأمر قبل أن يطلعه عليه جواسيسه، فكان أول سؤال سألهم إياه هل تعرفون التركية، فلما أجابوا بغير الإيجاب امتقع لونه، والتفت إلي قائلا: وكيف ذلك فقلت له: أرجو أن يتعلموا، ومهمتهم الآن تعليم أبناء الفلاحين مبادئ القراءة والكتابة والحساب، والأمور الدينية فقط فسكت وانصرفنا، وبعد ساعتين أتتني برقية من قائم مقام عجلون يتوسل إلي ألا أرسل المعلمين بعد أن كان يلح في إرسالهم، فعلمت عقيب ذلك أن الوالي أبرق لعامله في جبل عجلون بعد خروجي من عنده، يلومه على اعتماده علي في انتقاء معلمين لمدارس أهلية، ولما عاتبت الوالي في إحدى العشايا قال لي: وهل أنت كنت تظن أن الدولة تعطيكم سلاحا تقاتلونها به، إن من سياستنا ألا تتعلموا، فتألمت نفسي وأقسمت في سري أن هذه الدولة لا تدوم، وكل دولة تعد جهل الأمة سلاحها في التحكم برقاب من تحكمه تهلك وإياهم، والعدو العاقل خير من الصديق الجاهل.
رجع إلى العرب ومدنيتهم، وأن أخلاقهم كانت سببا في علوهم، فلما فسدت فسدوا وتراجع سلطانهم، فقد ذكر المؤرخون أن العرب أسسوا أيام جاهليتهم ممالك صغرى في العراق والشام، وانتشروا خلف شبه جزيرتهم، ومنهم من سكن بوادي مصر، وملكوا بالإرث جميع صحارى أفريقيا، منفصلين من أعلى شمال آسيا برمال كالبحار أمنوا بها هجمات الفاتحين، وانفردوا بحريتهم وعظمتهم؛ لجلالة أصولهم وشهامتهم، وفصاحة لغتهم الباقية على نقائها، واتجروا مع من يأتي إلى مراكزهم من تجار الجنوب والمشرق، واكتسوا معارف من جاورهم من الأمم، فكانت الأمة العربية متغلبة على من جاورها مدة أربعة آلاف سنة.
قال سيد يلبسو صاحب تاريخ العرب: وبما انفردت به الأمة العربية من جميل الأخلاق والعادات، كانت منذ نشأة أقدم الدول مدبرة لأمورها، متأهبة للإغارة على مجاوريها، فقد استولت على مملكتي مصر وبابل قبل الميلاد بتسعة عشر قرنا، ثم أخذ منها ما ملكته من البلاد الأجنبية، وانحصرت سلطاتها في مملكتها الأصلية، فأخذت تحارب الفراعنة وملوك العراق، ونجت من تسلط قورش ملك الفرس والإسكندر المقدوني، وبقيت على استقلالها زمن أخذ الرومان العالم القديم، ثم جاء النبي - عليه الصلاة والسلام - فربط علائق المودة بين قبائل جزيرة العرب، ووجه أفكارهم إلى مقصد واحد، فعلا شأنهم حتى امتدت سلطنتهم من نهر التاج - المار بإسبانيا والبرتغال - إلى نهر الكنج - أعظم أنهار الهند - وانتشر نور المعارف والتمدن في المشرق والمغرب، وأهل أوروبا إذ ذاك في جهل القرون الوسطى، وكأنهم نسوا ما وصل إليهم من أحاديث اليونان والرومان.
وقد عني العباسيون ببغداد، والأمويون بقرطبة، والفاطميون في القاهرة بنشر العلوم والفنون، ثم تمزقت ممالكهم وفقدوا شوكتهم السياسية، ولم تبق لهم إلا السلطة الدينية التي استمرت لهم في سائر أرجاء ممالكهم، وكان لهم من العلوم والصناعات والاكتشافات ما استفاده منهم نصارى إسبانيا حين طردوهم منها، فقد العرب في أواخر القرن الثامن بعد الميلاد حماستهم الحربية، وشغفوا بالمعارف، فما لبثت قرطبة، وطليطلة، والقاهرة، وفاس، ومراكش، والرقة، وأصفهان، وسمرقند تناظر بغداد في الأخذ بأسباب العلوم والمعارف، وقرئ ما ترجم إلى العربية من كتب اليونان في المدارس الإسلامية، وبذل العرب همتهم في الاشتغال بجمع ما ابتكرته العقول البشرية من العلوم والفنون، وأعرفوا في معظم البلاد خصوصا في الأصقاع المسيحية من أوروبا بابتكارات تدل على أنهم أئمة المعارف، وقد مارسوا العلوم الصحيحة على غاية النشاط من القرن التاسع إلى القرن الخامس عشر (من سنة 288-907ه).
وقال جيون في كلامه على حماية المسلمين للعالم في الشرق وفي الغرب: إن ولاة الأقاليم والوزراء كانوا ينافسون الخلفاء في إعلاء مقام العلم والعلماء، وبسط اليد في الإنفاق على إقامة بيوت العلم، ومساعدة الفقراء على طلبه، وكان من ذلك أن ذوق العلم ووجدان اللذة في تحصيله قد انتشرا في نفوس الناس من سمرقند وبخارى إلى فاس وقرطبة، وقد أنفق وزير واحد لأحد السلاطين - هو نظام الملك - مائتي ألف دينار على بناء مدرسة في بغداد - المدرسة النظامية - وجعل لها من الريع ليصرف في شئونها خمسة عشر ألف دينار في السنة، وكان الذين يغذون بالمعارف فيها ستة آلاف تلميذ، فيهم ابن أعظم العظماء في المملكة، وابن أفقر الصناع فيها، غير أن الفقير ينفق عليه من الريع المخصص للمدرسة، وابن الغني يكتفي بمال أبيه، وكان المعلمون ينقدون رواتب وافرة.
ذاك رأي سيديليو في العرب وأخلاقهم وما نشأ عنها، وهذا رأي جيون وإعجابه بمدنيتهم، فماذا وقع لتلك النفوس الأبية وذاك العمران المستمر؟ لا جرم أن لانحطاط الشعوب عوامل كثيرة طبيعية وأخلاقية، وبهذه العوامل أصيبت الأمة العربية كما أصيبت الأمة الإسبانية، فالعرب والإسبان يتشابهون من وجوه كثيرة، نشأ العرب كالإسبان من شبه جزيرتهم في الجنوب الغربي من أوروبا، وأولئك نشئوا من شبه جزيرتهم في الجنوب الغربي من آسيا، العرب فتحوا بلادا كثيرة، ومنها البعيد الذي وزعوا قواهم في استصفائه وإدارته، وكان يفصلهم عنها البحر، ففتحوا الأندلس وصقلية، بل وجميع الجزر الكبرى في جنوبي أوروبا، كما توسع الإسبان في فتوحهم على عهد شارلكان، فحكموا جزءا مهما من أوروبا، ثم ركبوا البحر، فاستعمروا معظم بلاد أميركا الجنوبية، ولو تأملنا عوامل الانحطاط التي فعلت في الإسبان لأثبتنا لها مثالا في مجتمعنا، فقد ذكر نوليه أن العنصر الإسباني أصيب بما استنزف دمه، وصرف من قواه كل طاهر وحي، وكثيرا ما أتت عليه أدوار هلكت في خلالها عناصره الحية وطبقاته العالية، فإن ديوان التفتيش الديني قضى على كل ما كان من إيمان، ومعتقد خاص، وفكر مستقل، وإرادة لا تقف أمام ما فيه المصلحة، ووجدان لا يلتوي ولا يتحول، وعلى ذلك العهد وبسوء هذه السياسة تداعت كثير من البيوت والأسر، ومنها ما كان بنوه من أهل الطبقة الممتازة بقرائحها وعقولها، فدعا فقدها إلى انقراض الصناعة والعلوم والآداب.
ولقد استعملت إسبانيا أقصى الشدة في قصاص من خالف دينها الذي تعتقد به، ثم أخذت تختار ممن تعدهم مؤمنين أناسا هم من أذكيائها، وتقضي عليهم بالتبتل والترهب، فلم يولد لهم، واندثرت أنسالهم وذراريهم، وما من زمن جاء على إسبانيا كان فيه السعد والرغد، والحياة والنماء على حصة موفورة أكثر من أيام الرومان ومن غيرها على عهد الحضارة العربية في القرون الوسطى، فكان إذ ذاك في إسبانيا أربعون مليونا من النفوس أرباب صنائع وأهل عمل، وفي تلك الأيام قامت فيها المدن الكبرى الجميلة التي لم نبرح نعجب بحسن هندستها وندهش بخرائبها، وعلى ذاك العهد كانت زراعتها ناجحة، وبفضل هندسة العرب كان الماء يجري إلى كل مكان في فلوات إسبانيا وقفارها.
ثم نشبت حروب شارلكان التي جن بها، وأهلك من الإسبانيين كل قوى الشكيمة في سبيلها، وكذلك ما تذرعت به إسبانيا من فتوحاتها في أميركا، وهي فتوحات فقد منها المحاربون الأشداء أصحاب العزائم والإرادات القوية، ثم أن طرد اليهود من إسبانيا (سنة 1492) وطرد العرب أجمع (سنة 1609-1610) قد حرم إسبانيا من شعب عامل نشيط، وفي أساطير الشعب الإسباني أن إسبانيا طلبت إلى الخالق منذ البدء سماء جميلة فنالتها، وطلبت بحرا جميلا فرزقته، وأنمارا طيبة ونساء حسانا ففازت بهما، ولما طلبت حكومة صالحة رد قولها؛ لأنها إذا تم لها ما تريد تصبح جنة أرضية لا محالة. قلنا: وهكذا كان شأن الشعب العربي، تفرق في جنوبي أوروبا وشمالي أفريقيا وغيرها، وجاءت عليه سبعة قرون، وهو السائد في العالم بسياسته وعلمه وصناعاته وآثاره، فكان قوله الفصل، وسياسته هي الرشيدة، فلما أخذ بعض ملوكه يحاربون العقل ويعادون الفلسفة، بل يقتلون أهلها، وجمدوا بأن أوصدوا باب الاجتهاد في كل شيء، وزهدوا في الصنائع النفيسة مدعين أنها مما يحظره الشرع، مع أن الشرع مرن يليق لكل عصر ومصر، تسربت إليهم الخرافات فأنشئوا يعتقدون بالقضاء والقدر على خلاف ما كان يعتقده أهل الصدر الأول، فقل فيهم أرباب البصيرة وضعفت فيهم الأسر الزكية، ثم إن الحروب والفتن الأهلية والخارجية تنازعتهم قرونا قد هلك فيها أناس من أهل الطبقة النبيلة فيهم، ومنهم من لم يعقب، والغني الذي خلف أولادا فطروا على الترف والرفاهية، فأسرفوا في أموالهم وقواهم في الموبقات، فدثروا ودثرت أنسالهم. ومما عاق مجتمعنا في ميدان الترقي تسلط رجال الدين على جمهور الشعب، وعلى أكثر الحكومات زمنا طويلا، فساقوها إلى دركات التأخر بحسب أهوائهم، وضعف مداركهم، وعلمهم الناقص ، ومن رجال الدين والقضاء من ليس لهم من العلم إلا العمائم، ومن الأخلاق إلا اختراع الطرف السافلة؛ لأخذ الأموال بالباطل، وما برحت الحكومات التي تسلطت على العرب تقرب عن قصد الجاهل من أهل تلك الطبقة على العالم، فيعبث الجاهل بالمقدسات، ويستحل المحرمات عن علم وعن غير علم، حتى جاء زمن على الأمة كانت فيه جاهلة متعصبة، فقيرة ذليلة، متسفلة في أخلاقها وعاداتها.
ومن عيوب الحكومات التي استولت علينا وكان أثرها ظاهرا في الأخلاق، اعتماد الناس على الشفاعات والمصانعات والرشوات، حتى كان الملك نفسه إذا لم يهد إليه عامله هدية يريدها يعزله أو يقتله، فكانت الأمة من أرقى رجل يحكم في أرواحها إلى أدنى الطبقات فيها بين راش ومرتش، وسارق ومسروق؛ فضعفت ملكة الشمم، وعزة النفس، والمفاداة والأمل، وحل مكانها الذل والكسل واليأس، ثم إن تلك الحكومات المشئومة لم تنظم شئونها، ولم يكن لها تسلسل في أفكارها، فما كانت تقرره وتعتمد عليه من القوانين زمن الحاكم الفلاني، يأتي خلفه فينقضه من أساسه ويبتدع غيره؛ ولذلك لم يقم لها عمل يذكر من أعمال العمران؛ لأن حكامها يحكمون بأذواقهم، فهم أبدا ما بين مبرم وناقض يعبث الخلف بما تعب فيه السلف.
ومن جملة الأمور التي عمت بها البلوى فساد نظام البيوت بتعدد الزوجات، والإكثار من التسري على غير داع، ففسد كثير من الأسر، ونغلت نيات الأولاد، وقل تبادل الحب بين أبناء الأب الواحد، وانحطت التربية، ولم تنتقل ثروة قرونا من الأجداد إلى الأحفاد، حتى ولو وقفها صاحبها الأول إذ يجيء أناس من بعده يستحلون أكلها وتغيير شرطها، ثم إن التربية الاتكالية تأصلت في الأمة حتى لا ترى فيها على الأكثر إلا رجلا يفكر في الطرق القريبة للإثراء والراحة، فإن كان ابن ذي نعمة ينتظر منذ وعيه على نفسه أباه أو أمه أو مورثه حتى يموت، فيستمتع على هواه بالمال من دون تعب، ويطلق لشهواته العنان، والغالب أن ابن الموسر لا يعمل، ولذلك قلما دامت ثروة هنا ثلاثة بطون، وقلما رأينا شبانا يعتمدون على أنفسهم في تحصيل الثروة ويعدون الماهر، فيهم من يساعده التوفيق فيتزوج من فتاة عندها مال، غير ناظرين إلى شروط الزواج بين المتزوجين. ولحفظ الثروة رأت بعض الأسر أن تتساهل في تزويج الأقارب، فتزوج شبانها من بناتها حتى ضعف النسل، وكثر البله والزمنى والمرضى فيهم، وربما عضل كثير من الناس بناتهم ومنعهن عن الزواج؛ استبقاء للإرث في الذكور دون الإناث، وكثير من الأسر تحرم الإناث إرثهن، وتعاملهن معاملة البهائم، ولذلك تعطل جانب عظيم من الأمة وهم النساء، وظلمهن الرجال أي ظلم، فلم يفكروا في تعليمهن حق التفكير، ولا في سعادتهم الحقيقية، كأن المرأة خلقت بلا نفس كما كانوا يعتقدون في القديم في بعض بلاد الإفرنج.
ومن دواعي الانحطاط أن الهمة في الفرد عندنا لا تنبعث إلى أقصى حدودها، فإذا تذوق المتعلم لماظة من العلم يظن من نفسه الغناء في كل علم، ويكتفي بما لقنه في صغره فلا يعمد إلى البحث والنظر، وتنمية معلوماته، وإيجاد الجديد واختراع المفيد، بل يعتقد أن العمل كله في المدرسة، فإذا انتهت أيامها فليس له إلا الراحة واستثمار ما تعلم، فجاء متعلمونا وسطا في كل شيء، والوسط لا يعمل عملا في هذا المجتمع البشري، وكذلك الحال في الصانع والماهن والزارع، فأصبحنا أمة لا ترى فينا ماليا متفننا، ولا زارعا من النمط الأول، ولا رساما نابغة، ولا نقاشا، ولا كيماويا، ولا ميكانيكيا، ولا غير ذلك ممن تشتد حاجة العمران إلى تكثير سواد العاملين فيه؛ ولذلك ندر فينا النوابغ، وانقطع سند هذه العلوم من الأمة، فجاءت عليها قرون وهي تحسب أن العلم كله محصور في بعض العلوم الدينية واللسانية، وعندهم أن من روى حديثا نبويا، أو شارك في مسألة من فروع الفقه، أو قرض بيتين من الشعر عد محدثا أو فقيها أو أديبا.
ومن بواعث تدلينا في سلم الاجتماع أننا لا نحسن العشرة، ولا نحسن الاجتماع؛ وذلك لاختلافنا في طرق التربية؛ لأن أبناء الوطن الواحد لا يرمون في تعاليمهم إلى مقصد معين، فإذا حللنا تحليلا كيماويا دقيقا نجد الأمراء المتعلمين منا لا بأس بهم بالنسبة للمجموع هنا، بل بالنسبة للمتعلمين من الغربيين، ولكن إذا جئت تنظر فينا مجتمعين تكبر علينا أربع تكبيرات؛ ولذلك جاء كل عمل يقدم بعناية الجماعة عندنا منحطا أكثر من عمل الفرد على خلاف سنة الأمم، من أجل هذا لم تنشأ لنا حتى اليوم جمعيات، ولا مجامع، ولا مجالس، ولا شركات تجمع من القليل كثيرا، وتضم متفرق القوى، ومشتت القرائح والأفكار، فتحيي المعالم، وتفيد البلاد في اقتصادياتها ومعنوياتها، هذا القول في الرجال فما الحال بربات الحجال اللاتي ضاهين في الغرب الرجل في علمه وعمله إلا قليلا، وانحططن عندنا أي انحطاط بعد أن كان منهن عندنا المفسرة، والمحدثة، والراوية، والشاعرة، والأديبة، والطبيبة، والواعظة، والخطيبة المؤثرة.
قال صاحب روح الشرائع: إذا أردت أن تعرف ملكات أمة من الأمم مادية كانت أو أدبية، فارجع إلى إدارة التربية فيها، وتوزيع الخدم، ونشر المكافأة وتوقيع العقوبات تعلم ما تريد. وقال: انظر إلى بلد كثرت فيها المظالم، وامتد بقاؤها، وارتفعت ثقة المالك فيما ملكت يمينها، ترى الزارع تسقط همته وتنحل قوته، وإن استمر على الزراعة فلكيلا لا يموت جوعا، كأنما يطلب من الكسل مسليا على آلامه ومصائبه، وكذلك تسقط الصناعة؛ لسقوط الأمل في النجاح، وينبت الشوك في أجود الأراضي.
وقال فوليه: لنشوء الشعوب على ما أبانه الدروينيون طريقان: الجماعة والانتخاب الطبيعي، فالشعب في الحالة الأولى خاضع لتأثيرات متشابهة من المحيط والإقليم، وفي الحالة الثانية يعيش فيه بعض أفراد فقط، يكون نظامهم الخاص عونا لهم على التمثل والاحتذاء ، فيعيشون ويتركون لهم أنسالا، وهكذا يتحول المجتمع باطراح بعض الأسرات وبعض العناصر الخاصة، ويعمل الانتخاب الطبيعي على كل سرعة أكثر من المحيط والإقليم، ولكن يهلك في سبيله كثير من الخلق، فلا يتوهم متوهم أن شعبا ينتقل بمجموعه من الشباب إلى سن الرشد ثم إلى الشيخوخة، بل إن الشعب يرتقي بواسطة الانتخاب الطبيعي وتحكيم الصفات التي تحمي الأفراد، ومتى ظهر الهرم والسقوط تصبح أحسن مقوماته، وقد داهمتها عناصر أصغر منها ونزلت منازلها.
قال: وعوامل الانتخاب الطبيعي التي تجري بين الشعوب المختلفة هي الحرب والاستعمار، ونمو السكان، والمنافسة في التفوق الاقتصادي والسياسي والعلمي.
أما عوامل الانتخاب الطبيعي التي تفعل في نفس الأمة فهي الحرب والخدمة العسكرية، وتنقل الأفراد في ربوع الوطن الواحد، ونحو سكان المدن وعقوبة المجرمين ومعاونة الفقراء، والمحاويج وتشريد المسيئين للدين أو لغيره واضطهادهم، وانتشار الشفاعات السياسية، كأن لا يحمي صاحب الشأن غير جماعته وجملة حاشيته، والنفور السياسي والفردية والشرائع والعادات والأفكار الاجتماعية والدينية بشأن الزواج، واجتماع الجنسيين الذكر والأنثى وإرادة النهوض، هذه أهم العوامل التي تنمي أمة أو تقرضها، وتحسن سيرها أو تسيئه.
وبعد، فإن الناظر في ماضي الأمة العربية وحاضرها يدهش للفروق الكثيرة المحسوسة، وعندما يشاهد جراثيم النهضة وعوامل الحياة تنشر وتدب في جسمها اليوم، يعتقد بأن الحاضر سيكون على مثال الغابر أو أجمل منه، وعلى طريق نافع، والأمل معقود في هذا الشأن على المعلم والمعلمة، فقد قيل: لولا المربى ما عرفت ربي.
لا جرم أن الغيور على قوم يفادي بكل نفيس؛ ليحمل إليهم الخير، والكامل من سعى إلى تكميل غيره وإن كان ناقصا، والجاهل في ذمة العالم له عليه حق التعليم والاشتراك في النعمة.
أنتم أطباء أرواح، والأرواح تفضل الأشباح، فهل عهد طبيب لا يعالج حتى عدوه بما يصلحه وينفعه في صحته دع صديقه وأخاه وابنه وابنته، بأيديكم إصلاح هذه النفوس الضعيفة المنحطة في معارفها وتربيتها وترقية مستوى البيوت، وثقوا أن فتى واحدا وفتاة واحدة إذا تعلم وتهذب يدخل على أسرة كبيرة النظام، وفي الجملة يلقنها الشعور بالحاجة إلى التعلم؛ أي إنه يسوق آله إلى أول مراتب الكمال، وكل هذا العمل الجليل هو عمل المعلم والمعلمة لا محالة.
وربما كان واجب المعلمة في هذا الشأن أعظم من واجب المعلم؛ لأن مجموع النساء عندنا في الغاية من الانحطاط، ولا عبرة بالقليلات المتعلمات منهن وأكثر ما تعلمن، حتى الآن القشور، ولم ينفذن فيه إلى اللباب على ما يجب، وأي وطني لا يبكي لجهل المرأة المسلمة علة العلل في انحطاط المجتمع الإسلامي، ومن منا ينكر تأثير المرأة في كل نهضة، وهذه المرأة المصرية والمرأة التركية قد أتتا في الحوادث الأخيرة ما دل على أن القوم في القاهرة والآستانة أخذوا بحظ وافر من العناية بالمرأة، وما أحرانا في الشام أن نحتذي مثالهم، وهذا قريب الحصول إذا قام المعلم والمعلمة بواجبهما حق القيام والسلام.
أعداء الإصلاح
الطرق شتى وطرق الحق مفردة
والسالكون طريق الحق أفراد
لا يعرفون ولا تدرى مقاصدهم
فهم على مهل يمشون قصاد
والناس في غفلة عما يراد بهم
فجلهم عن سبيل الحق رقاد
ما خلا عصر من عصور الإسلام من أعداء لكل جديد، ومن جامدين ينكرون كل ما لا يألفون؛ فقد لقي المعتزلة والفلاسفة والمتكلمون والنظار من أعداء العقل كل شدة في القرون الراقية، وكان عقل الملوك هو الذي يحول على الأغلب بين الجامدين، وبين ما يشتهون من الاعتداء على القائمين بتأييد سنن العقل، والناصرين بأقوالهم وأفعالهم مذاهب السنة والنقل. ومن نظر نظرة مجردة عن الغرض في سيرة المناهضين للمصلحين على اختلاف الأعصار، يجدهم جروا على غير ما يعتقدون وطلبوا بمقاومة المصلحين إرضاء العامة ونيل الحظوة لديهم، واستتباع الجاهلين من الملوك والسلاطين، وقليل جدا من كان الإخلاص رائدهم في أعمالهم ومآتيهم.
يقاوم في العادة الخامل النابه لتكون له مكانة كمكانته، ويتحامل الجاهل على العالم؛ ليعرف بين قومه بأنه قسيمه في صناعته، ومثيله في فضيلته، ويطعن الجامد الممخرق على من يحب أن يعبد الله بعقل، ويبحث في عالم الكون والفساد بروية؛ ليتظاهر بأنه بعيد الغور شديد الغيرة، وما أقواله إلا رياء، وما أفعاله إلا وساوس وأهواء.
لقي المصلحون من الأهاويل في الأمة العربية أكثر مما لقيه أمثالهم في الأمم الأخرى فيما نحسب، وخصوصا بعد القرن السابع، وقد توزعت بلاد الإسلام ملوك الطوائف، وكان أكثرهم على جانب من الجهل والغباوة، لا يهمهم إلا رضاء المشعبذين بالدين؛ ليحولوا العامة إليهم فيقوى بهم ضعفهم، ويستعينوا بهم على تكبير رقعة ممالكهم، وبسط ظل سلطانهم على النفوس، فيستمتعوا بشهواتهم وبذخهم ورفاهيتهم.
عجبت لمبتاع الضلالة بالهدى
ومن يشتري دنياه بالدين أعجب
وأعجب من هذين من باع دينه
بدنيا سواه فهو من ذين أعجب
ساعد على الانتقام من العالمين العاملين أناس من أرباب المذاهب سرت أحكامهم بقوة أربابها، فكان الحكم يجري على المبتدعة وأرباب الأهواء بزعمهم بموجب قوانين لهم سنوها، ومنها المذهب المالكي الذي كان بحكم قاضيه يقتل أكبر عالم في الأمة - والقتل يعد من التعزير في مذهب مالك - خالف المألوف من العادات التي اعتقدتها من أصل الدين، وعد الخروج عنها كفرا وإلحادا، وما أسهلهما وأسهل صدور الحكم بهما من أعداء الإصلاح المماحكين.
سالت الدماء كالأودية في بغداد؛ للفتن بين الحنابلة والشافعية مرات، وسالت دماء كثير من الخاصة في كل قرن، وعذبوا وأوذوا بواسطة أرباب المظاهر من المتنطعين، ممن شق عليهم أن يروا كلمة الإصلاح الديني والدنيوي تفعل في الأرواح فعلها المطلوب، فحدثتهم أنفسهم أن يتساوى المفكرون وغيرهم في نظر العامة إن لم يتمكنوا من إسقاطهم؛ ليخلو لهم الجو، ويقتصر في تقبيل الأيدي، وطلب الدعوات والتماس البركات عليهم دون سائر المنتسبين للعلم والشريعة.
ومن غريب أسرار الله في خلقه أن جميع من قاوموا المخلصين من المصلحين دثروا ودثرت أسماؤهم، وظلت أسماء من عادوهم وآذوهم تشهد بالجهل المركب على أعداء العقل السليم والتعاليم الصحيحة.
أين أعداء الغزالي والسهروردي والآمدي وابن جرير وابن تيمية وابن رشد؟ ذهبوا كلهم كأمس الدابر، وبقيت الأمة تردد على وجه الدهر أسماء هؤلاء المصلحين العالمين، وتتناقل ما خطته أناملهم من سطور الإصلاح:
فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض .
لا يذكر التاريخ اليوم إلا أفرادا ممن ناوءوا رجال العقل الرجيح، والنقل الصحيح؛ اشتهروا لاحتكاكهم بالحكام، وموهوا على العامة بحسن حالهم؛ لمظهر دنيوي أرادوه وحطام من الدنيا تطالت نفوسهم لأن يقتنوه؛ كأن يكون أحدهم قاضيا يخاف أن يشركه ذاك العالم المستنير في قضائه، أو شيخ عامة حدثته نفسه بالاستئثار بهذا المظهر الذي يعتقده جماع فضائل الدنيا والآخرة.
أمثال هؤلاء الممخرقين المنافقين، بدلوا المعالم والتعاليم؛ مرضاة لأرباب الرئاسات والزعامات، وسجلوا على أنفسهم العار للبت فيما لم ينزل به سلطان، وجازوا حد الشرع وهم يتظاهرون بأنهم المؤتمنون عليه، ومنهم ومن أعمالهم يشكو ويئن، كما تشكو المدنية والإنسانية:
وهل أفسد الدين إلا الملو
ك وأحبار سوء ورهبانها
إن من يتظاهرون بالدين وباطنهم منه بريء أضر على الدين ممن يعقونه، ومن يدعو في الغالب إلى الإصلاح ويتخذ التقية أمام العامة درعه، يكون أقرب إلى الانحلال والضلال منه إلى من لا يطنطنون بأنهم دعاة الدين والقائمون عليه، وعنهم يؤخذ وبهديهم يهتدى. وشر الناس من يسرون غير ما يظهرون، ويتلونون باللون الذي يرون أنه أوفق لهم؛ لجر مغنم وإحراز مظهر.
إن هؤلاء العامة ممن يتطالون إلى مقامات العلماء، هم أفسد من العامة؛ لأن شيطانهم يتكلم، وشيطان هؤلاء أخرس لا يبدي ولا يعيد. هم سوس الفساد في كيان هذا المجتمع، يدعون معرفة كل شيء وهم لم يتقنوا شيئا إلا ما سولته لهم أنفسهم، وحدثتهم به شياطينهم. شعارهم التدليس والتظاهر بالغيرة على المحارم، ولو بحثت عن أعمالهم لرأيتهم أول المجترئين على انتهاك حرمات الأديان والشرائع وهم يقدسونها بلسانهم، والعابثين بحدودها وهم يدعون الناس إلى الوقوف عند مراسيمها، والسعاية بالمصلحين ليفتوا في أعضادهم، ويفسدوا عليهم أمرهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره أبالسة التدجيل والتضليل من علماء السوء.
لو كان أعداء المصلحين على شيء من التدين الحقيقي، لكانوا اشتغلوا منذ القديم بإرشاد العامة وإنكار المنكرات الماثلة في كل عصر أمامهم مثول الشمس في السماء رأد الضحى، ولكن المتدلسة أمثالهم يتعلمون من قشور العلوم ما يستعينون به على الأخذ من أموال الحكومات والأغنياء والتغرير بالعامة؛ ولذلك كان أكثر اشتغال من سموا أنفسهم بالعلماء في كل عصر بالفقه؛ لأنه سلم إلى ما يتطاولون إليه من الجاه والمال وحسن الحال.
قال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: اعلم أن الخلافة بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله تعالى فقهاء في أحكامه، وكانوا مستقلين بالفتاوى في الأقضية، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلا نادرا في وقائع لا يستغنى فيها عن المشاورة ، فتفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا لها، وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا، وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم، كما نقل من سيرهم، فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق، ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم؛ لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طولبوا هربوا وأعرضوا، فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء، وإقبال الأئمة والولاة عليهم وإعراضهم عليهم، فاشرأبوا لطلب العلم، توصلا إلى نيل العز ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبوا على علم الفتاوى، وعرضوا أنفسهم على الولاة وتعرفوا إليهم وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من حرم ومنهم من أنجح، والمنجح لم يخل من ذل الطلب ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين، أذلة إلا من وفقه الله تعالى في كل عصر من علماء دين الله.
وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على الفتاوى والأقضية؛ لشدة الحاجة إليها في الولايات والحكومات، ثم ظهر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقالات الناس في قواعد العقائد، ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها، فعلمت رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام، فأكب الناس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله والنضال عن السنة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى الدين وتقلد أحكام المسلمين؛ إشفاقا على خلق الله ونصيحة لهم، ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه؛ لما كان قد تولد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه، وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة - رضي الله عنهما - على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم، وانثالوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد - رحمهم الله تعالى - وغيرهم، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات، ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم مستمرون إلى الآن، وليس ندري ما الذي يحدث الله فيما بعدنا من الأعصار. فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير. ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة، أو علم آخر من العلوم لمالوا أيضا معهم، ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين، وألا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين. ا.ه.
هذا موجز من تاريخ المتحذلقين في الدين، وصف به حجة الإسلام طغمتهم في عصره، وعصره الخامس من أفضل عصور النور في الإسلام، فما بالك بأمثالهم بعده وقد حدثت من الأحداث ما كان الجهل سداها ولحمتها، والنيل من المخلصين مبدأها وغايتها، وما أصدق ما قاله حجة الإسلام أيضا في هؤلاء الطغام أعداء الإسلام والسلام، في أول كتابه التفرقة بين الإسلام والزندقة قال: وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم، ومعبودهم سلاطينهم، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم، وشريعتهم رعونتهم، وإرادتهم جاههم وشهواتهم، وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم، وذكرهم وساوسهم، وكنزهم سواسهم، وفكرهم استنباط الحيلة لما تقتضيه حشمتهم، فهؤلاء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر من ضياء الإيمان، أبإلهام إلهي، ولم يفرغوا القلوب عن كدورات الدنيا لقبولها، أم بكمال علمي، وإنما بضاعتهم في العلم مسألة النجاسة وماء الزعفران وأمثالهما؟ هيهات هيهات، هذا المطلب أنفس وأعز من أن يدرك بالمنى، أو ينال بالهوينا، فاشتغل أنت بشأنك، ولا تضيع فيهم بقية زمانك
فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى .
وبعد، فإن في هذا العصر فئات في هذا الشرق ممن استعاذ منهم المصلحون في كل عصر، ولكنهم ويا للأسف حثالة الحثالة، ومثال الجهالة والضلالة، إن قلت لهم: تعاليم فلان، قالوا لك: أونسيت تعاليم فلان فهي أحسن وأسلم، وإن حرضتهم على علم كذا قالوا علم كذا أفضل، وإن شرحت لهم أساليب المدنية، قالوا: إننا لم نؤت إلا من قبل ديننا فتركناه، فصارت حالنا إلى ما ترى، وإن حدثتهم بطرق الارتقاء قالوا: إنه يدعونا إلى الانحلال كأنه ما كفانا ما نحن فيه من البدع، وإن دعوتهم إلى الأخذ بما صح من أحكام الحلال والحرام، أوردوا لك من أقوال شيوخهم، وأقاصيص عجائزهم، وأحلام حالميهم، ومثبطات المتزهدين والمتورعين منهم ما تسأل الله معه السلامة، وإن حببت إليهم المعروف قالوا لك: ما أكثر المنكرات.
حملة أهواء، لا حملة شريعة، وجعاب لغو وحشو لا قوام على ما يقوم العقل، سلاحهم المغالطة، ومجنهم السفسطة، رأس مالهم الثرثرة، وربحهم الغلبة بالباطل، والمهارة في المهاترة على غير طائل، مناهم من دينهم ودنياهم أن تفخم ألقابهم، وتملأ كراشهم وعبابهم، وترفع بين الغاغة منازلهم، ويزيدوا بسطة في الجسم لا في العقل، وتكتب لهم في العالمين شهرة بعيدة، بدون أن يعدوا لها أداة من أدواتها، ويصرفوا في التحصيل ساعة من أوقاتهم، دأبهم الحط من الفضلاء، وهجيراهم النيل من العظماء.
يرقعون ويلفقون، ويراوغون ويماحكون، واكسون ماكسون، مدلسون موالسون، يعادون ما يجهلون، يجمدون على ما يعرفون، يصانعون ولا يتلطفون، يفتون وهو لا يعلمون، يجتهدون ويخطئون، يهرفون بما لا يعرفون، يعدون علوم البشر ذرة من معارفهم، ويحتقرون ما لا تبلغه مداركهم، كأن فضل الله محصور فيهم، وكأن من لا يجري على هواهم محروم من السعادة هالك، أولئك هم ثعالب الإنس يأكلون لحم إخوانهم بالغيبة والوشاية، ويمشون بين الناس بالنميمة والسعاية، أسود ولكن على نحت أثلات مخالفيهم، نمور ولكن لا يحسنون الوثب إلا على من لا يصلحون خدمة لهم، يفترون ويغرون، يغوون ولا يخافون، يخربون ولا يدرون، يخرفون ولا يستحون، يمخرقون ولا ينتهون، فهم أضر على الناس من قطاع السابلة، وأفسد في جسم المجتمع من الأدواء القتالة، يرجعون بالأمة القهقرى، والدواعي تهيب بها إلى التقدم، ويزينون لها الفناء والعدم، والمصلحة قاضية بالتماسك والتعاون، ويملون لها الذل والصغار، وركوب متن العار، والحالة تدعو إلى تحكيم العقل في كل قول وعمل.
فاللهم ثبت أقدام المصلحين، وهيئ لهم من الكفاية ما يقوون به على رد غارات أعداء الأمة في إصلاحها، فقد كفاها جهلا وضلة بما كسبت أيدي المنافقين، وما جلبوا عليها من الخزي المبين
وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ...
والذين لا يشهدون الزور وإذا مروا باللغو مروا كراما .
تعليم اللغات1
إن تعليم اللغات على الطريقة التي جرى عليها الغربيون واقتبسها المشارقة، قد تكون نظرية أكثر مما هي عملية، فيطول أمرها ويصعب تناولها، ولطالما رأينا من يترجم أشعار شكسبير الإنكليزي، أو بوالو الإفرنسي، إذا رمته الأقدار في شوارع لندن أو باريز، لا يطاوعه لسانه أن يلفظ كلمات يهتدي بها لوجه طريقه؛ ذلك لأن الطريقة في تعلمه تلك اللغة الأجنبية هي عين الطريقة التي يستخدمها الأوروبيون في تعليم الصم البكم، بل عين النهج الذي ينهجه المغاربة في تعليم إحدى اللغات الميتة من لاتينية ويونانية، أو إحدى اللغات الحية من إنكليزية وإفرنسية وإيطالية وغيرها؛ إذ يكون تدريس النحو والصرف والترجمة من الكتب، هو العدة في إتقان اللغات، ويسهل على المعلم أن يدرس تلميذه على هذا النحو، وربما أخذ في تعليمه لغة، وهو لا يحسن أن يؤلف بين جملتين صحيحتين في تلك اللغة التي عهد إليه تدريسها، ولم يجود التلفظ بها، فكان شغله الشاغل تعليم تلامذته أصول التصريف والإعراب والترجمة، على حين قد ثبت أن الدارس قد يستظهر قواعد لغة وقوانينها، ولا يبرع في اللغة نفسها، وأسقم المذاهب في تعلم لغة أن يتكلم المرء بلغته في خلال تعلمه لغة غيرها.
من أجل هذا قضت الحال أن تكون دراسة قواعد الإعراب والتصريف بعد معرفة اللغة معرفة عملية لا نظرية، ولا تفيد الترجمة والنقل إلا إذا توفرت للطالب بادئ بدء معرفة الأساليب في اللغة الغريبة، فعلى من رام أن يتكلم لغة ويكتب فيها أن يفكر في تلك اللغة، ويكون شعوره شعور أهلها فيها، لا أن يصيغ تراجم وينقل جملا، فتستدعي الأفكار والانفعالات للحال ما يحتاج إليه الطالب من الألفاظ التي يعبر بها عنها، فتصير اللغة التي يتعلمها لغة ثانية له، ولا تكون الترجمة من لغته أو إليها إذا دعت الحال حرفا بحرف، بل على طريقة تنقل بها الصورة إلى التعبير عنها، وقلما يسمع المتعلم في معظم المدارس اليوم صدى اللغة التي يتعلمها، ويقتضي له أن يربي عليها أذنه وذاكرته ما أمكن، وما أشبه المدرس وهو يشرح للدارس دروسه بلغته الأصلية، إلا بأم تود أن تعلم طفلها وهو ألكن تمام قواعد الفعل الماضي، وتصريف الأفعال الشاذة بدلا من أن تعنى بتعليمه أن يحسن تلفظ الكلمات الأولى التي يحاول التلفظ بها.
وما فتئ تعلم اللغات يختلف باختلاف الاجتهاد في كل قوم، ومعظمه دائر في الغرب منذ ثلاثين سنة على طريقتين، وهما إما أن يقيم المتعلم زمنا في بلد اللغة التي يريد تعلمها، أو أن يكون أهل الطفل في سعة من العيش، فيتخذون له مؤدبا أو مؤدبة يعلمه اللغة بالعمل بين ظهراني أهله وأسرته، وقد ابتدع الأستاذ برليتز الأمريكاني طريقة سهلة لتعليم اللغات جرى عليها بعضهم في أميركا وأوروبا، فأسفرت عن نجاح أكيد، وطريقته عبارة عن نظر عقلي وعلم عملي، وبلفظ آخر نظر في المحسوسات لا المجردات؛ إذ اللغة عبارة عن أصوات محكية لا إشارات مكتوبة، والتعليم سماعي أولا ثم نظري، ولا يعمد في طريقته إلى الترجمة ولا إلى النقل، ولا يستخدم فيها الطالب معجما ولا يستصحب كتاب قواعد، بل يتعلم الإنسان القوانين بعد كمال المعرفة العملية على نحو ما يتعلم الطفل لغة أبيه وأمه، وليس لتعلم القواعد نفع حقيقي إلا متى عرف المرء اللغة، فالقواعد تشرح اللغة شرحا علميا، فتبحث عن علل يتأتى الاستغناء عنها بادئ بدء، وقلما تنفع في تلقين اللغة، شأن المصور لا يحتاج إلى إتقان العلوم الطبيعية والكيماوية ليصنع صورا شمسية بديعة.
ما اللغة في الحقيقة إلا صورة محكية من الحياة ، فاقتضى في تعلمها أن يسير الإنسان من نفس الحياة، لا أن يعمد إلى أشكال من التعبير لا تمس ولا تتحرك، وقلما تتلاءم الألفاظ وصور الأفكار بين لغة وأخرى كل التلاؤم، فالبداءة بالترجمة الحرفية من لغة إلى لغة يراد تعلمها إضاعة للوقت، وإتعاب للذهن على غير طائل، ومن العسر المعتذر أن يرسم المرء صورتين رسما خفيفا على حين لا يضع إحداهما على الأخرى، وكذلك الحال في اللغات فقد امتنع أن يحكم وضع لغتين إحداهما على الأخرى.
واللغة بموجب هذه الأصول الجديدة عبارة عن محادثة دائمة باللغة الغريبة، فكل ما يقع نظر التلميذ عليه مباشرة، يكون له منه مادة درس وموضوع تعلم، وذلك بتربية الأذن والحواس الصوتية، فيلقن الأستاذ تلميذه حسن اللفظ وسرعة التركيب، فيدرس الأفعال الأولى بالأعمال والحركات، يقوم ويذهب إلى اللوح الأسود فيكتب، أو يفتح الباب، ويرفع الكتاب ويضعه، ثم تعرض على سمعه مشاهد الحياة اليومية، فيسهل عليه تأليف جمل صغيرة يتزايد كل يوم عددها بسرعة، فيكون التلميذ بهذه الطريقة في تأليف الجملة ما يلزمه من أوليات القواعد والروابط، والأمم بأسرها تتعلم لغاتها بالعمل أولا ثم بالنظر، فيتعلم المتعلم ما تمس حاجته إليه إلى أن يكتب بدون غلط، أو يتعلم التلميذ أولا معاني الكلمات الغريبة، ثم يلقى التمرينات العديدة بعد معرفة اللغة معرفة فطرية فمعرفة عقلية، ومن اللازم اللازب الاعتياد على الصور قبل القواعد، ثم يبدأ المعلم بالسؤال فيجيبه المتعلم، ولا يزالان ينتقلان من البسيط إلى المركب، ومن شرح المفردات إلى تفسير العبارات، ويكون كل ذلك باللغة التي يراد إتقانها.
وللفظ في هذه الطريقة المقام الأعلى، ولم يكن يعنى بتقديمه من قبل، والأساتذة الذين يحسنون التلفظ بلغة ما هم ممن تعلموها من الأسلوب الطبيعي في طفوليتهم، أو أتقنوها بمقامهم في البلاد التي تتكلم فيها تلك اللغة، وجودة التلفظ هو روح اللغة على التحقيق، ولا تعد العبارة شيئا مهما بلغت من الضبط متى قبح اللفظ وتجلت اللهجة الأعجمية فيه عيانا، ومن المؤكد أن التلفظ لا يكاد يصلح إذا فسد لأول مرة ، وصعب على الإنسان ما لم يعود، فالطريقة المشار إليها مغايرة لطريقة الترجمة المألوفة في الأغلب؛ إذ كل معرفة يرشد إليها المتعلم على هذه الصورة لا تحسب ناقصة الجهاز مشوشة الأسلوب، وقلما تجد الألفاظ في لغة ما يقابلها في لغة ثانية، ولكل لغة اصطلاحاتها الخاصة بها، ليس للترجمة مهما أتقنت أن تنقلها على أصلها؛ إذ التصورات التي تمثلها لغة لا تتحد مع تصورات تمثلها ألفاظ لغة أخرى اتحادا ذاتيا معنى ومبنى، كتب أحد الغرباء إلى فنلون العالم الفرنسوي المشهور: «إن لي منك يا مولاي أمعاء والد» يريد أن يقول «قلب والد»، وقال الفونس الثاني عشر ملك إسبانيا وقد جاء قصره في يوم احتفال: «أتود أن تتعب معي نحو النافذة» يعني بذلك أن تقترب نحو النافذة.
ولو تعلم ذاك الكاتب وهذا الملك أن يتكلما الإفرنسية على طريقة الأستاذ برليتز إذن لنجيا من هذا الغلط الشائن، وكان شأنهما في سهولة التعبير وجودة التصوير شأن أولئك التجار والسوقة، ممن ينزلون بلادا لا يحسنون لغتها، فما هو إلا قليل حتى يمرنوا على تكلمها زمنا فيحسنونها، ولا إحسان من تعلموها على دكات المدارس، وهو يقلبون المعاجم ويتأبطون كتب نحوها وصرفها وبيانها، ناقلين ناسخين مستظهرين ناسين. وطريقة برليتز هذه أن يستعمل أولا اللغة المتعلمة خاصة، وأن يتابع التصور في اللغة الغريبة مباشرة بدون وساطة اللغة الأصلية، وأن تعلم أسماء الأعيان بقوة الحس، وتعلم أسماء المعاني بتتابع التصور أو يدرس النحو بالأمثلة والشواهد.
هذا مذهب الأستاذ برليتز في إتقان ملكة اللغات، وقد انتقل من نيويورك إلى باريز عام 1889، فأسست في هذه العاصمة أول مدرسة على تلك الطريقة، وانتقل هذا المذهب في تلك السنة إلى إنكلترا وألمانيا، فأسست في كل من لندن وبريس مدارس لهذا الغرض، وما برحت مدارسها تتكاثر في الأصقاع الأوروبية، حتى كانت في بدء هذه السنة 343 مدرسة في أوروبا وحدها، وكلها أسفرت عن ارتقاء واقتصاد في الوقت والمال، وطريقة القائمين بهذا الأمر أن يكون لكل تلميذ أستاذه الخاص به، فيأخذ هذا يعلم تلميذه ما يقع نظره عليه في قاعة الدرس، من منضدة، وكرسي، وكتاب، وباب نافذة، يلفظها بلغتها ولا يزال يكررها المتعلم حتى يتقن التلفظ، فإذا نفدت المسميات لدى الأستاذ في الغرفة يعمد إلى صور سهلة واضحة رسمت على صفحات مجموعة، فما هو إلا أن يتعلم التلميذ أسماء الأشياء الواقعة تحت بصره مع الألوان التي يمتاز بها كل منها، ثم ينتقل إلى صفات الجسم وأفعال الحركات والأعداد، فإذا أنجز درس الأشياء يشرع المعلم في اختيار جمل يكون التلميذ قد عرف أكثر مفرداتها، فلا يمضي ثلاثون درسا إلا وقد عرف التلميذ الأفعال الشائعة في الاستعمال والمفردات التي تدخل غالبا في الأحاديث العامة، ويتمكن في ستين درسا من بيان فكره أصح بيان في كل حالة علاقة بمجرى الحياة الاجتماعية العادي، ويحسن في اختيار المعلمين أن يكونوا ممن لا يعلمون لغة المتعلم.
ومما يضحك ما وقع لولد أحد كبار المنشئين الفرنسويين وكان يدرس الألمانية على طريقة برليتز، قيل: إنه لما بلغ به المعلم إلى تمييز الفعل المتعدي من اللازم، لم يفهم التلميذ المراد من المتعدي واللازم، وأخذ معلمه يشرحهما له بالإشارة تارة والتشبيه طورا، فلم يفلح، وكان تلميذه معه كأعجم طمطم لا يفهم ولا يفهم، وأبى الأستاذ على تلميذه أن يفسر له شيئا بلغته مع إلحاحه عليه في ذلك، وراح الطفل إلى دار أبيه، وقد بلغ منه الغيظ وأنشأ يقلب كتاب نحوه يفتش عن الأشكال، فاهتدى بنفسه إلى حله وشكا أمره إلى والده، فقال له: أي بني لقد أحسن الأستاذ أن أبى عليك شرح ما يريد تعليمك بلغتك، ولو قاله لك لعزب عن ذهنك، وأصبح لديك بعد زمن نسيا منسيا، أما الآن فإني على ثقة من أنك لا تنس التفرقة بين الفعل اللازم والمتعدي ولو بعد مائة سنة.
قال الكاتب الذي عربنا عنه أكثر هذا المبحث: وقد كان أرباب الأفكار والحصافة يجمعون على أن اللغات الحية لا تعلم كاللغات الميتة، بل إنه لا بد في الأولى من المران على التكلم بها من أول وهلة، وإنه ما من لغة مهما تراءى من صعوبتها على المتعلمين لأول الأمر، سواء كانت اللغة الروسية، أو الهندية، أو العربية، أو الصينية إلا ويتيسر إتقانها على طريقة برليتز في مدة تختلف باختلاف ذكاء المتعلم وصعوبة اللغة، والله أعلم.
اللغات الإفرنجية1
لهجت بعض الألسن في منافع اللغات الأوروبية ومضارها في مجتمعنا، عقيب أن قام صاحب المؤيد في الجمعية العمومية في الربيع الماضي، وناقش ناظر معارف مصر في وجوب تعليم العلوم في المدارس الأميرية باللغة العربية، فكان من أثر ذاك الحوار أن بطلت دروس الأشياء وجعل تدريس علم تقويم البلدان باللغة العربية في المدارس الابتدائية، كما شرع في تعليم الرياضيات في السنين الأولى من المدارس الثانوية باللغة العربية أيضا.
فقام بعض الناس متخذين من هذا الإصلاح حجة على قلة غناء اللغات الإفرنجية، زاعمين أن في العربية ما يكفيها من العلوم، على حين كان ما دعا إليه الداعون من التدريس بالعربية لمقصد آخر، أريد به إحياء لغة البلاد إذا درست العلوم بها، وإشراب نفوس المتعلمين حب أمتهم؛ ليعم النفع مما يتعلمون لا التنفير من تعلم اللغات الإفرنجية التي لا يمتري عاقلان في وجوب تعلمها على فريق كبير من الناس، ولا سيما من تصدوا للنفع والتأليف والكتابة على نحو ما يفعل علماء اليابان، فيتعلمون الإنكليزية كما يتعلمون لغتهم الأصلية.
نقول تعلم اللغات الأجنبية وما أحرانا أن نقول إتقانها؛ لأن المبادئ البسيطة منها قد لا تفيد المتعلم إلا توهمه أنه أصبح من العارفين، فإن تعوذ علماؤنا قديما من نصف فقيه، ونصف صوفي، ونصف كاتب ، ونصف شاعر، فما أحرانا أن نتعوذ من ناشئ يتعلم طرفا من لغة لا يستفيد منها ولا يفيد. وليس معنى هذا أنه يتحتم وجوبا على كل متعلم للغة أجنبية أن يكون فيها مؤلفا خطيبا كاتبا مترجما، فهذا مناف لسنة الكون، ولكن المطلوب أن يعرف الناس في تعلم إحدى اللغات الأوروبية القدر الذي يؤهلهم للانتفاع بها في التجارة وأعمال الإدارة والقضاء والعلم.
ولا مشاحة في أن أكثر من تعلموا اللغات الأجنبية من أبنائنا لم يتقنوها وإن حذقوها، فلا يكون لهم من المعرفة بلغتهم ما يستطيعون معه أن يعبروا به عن أفكارهم، وينقلوا إليها ما يعوزها من علوم الغرب وحضارته، بيد أن اللغة وإن أتقنها صاحبها لا تنفعه وينتفع بها النفع المطلوب إلا إذا أضاف إليها علما أو فنا أخصى فيه، واللغة آلة لا غاية، وإن كان من يتقن لغة أوروبية لا يتسنى له ذلك إلا بعد أن ينظر نظرة إجمالية في الفنون المتعارفة، أما ما يقوله بعض من لا يساعدهم الوقت على تعلم لغة أجنبية، من أنه ليس في النقل من اللغات الغربية كبير أمر، وأن العالم يستفيد من الوجود أكثر من استفادته مما دونه كبار أرباب العقول من أمم الحضارة، فهذا من الآراء التي يقصد بها الاعتذار عن التقصير، ومن جهل شيئا عاداه؛ إذ من الثابت المقرر أننا مهما تأملنا في صحيفة الكون، لا نستطيع أن ندرس فيه نظام الاجتماع ولا تقنين القوانين، ولا الطب، ولا الهندسة، ولا الفلك، والطبيعة والكيمياء، وفنون الأدب والتاريخ ورسم الأرض وغيرها من الفروع الكثيرة التي لا أسماء لها في العربية؛ إذ لم يكن للعرب عهد بها، ولا تتم سعادة مجتمع اليوم إلا بتعلمها وإتقانها، ومن قال بأن أسلافنا من العرب قد أجالوا في هذه العلوم قداح أنظارهم ووضعوا فيها ما وضعوا من رسائلهم وأسفارهم، فهو على صواب وخطأ؛ وذلك أن أجدادنا قاموا بالواجب من خدمة هذه العلوم في عصر تماسكهم وانبساط ظل دولتهم، إلا أنه انقطعت سلسلتها بعد القرن السادس إلى منتصف القرن الثالث عشر للهجرة، وهي القرون التي كانت فيها الأمة العربية في غفلة، والأمم الغربية في انتباه، فأخذ الغرب عن الشرق ما عنده من حضارة، وزاد عليها أضعافا، ولا يزال يركض طرف عقله في مضمار البحث والاستقراء، ويعاني من ضروب العلم ما نحن فيه معه أجهل من تلميذ مبتدئ بالتهجئة بالنسبة إلى عالم يكتب الكتاب ويقصد القصيد.
فالأمة العربية إذا أرادت النهوض العقلي والعلمي، يجب عليها أن تأخذ من كل علم بالسهم الأوفر، ولا يتم لها ذلك إلا بالنقل عن الأمم الغربية، وهذا لا يتأتى إلا بعد أن تخرج مدارسنا الألوف من الطلبة المتعلمين على الأساليب الحديثة؛ لينشأ لنا منهم عشرات يكونون لنا عونا على ما ينقصنا من أسباب نهضتنا، وما تشتد حاجتنا إليه، ويكاد ذلك إلى الآن يعد مفقودا بيننا، اللهم إلا طائفة من أسفار نقلها بعض المولعين بالعربية، وما يتيسر للمجلات تعريبه من حين إلى آخر من علوم الغرب، وكله دون حد الكفاية بكثير.
قال ابن رشد في فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال: إذا تقرر أنه يجب بالشرع النظر في القياس الفقهي، فبين أنه إن كان لم يتقدم أحد من قبلنا بفحص عن القياس العقلي وأنواعه، أنه يجب علينا أن نبتدئ بالفحص عنه، وأن يستعين في ذلك المتقدم بالمتأخر حتى تكمل المعرفة، فإنه عسير وغير ممكن أن يقف واحد من الناس من تلقاء نفسه، وابتداء على جميع ما يحتاج إليه من معرفة أنواع القياس الفقهي، بل معرفة القياس العقلي أحرى بذلك وإن كان غير ناقد فحص عن ذلك، فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركا لنا أو غير مشارك في الملة، فإن آراءه التي تصح بها التزكية، ليس يعتبر في صحة التزكية بها كونه آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك، إذا كانت فيها شروط الصحة، وأعني بغير المشارك من نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام.
وإذا كان الأمر هكذا ، وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه القدماء أتم فحص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك، فإن كان كله صوابا قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه، فإذا فرغنا من هذا الجنس من النظر وحصلت عندنا الآلات التي بها يقدر على الاعتبار في الموجودات ودلالة الصنعة فيها، فإن من لا يعرف الصنعة لا يعرف المصنوع، ومن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع، فقد يجب أن نشرع في الفحص عن الموجودات على الترتيب والنحو الذي استفدناه من صناعة المعرفة بالمقاييس البرهانية، وبين أيضا أن هذا الغرض إنما يتم لنا في الموجودات بتداول الفحص عنها واحدا بعد واحد، وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم على مثال ما عرض في علوم التعاليم، فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك صناعة علم الهيئة ورام إنسان واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها، وأبعاد بعضها عن بعض، لما أمكنه ذلك مثل أن يعرف قدر الشمس من الأرض، وغير ذلك من مقادير الكواكب، ولو كان أذكى الناس طبعا إلا بوحي أو شيء يشبه الوحي، بل لو قيل: إن الشمس أعظم من الأرض بنحو 150 ضعفا أو ستين، يعد هذا القول جنونا من قائله.
وهذا شيء قد قام عليه البرهان في علم الهيئة، قياما لا يشك فيه من هو من أصحاب هذا العلم، قال: «وهذا أمر بين بنفسه ليس في الصنائع العلمية فقط وفي العملية، فإنه ليس منها صناعة يقدر أن ينشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع وهي الحكمة، وإذا كان هذا فقد يجب علينا إن لقينا لمن تقدمنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان، أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم، فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم، وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم.»
هذا ما قاله الفيلسوف الإسلامي في عصر كان العرب أساتذة العلم في العالم، وقوله - كما رأيت - غاية الحكمة، وما الغربيون الآن بالنسبة إلينا إلا قدماء متقدمون، وبهديهم يجب علينا أن نهتدي في العلوم، وهذا لا يقدح فيما خلفه لنا أسلافنا من آثارهم أيام استبحار عمرانهم واتساع سلطانهم، أما اللغات الحديثة التي تشتد حاجتنا إلى الأخذ منها فهي الإنكليزية، والإفرنسية، والألمانية، وفي كل لغة من هذه اللغات من أنواع المعارف ما لا يكاد يحلم به من لا يعرف لغاتهم .
وليت شعري إذا كان بعض أهل الغرب والعلوم قد بلغت عندهم ما علمت من الارتقاء الغريب، يتعلمون لغات الشرق؛ لينقلوا منها إلى لغاتهم بعض الكتب التاريخية، والأدبية، والأخلاقية، والشرعية، ويستعينوا بها على قراءة آثاره وما زبر على أحجاره، ألسنا نحن أحرياء بأن نتعلم لغاتهم على مقرنا الثابت، ونقتبس منهم ما يعوزنا من علوم البشر.
إلا أن ما نفاخر به من علم أسلافنا وحضارتهم العظيمة إنما قام بإحيائهم مدنية من قبلهم من الأمم، كالروم والفرس وغيرهم، ولم يتأت لهم ذلك إلا بترجمة علومهم والزيادة عليها وتحسينها، فكانوا بذلك أحسن صلة وعائد بين أمم الحضارة السالفة، والأمم الأوروبية الخالفة، فحضارة الإسلام إذا أنصفنا قامت بفضل التراجمة والنقلة من اليعاقبة والإسرائيليين والمسلمين، لا بأيدي علماء الكلام مثلا، وقد كان على يد هؤلاء التشتيت وعلى يد أولئك الجمع، وشتان بين المفرق والمجمع. وليس معنى هذا إنكار فضل من تمحضوا لخدمة الشريعة واللغة في القرون الأولى للإسلام، وما في الناظرين من يقول: بأن الخليل والجاحظ والغزالي والماوردي هم في حسن بلائهم في خدمة هذه الأمة، دون أبي الريحان البيروني، ونصير الدين الطوسي، وحنين بن إسحاق، وثابت بن قرة، وما كان قط أهل الفريق الأول يحتقرون علم الفريق الثاني ولا العكس؛ لما وقر في النفوس من أن المجتمع لا يقوم على أمتن الدعائم إلا إذا أتقن كل ذي علم عمله.
قال الجاحظ: الإنسان وإن أضيف إلى الكمال وعرف بالبلاغة وناقش العلماء، فإنه لا يمكن أن يحيط علمه بكل ما في جناح بعوضة أيام الدنيا، ولو استمد بكل نظار عظيم واستعان بكل بحاث واع، وكل نقاب في البلاد ودارسة للكتب، وما أشك أن عند الوزراء في ذلك ما ليس عند الرعية من العلماء، وعند الخلفاء ما ليس عند الوزراء، وعند الأنبياء ما ليس عند الخلفاء، وعند الملائكة ما ليس عند الأنبياء، وما عند الله - عز وجل - أكثر، والخلق في بلوغه أعجز، وإنما علم الله كل طبقة من خلقه بقدر احتمال فطرهم ومقدار مصلحتهم.
وقال الراغب الأصفهاني في الذريعة: العلم طريق الله تعالى ذو منازل، قد وكل الله تعالى بكل منزلة منها حفظة كحفظة الرباطات والثغور في طريق الحج والغزو، ضمن منازله معرفة اللغة التي عليها بني الشرع، ثم حفظ كلام رب العزة، ثم سماع الحديث، ثم الفقه، ثم علم الأخلاق والورع، ثم علم المعاملات، وما بين ذلك من الوسائط ومعرفة أصول البراهين والأدلة، ولهذا قال:
هم درجات عند الله
وقال:
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ، وكل واحد من هؤلاء الحفظة إذا عرف مقدار نفسه ومنزلته في حق ما هو بصدده، فهو في جهاد يستوجب من الله أن يحفظ مكانه ثوابا على قدر علمه، لكن قلما ينفك كل منزل منها من شرير في ذاته، وشره في مكسبه، وطالب لرياسته، وجاهل معجب بنفسه، بصير لأجل تنفيق سلعته، صارفا عن المنزل الذي فوق منزلته من العلم وعائبا له، فلهذا ترى كثيرا ممن حصل في منزلة من منازل العلم دون الغاية عائبا لما فوقه، وصارفا عمن رامه، فإن قدر أن يصرف عنه الناس بشبهة مزخرفة فعل أو ينفر الناس فعل. ا.ه.
وإن ما في عبارة هذين الحبرين ليذكر بما يجب للمجتمع من مراعاة مبدأ التعاون والتكافل الاجتماعي، وقد قال أحد كبار شيوخ العلم من المعاصرين: إن مما يؤخر الشرق في العلم عدم مراعاة أبنائه لمبدأ التعاون والتكافل الاجتماعي، ففيه من يحسن التفصيل كما فيه من يحسن الخياطة، وليس بينهما من يضم أعمال الفئة الأولى للثانية لينتفع بها المجتمع حق الانتفاع، ومثل لذلك بمن نقلوا لنا العلوم على عهد الحضارة الإسلامية الأولى فقال: إنه كان يندر أن يجمع المترجم بين معرفة العلم الذي يترجمه، واللغتين اللتين ينقل منهما وإليهما، فمن كان يجيد السريانية لا يحسن العربية، إلا أنه كان يترجم ما يفهم بعبارة ركيكة أو عامية، فيجيء المصححون يصلحون العبارة على الأسلوب العربي، فتجيء معرباتهم من أصح ما يكون لفظا ومعنى، وعلى هذا درج ديوان الترجمة في الدولة العلوية الخديوية في القرن الثالث عشر في مصر، فكان المترجم غير المصحح، ولذلك جاء فيما نقلوه روح العربية أكثر من المصنفات التي نقلت إلى العربية حتى في هذا القرن، قال: وهكذا عرفت دولة العباسيين في بغداد، والأمويين في الأندلس، والأسرة العلوية في القاهرة أن تجمع بين من يحسن التفصيل ويحسن الخياطة، فكان من هذا الجمع ما كان كما حسن النفع من كل ما تصرف تحت اسم علم.
الحافظة والحفاظ1
أي نعمة ينالها المرء أعظم من أن تعي ذاكرته كل ما تريد وعيه، وتدخره إلى ساعة الحاجة للانتفاع به، الحافظة من العوامل المؤثرة في ترقية الأفراد والجماعات، وبدونها يصعب الوصول إلى إدراك الحقائق وتمحيصها؛ لأنا إذا لم نستعن في كل مطلب من مطالب الحياة بتجارب من سبقونا، ونحفظ المأثور عنهم لننسج على منواله، كنا أشبه بمن يريد أن يبني له كل يوم بناء، وظلت العلوم والصناعات والآداب في طفولتها الأولى تجري على نظام مضطرب، إذ يكون كل امرئ وما يختار.
والذاكرة أو الحافظة حاسة يحفظ بها الذهن على صورة دائمة أمورا مضت وتأثرات وقعت، فهي بذلك كما قال مونتين الفيلسوف (1592م): وعاء العلم وصوان الحكمة. وقال لاروشفو كولد الكاتب (1680): جميع الناس يشكون من حافظتهم، وما شكا قط أحد من عقله. قال آخر: إن الذكاء بدون حافظة أشبه بغربال لا يكاد يمسك ما تضعه فيه. وقال أحدهم: الحافظة واسطة من وسائط الكمال، وبدونها لا يستطيع امرؤ أن يقلد شيئا وينسج على منواله. وقال كورنيل الشاعر: يجب لمن يتعمد الكذب أن يكون ذا ذاكرة جيدة . وهذا مثل قولهم: إذا كنت كذوبا فكن ذكورا، وقال بيكته الأديب السويسري (1875): لقد كان للحافظة شأن مهم جدا عند الناس في العصور الأولى، أكثر مما صار لها في القرون اللاحقة، كانت الحافظة قبل اختراع الكتابة هي التي تتولى خاصة نقل التقاليد الوطنية والدينية، وعامة القوانين والعادات والشعر؛ ولذلك كانت هذه الحاسة التي قلما نحفل الآن بأمرها عند قدماء الآريين مشابهة للفكر نفسه.
اختلف مذهب الفلاسفة فيما إذا كانت الحافظة حاسة قائمة بذاتها، أو فيما إذا كان لكل حاسة فينا ذاكرة معينة، ومعظم الحكماء وعلماء النفس على أن الحافظة حاسة مستقلة عن بقية حواس الإنسان، ولا يكاد أحد يدرك كيف تعي الحافظة الأرقام والأعداد، وتحفظ العبارات والمفردات، وتحكم اللغات واللهجات، وتردد الألحان والأصوات، ويقول علماء النفس: إن الشروط النفسية اللازمة لجودة الذهن متوقفة على جودة تركيب أنسجة الدماغ، وحسن تغذية هذه الأنسجة، والتعب والشيخوخة من العوامل المؤثرة في ضعف الحافظة؛ لأنهما ملازمان لضعف تغذية الأنسجة، ولذلك قالوا: إن درجة الحافظة لا تختلف بحسب الأشخاص، بل تختلف في الشخص الواحد في أدوار مختلفة من حياته، وإذا صرفنا النظر عن الآفات العضوية التي تضر بها، فإن هناك أيضا أحوالا أقل منها تزيدها ضعفا إلى ضعفها، مثل اضطرابات المعدة، وسوء الهضم والشقيقة، فإن جميع هذه العوارض على الجسم يغيرها تغييرا محسوسا.
ولتركيب الدماغ وحالته تأثير ظاهر في الحافظة، فقد ذكر بلين الطبيعي الروماني أن رجلا نسي حتى رسائله بعد أن أصيب بشجة في رأسه. وزعم البابا كليمان السادس أن حافظته قويت قوة عجيبة عقب أن أصيب برضة شديدة في دماغه. وكيفما كانت الحال فللتمرين يد طولى في تخصيص الحافظة بشيء معين، فالممثلون تقوى فيهم الملكة الحافظة الشفاهية، وهي من اللوازم لهم في صناعتهم، ورجال الشرطة تقوى فيهم الحافظة في تذكر صور الأشخاص، وليس البشر كلهم سواء في الحفظ والاستظهار، فمنهم من يحفظون الأشكال الهندسية، وهم الذين خلقوا رياضيين بالفطرة، ومنهم من يرزقون حافظة قوية في الأنغام كالموسيقيين وغيرهم في غير ذلك، ومن الناس من يذكرون الكلمات بسرعة غريبة، ومن الأطفال من تقرأ لهم بصوت عال عدة صفحات، فيستظهرونها في الحال، ويتلونها على مسامعك لأول مرة، وتذكر الألفاظ خاصة يمتاز بها الأولاد في العادة أكثر من الكبار في السن، ممن لا تكون قويت فيهم حاسة التفكر، فيحفظون الكلمات التي يسمعونها على أيسر وجه بدون أن يفهموها، والسبب في سهولة الحفظ عليهم فقدان قوة التفكر فيهم، وعندما يبدأ التفكر في معظم الناس تضعف الحافظة فيهم، وقد تزول من بعضهم. والحافظة الشفاهية إذا كانت هي وحدها في الإنسان لا تكون له سبيلا إلى التفكر، ومن فقد الأولى فلا يأسف لحاله؛ لأنه يستطيع بقوة التفكر أن يأتي بالجيد من الأفكار، ولكن الحافظة وحدها قد تكون من أكبر العوائق عن جودة التصور.
وبعد، فإن للحافظة شأنا عظيما في ترقية الفكر الإنساني، وبدونها يكون كل شيء عقيما لا ثمرة له؛ لأنها واسطة لبقاء الأفكار التي صدرت، وأحسن ذريعة للحصول على أفكار جديدة، ولم يعرف القانون الذي تسير عليه، كما أن جوهرها لم يدرك الباحثون حقيقته، وغاية ما عرف من أمرها أنها تقوى بالانتباه والتمرن كما تقدم، وإن الكسل ابن الترف، والكسل يجرح الحافظة إن لم نقل يقتلها.
ذكر التاريخ كثيرين من أرباب الحافظة النادرة، فمنهم في القديم ميتريداتس الكبير - ملك شمالي غربي آسيا الصغرى (123-63ق.م) - فقد كان يحكم على اثنين وعشرين أمة مختلفة، ويخطب أمام كل منها بلغتها، ويدعو كل واحد من جنده باسمه، وذكروا مثل ذلك عن قورش ملك الفرس، وتيمو ستقلس، وسيبيون الآسياوي، والإمبراطور أدريان، ويقال: إن مزية الحافظة هيأت لأوتون الروماني تولي الملك، وتعلم تيمو ستقلس اللغة الفارسية في سنة.
وكان ليبس اللغوي الأديب البلجيكي (1606) يحفظ تاريخ تأسيت المؤرخ اللاتيني بألفاظه حرفا بحرف، وقد قال: إنه يرضى أن يقف جلاد وبيده سيف على رأسه وهو يتلو هذا التاريخ، فإذا أخل بحرف واحد يضرب عنقه.
وكان لرينودي بون حافظة سعيدة، يذكر جميع الأبيات اللاتينية واليونانية التي قرأها في صباه، ويتلو صفحات برمتها من ديوان هو ميروس وإن كان مضى عليه أربعون سنة وهو لم ينظر فيه نظرة واحدة، وكان هودج دونو الفقيه المشهور في القرن السادس يستظهر القوانين المعروفة في عصره بالحرف الواحد، وحفظ يوسف سكاليجه الأديب (1609) الإلياذة والأوذيسية في واحد وعشرين يوما. ومن ألطف ما يروى في باب الحافظة أن أحد الفلاحين في فرنسا جاء إلى باريز يقصد صاحبا قديما له كان استلف منه خمسة فرنكات منذ خمس عشرة سنة، وطلب إليه أن ينقده ما له قبله، فتركه صاحبه وعاد فدفع إليه ليرة واحدة وخمسة فرنكات ، وقال له: هذا يا صاح فقد كنت نلت وأنا في المدرسة ليرة جائزة على حافظتي، فرأيتك أحد مني ذاكرة، وإنك أحق بهذه الجائزة مني. •••
ليس في الدنيا خير محض، فقد اخترعت الطباعة منذ نحو خمسمائة سنة، فعم نفعها أهل الأرض كافة، ولكن ما عتمت أن نتج عنها بعض شر، إذ أصبح الناس يعتمدون على الكتب في جماع علومهم وآدابهم، بعد أن كان جل اعتمادهم على محفوظاتهم ومخطوطاتهم، والغالب أن الاعتماد على الحافظة والحفاظ كان في الإسلام على أشده قبل تدوين الكتب، وتأليف الرسائل والمصنفات، ولما بلغ بعض الأئمة تدوين الكتب أسفوا، وعدوه من دواعي تقهقر العلم وانقطاع سند الرواية، وما زالت الحال ترتقي بعض الشيء في بعض الأعوام، ثم يزهد في الحفظ حتى انتشرت الطباعة في بلادنا بانتشار الصناعات الفكرية، فأمسى الناس يستندون إلى السطور بدل الصدور، والقراطيس والأسفار بدل الحفظ والاستظهار؛ فضعفت بهذا الضعف الحافظة وإن قويت المفكرة، وقلت الرواية وإن لم تقل الدراية.
انقطع سند الحفظ إلا في بعض ما لا يسع الأمة جهله من القرآن وعلومه، فأخذ بعضهم يفتاتون على من عرفوا قديما بسعة محفوظهم ويزيفون، ولكن بدون برهان ما رواه طائفة الراوين من أنباء الأذكياء الحافظين، ولو صح الاعتماد على إلقاء الكلام على عواهنه في هذا الباب، إذن لسقط التاريخ وارتفعت الثقة من كل خبر حتى من مجيء الرسل، وحروب الملوك، ودثور الشعوب والمدن وما إليها، وما أشبه من يكذب بادئ الرأي بلا دليل قاطع بمن يؤثر الهدم على البناء، وشتان بين المخرب والمعمر، والمتلف والمخلف، والمفسد والمصلح. •••
ما عنيت أمة بتدوين دينها وحفظه ولغتها وضوابطها، عناية المسلمين بدينهم ولغتهم، فكان من أمر حفظة الكتاب العزيز ما اشتهر في كل مصر وعصر، ولا يزال في البلاد أثر من آثار تلك العناية، أما الأحاديث فقد عنوا بها قديما وجمعوا أشتاتها، وبينوا صالحها من موضوعها، وضعيفها من قويها، مما يدركه كل من كان له إلمام بالمراجعة ونظر في كتب القوم. لم يكن العلم في القرون الأولى للإسلام بالإرث ، ولا بالمظاهر، ولا بالوساطات والشفاعات، بل كان بالاستحقاق وكد القرائح، يسير على قوانين بقيود وروابط؛ ولذلك لم يكن ينال لقب حافظ من لم يحفظ ألوفا من الأحاديث بأسانيدها، فقد كانوا يطلقون اسم المسند على من يروي الحديث بإسناده، سواء كان عنده علم به، أو ليس له إلا مجرد رواية، ويطلقون اسم المحدث على من كان أرفع منه، والعالم على من يعلم المتن والإسناد جميعا، والفقيه على من يعرف المتن ولا يعرف الإسناد، والحافظ على من يعرف الإسناد ولا يعرف المتن، والراوي على من يعرف المتن ولا يعرف الإسناد، وكان السلف يطلقون المحدث والحافظ بمعنى. والمحدث من عرف الأسانيد والعلل وأسماء الرجال والعالي والنازل، وحفظ مع ذلك جملة مستكثرة من المتون، وسمع الكتب الستة، ومسند أحمد بن حنبل، وسنن البيهقي، ومعجم الطبراني، وضم إلى هذا القدر ألف جزء من الأجزاء الحديثة، هذا أقل درجاته، فإذا سمع ما ذكر وكتب الطباق، ودار على الشيوخ، وتكلم في العلل والوفيات والمسانيد، كان في أول درجات المحدثين، وكان السلف يستمعون فيقرءون، فيرحلون، فيفسرون ويحفظون، فيعملون قال بعضهم:
إن الذي يروي ولكنه
يجهل ما يروي وما يكتب
كصخرة تنبع أمواهها
تسقي الأراضي وهي لا تشرب
سأل تقي الدين السبكي الحافظ جمال الدين المزي عن حد الحفظ الذي إذا انتهى إليه الرجل جاز له أن يطلق عليه الحافظ، قال: يرجع إلى أهل العرف، فقلت: وأين أهل العرف قليل جدا، قال: أقل ما يكون أن يكون الرجال الذين يعرفهم ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم، أكثر من الذين لا يعرفهم ليكون الحكم للغالب، فقلت له: هذا عزيز في هذا الزمان، أدركت أنت أحدا كذلك فقال: ما رأينا مثل الشيخ شرف الدين الدمياطي، ثم قال: وابن دقيق العيد كان له في هذا مشاركة جيدة، قال فتح الدين بن سيد الناس: وأما المحدث في عصرنا فهو من اشتغل في الحديث رواية ودراية، وجمع رواة واطلع على كثير من الرواة والروايات في عصره، وتميز في ذلك حتى عرف فيه خطه واشتهر فيه ضبطه ، فإن توسع في ذلك حتى عرف شيوخه وشيخ شيوخه، طبقة بعد طبقة بحيث يكون ما يعرفه من علل طبقته أكثر مما يجهله منها فهذا هو الحافظ. وأما ما يحكى عن بعض المتقدمين من قولهم كنا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث من الإملاء، فذلك بحسب أزمنتهم.
وقال أبو زرعة الرازي: كان أحمد بن حنبل يحفظ ألف ألف حديث، قيل له وما يدريك قال: ذاكرته فأخذت عليه الأبواب. وقال البخاري: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، ومائتي ألف حديث غير صحيح. وقال الحاكم في المدخل: كان الواحد من الحفاظ يحفظ خمسمائة ألف حديث، سمعت أبا عبد الله بن وارة يقول: كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور، فقال رجل من أهل العراق: سمعت أحمد بن حنبل يقول صح من الحديث سبعمائة ألف وكسر، وهذا الفتى - يعني أبا زرعة - قد حفظ سبعمائة ألف حديث. قال البيهقي: أراد ما صح من الأحاديث وأقاويل الصحابة والتابعين. وقال غيره: سئل أبو زرعة عن رجل حلف بالطلاق أن أبا زرعة يحفظ مائتي ألف حديث هل يحنث قال: لا، ثم قال: أحفظ مائة ألف حديث كما يحفظ الإنسان سورة قل هو الله أحد، وفي المذاكرة ثلاثمائة ألف حديث، وقال أبو بكر محمد بن عمر الرازي الحافظ: كان أبو زرعة يحفظ سبعمائة ألف حديث، وكان يحفظ مائة وأربعين ألفا في التفسير والقرآن، وكان إسحاق بن راهويه يملي سبعين ألف حديث حفظا. وأسند ابن عدي عن ابن شبرمة عن الشعبي قال: ما كتبت سوادا في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدثني رجل بحديث قط إلا حفظته، فحدثت بهذا الحديث إسحاق بن راهويه فقال: تعجب من هذا، قلت: نعم، قال: ما كنت لأسمع شيئا إلا حفظته، وكأني أنظر إلى سبعين ألف حديث، أو قال: أكثر من سبعين ألف حديث في كتبي. وأسند عن أبي داود الخفاف قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كأني أنظر إلى مائة ألف حديث في كتبي، وثلاثين ألفا أسردها. وأسند الخطيب عن محمد بن يحيى بن خالد قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: أعرف مكان مائة ألف حديث كأني أنظر إليها، وأحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي، وأحفظ أربعة آلاف ضرورة. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي لداود بن عمرو الضبي وأنا أسمع: كان يحدثكم إسماعيل بن عباس هذه الأحاديث بحفظه قال: نعم ما رأيت معه كتابا قط، قال له: لقد كان حافظا كم كان يحفظ؟ قال: شيئا كثيرا، قال: أكان يحفظ عشرة آلاف؟ قال: عشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف، فقد كان أبي هذا كان مثل وكيع. وقال يزيد بن هارون: أحفظ خمسة وعشرين ألف حديث. وقال الآجري: كان عبد الله بن معاذ العنبري يحفظ عشرة آلاف حديث.
قال السبكي: لم تر عيناي أحفظ من أبي الحجاج المزي، وأبي عبد الله الذهبي والوالد، وغالب ظني أن المزي يفوقهما في العلل والمتون والجرح والتعديل، مع مشاركة كل منهم لصاحبه فيما يتميز به عليه المشاركة البالغة سمعت شيخنا الذهبي يقول: ما رأيت أحدا في هذا الشأن أحفظ من الإمام أبي الحجاج المزي، وبلغني عنه أنه قال ما رأيت أحفظ من أربعة: ابن دقيق العيد، والدمياطي، وابن تيمية والمزي، فالأول أعرفهم بالعلل وفقه الحديث، والثاني بالأنساب، والثالث بالمتون، والرابع بأسماء الرجال، وكان الدمياطي يقول: ما رأى شيخنا أحفظ من زكي الدين عبد العظيم، وما رأى الزكي أحفظ من أبي الحسن علي بن المفضل، ولا رأى ابن المفضل أحفظ من الحافظ عبد الغني ، ولا رأى عبد الغني أحفظ من أبي موسى المديني إلا أن يكون الحافظ أبا القاسم بن عساكر، ولا رأى ابن عساكر والمديني أحفظ من أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي، ولا رأى إسماعيل أحفظ من أبي الفاضل محمد بن طاهر المقدسي، ولا رأى ابن طاهر أحفظ من أبي نصر بن ماكولا، ولا رأى ابن ماكولا أحفظ من أبي بكر الخطيب، ولا رأى الخطيب أحفظ من أبي نعيم، وأبو نعيم ما رأى أحفظ من الدارقطني، وأبي عبد الله بن منده ومعهما الحاكم، وكان ابن منده يقول: ما رأيت أحفظ من أبي إسحاق بن حمزة الأصبهاني، وقال ابن حمزة: ما رأيت أحفظ من أبي جعفر أحمد بن يحيى بن زهير الشقيري، وقال: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة الرازي، وأما الدارقطني فما رأى أحفظ من نفسه. وأما الحاكم فما رأى أحفظ من الدارقطني، بل وكان يقول الحاكم: ما رأيت أحفظ من أبي علي النيسابوري ومن أبي بكر بن الجعابي، وما رأى الثلاثة أحفظ من أبي العباس بن عقدة، ولا رأى أبو علي النيسابوري مثل النسائي، ولا رأى النسائي مثل إسحاق بن راهويه، ولا رأى أبو زرعة مثل أبي بكر بن أبي شيبة، وما رأى أبو علي النيسابوري مثل ابن خزيمة، وما رأى ابن خزيمة مثل أبي عبد الله البخاري، ولا رأى البخاري فيما ذكر مثل علي بن المديني، ولا رأى أيضا أبو زرعة، والبخاري، وأبو حاتم، وأبو داود، مثل أحمد بن حنبل، ولا مثل يحيى بن معين وابن راهويه، ولا رأى أحمد ورفاقه مثل يحيى بن سعيد القطان، ولا رأى هو مثل سفيان ومالك وشعبة، ولا رأوا مثل أيوب السختياني، نعم، ولا رأى مالك مثل الزهري، ولا رأى الزهري مثل أبي المسيب، ولا رأى ابن المسيب أحفظ من أبي هريرة، ولا رأى أيوب مثل ابن سيرين، ولا رأى مثل أبي هريرة، نعم، ولا رأى الثوري مثل منصور، ولا رأى منصور مثل إبراهيم، ولا رأى إبراهيم مثل علقمة كابن مسعود.
هذا كان مبلغ القوم في حفظ الحديث وروايته على كثرة المتشابه فيه، وتوفر الأسانيد والرواة، بحيث لو أراد أحد لهذا العهد أن يحفظ شيئا مما كانوا يحفظونه، لاختار استظهار اللغة الصينية واستسهلها أكثر؛ وذلك لضعف الحافظة من هذا المعنى وانقطاع سند هذه العلوم الجليلة إلا قليلا.
كان الحافظ أبو عامر محمد بن سعدون من أعيان حفاظ الإسلام، قال ابن عساكر: إنه أحفظ شيخ لقيه، وشيوخ ابن عساكر زهاء ألف ومائتي شيخ، وكان الفقيه أعلم الدين القمني، يحفظ ما سمعه من مرة واحدة، وكان الشافعي من أحفظ أهل دهره، قضى عشرين سنة في تعلم الأدب والتاريخ، وقال: ما أردت بهذا إلا الاستعانة على الفقه، ويروى أنه نظر في كتاب لأبي حنيفة، فما كان من الغد إلا أن غدا راويا له مستظهرا إياه بجملته. وابن دريد صاحب المقصورة من علماء اللغة كان آية من آيات الله في اتساع صدره للرواية، تقرأ عليه دواوين العرب، فيسارع إلى إملائها من محفوظه، وقيل: إن أحمد بن حنبل إمام المحدثين كان يحفظ ألف ألف حديث، قال سعيد بن جبير من أعلام التابعين: قرأت القرآن في ركعة في البيت الحرام، وقال إسماعيل بن عبد الملك: كان سعيد بن جبير يؤمنا في شهر رمضان، فيقرأ ليلة بقراءة عبد الله بن مسعود، وليلة بقراءة زيد بن ثابت، وليلة بقراءة غيره هكذا أبدا، ولا عجب وهو الذي قال فيه أحمد بن حنبل: قتل الحجاج سعيد بن جبير، وما على وجه الأرض أحد إلا وهو مفتقر إلى علمه.
وكان علي الرازي يقول: من فهم هذا الكتاب - يعني الجامع الصغير لمحمد - فهو من أصحابنا، ومن حفظه كان أحفظ أصحابنا، وإن المتقدمين من مشايخنا كانوا لا يقلدون أحدا القضاء حتى يمتحنوه، فإن حفظه قلدوه القضاء وإلا أمروه بالحفظ. وذكر صاحب فتح الطيب أنه كان خارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية في كل واحدة منبر وفقيه مقلص تكون الفتيا في الأحكام والشرائع له، وكان لا يجعل القالص منهم على رأسه إلا من حفظ الموطأ، وقيل من حفظ عشرة آلاف حديث والمدونة. وكان بديع الزمان الهمذاني يحفظ خمسين بيتا بسماع واحد، ويؤديها من أولها إلى آخرها، وينظر في كتاب نظرا خفيفا، ويحفظ أوراقا ويؤديها من أولها إلى آخرها، وينظر في الأربعة والخمسة الأوراق من كتاب لم يعرفه، ولم يره نظرة واحدة خفيفة، ثم يهذها عن ظهر قلبه هذا ويسردها سردا، وهذا حاله في الكتب الواردة وغيرها، وكان أبو رياش أحمد بن إبراهيم من رواة الأدب، يحفظ خمسة آلاف ورقة لغة، وعشرين ألف بيت شعر، إلا أن أبا محمد المافروخي بذ عليه؛ لأنهما اجتمعا أول ما تشاهدا بالبصرة، فتذاكر أشعار الجاهلية، وكان أبو محمد يذكر القصيدة فيأتي أبو رياش على عيونها، فيقول أبو محمد إلا أن تهذها من أولها إلى آخرها، فينشد معه ويتناشدان إلى آخرها، ثم أتى أبو محمد بعدة قصائد، لم يتمكن أبو رياش أن يأتي بها إلى آخرها، وفعل ذلك في أكثر من مائة قصيدة حدثني بذلك من حضر ذلك المجلس معهما، قاله ياقوت في معجم الأدباء.
وكان الحفظ في كل فن شائعا بين أهل الأدب وطلاب العلم، على اختلاف ضروبه عند العرب، على نحو ما يتضح من تصفح سير رجالهم، ولو لم يكن استناد المؤلفين في الأغلب إلا على ما في لوح محفوظهم، لما تيسر لهم أن يؤلف أحدهم عشرات من المجلدات يعجز العالم اليوم عن نسخها، بل عن تصفحها.
فقد كان العرب قبل البعثة يروون قصائد شعرائهم وأغاني حداتهم، كما يؤخذ من اجتماعاتهم في سوق عكاظ ومربد البصرة، ولم تكن بضاعتهم من ذلك كثيرة؛ لأن أمراء الكلام لم ينبغوا إلا في الإسلام، بظهور نور النبوة وفصاحة الكتاب العزيز. ولقد كان الراوية والنسابة ينشد عشرات بل مئات من القصائد، كما يحفظ أحدنا لهذا العهد الأبيات القليلة غير متلعثم ولا متردد، خذ مثالا لذلك حمادا الرواية المتوفى سنة 155، فقد كان على قلة بضاعته من العربية يروي المئات من القصائد للجاهلين والمخضرمين، كما يروي فاتحة الكتاب، ويذكر أشعار العرب وأيامهم وأنسابهم ولغاتهم، كأنه يروي قصة، وكان ملوك بني أمية يرجعون إليه في هذا المعنى، ويحلونه منزلة عالية من التجلة والإكرام، روي أن الوليد بن يزيد الأموي قال له يوما وقد حضر مجلسه: بم استحققت هذا الاسم، فقيل لك الراوية فقال: بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن تعترف أنك لا تعرفه ولا سمعت به، ثم لا ينشدني أحد شعرا قديما ولا محدثا إلا ميزت القديم من المحدث، فقال: ثم فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثير، ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام، قال: سأمتحنك في هذا، ثم أمره بالإنشاد فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهلية، وأخبر الوليد بذلك، فأمر له بمائة ألف درهم، ونوادره كثيرة.
وكان الأصمعي المتوفى سنة 318 أو قبلها صاحب لغة ونحو، وإماما في أخبار العرب وملحهم وغرائبهم، قال عمر بن شبة: سمعت الأصمعي يقول: أحفظ ستة عشر ألف أرجوزة، وقال إسحاق الموصلي: لم أر الأصمعي يدعي شيئا من العلم فيكون أعلم به منه، وحضر يوما عند الفضل بن الربيع هو وأبو عبيدة معمر بن المثنى فقال له: كم كتابك في الخيل؟ فقال الأصمعي: مجلدا واحدا، فسأل أبا عبيدة عن كتابه، فقال: خمسون مجلدة، فقال له: قم إلى هذا الفرس وأمسك عضوا عضوا منه وسمه، فقال: لست بيطارا، وإنما هذا شيء أخذته عن العرب، فقال للأصمعي: قم وافعل أنت ذلك، فقام الأصمعي وأمسك ناصيته، وشرع يذكر عضوا عضوا ويضع يده عليه، وأنشد ما قالت العرب فيه إلى أن فرغ منه. قال أبو حمدون الطيب بن إسماعيل: شهدت ابن أبي العتاهية، وقد كتب عن أبي محمد اليزيدي قريبا من ألف مجلد عن أبي عمرو بن العلاء خاصة، ويكون ذلك نحو عشرة آلاف ورقة؛ لأن تقدير المجلد عشر ورقات.
قال أبو نواس: ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب، منهم الخنساء وليلى، فما ظنك بالرجال، قلت: ولذلك جاء شعر أبي نواس أحسن شعر المولدين، كما شهد له بذلك أصحاب الشأن في هذه الصناعة، وفي مقدمتهم الجاحظ الذي فضل شعره على شعر العرب العرباء، قال إسماعيل بن نوبخت: ما رأيت قط أوسع علما من أبي نواس ولا أحفظ منه، مع قلة كتبه. ولقد فتشنا منزله بعد موته فما وجدنا فيه إلا قمطرا فيه جزاز مشتمل على غريب ونحو.
قال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: دخل أبو عمرو إسحاق بن مراد الشيباني البادية، ومعه وستيجتان من حبر، فما خرج حتى أفناهما بكتب سماعه عن العرب، وكان أبو عمرو عالما بأيام العرب، جامعا لأشعارها، ويروى عن عمرو بن أبي عمرو قال: لما جمع أبي أشعار العرب كانت نيفا وثمانين قبيلة، وكان كلما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفا بخطه، ويحكى أنه أخذ عن المفضل الضبي دواوين العرب، وسمعها منه أبو حيان، وابنه عمرو بن أبي عمرو الشيباني من العلم والسماع أضعاف ما كان مع أبي عبيدة، ولم يكن من أهل البصرة مثل أبي عبيدة في السماع والعلم، قال سلمة: أملى القراء كتبه كلها حفظا لم يأخذ بيده نسخة إلا في كتابين، ومقدار كتب الفراء ثلاثة آلاف ورقة، وكان مقدار الكتابين خمسين ورقة، ويقال: إن الأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة، وكان الخليل يحفظ نصف اللغة، وكان أبو فيد يحفظ الثلثين، وكان أبو مالك يحفظ اللغة كلها، وكان الغالب على أبي مالك حفظ الغريب والنوادر. وكان ابن الأعرابي أحفظ الناس للغات والأيام والأنساب، وقال أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: قال لي ابن الأعرابي: أمليت قبل أن تجيئني يا أحمد حمل جمل. وقال ثعلب: انتهى علم اللغة والحفظ إلى ابن الأعرابي. وقال ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول في كلمة رواها الأصمعي: سمعت من ألف أعرابي خلاف ما قاله الأصمعي.
وكان قتادة عالما نحريرا، وأجمع الناس لأشعار العرب وأنسابهم، قال أبو عبيدة: ما كنا نفقد كل يوم راكبا من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة، فيسأله عن خبر أو نسب أو شعر، وكان من أنسب الناس، وكان ابن الكلبي النسابة واسع الرواية، ومن أعلم الناس بالنسب، وكان من الحفاظ المشاهير، قال: حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت ما لم ينسه أحد، كان لي عم يعاتبني على حفظ القرآن، فدخلت بيتا وحلفت ألا أخرج منه حتى أحفظ القرآن، فحفظته في ثلاثة أيام، وتصانيفه تزيد على مائة وخمسين تصنيفا وتوفي سنة 204.
وكان أبو عبيدة معمر بن المثنى من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارهم وأشعارهم ، قال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه، ومع أنه كان يلحن ويخطئ إذا قرأ القرآن، وإذا أنشد بيتا لا يقيم وزنه، وإذا تحدث أو قرأ لحن اعتمادا منه؛ لذلك فقد صنف قرابة مائة مصنف، وكان يرى رأي الخوارج؛ ولذلك كثر الطاعنون في نسبه ومشربه ومذهبه وتوفي سنة 209.
كان أبو المحاسن الرؤباني (المتوفى سنة 502) من رءوس الأفاضل في أيامه يقول: لو احترقت كتب الشافعي لأمليتها من خاطري. وقال أبو بكر النحوي لما قدم الحسن بن سهل العراق، قال: أحب أن أجمع قوما من أهل الأدب، فأحضر أبا عبيدة والأصمعي، ونصر بن علي الجهضمي وحضرت معهم، وأفضنا مرة في ذكر الحفاظ، فذكرنا الزهري وقتادة ومررنا، فالتفت أبو عبيدة فقال: ما الغرض - أيها الأمير - في ذكر من مضى وبالحضرة ههنا من يقول ما قرأ كتابا قط، فاحتاج إلى أن يعود فيه، ولا دخل قلبه شيء فخرج عنه، فالتفت الأصمعي وقال: إنما يريدني بهذا القول أيها الأمير، والأمر في ذلك على ما حكى، وأنا أقرب إليك قد نظر الأمير فيما نظر فيه من الرقاع - وكان نظر قبل أن يلتفت إليهم في رقاع بين يديه للناس في حاجاتهم، فوقع عليها فكانت خمسين رقعة - وأنا أعيد ما فيها وما وقع به الأمير على رقعة رقعة، قال: فأمر وأحضرت الرقاع، قال الأصمعي: سأل صاحب الرقعة الأولى كذا واسمه كذا فوقع له بكذا، والرقعة الثانية والثالثة حتى مر في نيف وأربعين رقعة ، فالتفت إليه نصر بن علي فقال: أيها الرجل، أبق على نفسك من العين. فكف الأصمعي.
وما لي وتعداد الأسماء على هذا النحو فكتب القوم طافحة بها، وإنما يكفي منها التمثيل والقليل يغني، ولقائل إن هذا القدر من الحفظ كان بعضه شائعا في القرنين الأولين والقرون الثلاثة، وقد بالغ فيه الرواة حتى اتصل بنا على هذه الصورة، وما حجتي في نقض هذا إلا وقوع أمثال أمثاله في كتب أهل القرون المتأخرة، مما تواطأ الثقات على نقله وتحرزوا في إثباته، ولقد كان الغرب في هذه المزية كالشرق؛ إذ قد حذا المغاربة في حضارتهم وعلومهم حذو المشارقة، فقد كان ابن عبدون - أحد فحول شعراء الأندلس وكتابها - مستكثرا من الحفظ، قال الوزير أبو بكر بن زهر: بينا أنا قاعد في دهليز دارنا، وعندي رجل شيخ أمرته أن يكتب لي كتاب الأغاني، فجاء الناسخ بالكراريس التي كتبها فقلت له: أين الأصل الذي كتبت عنه لأقابل معك به؟ قال: ما أتيت به معي، فبينا أنا معه في ذلك إذ دخل رجل بذ الهيئة عليه ثياب غليظة أكثرها صوف، وعلى رأسه عمامة قد لاثها من غير إتقان وقال لي: يا بني استأذن لي على الوزير أبي مروان، فقلت له: هو نائم، هذا بعد أن تكلفت جوابه غاية التكلف، حملتني على ذلك نزوة الصبا، وما رأيت من خشونة هيئة الرجل، ثم سكت عني ساعة وقال: ما هذا الكتاب الذي بأيديكما، فقلت له: ما سؤالك عنه فقال: أحب أن أعرف اسمه، فإني كنت أعرف أسماء الكتب، فقلت: هو كتاب الأغاني، فقال: إلى أين بلغ الكاتب منه؟ قلت: بلغ موضع كذا، وجعلت أتحدث معه على طريق السخرية به والضحك على قالبه، فقال: وما لكاتبك لا يكتب، قلت: طلبت منه الأصل الذي يكتب منه لأعارض به هذه الأوراق فقال: لم أجيء به معي، فقال: يا بني خذ كراريسك وعارض، قلت: بماذا وأين الأصل، قال: كنت أحفظ هذا الكتاب في مدة صباي، قال: فتبسمت من قوله فلما رأى تبسمي قال: يا بني أمسك علي، قال: فأمسكت عليه وجعل يقرأ فوالله إن أخطأ واوا ولا فاء، قرأ هكذا نحوا من كراسين، ثم أخذت له في وسط السفر وآخره، فرأيت حفظه في ذلك كله سواء فاشتد عجبي، وقمت مسرعا حتى دخلت على أبي فأخبرته بالخبر، ووصفت له الرجل فقام كما هو من فوره، وكان ملتفا برداء ليس عليه قميص، وخرج حاسر الرأس حافي القدمين لا يرفق على نفسه وأنا بين يديه، ويقول: يا مولاي أعذرني فوالله ما أعلمني هذا الخلف إلا الساعة، وجعل يسبني والرجل يخفض عليه ويقول: ما عرفني، وأبي يقول: هبه ما عرفك فما عذره في حسن الأدب، ثم أدخله الدار وأكرم مجلسه وخلا به فتحدثا طويلا، ثم خرج الرجل وأبي بين يديه حافيا، حتى بلغ الباب وأمر بدابته التي يركبها، فأسرجت وحلف عليه ليركبنها، ثم لا ترجع إليه أبدا، فلما انفصل قلت لأبي: من هذا الرجل الذي عظمته هذا التعظيم؟ قال لي: اسكت، ويحك، هذا أديب الأندلس وإمامها وسيدها في علم الآداب، هذا أبو محمد عبد المجيد بن عبدون أيسر محفوظاته كتاب الأغاني. رواها المراكشي.
وروى أيضا قصة تشبهها قال: إنه لزم أبا جعفر الحميري آخر من انتهى إليه علم الآداب بالأندلس المتوفى سنة 610 نحوا من سنتين، فما رأيت أروى لشعر قديم ولا حديث، ولا أذكر بحكاية تتعلق بأدب، أو مثل سائر، أو بيت نادر، أو سجعة مستحسنة منه، أدرك جلة من مشايخ الأندلس، فأخذ عنهم علم الحديث والقرآن والآداب، وأعانه على ذلك طول عمره، وصدق محبته، وإفراط شغفه بالعلم، قال لي ولده عصام: وقد رأيت عنده نسخة من شعر أبي الطيب قرئت علي أو أكثرها، فألقيتها شديدة الصحة، فقلت له: لقد كتبتها من أصل صحيح وتحرزت في نقلها، فقال لي: ما يمكن أن يكون في الدنيا أصل أصح من الأصل الذي كتبت منه، فقلت له: أين هو؟ فقال لي: عن يمينك، فعلمت أنه يريد الشيخ، فقلت: ما على يميني إلا الأستاذ، فقال لي: هو أصلي وبإملائه كتبت، كان يملي علي من حفظه، فجعلت أتعجب، فسمع الأستاذ حديثنا فالتفت إلينا وقال: فيم أنتما؟ فأخبره ولده الخبر، فلما رأى تعجبي قال: بعيد أن تفلحوا، يعجب أحدكم من حفظ ديوان المتنبي؟! والله لقد أدركت أقواما لا يعدون من حفظ كتاب سيبويه حافظا ولا يرونه مجتهدا.
ومن نظر فيما أثر عن الأندلسيين وحدهم من هذا القبيل يكتب أوراقا كثيرة، وكنت قرأت في الاستقصاء أن من جملة من غرق مع السلطان أبي الحسن لما قصد الغرب في البحر بأسطوله الغريق، وكان مؤلفا من نحو ستمائة قطعة مع من غرق من الفقهاء، والعلماء، والكتاب، والأشراف أبو عبد الله محمد بن الصباغ المكناسي الذي أملى في مجلس درسه بمكناسة على حديث يا أبا عمير ما فعل النغير أربعمائة فائدة.
وقيل: إن صدر الدين بن الوكيل، ويعرف عند المصريين بابن المرجل من أئمة الشافعية، حفظ المفصل في مائة يوم ويوم، والمقامات الحريرية في خمسين يوما، وديوان المتنبي على ما قيل في جمعة واحدة.
وذكر المقريزي عن حكايات أهل الأندلس في الحفظ أن الأديب الأوحد حافظ إشبيلية، بل الأندلس في عصره أبا المتوكل الهيثم بن أحمد بن أبي غالب، كان أعجوبة دهره في الرواية للأشعار والأخبار، قال ابن سعيد: أخبرني من أثق به أنه حضر معه ليلة عند أحد رؤساء إشبيلية، فجرى ذكر حفظه، وكان ذلك من أول الليل، فقال لهم: إن شئتم تخبروني أجبتكم، فقالوا له: بسم الله، إنا نريد أن نحدث عن تحقيق، فقال: اختاروا أي قافية شئتم لا أخرج عنها حتى تعجبوا، فاختاروا القاف، فابتدأ من أول الليل إلى أن طلع الفجر وهو ينشد وزن «أرق على أرق ومثلي يأرق» وسماره قد نام بعض وضج بعض، وهو ما فارق قافية القاف، وقال أبو عمران بن سعيد: دخلت عليه يوما بدار الأشراف بإشبيلية، وحوله أدباء ينظرون في كتب منها ديوان ذي الرمة، فمد الهيثم يده إلى الديوان المذكور فمنعه أحد الأدباء، فقال: يا أبا عمران أواجب أن يمنعه مني وما يحفظ منه بيتا وأنا أحفظه؟! فأكذبته الجماعة ، فقال: اسمعوني. وأمسكوه فابتدأ من أوله حتى قارب نصفه، فأقسمنا عليه أن يكف وشهدنا له بالحفظ، وكان آية في سرعة البديهة مشهورا بذلك، قال أبو الحسن بن سعيد: عهدي به في إشبيلية يملي على أحد الطلبة شعرا، وعلى ثان موشحة وعلى ثالث زجلا كل ذلك ارتجالا.
قال ابن خلكان: كان أبو الفرج الأصبهاني - صاحب كتاب الأغاني - يحفظ من الشعر والأغاني والأخبار والآثار والأحاديث المسندة والنسب، ما لم أر قط من يحفظ مثله، ويحفظ دون ذلك من علوم أخر، منها اللغة ، والنحو، والخرافات، والسير، والمغازي، ومن آلة المنادمة شيئا كثيرا، مثل علم الجوارح والسيطرة، ونتف من الطب والنجوم والأشربة وغير ذلك، وذكر صاحب الصبح المنبي أن العلم الفرد في قوة الحافظة عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما. ولقد شرط الملك المعظم عيسى لكل من يحفظ المفصل للزمخشري مائة دينار وخلعة، فحفظه لهذا السبب جماعة.
قال أبو عمر الطلمنكي: دخلت مرسية فتشبث بي أهلها يسمعون على الغريب المصنف، فقلت: انظروا من يقرأ لكم، وأمسكت أنا كتابي، فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيدة - وهو صاحب المخصص في اللغة الذي طبع مؤخرا - فقرأه علي من أوله إلى آخره فعجبت من حفظه. ولقد لازم ثعلب بن الأعرابي، فما رآه نظر في كتاب، وأخبار الأصمعي في الحفظ والرواية أشهر من أن تذكر، وكذلك خلف الأحمر والكلبي وعبيد ودعبل، وكان أبو تمام لا يلحق في محفوظاته، وقيل: إنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب، غير القصائد والمقاطيع، قال أبو الحسن محمد بن علي العلوي: كان المتنبي يلازم الوارقين، فأخبرني وزان كان يجلس إليه قال: ما رأيت أحفظ من هذا الفتى ابن عبدان السقي «المتنبي»، قلت له: كيف؟ قال: اليوم كان عندي وقد أحضر رجل كتابا من كتب الأصمعي، يكون نحوا من ثلاثين ورقة لبيعه، فأخذه فنظر إليه طويلا، فقال له الرجل: أريد بيعه وقد قطعتني عن ذلك، فإن كنت قد حفظته في هذه المدة فمالي عليك، قال: أهب لك الكتاب، قال: فأخذته من يده، فأقبل بهذه علي إلى آخره، ثم استلمه فجعله في كمه، وقام فتعلق به صاحبه طالبا بماله، فقال: ما إلى ذلك سبيل وقد وهبته لي، قال: فمنعناه منه وقلنا: أنت شرطت على نفسك هذا للغلام فتركه عليه، والأمثلة كثيرة في هذا الباب والله أعلم.
الإنشاء والمنشئون1
إذا أردنا أن نحكم على المنشئين بما انتهى إلينا من خطبهم ورسائلهم ومحاوراتهم ومصنفاتهم، وبدأنا بأهل القرن الأول للإسلام، نرى على رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - فإنه سيد البلغاء على الإطلاق، وواضع بنيان البيان العربي، وكلامه كما قال العارفون: بعد كلام الله وكلام رسوله - عليه الصلاة والسلام - أبلغ كلام، ونهج البلاغة
2
الذي جمعه الشريف الرضي من كلامه، وشرحه ابن أبي الحديد كتاب الدهر الخالد، وقد عد كثير من الصحابة أئمة في الكتابة والخطابة (راجع «إعجاز القرآن» للباقلاني و«الإتقان» و«المزهر» للسيوطي).
ولم يؤثر عن عصور الجاهلية خطب ورسائل كثيرة؛ لأن التدوين لم يحدث في الأمة العربية إلا في أوائل القرن الثاني للهجرة، وكانت العرب تعتمد على ذاكرتها ومحفوظها ورواياتها المتسلسلة، قال الرقاشي: ما تكلمت به العرب من جيد المنثور أكثر مما تكلمت به من جيد الموزون، فلم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره، ومعظم الذي أبقته الأيام من أدب العرب لم يبرح محفوظا في الخزائن لم يطبع، وأكثره محفوظ في جامعات أوروبا ودور كتبها.
ختم القرن الأول بأمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز، فإن رسائله الموجزة وخطبه الغراء التي نقلها ابن سعد في «الطبقات الكبير»، وابن الجوزي في «مناقبه» آية في البلاغة، وفيها من أدب العرب مسحة وطلاوة، ورسائله وخطبه في الإدارة والسياسة على قلتها، تربي فيمن يتدبرها ملكة الإنشاء، وتقف به على أصول الإدارة العربية، ومن بلغاء هذا القرن زياد بن أبيه، والحجاج بن يوسف الثقفي، وقطري بن الفجاءة، وعمران بن حطان، وهذان الأخيران من خطباء الخوارج، وقد استغرقت أخبار الخوارج الذين خرجوا على الخليفة الرابع يوم النهروان، جزءا مهما من كتاب «الكامل» للمبرد، تتمثل بها بلاغة الفوضويين والعدميين والشيوعيين في الإسلام.
جاء القرن الثاني وقد نبغ في أوله عبد الحميد بن يحيى الكاتب، وهو النهاية في البلاغة والفصاحة، اختط للناس خطة الترسل والإنشاء، ثم عبد الله بن المقفع الذي أسلست له الكتابة قيادها، فلم تعد له هنة واحدة في باب التكلف، بل كان في «اليتيمة» وسائر ما فاضت به قريحته من رسائله ابتداء، كما كان في ترجماته «كليلة ودمنة» طبقة عالية في البلاغة، ولو عمر بن المقفع (عاش ستا وثلاثين سنة) لأبقى لنا أمثلة في البيان ، يتخرج بها طلاب الأدب من العرب، على غابر الحقب، ونبغ في هذا القرن سهل بن هارون، وهو بالقليل الذي وصلنا من رسائله نابغة في علمه وأدبه، وناهيك بمن كان الجاحظ ينوه به، وينقل عنه في كتبه، وكان كثيرا ما يؤلف الكتاب وينسبه لسهل بن هارون فيجمع الناس على استحسانه، أكثر مما كان لو نسبه لنفسه، وكتابة سهل من السهل الممتنع، لا حوشي فيها ولا مبتذل، أو كما قال الجاحظ في الكتاب: «إنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا»، ومن خطباء هذا القرن داود بن علي وشبيب بن شيبة، ومن كتابه إسماعيل بن صبيح كاتب الرشيد، وعمر بن مطرف كاتب المنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد، وصالح بن جناح صاحب كتاب «الأدب والمروءة»، وكلامه رشيق دقيق مستفاد في الحكمة.
وكان يقال: بلغاء الناس عشرة عبد الله بن المقفع، وعمارة بن حمزة، وخالد بن يزيد، وحجر بن محمد، وأنس بن أبي شيخ، وسالم بن عبد الله، ومسعدة، والهزبر، وعبد الجبار بن عدي، وأحمد بن عدي، وأحمد بن يوسف. قال صاحب «الفهرست»: ومن البلغاء الحدث إبراهيم بن العباس الصولي، والحسن بن وهب، وسعيد بن عبد الملك، ولم يصل إلينا من كلام هؤلاء الجهابذة شيء يذكر اللهم إلا ما عرف من كلام ابن المقفع وأحمد بن يوسف والصولي، والباقون دثرت كتاباتهم إلا نتفا قليلة لا يبنى عليها حكم.
ومن كتاب هذا القرن أبو إسحاق الكاتب إبراهيم بن محمد المدبر وزير المعتمد على الله المتوفى سنة 279 - صاحب النظم الرائق والنثر الفائق - وهو صاحب «الرسالة العذراء في موازين البلاغة وأدوات الكتابة» التي نشرناها في «رسائل البلغاء».
وامتاز القرن الثالث بظهور الجاحظ (255ه)، الذي رزق الإجادة في كل ما كتب، وهو رب البديهة في أفكاره ومظاهر علمه وتقريره، ولم يعهد قبله أن تبرز الموضوعات المختلفة في هذا القالب الفتان، الذي يظهرها فيه غير متكلف ولا متعسف، وكلماته كلما كررتها حلت، وبقدر ما تتلوها تتجلى لك رقة معانيها ومتانة مبانيها، وتدهش وأنت تطالع كلامه من تملكه ناصية اللغة، وبراعته في استعمال الألفاظ في أماكنها، وربما تساهل فأورد ألفاظا عامية في معرض كلامه لينقل الأفكار بحالتها، ولم يكد يعهد مثله في المجودين من المؤلفين من يريك ببيانه الباطل حقا، والحق باطلا، يقول الشيء ونقيضه، ويقنعك في الأول حتى لا تظنك تقنع بعد بكلام، ويرجع عليك بكلم طيب، فينسيك ما أصاب في الأولى، وهكذا يلعب بالعقول كالسحر، ولكنه السحر الحلال.
افتح أي كتاب من كتب الجاحظ التي أبقتها الأيام للمكتبة العربية ذخرا وفخرا، تشهد العجب من تفننه وإبداعه، وتدرك كيف تستجيب له المعاني، وتنقاد الألفاظ برشاقتها وجزالتها، وقد يشوب كلامه ببعض الظرف والهزل والنوادر أحيانا لئلا يمل مطالعه، هكذا تراه في «كتاب الحيوان» و«البيان والتبيين» و«البخلاء» و«المحاسن والأضداد» و«الحاسد والمحسود» وغيرها من رسائله، وهي بضع وعشر رسائل مطبوعة، وكل صفحة من صفحاتها أفيد من مجلد برمته. وممن يجيء بعد الجاحظ أبو حنيفة الدينوري صاحب كتاب «الأخبار الطوال»، وأبو حنيفة أكثر ندارة، وأبو عثمان - الجاحظ - أكثر حلاوة، ومعاني أبي عثمان لائطة بالنفس، سهلة في السمع، ولفظ أبي حنيفة أعذب وأعرب، وأدخل في أساليب العرب، قال أبو حيان التوحيدي: والذي أقول وأعتقده وآخذ به وأساهم عليه، أني لم أجد في جميع من تقدم وتأخر إلا ثلاثة لو اجتمع الثقلان (؟) على تقريظهم ومدحهم، ونشر فضائلهم في أخلاقهم وعلمهم ومصنفاتهم ورسائلهم لما بلغوا آخر ما يستحقه كل واحد منهم، وذكر الجاحظ والدينوري وثلث بأبي زيد أحمد بن سهل البلخي، ووصف كل واحد بألفاظ عجيبة.
ومما امتاز به هذا القرن أن علوم الأوائل التي بدئ بترجمتها في منتصف القرن الأول في دمشق، بمعرفة خالد بن يزيد الأموي، وعني بها عمر بن عبد العزيز أواخره، قد زادت العناية بها في بغداد على عهد المنصور العباسي، ثم بلغت أشدها في زمن المأمون، وقد أدخلت هذه العلوم والصناعات في العربية روحا جديدا، فترجم إليها من اليونانية والسريانية والفارسية والهندية وغيرها، فاغتنت اللغة ورأت من الأساليب والأفكار ما لا عهد لها به ، وهذا أول تأثير من آداب الأمم الأخرى أصاب اللغة العربية، فأصبحت لغة علم وصناعة، بعد أن كانت لغة شعر وحكمة فقط، وعصر المأمون هو في الحقيقة العصر الذهبي في الأدب والكتابة والعلم وسائر مقومات الحضارة العربية.
قلنا: إن أحمد بن يوسف الكاتب هو من أوائل البلغاء، وقد أورد بعض رسائله الصولي في كتاب «الأوراق» المخطوط، وأورد له ابن طيفور صاحب «كتاب بغداد» المطبوع نموذجات من رسائله، وفي كتب التراجم المطولة شيء عن كتاباته المسجعة على مثال السجع، الذي يقع في كلام أئمة البلاغة في القرن الأول، وناهيك برجل أعجب المأمون بعقله وأدبه فاستوزره واستكتبه، والكتاب المجودون في هذا القرن كثيرون، ومنهم عمرو بن مسعدة وزير المأمون، «وكان كاتبا بليغا جزل العبارة وجيزها، سديد المقاصد والمعاني»، وصدق عليه ما قاله الرشيد في البلاغة: «البلاغة التباعد عن الإطالة، والتقرب من معنى البغية، والدلالة بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى»، وأبو علي الدامغاني الوزير، وأبو الفتح البستي «صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس النفيس البديع التأسيس».
ومن أهم من انتشرت كتبهم ابن قتيبة (276)، فهو ثاني الجاحظ بعلمه وجودة إنشائه وتأثيره، وفي كتابه «الإمامة والسياسة» و«كتاب العرب» و«مختلف تأويل الحديث» و«الأشربة» و«المعارف» و«عيون الأخبار» و«أدب الكاتب» ما يدل على روح سام، سار فيه الأدب مع العلم سيرا متساوقا. ويعد من كتاب الدرجة الأولى في القرن الرابع أحمد بن يوسف المعروف بابن الداية (340)، بغدادي الأصل، انتقل أبوه إلى مصر، وكان أحمد من كتاب الدولة الطولونية، وقد عرفناه من كتاب «المكافأة» الذي نشر له مؤخرا مع قطعة من كتابه «حسن العقبى»، وهي عبارة عن حكايات فيها حكمة ومواعظ واعتبار آية في البلاغة، ومنهم أبو بكر الصولي (335) صاحب كتاب «الأوراق» و«أدب الكتاب»، وأحمد بن عبد ربه (328) صاحب «العقد الفريد»، وجعفر بن قدامة ابن زياد الكاتب (319)، وعرفنا من أهل هذا القرن زمرة من الكتاب الذين زانوه بأقوالهم وأفضالهم، ومنهم أبو الفضل بن العميد وزير بني بويه (360)، وكان أبوه أيضا كاتبا مترسلا من كتاب الدولة السامانية، وابن العميد أول من فتح باب السجع، وأكثر من أنواع البديع، وكان يقال: فتحت الرسائل بعبد الحميد، وختمت بابن العميد. كما قيل: بدئ الشعر بملك؛ أي امرئ القيس، وختم بملك؛ أي أبي فراس الحمداني. وما قيل في ابن العميد يقال في الصاحب بن عباد (387)، فهو أيضا ممن تناغى بالجناس، وأكثر من الأسجاع، وكان يقول: كتاب العصر أربعة: الأستاذ الرئيس يعني ابن العميد، والأستاذ أبو القاسم يعني عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق يعني الصابي، ولو شئت لذكرت الرابع يعني نفسه.
ويجيء مع هذه الطبقة أبو بكر الخوارزمي (383)، وكان يميل إلى طريقة ابن العميد في الكتابة، و«رسائله» المطبوعة المشهورة مثال البلاغة والفصاحة على كثرة الأسجاع فيها حتى لا يكاد يعدوها، وقلما تفوته. وأما بديع الزمان الهمذاني (398) صاحب «الرسائل» و«المقامات» المشهورة، فإنه سار مع الطبع أكثر من الخوارزمي، وكثيرا ما يترك التسجيع وأنواع البديع، وإذا استعملها ففي مواطن خاصة وجمل معينة، ثم يعود إلى طبعه فتأخذ أقواله بمجامع القلوب، وأكثر ما قرأناه من «رسائل الصابي» (384) الصادرة عن الخلفاء وغيرهم، ومنها ما طبع على حدة، ومنها ما اقتبس في «صبح الأعشى»، قد أفرغ في قالب من السجع البديع المستملح، وقد يتخلى عنه في بعض التقاليد والعهود، ولو تيسر له أن يطرح السجع على طريقة البديع، لجاءت كتاباته مفخر الأسلاف، وأعظم معلم للأخلاف.
وممن نبغ في ذاك القرن أبو الفرج الببغا، وعبد الله بن عمرو الفياض - كاتب سيف الدولة ونديمه - وأبو القاسم علي الإسكافي النيسابوري، وكان من علو الرتبة في النثر وانحطاطها في النظم كالجاحظ، وعلي بن هند صاحب «الكلم الروحانية»، ويحيى بن عدي صاحب تهذيب الأخلاق أو سياسة النفس (364)، وابن حبان البستي (354) صاحب «روضة العقلاء»، والحاتمي صاحب «الرسالة الحاتمية» التي شرح فيها ما جرى بينه وبين أبي الطيب المتنبي، من إظهار سرقاته وإبانة عيوب شعره، والقاضي التنوخي (384) صاحب «النشوا» و«الفرج بعد الشدة»، وقدامة بن جعفر الكاتب (337) صاحب «نقد الشعر» و«كتاب الخراج»، وابن نباتة صاحب «الخطب » المشهورة، ومنهم أبو جعفر محمد بن العباس وزير المكتفي والمقتدر، وأبو منصور البغوي (75)، ورأس أدباء هذا القرن أبو العلاء المعري، والشعر غالب عليه، وكتابته مصنعة فيها كثير من عويص اللغة، وسبكها لا يخلو من يبوسة وجفاء طبع، ولكن «رسالة الغفران» التي كتبها ردا على رسالة ابن القارح - وكلاهما مطبوع - أشبهت رواية دانتي الشاعر الإيطالي
La divine comedie
وكانت من أعظم الروايات الخيالية الدالة على أن أعمى المعرة كان معلما لنابغة إيطاليا في الشعر والخيال، وبعض الباحثين من المتشرقين في أوروبا، على أن دانتي في روايته الإلهية المؤلفة من ثلاث روايات، وهي جهنم والمطهر والجنة التي ألفها بين سنتي 1300-1318م قد اقتبسها ولا سيما رواية جهنم من رسالة الغفران للمعري، ونسج على منواله في التصور.
وإن ما كتبه المعري على ديوان أبي تمام الطائي، وسماه «ذكرى حبيب» وعلى ديوان أبي عبادة البحتري وسماه «عبث الوليد»، وما كتبه على ديوان أبي الطيب المتنبي وسماه «معجز أحمد»، يدل على إحاطة المعري بأسرار العربية، وفهم كلام العرب ومراميهم، وشدة ملكته في النقد الأدبي، دع فلسفته في «لزومياته» و«دواوينه»، فالمعري فيلسوف لغوي وليس بكاتب. ومنهم علي بن خلف صاحب «مواد البيان»، الذي نقل القلقشندي في صبح الأعشى جزءا مهما منه. •••
وتميز القرن الخامس بظهور كثير من الكتاب فيه، ومن أشهرهم الذين تركت الأيام لنا شيئا من كتاباتهم الأمير قابوس بن وشكمير (403) صاحب «كمال البلاغة»، فإن كتاباته هي الموسيقى برنتها والشعر الفتان، ولكن بدون قافية وروي ، إلا أن الأسجاع غالبة عليه، مستحكمة في حواشي كلامه، آخذة بجماع أدبه خلافا للثعالبي (429) سيد كتاب هذا العصر، ومن أعظم مؤلفيهم في اللغة والآداب، فإن مقدمة كتابه «فقه اللغة» طبقة عالية في الكتابة المرسلة في عصره وبعده، ولو تخلى عن السجع في «يتيمة الدهر»، التي ترجم فيها أدباء عصره على نحو ما تركه في «المضاف والمنسوب» و«لطائف المعارف»، وغيرهما من كتبه ورسائله لما عيب عليه في شيء، ومثل ذلك يقال في ابن رشيق القيرواني (456) صاحب «العمدة» أحد أمهات كتب الأدب الذي انتقده أبو عبد الله بن شرف القيرواني في «رسائل الانتقاد»، وكان الناس في الدهر القديم يعتمدون على أربعة كتب لإتقان فن الأدب، «البيان والتبيين» للجاحظ، و«أدب الكاتب» لابن قتيبة، و«الكامل» للمبرد، و«الأمالي» لأبي علي القالي، ومن هذه الكتب الأربعة ما شرح ومنها ما اختصر، ومنها ما انتقد شرح «أدب الكاتب» لابن قتيبة بن السيد البطليوسي، وممن انتقدوا «آمالي القالي» أبو عبيد البكري صاحب «معجم ما استعجم»، في جزء لا يزال مخطوطا سماه: «التنبيه على أوهام أبي علي في أماليه.»
وممن توفي على رأس الأربعمائة أبو حيان التوحيدي، وهو مبتدع طريقة خاصة به قرأناها في كتاب «المقابسات» و«رسالة الصديق والصداقة» و«الإشارات الإلهية»، وذكر الثعالبي ثلاثة من كتاب آل بويه، وهم أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو أحمد عبد الرحمن بن الفضل الشيرازي، وأبو القاسم علي بن القاسم القاشاني، وأورد من كلامهم نموذجات لطيفة. ويعد في الطبقة الأولى من المؤلفين والكتاب المجيدين أبو الفرج الأصفهاني صاحب «الأغاني»، وأبو الحسن علي بن عبد العزيز صاحب كتاب «الوساطة» بين المتنبي وخصومه، والأمير عبد الله الميكالي فإنه من الكتاب المجيدين، والسجع غالب عليه، ومثله أبو النصر العتبي واضع «تاريخ ابن سبكتكين» المعروف باليميني، وهو التاريخ المسجع البديع، ويعد مؤلفه من أكبر المنشئين.
ومن كتاب هذا القرن ابن موصلايا (498)، وابن ناقيا (485)، والموفق بن الخلال صاحب ديوان الإنشاء على عهد الحافظ العبيدي بمصر، (وكانت له قوة على الترسل يكتب كما يشاء)، وكان الغالب على الموفق بن الخلال في رسائله العناية بالمعاني أكثر من طلب السجع، وكان فن الكتابة بمصر في زمن الدولة العلوية غضا طريا، وكان لا يخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس مكانا وبيانا، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطانا، وممن أثرت بعض رسائله في هذا القرن هلال بن المحسن الصابي (448) حفيد أبي إسحاق صاحب الرسائل ومؤلف كتاب «أخبار الوزراء». ومن المجيدين في الإنشاء وإن عدهم الناس في طبقة الحكماء أحمد بن مسكويه (421) مؤلف «تهذيب الأخلاق» و«الفوز الأصغر» و«تجارب الأمم»، فإن كتابته، مثال الإنشاء المرسل البديع. ومنهم أبو طاهر محمد بن حيدر (517) صاحب «قانون البلاغة» وهو لم يطبع.
وفي هذا العصر نبغ في الأندلس الوزير ابن زيدون (463) في النظم والنثر، و«رسالته» على لسان ولادة بنت المستكفي بالله أديبة عصرها من المرقص المطرب، ومثل ذلك يقال في الوزير ابن حزم الأندلسي (456)، فإنه من أكتب العلماء في عصره، ومن المكثرين من التأليف المجودين فيه، وناهيك بكتابه «طوق الحمامة» و«رسالته في الأخلاق» دليلا على أدبه الراقي، ومثالا من إنشاء عصره الذي أشبه في الأدب عصر لويز الرابع عشر في فرنسا.
ونشأ في هذا القرن والذي يليه في الأندلس طبقة من الكتاب، ومنهم من تولى الوزارة، والغالب أن الكاتب المجيد في الدهر السالف يكون وزيرا، كالخطيب المصقع في هذا الدهر يكون رئيس الوزراء، مثل الباجي، وابن الدباغ، وابن الجد، وابن القاسم، وأبي الأصبغ وابنه أبو عامر، وابن سفيان، وابن الحاج، وابن عبدون، وابن أبي الخصال، وابن عبد العزيز، وابن السقاط، وابن القصيرة «وكان هذا على طريقة قدماء الكتاب من إتيان جزل الألفاظ، وصحيح المعاني، من غير التفات إلى الأسجاع التي أخذها متأخرو الكتاب، اللهم إلا ما جاء في رسائله من ذلك عفوا من غير استدعاء»، ومنهم ابن عبد الغفور، وابن عمار، وابن الأفطس، وابن سالم، ومنذر بن سعيد، وابن أيمن، وابن اللبانة، وابن عبد البر والفرضي، وابن سعيد المؤرخ، وابن حيان، وابن القوطية، وأبو عبيد البكري صاحب «معجم ما استعجم » و«المسالك والممالك»، وابن الطفيل صاحب «رسالة حي بن يقظان»، وفيها إشارات لمذهب النشوء والارتقاء، ومنهم البطليوسي، وابن تومار، وابن هود، والنحلي والأشبوني، والقسطلي، وابن لبون، وابن رزين، والنمري، والسرقسطي، وابن القلاس، والقصاعي، والبهاري، والحجاري، والداني، والبلنسي، والطليطلي وغيرهم، وما منهم إلا منشئ مجود ومؤلف جزل العبارة رشيق الألفاظ، ولا غرو فإن الأندلس أخرجت للأدب رجالا عظاما، تشم من مكتوباتهم أرج الغرب، وقد جمع أحد علماء المشرقيات من الإسبان تراجم الأندلسيين من العرب، فكانوا ثلاثين ألف عالم، وأديب، وفقيه، ومهندس، وطبيب ... إلخ من أصحاب المنزلة، وترجم الفتح بن خاقان (535) صاحب «قلائد العقيان» و«مطمح النفس» لبعض أولئك الأدباء بالأسجاع المطبوعة، كما ترجم لهم ولغيرهم ابن بسام في «الذخيرة»، واشتهر بالوزارة من الكتاب المجودين في بغداد الوزير علي بن عيسى، والوزير أبو الحسن بن الفرات، ولعلي بن عيسى «مذهب في الترسل لا يلحقه فيه أحد ولا ابن الفرات»، ومنهم أبو علي محمد بن خاقان، ومحمد بن عبد الملك الزيات إلى غيرهم من الكتاب النابهين والخاملين، وربما كان في الخاملين من هم أعلى كعبا من النابهين.
وممن اشتهر بنثره في هذا العصر الحريري (510) صاحب «المقامات» و«درة الغواص»، وقد رزق بالمقامات الحظوة التامة، ولكنها أيضا من النثر المتكلف لا المرسل، ولو خيرنا بين نثره ونثر حجة الإسلام الغزالي (505) لاخترنا كتابة الغزالي، ولا سيما في الجزء الثالث من «الإحياء»، ورسائله التي أبان فيها عن طبعه خصوصا «التفرقة بين الإسلام والزندقة» و«تهافت الفلاسفة» و«الرد على الباطنية»، أو نثر الراغب الأصفهاني في «الذريعة إلى مكارم الشريعة» و«تفصيل النشأتين» و«المحاضرات»، أو الماوردي في «أدب الدنيا والدين» و«الأحكام السلطانية»، وفي كلام الحريري مسحة من التعمل، قد يصل إليه معظم من جمعوا أدواته من اللغة وكلام العرب لو شاءوا أن يحصروا وكدهم، ويتعملوا في منثورهم، وكان ابن الخشاب يقول: إن الحريري رجل مقامات؛ أي إنه لم يحسن من الكلام المنثور سواها، فإن أتى بغيرها فلا يقول شيئا، ولعل جار الله الزمخشري (538) يفوقه بإجادة صناعة النثر، فسجعاته في «تفسيره» و«المفصل» و«أساس البلاغة» و«مقاماته» و«أطواق الذهب» و«الكلم النوابغ» و«الفائق» في الغاية من الرقة والجزالة، وكانت بينه وبين رشيد الدين الوطواط صاحب «الرسائل» المطبوعة المسجعة محاورات ومرادات، والزمخشري أرقى بيانا وأوسع علما، ويعد في كتاب هذا القرن أبو الفتوح بن الجوزي (597) الواعظ المؤلف، فإنه خلف كتبا كثيرة، ومنها كتاب «الأذكياء» و«أخبار الحمقى والمغلفين»، وأمثال هذه الكتب أشبه شيء بما يطلق عليه الإفرنج اسم
Folklore
أي العادات والتقاليد، ومن مثل هذا كثير في العربية ، مثل أخبار «عقلاء المجانين» للحسن بن حبيب المفسر، وقد حدثنا التاريخ أن كثيرا من الكتاب ولا سيما في القرون الأولى وضع حكايات أشبه شيء بقصص الغربيين اليوم، يقصدون بها تلقين فكر، أو بث دعوة، أو إحداث مشغلة للعامة؛ لصدهم عن البحث في شأن مهم للدولة، وقد صنفوا كثيرا في الأسمار والخرافات، منها ما عربوه عن فارس والهند والروم وبابل، ومنها ما ابتدعوه، ومنهم كتب روايات غرامية ذكروا فيها أخبار العشاق الذين عشقوا في الجاهلية والإسلام، ومنهم من ذكر الحبائب المتظرفات، أو اكتفي بأخبار العشاق الذين تدخل أحاديثهم في السمر، وصنع المتأخرون قصة ألف ليلة وليلة فاشتهرت في الغرب، ونقلت إلى معظم لغات أوروبا، كما اشتهرت في الشرق العربي، ومثل ذلك يقال في قصة السندباد البحري والظاهر وتغريبة بني هلال، إلى غير ذلك مما لا يعد في الأدب الراقي؛ لأنه كتب للعامة، ولم يكتبه كتاب مجودون.
وممن نشأ في هذا القرن ضياء الدين بن الأثير صاحب «المثل السائر»، فهو أيضا كاتب مسجع مبدع، وهو الذي تصدى ابن أبي الحديد المدائني لمؤاخذته والرد عليه وعنته، وجمع هذه المؤاخذات في كتاب سماه «الفلك الدائر على المثل السائر». وسيد المنشئين على التحقيق في هذا العصر القاضي الفاضل وزير صلاح الدين، فهو حجة المنشئين سواء توسل بالسجع أو تخلى عنه، مع أنه لم يكن يفارقه على الأغلب، ولو انتهت إلينا رسائله كلها لجاءت بضعة مجلدات، والقليل المقتبس منه في صبح الأعشى «ورسائله » المخطوطة، وما نقل له في «الروضتين» مما تنبسط له النفس، ويجيء بعده في المرتبة عماد الدين الكاتب الأصفهاني، فهو سالك طريقته، ولكنه في دعواه التفوق على غيره من الكتاب أشبه الناس بصاحب المثل السائر، والدعوى تذهب بمهجة العلم وإن كانت صحيحة، وكتاباه «الفتح القسي» و«زبدة النصرة» نموذج أدبه، وراموز صالح من سجعه وترسله، وقد نشأ في عصر القاضي الفاضل والعماد الكاتب، كاتب هزلي اسمه الوهراني (ركن الدين أبو عبد الله محمد 585) عمل «المنامات والرسائل» المشهورة التي لم تطبع؛ وذلك لأنه أيقن لما دخل الشام مهاجرا من الجزائر أن بضاعته لا تنفق مع وجود القاضي الفاضل والعماد الكاتب، وتلك الحلبة كما قال ابن خلكان في «وفيات الأعيان»، فعمد إلى الهزل ونفق سوقه. ومنهم ابن منقذ صاحب كتاب «الاعتبار» ذكر فيه قصصا في الشجاعة وقعت له ولأسرته أصحاب قلعة شيزر على عهد الحمالات الصليبية الأولى، وذكر شيئا من عادات الصليبيين وأخبارهم وشجاعتهم على صورة مستغربة، ومنهم يحيى بن زيادة الشيباني انتهت إليه المعرفة بأمور الكتابة والإنشاء، وابن الصيرفي صاحب «الإشارة إلى من نال الوزارة» و«قانون ديوان الرسائل».
وممن كان في القرن السابع من الكتاب وسار على الطريقة الفاضلية في الإنشاء محيي الدين بن عبد الظاهر (692)، وابنه محمد فتح الدين، ويعد الأب والابن من واضعي نظام الإنشاء في عصرهما والعصرين التاليين، وابن عبد الظاهر أضعف في البلاغة بما ورد له في صبح الأعشى من الفاضل والعماد، ومن تقدمه في الميلاد، وممن عرف بالبراعة في تصوير البلدان والآثار عبد اللطيف البغدادي الفيلسوف (629)، فإن كتابه «الإفادة والاعتبار» شاهد له بأنه من خيرة البلغاء في عصره، ومنهم الوزير عبد المحسن بن حمو (643)، وبهاء الدين الإربلي، والكمال بن العديم (666).
وتعد رحلة ابن خبير الكناني الأندلسي (416) إلى الشرق من الأدب العالي؛ فقد وصف البلدان في عصره وصفا فاق فيه من تقدمه، مثل ابن بطلان وابن فضلان، كما فاق من تأخر مثل العبدري (688)، والبلوى (740)، وابن بطوطة (779)، والزركشي (794)، وابن أبي البركات النجدي (895)، على أن الجمل التي أثرت عن ابن بطلان في مطولات الجغرافية - وكانت رحلته من العراق إلى الشام في النصف الأول من القرن الخامس - تنم عن أدب وفضل ذوق في وصف البلدان والسكان، والقليل مما قرأناه من هذا القبيل في معجم البلدان، ولأحمد بن فضلان - وكان المقتدر بالله العباسي أرسله إلى ملك الصقالبة سنة 309ه - يدل أيضا على ذوق وفضل علم وأدب.
وعلى ذكر الجغرافية يجب أن يعد في جملة الأدب الجيد ما كتبه ياقوت الحموي؛ فإن «معجم البلدان» و«معجم الأدباء» من أنفس ما كتب الكاتبون في هذا القرن، كما أن ما كتبه القفطي (646) في «أخبار الحكماء»، وما كتبه ابن أبي أصيبعة (668) في «طبقات الأطباء»، يعد من الأدب العالي في تراجم الناس، ومن هذه الكتب الأربعة التي طبعها المستشرقون استفدنا أمورا كثيرة في الحضارة العربية لم نكن نعرفها من قبل، كما استفدنا أي استفادة من نشرهم لنا «تاريخ الرسل والملوك» لابن جرير الطبري، «ومروج الذهب» للمسعودي، و«الكامل» لابن الأثير، و«تاريخ اليعقوبي» و«تاريخ سني ملوك الأرض والأنبياء» لحمزة الأصفهاني، و«الفخري» لابن الطقطقي، و«البدء والتاريخ» لمطهر بن طاهر المقدسي، وغير ذلك من تواريخ الأولين، وكذلك استفدنا من نحو خمسة عشر مجلدا لجغرافي العرب، طبعوها فعلمونا بها تاريخ بلادنا الاقتصادي والعمراني، وأشياء مهمة لم نكن نحلم بوجودها، وكثر بها رأس مالنا من الفصيح والتعابير العلمية.
ومن كتاب القرن الثامن في مصر والشام ابن فضل الله العمري صاحب «مسالك الأبصار» و«التعريف بالمصطلح الشريف»، والصلاح الصفدي (764) صاحب «الوافي بالوفيات» و«تحفة ذوي الألباب» و«نكت الهميان» و«جنان الجناس» و«دمعة الباكي»، والشهاب محمود الحلبي صاحب «حسن التوسل في معرفة صناعة الترسل»، وعلاء الدين بن غانم، وأحمد الأنصاري، وابن القيسراني، وكمال الدين الزملكاني. ونبغ في الأندلس لسان الدين بن الخطيب، ولو لم يكن له إلا «الإحاطة في أخبار غرناطة»، لكفى في تفوقه في كتابته وشعره، فإنه صور وترجم لهم كأنك تراهم، فهو كاتب ومصور على ما يظهر، ونفح الطيب للمقري يحوي طرفا صالحا من نظم لسان الدين ونثره، مع زمرة من رجالات الأندلس، وقد حل لسان الدين بعض القيود في الكتابة هو وصاحبه ابن خلدون (808)، وكان الكتاب قبلهما، ولا سيما في القرنين السادس والسابع يقلد بعضهم بعضا، فأصبحت الصناعة تسير نحو التقليد لا إبداع فيها ولا تجديد، فالمجددون في الحقيقة في القرن التاسع، هما عبد الرحمن بن خلدون، ولسان الدين بن الخطيب، ولم تكد تكتب العلوم الاجتماعية والتاريخية قبل ابن خلدون، بمثل ذاك اللسان الذي استعمله، ولا غرو فهو وصاحبه حسنة من حسنات الأندلس، وزهرتان ناضرتان من الزهور التي أهداها المغرب للمشرق، وبهما ختم عهد الأندلس. •••
كانت دواوين الإنشاء في قرطبة وغرناطة والقاهرة ودمشق وبغداد وغيرها من مراكز الحكومات في القرون الوسطى، مدارس لتعلم الإنشاء، والأخذ من فن الأدب العربي الواسع، فلما انحلت دولة الأندلس، واستولى الترك العثمانيون على مصر والشام والعراق، بطل التناغي بالأدب والإنشاء؛ لأن التميز في هذا الشأن أصبح لا يجدي صاحبه شيئا، وغدا فن الإنشاء مقصورا على بعض أفراد في كل قطر عربي يستخدمونه حلية وزينة، وإذ لم يبق في الحكومات من يقدر الأدب قدره، ضعف بحكم الطبيعة، وزاد عدد الشعراء أكثر من الكتاب؛ لسهولة الشعر وإمكان الانتفاع به في المديح، وإن كان الشعراء في كل دور من أدوار العرب فيما رأينا أكثر من الكتاب بما لا يقاس.
طالع كتاب «عجائب المقدور في أخبار تيمور» المسجع المجنس و«فاكهة الخلفاء»، وكلاهما لابن عربشاه من أهل القرن التاسع، وتأملهما وتأمل «تاريخ العتبي» وسجعه، تجد حتى في السجع فروقا وأي فروق، وطالع «مقامات السيوطي» و«مقامات ابن الوردي»، وعارضها بمقامات الحريري وبديع الزمان، يتجلى لك الفرق بين النمط العالي على ما يقال فيه، والذي دونه بمراحل، واقرأ «ريحانة الألبا» للشهاب الخفاجي، وطالع سجعه الذي هو أرقى سجع في القرن العاشر، تجد بينه وبين نثر ابن بسام في «الذخيرة»، وابن خاقان في «قلائد العقيان» فرقا بينا أيضا، كما أنك قلما تجد في الأدباء الذين ترجم لهم الخفاجي، وكانوا تقدموه وعاصروه في الشام ومصر والحجاز واليمن والمغرب إلا شاعرا، والكتاب قلائل، والأدب العربي كاد يستحيل إلى أماديح، وأكثره للتزلف من الكبراء وهو ضيق العطن، مبتذل الديباجة، فللنثر أسجاع تشق على الأسماع، وللنظم قواف لا تألفها الطباع، والروح منقولة، والألفاظ من جنس المبتذل مدخولة، ومعظم المنشئين والمتأدبين يكتبون نمطا واحدا من عهد أبي إسحاق الصابي، وأحمد بن يوسف إلى عهد لسان الدين بن الخطيب وابن خلدون، وهما اللذان أثبتا أن للمعاني تأثيرا أعظم من تأثير الألفاظ، فأتيا بالجديد المبتدع، وخلص كلامهما من المصنع الغث، وسارا مع الطبع في التأليف والوضع .
وفي القرن التاسع نشأ القلقشندي (821) صاحب «صبح الأعشى»، وكتابته من السجع على الطريقة الفاضلية المتناسبة مع زمنه، وقد جمع في كتابه نموذجات من إنشاء العصور السالفة إلى عصره، فكان كتابه معلمة (أنسيكلوبذيا) للمنشئين، كما كان كتاب «نهاية الأرب للنويري». وأهل البصر بعيوب الكلام يفضلون على القلقشندي المؤرخ المقريزي وجلال الدين السيوطي. ومن كتاب القرن التاسع محمد بن أبي بكر المخزومي، ومحمد بن عبد الدائم، وابن حجة الحموي (837)، وكتابا «خزانة الأدب» و«ثمرات الأوراق»، لابن حجة مثال التكلف، ومن اقتصر في درسه عليهما تخدشت فيه ملكة البيان لا محالة.
والقرن الحادي عشر مبدأ قرون الظلمات في الكتابات، فإن «نفحة الريحانة» للمحبي صاحب «خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر» نموذج من نثر ذاك العصر، ومن ترجم لهم من الأدباء، وأكثرهم ممن ترجمهم في «خلاصة الأثر» عنوان أهل جيله، وكذلك يقال في «سلافة العصر» لابن معصوم من أهل ذاك القرن، فإن سجعه متكلف، ومن ترجمهم وليسوا من الكتاب قل فيهم النبوغ، وغاية إجادة المجيد منهم أن ينظم قصيدة غزلية تقع موقع القبول من بعض القلوب، أو قصيدة يتكسب بها من أرباب المظاهر، أو يؤلف كلمات مسجوعة متشاكلة هي والشعر، ومثل ذلك يقال في كلام الحسن البوريني (1024) في تراجم الأعيان، فإنه من هذا البحر والقافية، وكان في أوائل هذا القرن رجل استفاضت شهرته؛ لأنه جمع علوما كثيرة، وكان أديبا بارعا وهو بهاء الدين العاملي (1003) صاحب «الكشكول» و«المخلاة» و «أسرار البلاغة»، فإنه كان زينة عصره في الأدب، متفننا في تنويع موضوعاته.
وما قيل في المحبي وابن معصوم والبوريني، يقال في الغزي مترجم أهل القرن الحادي عشر، والمرادي مترجم علماء القرن الثاني عشر، وما أورد هذا لهم من الشعر والنثر في كتاب «سلك الدرر»، وبعضه أثقل من رضوى، وأبرد من عضرس، وأين هو من السخاوي في «الضوء اللامع لأهل القرن التاسع»، ومثل هذا قل في كتاب أهل القرن الثالث عشر مثل سجع البربر (1226) في «مقاماته»، وابن شاشو في «تراجم أعيان دمشق»، فإنه غاية ما وصلت إليه الكتابة من الابتذال والسجع الثقيل على الطبع، ولكن هذا القرن تجلت في أواخر نصفه الأول حركة تجدد، فاختلط أهل مصر والشام بأهل الغرب، ولا سيما مع علماء فرنسا، وتخرج بعض أبناء القطرين في جامعاتها، فأخذت المترجمات في العلوم المختلفة على عهد محمد علي مؤسس الدولة العلوية المباركة، تؤثر تأثيرها المطلوب في روح الكتابة، وأخذوا طرفا من آداب الغربيين، ولا سيما الفرنسيون، نقلوه إلى العربية نقلا ضعيفا ركيكا، وأيقن الدارسون من أبناء مصر والشام أن الآداب العربية خلت في أرقى عصورها من التمثيل، وإن لم تخل من القصص والروايات والحكايات التاريخية والأدبية، ولكن على صورة مصغرة.
ومن المجددين الذين ختم بهم القرن الماضي أحمد فارس الشدياق اللبناني، فإنه أقام سنين طويلة في إنجلترا وفرنسا ومالطة والآستانة، ونقل للعرب طريقة جديدة في تآليفه، وترك أثرا جميلا من نبوغه وتفننه في أساليبه، وفي كتابه «الساق على الساق» و«الواسطة في معرفة أحوال مالطة»، ومقالاته العلمية في جريدة الجوائب التي جمعت في «كنز الرغائب» و«الجاسوس على القاموس» و«سر الليال» يتجلى للناقد البصير كيف قلب الأفكار، وأتى العرب بنمط مبتكر في التفكر والبحث، وفهم الأدب على غير ما فهمه أهل عصره، ومن سلفه من الأعصار.
وممن كان في النصف الثاني من القرن الماضي في مصر، وعد إمام النهضة الحديثة رفاعة بك الطهطاوي (1290)، فإنه ترجم وألف كثيرا، وبه تخرج عشرات من رجال مصر، وكان السجع يغلب عليه، ومن أدبائهم عبد الله فكري باشا وهو ملتزم السجع، ولكنه السجع القصير البعيد عن التكلف في الجملة، وكذلك علي مبارك باشا (1311)، وأهم الرجال الذين أدخلوا الإنشاء في طور جديد وحلوه من قيوده الثقيلة التي رسف فيها قرونا، الشيخ محمد عبده المصري (1322)، فإنه كان خطيبا مصقعا، وكاتبا بليغا، ولم يعهد لرجال الدين كاتب مثله في القرون الأخيرة، فكان كما قيل فيه يكتب الشريعة بلسان صاحبها، تشهد له بذلك «رسالة التوحيد» و«الإسلام والنصرانية» و«رحلته إلى إيطاليا» و«درس تفسيره»، وقد تخرج به كثيرون من رجال مصر الحديثة، كما تخرج بصديقه الشيخ طاهر الجزائري الدمشقي كثير من رجال النهضة في الشام، فإن هذا أيضا خلع الثوب القديم البالي في الإنشاء، بعد أن لبسه في أول عهده وأخذ يسير مع الطبع، تاركا للجناسات وأنواع البديع جانبا، تشهد له الكتب الكثيرة التي ألفها في الشريعة والطبيعة واللغة والآداب، ونشأ في الشام كتاب عصريون منذ خمسين سنة، ومعظمهم ممن تشبعوا باللغات الإفرنجية، والمبدع منهم قليل، ولا نذكر أنه نشأ في الشام على عهدها الأخير كاتب مثل إبراهيم المويلحي المصري في إبداعه، ولا سيما الجد في قالب الهزل، وكان يقلد الجاحظ في سرد الحقائق على أسلوب الرياليست. ونشأ في الإنشاء في الشام أمثال إبراهيم اليازجي، وإبراهيم المصور، وشكيب أرسلان، ويعقوب صروف وغيرهم من المجودين، وفي مصر أمثال حفني ناصف، وقاسم أمين وإبراهيم اللقاني، وأحمد سمير وأضرابهم من الأحياء والأموات في الأقطار العربية، ولو كتب لبعض الكتاب المشهورين في الشام والعراق أن يحذقوا أدب الغرب، كما حذقوا أدب العرب، لخدموا الأدب كثيرا، بيد أن الإجادة المتناهية قليلة، وعيوب الإنشاء تبدو أكثر من عيوب الشعر، وفي الثاني يغتفر ما لا يغتفر في الأول، فقد قال لابروير: أربعة لا يطاق فيها الاعتدال: الشعر، والموسيقى، والخطابة، والتصوير.
إلى اليوم على كثرة اختلاط مصر والشام وتونس والجزائر، بأدباء الغرب وأخذهم عنهم، لم يكتب للغة العربية اقتباس التمثيل، كما هو الحال في الغرب؛ وذلك لأن التمثيل عارض في المدنية العربية، وإيجاد المفقود أصعب من إصلاح الموجود، ولكن الخروج بالكتابة عن روحها العتيقة مع إلباسها الحلة العربية القديمة التي كانت لها في القرنين الثاني والثالث مثلا، والرغبة في القصص والنوادر آخذة بالترقي، ومعظم قصصنا ونوادرنا ورواياتنا التشخيصية محتذاة من الإفرنجية، أو منقولة عنها بالحرف، وهذا من أبشع ضروب الاقتباس، ولعله لا يطول الأمر حتى ينشأ للأمة العربية روائيون وقصصيون، وكتاب فاجعات، ومآس على الصورة التي جرت عليها أمم الحضارة الحديثة، فيعود أرباب الأقلام إلى الإبداع والاختراع، ويسير المنشئون بروح الأمة يعالجونها بما يوائمها، فما ينفع من أدب الغرب قد لا ينفع ولا يلتئم مع حالة ابن المشرق. •••
أكتب هذا بمناسبة سفر بديع ظهر حديثا
3
في عالم الأدب العربي، فأدخل السرور على قلوب أنصار التجدد، وأعني به كتاب «مطالعات في الكتب والحياة» لكاتب من أفذاذ الكتاب بمصر الأستاذ العقاد، ومؤلفه بحاثة نقادة في الأدب والشعر على مثال أدباء الغرب، نشر قبل سنين كتاب «الفصول» فأجاد، والآن جاء يعبد وأهل حلقته تلك الطريقة، وينشر على الأدب جملة فضله الرائع، الذي جمع فيه بين أجمل القديم وأنفع الحديث، ومن حسنت ملكته وصحت قريحته، كان جديرا بأن يختار الأطايب في كل ما يعرض له.
تقرأ الأستاذ العقاد فتظنك تقرأ نقادا من نقاد فرنسا أمثال: فاجية، ولمنر وبيدو، وبريستون، ولكن بديباجة عربية تشبه اللغة يوم عزها، ويدهشك بسلامة ذوقه، وسلاسة تعبيره، ورصف جمله، ورنة تراكيبه، وقلما يكتب ذلك إلا لأفراد في كل عصر، فقد كانت الطبقة السابقة التي حاولت إدخال هذه الطريقة في اللغة إلى جانب القصور؛ لضعف ملكاتها من اللغة التي حاولت تبديل قيافتها، وكثيرا ما كانت ضعيفة أيضا في اللغة التي حاولت الأخذ عن بنيها تفهم الألفاظ، ولكنها عن المعاني بمعزل، بيد أن هذا النابغة رزق السعادتين، فأتقن الأدب الإفرنجي إتقانه للعربي، وجاء منه جهبذ بحاثة، ذو أسلوب مبتكر لا ينكره المنصفون من الغالين بتمجيد القديم، ويغتبط به المجددون أية غبطة.
منذ أكثر من خمس وعشرين سنة، وأنا أنظر في الكتب العصرية التي تخرجها المطابع العربية في الشرق والغرب، فلم أكد أقرأ كتابا في الأدب المعاصر، تأليفا كان أم ترجمة، إلا وتتراءى لي كثرة تفريطه في تأليفه، وقلما رأيت إبداعا إلا في بعض التآليف، أمثال «حديث عيسى بن هشام» للمويلحي الصغير، و«النظرات» و«العبرات» للمنفلوطي، و«ليالي سطيح» لحافظ، وبضعة كتب أخرى ليست على خاطري، رجوت لها الخلود، وباقيها ومنه المسجع، أو الممسوخ، أو المسلوخ، أو المنسوخ، لا أستحي أن أقول إنها تتساقط كما يتساقط ورق الشجر في الخريف، وتضيع كما تضيع مقالات الصحف اليومية بعد صدروها بساعات معدودة .
لم يبرح النزاع عندنا بين أنصار الجديد والقديم على أتمه، ولكن التطور يعمل عمله، رغم احتجاج المحتجين وصياح الصائحين، والانتقال محسوس في الأدب كما هو محسوس في كل أطوار الحياة عندنا، وأنت اليوم إذا قرأت صفحة من «مقامات اليازجي»، أو رسالة من «رسائل الأحدب»، أو جملا من مصطفى نجيب وحمزة فتح الله على تلميذ شدا شيئا من الأدب يضحك مما تسمعه، ويقول لك هذا كلام يضعف اللغة، ويذهب ببهجتها، وألفاظه أكثر من معانيه، ولكنك إذا تلوت عليه صفحات من السيد العقاد تطربه نغمته، وتعجبه ديباجته، فتستغرق معه ساعات في المطالعة لا تمل، وكلما أتممت فصلا وددت لو طال أكثر. فمقالات العقاد في تحليل روح المعري وحياة المتنبي وأدبه، دلت عن أدب بارع ونفس طويل، وخواطره في ماكس نوردو وأناتول فرانس، والشعر ومزاياه، والطبع والتقليد، وعبقرية الجمال والتشاؤم، وأدوار العمر، كل ذلك مما يحمل للقارئ علما طريفا وتليدا، ونبوغا وعبقرية وتجديدا، يروقك بأسلوبه فتستفيد من الفكرة، ومن القوالب البديعة التي ظهرت فيه.
طلق الأستاذ العقاد الأسجاع والجناس وأنواع البديع، وجاءنا بإنشاء فيه طلاوة الحديث بسبكه ومعناه، وجلالة القديم ببيانه، وربما تلوت له فصلا برمته، وليس فيه سجعة أو معنى مكرر، تراه يكتفي في تصويره بعشرة ألفاظ، وكان غيره يحشر له العشرين والثلاثين لفظة، وإذا عمد إلى استعمال الفصيح الذي لم يبتذل، فإنه يكون في كلامه بمقدار الخال في صفحة الوجه الجميل، أما التراكيب فتظن نفسك وأنت تقرأ كلامه أمام «أبدى بدوي وعلى طباع أفصح عربي».
وإن أهل هذه الطبقة العالية قد أكذبوا القائلين بأن العربية لا يتسع صدرها للمعاني الجليلة، وأن العرب عنوا بالألفاظ أكثر من المعاني، وما الألفاظ إلا القوالب، فقد قال ابن جني في الخصائص ردا على من ادعى على العرب عنايتها بالألفاظ وإغفالها المعاني: إن العرب كما تعنى بألفاظها وتصلحها وتهذبها وتداعبها، وتلاحظ أحكامها بالشعر تارة وبالخطب أخرى، وبالأسجاع التي تلزمها وتكلف استمرارها، فإن المعاني أقوى عندها، وأكرم عليها، وأفخم قدرا في نفوسها، فأول ذلك عنايتها بألفاظها، فإنها لما كانت عنوان معانيها، وطريقا إلى إظهار أغراضها ومرئيها، أصلحوها وبالغوا في تجييدها وتحسينها؛ ليكون ذلك أوقع لها في السمع، وأذهب في الدلالة على القصد، فإذا رأيت العرب قد أصلحوا ألفاظها وحسنوها، وحموا حواشيها وهذبوها، وصقلوا غروبها وأرهفوها، فلا تريد أن العناية إذ ذاك إنما هي بالألفاظ، بل هي عندهم خدمة منهم للمعاني، وتنويه بها وتشريف منها، ونظير ذلك إصلاح الوعاء وتحصينه، وتكوينه وتقديسه، وإنما المبغي بذلك منه الاحتياط للموعى، وعليه جوازه بما يعطر نشره ... وقال عبد القاهر الجرجاني في «دلائل الإعجاز»: لا يكون الكلام يستحق اسم البلاغة حتى يسابق معناه لفظه، ولفظه معناه، ولا يكون لفظه أسبق إلى سمعك من معناه إلى قلبك، وقولهم يدخل في الأذن بلا إذن، فهذا مما لا يشك العاقل في أنه يرجع إلى دلالة المعنى على المعنى، وأنه لا يتصور أن يراد به دلالة اللفظ على معناه الذي وضع له في اللغة.
قلنا وهذا ما جعله المجودون من كتابنا المعاصرين نصب أعينهم، فلم يقنعوا بالقشور، بل اهتموا باللباب، وعنوا بالقوالب وما تحويه، وإذ قد أرهفوا أقلامهم لنقد الكاتبين المتوسطين، كانوا أحرياء بأن يظهروا كتاباتهم خالية من الشوائب اللفظية والمعنوية، وأدبنا في كل عصر ما خلا من نقاد يوازنون بين كلام المبرزين في منثورهم ومنظومهم، ينوهون بالكلام الشريف، ويرذلون الساقط الوضيع، ومعولهم في أحكامهم على قوانين البلغاء والذوق السليم.
لو لم تغفل عين العناية بعد القرن الرابع للهجرة عن الاقتباس عن الأمم الأخرى، ولو لم يكتف أهل الأدب والعلوم بما حصل لهم ونفحوه وأضافوه حتى القرن الثالث عشر؛ أي لو لم نقف بأدبنا عند حد ما عرفنا تسعة قرون، لكنا اليوم كفرنسا بالشعر والأدب، نفهم منها ما يفهمه الفرنسيس، بل سائر أمم الغرب الراقي من الشعوب الأنجلوسكسونية واللاتينية والسلافية، ولكنا ننال جوائز نوبل في الأدب على نحو ما يأخذها الهولانديون والسويديون على الأقل، ونحن معاشر العرب بعددنا نحو عشرة أضعاف كل أمة من تلك الأمم الصغيرة الممدنة.
وإنا نرى هذا التجدد محسوسا في الشعر كما هو محسوس في النثر، فقد جاء محمود سامي البارودي أواخر القرن الماضي في شعره عربيا قحا، وتلاه إسماعيل صبري بشيء من أدب العصر، فحل قيدا من قيوده، وجاء بعدهما حافظ إبراهيم بشعره الاجتماعي المرقص ففك قيود سابقيه، وسيجيء صاحب السلسلة الرابعة بما ليس الآن في الحسبان والتجدد والنشوء الاجتماعي. لا جرم أن للصحف والمجلات اليوم يدا طولى في هذا التطور، فإنها تنقل إلينا كل يوم شيئا جديدا عن آداب الأمم الأخرى، وكلما تطورت مدنيتنا بطور العصر، فالأدب أول ما يتطور فينا، يعلم ذلك كل من تصفح سفرا نشر قبل خمسين سنة، وكتابا نشر اليوم، ومن تلا الصحف لعهدنا وعارضها بما كان يكتب من نوعها أوائل عهد الصحافة العربية في مصر والشام وتونس، يدرك الخطوات السريعة التي خطوناها نحو المدنية، وجددناها على ما يوافق إقليمنا وطباعنا، وألبسناها حلة من حللنا الشرقية البديعة، وأساتذة هذا الشأن بمصر اليوم العقاد، وطه حسين، والمازني، وعبد القادر حمزة، وغيرهم من حملة الأقلام الذين يقودون قراءهم إلى سوق عكاظ جديد، وفي الشاميين كتاب من هذه الطبقة يطرسون على آثار كتاب مصر، ولا نعلم في العراق وتونس والجزائر أناسا يصدق عليهم تعريف المجددين في الإنشاء.
ربما يتساءل القارئ، وقد بلغ به البحث إلى هذه الجملة، وهل كان النساء يا ترى بعيدات عن هذه الحركة الأدبية على حين لم يكن في بغداد، ولا الأندلس، ولا في صدر الإسلام بعيدات عنها؟ راجع الجزء الخاص بالصحابيات من طبقات ابن سعد الكبرى و«بلاغات النساء» لابن طيفور، وأخبار الأندلسيات في «نفح الطيب»، فالجواب أنهن شاركن بقدر اللزوم، ولا يزال عددهن ينمو بنمو روح العلم فيهن، فقديما رأينا المحدثات والواعظات والمتفقهات والأديبات، واليوم نرى الكاتبات والأديبات والباحثات والخطيبات، فقد افتخرت مصر بنبوغ السيدة عائشة عصمت التيمورية شقيقة الأستاذ أحمد تيمور باشا العالم المشهور، ولها ديوان شعر سلس رقيق، وجاءت بعدها السيدة ملك ناصف، الملقبة بباحثة البادية، وهي ابنة حفني ناصف شيخ الأدب في عصره، وصاحبة كتاب «النسائيات»، وكانت كاتبة مبدعة فعاجلتها المنية ، وكان يرجى منها أن تقلب حياة المرأة المصرية رأسا على عقب، وقد حللت الكاتبة المشهورة السيدة ماري زيادة، الملقبة بمي حياة ملك ناصف في سفر بديع، دل على علو كعبها في الأدب وتحليل النفوس. وفي الشام ومصر اليوم زمرة من الكاتبات المجيدات، المتشبعات بالآداب الغربية، لا تحضرني الآن أسماؤهن بأجمعهن. والنساء عندنا في دور الفهم والتطور والاقتباس.
ولا يسعنا أن نختم هذه العجالة قبل أن نرسل سلاما طيبا إلى كتابنا الشاميين في المهاجر، ولا سيما في الأمريكيتين، فإنهم تشبعوا بالأدب الإفرنجي، فأخذوا يكتبون لقومهم هنا وهناك بلسان جديد من التجديد، بل أكثر من التجدد، واشتهر منهم أمين الريحاني صاحب «الريحانيات»، وملوك العرب وغيرهما من تآليفه، وجبران خليل جبران وهو كاتب ومصور، ولكن تصوير الكلام بالحروف يتعاصى عليه أحيانا أكثر من التصوير بالقلم والخطوط على ما يظهر، فيبدو الغموض في تضاعيف سطوره، ومثال من ذلك كتابه «الأجنحة المتكسرة»، ولكل منهما قراء ومعجبون بأدبهما، ولو كتب لهما أن يرزقا حظا من البيان العربي يوازي حظهما من الآداب الإنجليزية، إذن لجاء من شعرهما المنثور وخيالهما اللطيف مادة للمجددين في أدب لغتنا، وهناك بضعة من الكتاب نزلوا ممالك الجنوب والشمال من أميركا، فكتبوا وعلموا قومهم، ولم يكتب لنا الاطلاع على عامة ما خطته أناملهم، ونمقته أفكارهم.
ولا بأس من التصريح هنا برأي لنا خاص في الكتاب الأقدمين منهم والمحدثين، وربما كان في حملة الأقلام من لا يساهمنا هذا الرأي، ويعدون حكمنا من باب التهجم على من عرفوا كلهم شهد الله بالفضل، وأغنوا غناءهم في جانب الآداب، ولكن هو الرأي يصدره الصغير أمام الكبير، ولا إثم عليه ولا حرج، نريد أن نقول: إن عمر الطالب يقصر عن استيعاب جميع ما كتبه المنشئون في هذه الملة تصفحا ودرسا، فالأولى أن يختار الزبدة، ويأخذ الأهم فالأهم مما يعينه على تحسين ملكته في البيان، وما نخاله من حيث الأسلوب إلا مخترع طريقته بنفسه، متى تمت أدواته اللازمة، وأتقن ما لا غنية عنه من نحو اللغة وصرفها وبيانها وبلاغتها ، والأولى الاقتصار في الدراسة على من أجمعت الأمة على تبريزهم في هذه الصناعة، كعمرو بن بحر الجاحظ، وعبد الله بن المقفع، وعبد الحميد بن يحيى، وسهل بن هارون، وأحمد بن يوسف، وأضرابهم ممن كتبوا مع طبعهم غير متعلمين، وما قيل في الكتاب يقال في الشعراء جاهليهم ومخضرميهم ومولديهم، وهم - بحمد الله - كثيرون جدا، والأولى الاقتصار على بضعة من المشهود لهم بالإجادة المتناهية، أما أدب أهل العصور المتأخرة فإن الطالب يقرؤه حب الاطلاع، أو لأخذ مادة عن تاريخ الأدب في عصورهم، وبعبارة أوجز يعتمد في البيان على القدماء من قبل الإسلام إلى أواخر القرن الرابع، كما يأخذ العلوم عن المحدثين من أمم الحضارة وغيرهم.
لا جرم أن الأدب الغربي قد اتسع أمامه مجال التجدد الآن، وما حدث فيه من التطور منذ نحو مائة سنة، فكاد يلحقه بآداب الغربيين إلا قليلا، دليل على قابلية هذه اللغة - بما فيها من الفصيح والمترادف، والقلب والإبدال، وما لا تأباه من التصريف والاشتقاق، والوضع والدلالة، والمجاز والكناية - للتجدد في كل عصر، وبرهان على مرونتها؛ للأخذ بالأصلح على قاعدة الانتخاب الطبعي، مع مراعاة قواعدها وروابطها التي استقرت باستقرار القرآن الكريم.
ولذلك ساغ لنا أن نقول: إن لغة القرآن صالحة للمدنية في كل زمان ومكان، وإن أدبا عرف تاريخه منذ خمسة عشر قرنا هو من السعة بحيث لا يتسع مبحث صغير كهذا لاستيعاب جرمه الكبير.
الخطابة عند العرب
توطئة
دلتنا الحرب الحاضرة على كثير مما ينقصنا من العلوم والصناعات الشائعة عند الأمم الغربية، وكانت فاشية في القديم عند أجدادنا، ومن ذلك صناعة الخطابة، وهي من أجل العوامل في تربية النفوس أيام الحرب والسلم، أو في بث دعوة، أو سفارة بين متخاصمين أو متحابين، وإقناع يوم الحفل، واستمالة الأفكار إلى رأي أو حزب في المجالس والمؤتمرات والمجامع والجوامع، لا تستغني عنها أمة دستورية يحكمها مجلس نوابها، إذ إن التنفير من مسألة والتذكير بأخرى لا يتم إلا بقوة البيان، وسلاطة اللسان، وفصاحة الحجة، وظهور المحجة.
والسبب في قصورنا عن هذه الغاية طول عهدنا بالحكومة الاستبدادية المطلقة حتى إذا انقلبت إلى حكومة شورية، أحسسنا بنقص في عامة مكونات الأمم، وكان خطباؤنا المصاقع يعدون على الأصابع في جميع أدوار مجلسنا النيابي، والمبرز منهم من كتب له أن كان أستاذا في مدرسة أو مدرسا في جامع، ففتقت ألسن أهل هذه الطبقة، وقليل ما هي على أيسر وجه؛ لأنها كانت على جانب من الفضل، ومعرفة بأصول المجالس، أما أكثر النواب فكانوا بمعزل عما ينبغي لهم من أدوات الفهم والكلام، والحرية فضاحة فضحتنا بقلة المتكلمين والمفكرين منا، مع أن الخطابة مما أوجبته علينا الشريعة الإسلامية، كما ظهر أمرنا، وتبين عجزنا، واستبان إفلاسنا في مسائل العلم والتأليف.
فقد كان بعضهم يوهمون أن طبائع الحكومة المطلقة وهي قائمة بكم الألسن وحجز الأقلام، هي التي تحول دونهم وما يشتهون من انبعاث علمهم، ونشر أبحاثهم ودروسهم، وظهور أثر فضلهم وأدبهم وتحقيقهم، وربما غالى بعضهم فقال: اختراعهم واكتشافهم، وأنهم لا يتوقعون إلا دور انطلاق، حتى يظهروا ما أكنته صدورهم من العلوم والفنون، وها نحن نعيش في ظل الحكومة الدستورية، ولم نشهد أثرا لغير من عرفوا من قبل بالفهم والعلم، وجل ما اتصل بنا أنه نشرت مباحث ومناقشات قلما تفيد أمة تريد النهوض من طريق العلم والعمل.
نحن موقنون أن التبريز في الخطابة صعب، ولكن بالتعلم والمعاناة يصل المرء إلى درجة حسنة في الجملة، وفي العادة أن يكون النوابغ قلائل في كل فن، فإذا عد في الأمة عشرة منهم في كل شأن ومطلب، تعد غنية بعلمها وعقلها، ولانحطاط الخطابة الدينية في هذا العهد تأفف كثير من حضور الجمع، حتى لا يسمعوا خطبا لاكتها الألسن منذ قرون، وليس فيها شيء من النفع، ولقلة المجيدين بل المتوسطين في هذه الصناعة غدا الناس يسمون خطيبا كل من يرفع عقيرته، ولو كان جاهلا عاميا، بل أميا غبيا، وعلى العكس رأينا في بعض البلاد خطباء بعض المساجد مجودين في الجملة، يقولون ما له معنى في الوعظ والإرشاد، قد حببوا غشيان المساجد لمن كانوا لا يعرفونها، وبتأثير الإخلاص والإجادة والكلام بحسب طبائع القوم وحاضر العصر، كثر العاملون بأحكام الدين القائمون بتكاليفه.
وبلغت حال الانحطاط في ضعف البيان، وفسولة الرأي والحجة بأكثر خطباء الجوامع، ومنهم الأميون الذين لا يكادون يقرءون الكتاب أن أصبحت نصف خطبهم زهدا في الدنيا على غير طريقة السلف المشروعة، والنصف الآخر دعاء يحفظونه لا يخرمون منه كلمة، ثم هم يدعون بأدعية مردودة في الشرع شأنهم في بيان فضائل الشهور والأيام والبلدان والجوامع، حتى خطب بعضهم، وكان حشويا جلجلوتيا في أعظم جامع في هذه البلاد، عند إرادة الحث على تجديد بنائه فقال: إن الصلاة فيه تعادل ثلاثين ألف صلاة، وأورد لذلك أحاديث لا تعرفها إلا عقول الوضاعين والقصاصين، ولطالما خطبوا أن من صام يوم كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، إلى غير ذلك من البدع والفضول التي لم تأت بها شريعة الرسول، وقد أنكرها أئمة الفقه والعلم من المتقدمين والمتأخرين، ولا سيما شيخ الإسلام ابن تيمية (المتوفى سنة 728)، وابن قيم الجوزية (المتوفى سنة 751)، وابن الحاج المتوفى سنة 737.
ولو كان الخطباء على جانب من فهم أسرار الشريعة ومعرفة طرق البلاغة، وما يصلح الناس ما عالجوا من الموضوعات ما يرجع بالناس القهقرى، هذا في الخطب الدينية، أما الخطب المدنية فهي أيضا تتصرف على ذاك النحو نصفها تحميدات ومقدمات، واعتذارات وسخافات، واستطرادات منوعات، ولو محصت لما بقي منها إلا التافه اليسير من المعاني، أما تأثيراتها في الأفكار فضعيفة جدا، ولعل هذا النقص البين يتلافاه أساتذة المدارس الابتدائية والوسطى والعليا، بتمرين طلبتهم أبدا على الإلقاء، وممارسة الكلم الفحل يوم الحفل، وفي النوازل والأمور العامة، فينشأ من هذا الجيل فئات تسد هذا النقص المحسوس المشاهد في طبقة رؤساء الدين ورؤساء الدنيا، ويمرن الجميع على كتابة ما يريدون الخوض فيه، وعلى استظهاره أو إلقائه على نحو ما سارت الأمم الحديثة والأمم القديمة الراقية، فينبغ فيها خطباء ووعاظ، ومرشدون داووا جهالة شعوبهم بأساليب القول الجزل، والمنطق الخلاب والبرهان الساطع.
وها نحن نحط لطلاب هذا الفن الطريق الذي سلكته العرب في تقوية ملكة البيان، معتمدين في النقل على أئمة هذا الشأن، مشيرين إلى تاريخ الخطابة، والمجودين فيها من أهل هذا اللسان قبل الإسلام وبعده، تلقيحا للعقول وإهابة بها إلى ما يصلحها ويزكيها بالبلاغة فنقول: (1) حد الخطابة وأقسامها
نقل ابن رشد أن الخطابة صناعة تتكلف الإقناع الممكن في كل مقولة من المقولات، وغايتها إقناع الجمهور فيما يحق عليهم أن يصدقوا به من الأمور السياسية والوظائف الشرعية، وقال أبو البقاء: الخطابة هي الكلام النفسي الموجه به نحو الغير للإفهام. قالوا: وليس للخطابة موضوع خاص تبحث عنه بمعزل عن غيره؛ ولذلك كان على الخطيب أن يلم بكل صنف من المعارف، فوجب عليه لبلوغ هذه الأمنية أن يتبحر في العلم، ويتفنن في ضروب الفهم، حتى كان شيشرون خطيب الرومان يوجب على الخطيب معرفة الفنون الأدبية، والرياضيات، والرسم، والتصوير، والنقش، والموسيقى وغير ذلك.
ومعنى إقناع الجمهور إرضاء السامعين بالبرهان، بحيث تكون البلاغة ملكة في الخطيب، وهناك يقتضي له من العلم الواسع، ونفاذ البصيرة، وحضور الذهن، وقوة التأثير، وطلاقة اللسان، ولطف البيان، ما يستميل به الجمهور إليه في موضوع، ويصرف أذهانهم عن أمر، ويوجه أنظارهم إلى آخر ويحرضهم ويقنعهم؛ ولذلك أدخل الحكماء الخطابة الشعر في أقسام المنطق، كما نقل عن أرسطو؛ لأن المقصود منه أن يوصل إلى التصديق، وأصولها عندهم ثلاثة؛ الأول: إيجاد المعاني الحقيقية بالإقناع من الأدلة والآداب، والثاني: تنسيق المعاني؛ أي سرد أجزائها على نظام واحد؛ ليحكم تركيب الخطة وارتباط أقسامها، بحيث تكون أبين غرضا وأحسن في النفوس وقعا، والثالث: التغيير الذي يراعى فيه حال السامع؛ لتصاغ له المعاني في ألفاظ تتشر بها نفسه، وتمتزج بأجزاء فهمه. ويمكن إرجاع الخطابة إلى قسمين: الخطابة المدنية والخطابة الدينية، فالمدنية يتصرف تحتها كل ما فيه إصلاح المدينة، والخطابة الدينية كل ما يرجع إلى تطهير النفوس؛ ليكون لأهلها مدنية فاضلة في الدنيا وسعادة شاملة في الأخرى.
الخطابة نوع من منثور الكلام، يأخذ من النثر تصوير الحقائق وإبلاغها النفوس، من دون إتعاب ذهن، ولا تكلف في الأداء، ومن النظم سلاسته وتأثيره في النفس، وقد كانت العرب في جاهليتها تقدم الشاعر على الخطيب، بفرط حاجتها إلى الشعر الذي يقيد مآثرها ويفخم شأنها، ويهول على عدوها ومن غزاها، ويهيب من فرسانها، ويخوف من كثرة عددها، ويهابها شاعر غيرها، قال أبو عمرو بن العلاء: فلما كثر الشعراء واتخذوا الشعر مكسبة وتسرعوا إلى أعراض الناس، صار الخطيب عندهم فوق الشاعر، وكان لكل قبيلة شاعر، كما كان لكل واحدة خطيب، الخطب والوصايا متقاربة، يقصد بالأولى قوم لا على سبيل التعيين والتخصيص، فتكون في المشاهد، والمجامع، والأيام، والمواسم، والتفاخر، والتشاجر، وأمام العظماء والملوك والأمراء والوفود، وفي الصلح وإشهار الحرب، وفي الخطوب والنوازل، أما الوصايا فتكون لقوم بعينهم في زمن مخصوص على شيء منصوص، وربما كانت من شخص لأهل بيته، أو سيد لقبيلته عند حلول مرض أو أجل أو هجرة في الأرض. (2) الخطابة والأنبياء
ذكروا أن العرب عنيت بالخطب في جاهليتها، أكثر من عنايتها بها في الإسلام، ولم يظهر لنا سر هذا؛ لأنا رأينا هدي النبيين والمرسلين على خلاف ذلك، رأينا الرسول - صلوات الله عليه - لم يتعلم الشعر وما ينبغي له، وكان سيد الخطباء بلا مراء، وكلامه خطب وحكم، وبسيرته الشريفة اقتدى كبار الصحابة، والتابعين، والخلفاء، والملوك والمرشدين، والعلماء العاملين، ولكن كثر الشعر أكثر من الخطب؛ لأن الشعر أقرب إلى تقييد المآثر والتأثير؛ ولأنه يحتمل من الخيال والمحال، ما لا يحتمله الخطاب بحال من الأحوال.
قال صاحب «الريحان والريعان»: إن ما تكلمت به العرب من أهل المدر والوبر من جيد المنثور ومزدوج الكلام، أكثر مما تكلمت به من الموزون، إلا أنه لم يحفظ من المنثور عشره، ولا ضاع من الموزون عشره؛ لأن الخطيب إنما كان يخطب في المقام الذي يقوم فيه في مشافهته الملوك، أو الحالات، أو الإصلاح بين العشائر، أو خطبة النكاح، فإذا انقضى المقام حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه بخلاف الشعر، فإنه لا يضيع منه بيت واحد، قال: ولولا أن خطبة قس بن ساعدة كان سندها مما يتنافسه الأنام، وهو أن النبي
صلى الله عليه وسلم
هو الذي رواها عنه فأطار ذكرها؛ ما تميزت عما سواها.
قال القلقشندي: وليس ما أشار إليه لرفض النثر عندهم وقلة اعتناءهم به؛ لسهولة حفظ الشعر، وشيوعه في حاضرهم وباديهم، وخاصهم وعامهم بخلاف الخطابة، فإنه لم يتعاطها منهم إلا القليل النادر من الفصحاء المصاقع؛ فلذلك عز حفظها، وقل عنهم نقلها، وقد كانت تقوم بها في الجاهلية سادات العرب ورؤساؤهم ممن فاز بقدح الفضل، وسبق إلى ذرى المجد، ويخصون ذلك بالمواقف الكرام، والمشاهد العظام، والمجالس الكريمة، والمجامع الحفيلة، فيقوم الخطيب في قومه فيحمد الله ويثني عليه، ثم يذكر ما سنح له من مطابق قصده وموافق طلبه من وعظ يذكر، أو فخر، أو إصلاح أو نكاح، أو غير ذلك مما يقتضيه المقام.
نعم، إن الخطابة صناعة الرسل - عليهم السلام - لأنهم يدعون إلى الله، ويكلفون بإرشاد الخلق، وهذا يقتضي البلاغة والبيان المتناهي لذلك قال موسى: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي؛ وذلك لأنه كان به لثغة فخشي أن يعدها قومه عيبا، ويلووا بوجوههم عن دعوته، أما شعيب - عليه السلام - فقد سماه نبينا - عليه الصلاة والسلام - خطيب الأنبياء؛ لما ورد في الكتاب العزيز من أسلوبه البديع في البيان، وتلطفه في إبلاغ دعوته إلى أهل مدين الذين غلبت عليهم الشقوة قال تعالى:
وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط * ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين * بقيت الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ ، إلى أن قال:
قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب * ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قوم لوط منكم ببعيد * واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود .
ولشرف الخطابة وتأثيرها في تطهير النفوس أوجبها الشارع، وسنها للمسلمين في مساجدهم كل جمعة وعيد، وفي الحج؛ أي في عرفة، وأوجب على الحضور التزام الأدب مع الخطيب، بل علمهم حسن الإصغاء، وفي الحديث: إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد لغوت، ولم يعين الشارع للخطب الدينية أو خطب الجوامع والمواسم موضوعا خاصا بل جعلها مطلقة، يتناول الخطيب الكلام من المناسبات الزمنية، ويورد للحضور من هدي الشارع، ما يذهب به أرواحهم ويهيب بهم إلى بارئهم، ويغرس فيهم مكارم الأخلاق، ويطبعهم بطابع الفضائل، ويحذرهم البغي والظلم، ويستل بلطيف أسلوبه سخائمهم وأحقادهم، ويأمر بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويزين لهم العمل الصالح، ويربأ بهم عن مهلكات الشهوات. (3) البلاغة للعرب
قال الجاحظ: إنا لا نعرف الخطب إلا للعرب والفرس، وأما الهند فإنما لهم معان مدونة، وكتب مخلدة، لا تضاف إلى رجل معروف، ولا إلى عالم موصوف، وإنما هي كتب متوارثة وآداب على وجه الدهر سائرة مذكورة، ولليونانيين فلسفة وصناعة منطق، وكان صاحب المنطق نفسه بكيء اللسان، غير موصوف بالبيان مع علمه بتمييز الكلام وتفصيله ومعانيه بخصائصه، وهم يزعمون أن جالينوس كان أنطق الناس، ولم يذكروه بالخطابة ولا بهذا الجنس من البلاغة.
وفي الفرس خطباء إلا أن كل كلام للفرس، وكل معنى للعجم، فإنما هو عن طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة، وعن مشاورة ومعاونة، وعن طول التفكر ودراسة الكتب، وحكاية الثاني علم الأول، وزيادة الثالث في علم الثاني، حتى اجتمعت ثمار تلك الفكر عند آخرهم، وكل شيء للعرب فإنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكرة ولا استعانة، وإنما هو أن يصرف همه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين أن يمنح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمنافلة، أو عند صراع أو في حرب، فما هو إلا أن يصرف همه إلى جملة المذاهب ، وإلى العمود الذي يليه بقصد، فتأتيه المعاني إرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا، ثم لا يقيده على نفسه، ولا يدرسه أحدا من ولده.
وكانوا أميين لا يكتبون، ومطبوعين لا يتكلفون، وكان الكلام الجيد عندهم أظهر وأكثر، وهم عليه أقدر وأمهر، وكل واحد في نفسه أنطق، ومكانه من البيان أرفع، وخطباؤهم أوجز، والكلام عليهم أسهل، وهو عليهم أيسر من أن يفتقروا إلى تحفظ، أو يحتاجوا إلى تدارس، وليس هم كمن حفظ علم غيره، واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علق بقلوبهم والتحم بصدورهم، واتصل بعقولهم من غير تكلف، ولا قصد، ولا تحفظ، ولا طلب، وإن شيئا الذي أبدينا جزءا منه لبالمقدار الذي لا يعلمه إلا من أحاط بقطر السحاب، وعدد التراب، وهو الذي يحيط بما كان والعالم بما سيكون.
ونحن أبقاك الله إذا ادعينا للعرب أصناف البلاغة من القصيدة والإرجاز، ومن المنثور والأسجاع، ومن المزدوج وما لا يزدوج، فمعنا العلم على أن ذلك لهم شاهد صادق من الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنمط الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم ولا أرفعهم في البيان، أن يقول في مثل ذلك إلا في اليسير والنبذ القليل، ونحن لا نستطيع أن نعلم أن الرسائل التي في أيدي الناس للفرس أنها صحيحة غير مصنوعة، وقديمة غير مولدة، إذا كان مثل ابن المقفع، وسهل بن هارون، وأبي عبيد الله، وعبد الحميد، وغيلان، وفلان وفلان لا يستطيعون أن يولدوا مثل تلك الرسائل، ويصنعوا مثل تلك السير، وأخرى أنك متى أخذت بيد الشعوبي، فأدخلته بلاد الأعراب الخلص، ومعدن الفصاحة التامة، ووقفته على شاعر مفلق، أو خطيب مصقع، علم أن الذي قلت هو الحق وأبصر الشاهد عيانا، فهذا فرق ما بيننا وبينهم، فتفهم عني فهمك الله ما أنا قائل.
هذه حجة الجاحظ في أن العرب أفصح الأمم، وقال أيضا: إن جميع خطب العرب من أهل المدر والوبر، والبدو والحضر على حزبين، منها الطوال ومنها القصار، ولكل ذلك مكان يليق به، وموضوع يحسن به، ومن الطوال ما يكون مستويا في الجودة، ومشاكلا في استواء الصنعة، ومنها ذوات الفقر الحسان، والنتف الجياد، وليس فيها بعد ذلك شيء يستحق الحفظ، وإنما حفظها التخليد في بطون الصحف، قال: ومتى شاكل أبقاك الله ذلك اللفظ معناه، وأعرب عن فحواه، وكان لتلك الحال وفقا، ولذلك القد لفقا، وخرج من سماجة الاستكراه، وسلم من فساد التكلف، كان قمينا بحسن الموقع، وبانتفاع المستمع، وأجدر أن يأمن جانبه من تناول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العيابين، ولا تزال القلوب به معمورة، والصدور مأهولة، ومن كان اللفظ أيضا كريما في نفسه، متحيرا في جنسه، وكان سليما من الفضول، بريئا من التعقيد، حبب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، ودهشت إليه الأسماع، وارتاحت له القلوب وخف على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريض.
فإن أراد صاحب الكلام صلاح شأن العامة ومصلحة حال الخاصة، وكان ممن يعم ولا يخص، وينصح ولا يغش، وكان مشغوفا بأهل الجماعة، شنقا لأهل الاختلاف والفرقة، جمعت له الحظوظ من أقطارها، وسبقت إليه القلوب بأزمتها، وجمعت النفوس المختلفة الأهواء على محبته، وجبلت على تصويب إرادته، ومن أعاره الله من معرفته نصيبا، وأفرغ عليه من محبته ذنوبا، حنت إليه المعاني، وسلس له نظام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع من كد التكلف، وأراح قارئ الكتاب من علاج التفهم، ولم أجد في خطب السلف الطيب، والأعراب الأقحاح، ألفاظا مسخوطة، ولا معاني مدخولة ، ولا طبعا رديا، ولا قولا مستكرها، وأكثر ما نجد ذلك في خطب المولدين البلديين المتكلفين ومن أهل الصنعة المتأدبين، سواء كان ذلك منهم على جهة الارتجال والاقتضاب، أو كان من نتاج التخير والتفكر. ا.ه. (4) مكانة الخطابة وعيوب الخطباء
تقدم لك قانون البلاغة والخطابة الذي وضعه عمرو بن بحر الجاحظ في صفحة، وتدارسه يغني طالب الخطابة عن كتاب، ورب مقالة خير من سفر. ولقد عرفت العرب مع ما كانت عليه من الغريزة الفائقة في البيان صعوبة الخطابة، وأنها لا يوفق إليها إلا أفراد، ولذلك كانت تكرم الخطيب أكثر من إكرام الشاعر، وقد ضربت المثل بالخطيب في قولها: «الخطب مشوار كثير العثار»، والمشوار هو المكان الذي تعرض فيه الدواب، وقالوا: «عقل المرء من فوق لسانه»، وكانت تتعاير بالفهاهة وقلة الإجادة في البيان، وتقول: نعوذ بالله من الإهمال، ومن كلال الغرب في المقال، ومن خطيب دائم السعال. قال بشر بن معمر في مثل ذلك:
ومن الكبائر مقول متعتع
جم التنحنح متعب ميهود
وقال شاعرهم يعيب بعض خطبائهم:
مليء ببهر والتفات وسعلة
ومسحة عتنون وفتل الأصابع
وضربوا المثل بالبلاغة بسحبان وائل، فقالوا: فلان أخطب من سحبان. كما ضربوا المثل بالعي في الكلام بباقل، فقالوا: فلان أعيى من باقل، وقد جمع الجاحظ في البيان والتبيين كثيرا من أخبار البلاغة، والحصر، والخطباء، والبلغاء ومما قال:
وليس حفظك الله مضرة سلاطة اللسان عند المنازعة، وسقطات الخطل يوم إطالة الخطبة، بأعظم مما يحدث عن العي من اختلال الحجة، وعن الحصر من فوق درك الحاجة، والناس لا يعيرون الخرس، ولا يلومون من استولى على بيانه العجز وهم يذمون الحصر، ويؤنبون العي، فإن تكلفا مع ذلك مقامات الخطباء، وتعاطيا مناظرة البلغاء، تضاعف عليهما الذم، وترادف عليهما التأنيب، ومماتنة (مماطلة) العي الحصر البليغ المصقع، في سبيل مماتنة المنقطع المفحم للشاعر المفلق، وأحدهما ألوم من صاحبه، والألسنة إليه أسرع، وليس اللجلاج (المتردد في كلامه)، والتمتام (من تسبق كلمته إلى حنكه الأعلى، والتمتمة رد الكلام إلى التاء والميم)، والألثغ (الذي يحول لسانه من السين إلى الثاء أو من الراء إلى الغين)، والفأفاء (مردد الفاء)، وذو الحبسة (الذي لا يسمع قوله)، والحكلة (الذي لا يسمع صوته)، والرتة (العجمة)، وذو اللقف (عي بطيء الكلام إذا تكلم ملأ لسانه فمه)، والعجلة في سبيل الحصر في خطبته، والعي في مناضلته خصومه، كما أن سبيل المفحم عند الشعراء والبكيء عند الخطباء خلاف سبيل المسهب الثرثار والخطل المكثار.
ثم اعلم أبقاك الله أن صاحب التشديق (تكلف البلاغة) والتقعير (التكلم بأقصى الفم) والتقعيب (تقصير الكلام) من الخطباء والبلغاء، مع سماجة التكلف وشنعة التزيد ، أعذر من عي يتكلف الخطابة، ومن حصر يتعرض لأهل الاعتياد والدربة، ومدار اللائمة ومستقر المذمة، حيث رأيت بلاغة يخالطها التكلف وبيانا يمازجه التزيد: ألا إن تعاطي الحصر المنقوص مقام الدرب التام، أقبح من تعاطي البليغ الخطيب، ومن تشادق الأعراب القح، وانتحال المعروف ببعض الغزارة في المعاني والألفاظ، وفي التحبير والارتجال، إنه البحر الذي لا ينزح، والغمر لا يسير أيسر من انتحال الحصر المنخوب (الجبان) أنه في مسلاخ (صفة) التام الموفر والجامع المحكك، وإن كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد قال: إياي والتشادق، وقال: أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون، وقال: من بدا جفا. وعاب العدادين (الشديدي الصوت) والمتزيدين في جهارة الصوت، وانتحال سعة الأشداق، ورحب العلاصم، وهدل الشفاه (إرسالها إلى أسفل)، وأعلمنا أن ذلك من أهل الوبر أكثر وفي أهل المدر أقل، فإذا عاب المدري بأكثر مما عاب به الوبري، فما ظنك بالمولد القروي، والمتكلف البلدي، فالحصر المتكلف والعي المتزيد ألوم من البليغ المتكلف لأكثر مما عنده، وهو أعذر؛ لأن الشبهة الداخلة عليه أقوى، فمن أسوأ حالا أبقاك الله ممن يكون ألوم من المتشادقين، ومن الثرثارين المتفيهقين، ومن ذكره النبي
صلى الله عليه وسلم
نصا، وجعل النهي عن مذهبه مفسرا، وذكر مقته له وبغضه إياه. (5) الخطابة ملكة كسبية وفطرية
الخطابة كالكتابة وقرض الشعر ملكة فطرية وملكة كسبية، إذا صاحبت فيها الكسبية الفطرية جاء من الخطيب كل قول عجيب، وقد كان دمر ستينوس وهو أخطب خطيب عند اليونان - كما أن شيشرون أخطب خطيب عند الرومان - خطب في الجمهور أول مرة ولم يحسن الإلقاء؛ لأنه كان ألثغ مثل واصل بن عطاء شيخ المعتزلة، وكان ضعيف الصوت، فحاول إصلاح ذلك وتمكن منه بوضع حصاة في فمه، وإنشاد أبيات وهو يركض على شاطئ البحر ويرتقي الروابي والآكام.
قال الجاحظ: أخبرني محمد بن عباد، وكان شاعرا راوية وطلابة للعلم علامة، قال: سمعت أبا داود بن جرير يقول وقد جرى شيء من ذكر الخطب وتحبير الكلام واقتضابه، وصعوبة ذلك المقام وأهواله فقال: تلخيص المعاني رفق، والاستعانة بالغريب عجز، والتشادق من غير أهل البادية بغض، والنظر في عيون الناس عي، ومس اللحية هلك، والخروج مما بني عليه أول الكلام إسهاب، قال: وسمعته يقول: رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام وحليها الإعراب، وبهاؤها تخير اللفظ، والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه.
وذكر محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بلاغة بعض أهله فقال: إني لأكره أن يكون مقدار لسانه فاضلا عن مقدار علمه، كما أكره أن يكون مقدار علمه فاضلا على مقدار عقله. قال أبو عثمان الجاحظ: هذا كلام شريف نافع، فاحفظوا لفظه وتدبروا معناه، ثم اعلموا أن المعنى الحقير الفاسد والدني الساقط، يعشش في القلوب، ثم يبيض ثم يفرخ، فإذا ضرب بجرانه، ومكن بعروقه، استفحل الفساد وبزل، وتمكن الجهل وفرخ، فعند ذلك يقوى داؤه، ويمتنع دواؤه؛ ولأن اللفظ الهجين الرديء والمستكره الغبي أعلق باللسان وآلف للسمع، أشد التحاما بالقلب من اللفظ النبيه الشريف، والمعنى الرفيع الكريم، ولو جالست الجهال والنوكى والسخفاء والحمقى شهرا فقط، لم تنقذ من أوضار كلامهم وخيال معانيهم، بمجالسة أهل البيان والعقل دهرا؛ ولأن الفساد أسرع إلى الناس وأشد التحاما بالطبع، واللسان بالتعلم والتكلف، وبطول الاختلاف إلى العلماء، ومدارسة كتب الحكمة، يجود لفظه، ويحسن أدبه، وهو لا يحتاج في الجهل إلى أكثر من ترك التعلم، وفي فساد البيان إلى أكثر من ترك التخير.
قال معاوية بن أبي سفيان لصحار بن عياش العبدي: ما هذه البلاغة التي فيكم قال: شيء تجيش به صدورنا، فتقذفه على ألسنتنا. فقال له رجل من عرض القوم: يا أمير المؤمنين هؤلاء بالبشر والرطب أبصر منهم بالخطب، فقال له صحار: أجل، والله إنا لنعلم أن الريح لتنقحه، وأن البرد ليعقده، وأن القمر ليصبغه، وأن الحر لينضجه.
قال أبو عثمان: قال صاحب البلاغة والخطابة وأهل البيان وحب التبيين: إنما عاب النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - المتشادقين والثرثارين، والذي يتخلل بلسانه كما تتخلل الباقرة بلسانها، والأعرابي المتشادق هو الذي يصنع بفكيه وشدقيه ما لا يستجيزه أهل الأدب من خطباء أهل المدر ، فمن تكلف ذلك منهم فهو أعيب، والذم له ألزم، وقد كان الرجل من العرب يقف الموقف، فيرسل عدة أمثال سائرة، ولم يكن الناس جميعا يتمثلون بها إلا لما فيها من المرافق والانتفاع، ومدار العلم على الشاهد والمثل، وإنما حثوا على الصمت؛ لأن العامة إلى معرفة خطأ القول أسرع منهم إلى معرفة خطأ الصمت، ومعنى الصامت في صمته أخفى من معنى القائل في قوله، وإلا فالسكوت عن قول الحق في معنى النطق بالباطل، ولعمري، إن الناس إلى الكلام لأسرع؛ لأن في أصل التركيب أن الحاجة إلى القول والعمل أكثر من الحاجة إلى ترك العمل، والسكوت عن جميع القول، وليس الصمت كله أفضل من الكلام كله، ولا الكلام كله أفضل من السكوت كله، بل قد علمنا أن عامة الكلام أفضل من عامة السكوت، وقد قال الله - عز وجل:
سماعون للكذب أكالون للسحت ، فجعل سمعه وكذبه سواء.
وقال الشاعر:
بني عدي ألا ينهى سفيهكم
إن السفيه إذا لم ينه مأمور
وقال الآخر:
فإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما
ضحكت له حتى يلج ويستشري
وكيف يكون الصمت أنفع، والإيثار له أفضل، ونفعه لا يكاد يجاوز رأس صاحبه، ونفع الكلام يعمم ويخص، والرواة لم يرووا سكوت الصامتين، كما روت كلام الناطقين، وبالكلام أرسل الله أنبياءه لا بالصمت، ومواضع الصمت المحمودة قليلة، ومواضع الكلام المحمودة كثيرة، وطول الصمت يفسد البيان، وقال أبو بكر بن عبد الله المزني: طول الصمت حبسة. كما قال عمر: ترك الحركة عقلة، وإذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره، وتبلدت نفسه، وفسد حسه، وكانوا يروون صبيانهم الإرجاز، ويعلمونهم المناقلات، ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الإعراب؛ لأن ذلك يفتق اللهاة، ويفتح الجرح (الصوت)، واللسان إذا أكثرت تحريكه رق ولان، وإذا أقللت تقليبه وأطلت إسكاته جسا وغلظ، وقال عبابة الجعفي: لولا الدربة وسوء العادة لأمرت فتياننا أن يماري بعضهم بعضا، وأية جارحة منعتها الحركة ولم تمرنها على الإعمال، أصابها من التعقد على حسب ذلك المنع. (6) نصائح لطالب الخطابة
مر بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جلبة الخطيب وهو يعلم فتيانهم الخطابة، فوقف بشر فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلا من النظارة، فقال بشر: اضربوا عما قال صفحا، واطووا عنه كشحا، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنسيقه، وكان أول ذلك الكلام: خذ من نفسك ساعة نشاطك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإن قليل تلك الساعة أكرم جوهرا، وأشرف حسبا، وأحسن في الأسماع، وأحلى في الصدر، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين، وعزة من لفظ شريف، ومعنى بديع، واعلم أن ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكد والمطاولة والمجاهدة، وبالتكلف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولا قصدا، وخفيفا على اللسان سهلا، وكما خرج من ينبوعه، ونجم من معدنه، وإياك والتوعر فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيك، ويشين ألفاظك، ومن أراع معنى كريما، فليلتمس له لفظا كريما، فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعود من أجله إلى أن تكون أسوأ حالا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما، وكن في ثلاث منازل، فإن أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقا عذبا، وفخما سهلا، ويكون معناك ظاهرا مكشوفا، وقريبا معروفا، أما عند الخاصة إن كنت للخاصة قصدت. وأما عند العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرف بأن يكون من معاني الخاصة، وكذلك ليس يتصنع بأن يكون من معاني العامة، وإنما مدار الشرف على الصواب ، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال، وما يجب لكل مقام من المقال، وكذلك اللفظ العامي والخاصي، فإن أمكنك أن تبلغ من بيان لسانك، وبلاغة قلمك، لطف مداخلك، واقتدارك على نفسك، على أن تفهم العامة معاني الخاصة، وتكسوها الألفاظ الواسطة التي لا تلطف عن الدهماء، ولا تجفو عن الأكفاء، فأنت البليغ التام.
قال بشر: فلما قرئت على إبراهيم قال لي: أنا أحوج إلى هذا من هؤلاء الفتيان. قال أبو عثمان: أما أنا فلم أر قوما قط أمثل طريقة في البلاغة من الكتاب، فإنهم قد التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعرا وحشيا، ولا ساقطا سوقيا، وإذا سمعتموني أذكر العوام، فإني لست أعني الفلاحين والحشوة، والصناع والباعة، ولست أعني الأكراد في الجبال، وسكان الجزائر في البحار، ولست أعني من الأمم مثل اليبر والطيلسان، ومثل موقان وجيلان، ومثل الزنج وأمثال الزنج، وإنما الأمم المذكورون من جميع الناس أربع: العرب وفارس والهند والروم، والباقون همج وأشباه الهمج. وأما العوام من أهل ملتنا ودعوتنا ولغتنا وأدبنا وأخلاقنا، فالطبقة التي عقولها وأخلاقها فوق تلك الأمم لم يبلغوا منزلة الخاصة منا، على أن الخاصة تتفاضل في الطبقات أيضا.
قال بشر: فإن كانت المنزلة الأولى لا تواتيك ولا تعتريك، ولا تسنح لك عند أول نظرك، وفي أول تكلفك، وتجد اللفظة التي لم تقع موقعها، ولم تصر إلى قرارها وإلى حقها من أماكنها المقسومة لها، والقافية لم تحل في مركزها وفي نصابها، ولم تتصل بشكلها، وكانت قلقة في مكانها نافرة عن موضعها، فلا تكرهها على اغتصاب الأماكن والنزول في غير أوطانها، فإنك إذا لم تتعاط قريض الشعر الموزون، ولم تتكلف اختبار الكلام المنثور، لم يعبك بترك ذلك أحد، وإن أنت تكلفتها ولم تكن حاذقا مطبوعا ولا محكما لسانك، نصيرا بما عليك أو ما لك، عابك من أنت أقل عيبا منه، ورأى من هو دونك أنه فوقك.
فإن ابتليت بأن تتكلف القول، وتتعاطى الصنعة، ولم تسمح لك الطباع في أول وهلة، وتعصى عليك بعد إجابة الفكرة، فلا تعجل ولا تضجر، ودعه بياض يومك أو سواد ليلك، وعاوده عند نشاطك وفراغ بالك، فإنك لا تعدم الإجابة والمواتاة، إن كانت هناك طبيعة، أو جريت من الصناعة على عرق، فإن تمنع ذلك عليك بعد ذلك من غير حادث شغل عرض، ومن غير طول إهمال، فالمنزلة الثالثة أن تتحول من هذه الصناعة إلى أشهى الصناعات إليك وأخفها عليك، فإن لم تشتهه ولم تنازع إليه إلا وبينكما نسب، والشيء لا يحن إلا إلى ما يشاكله، وإن كانت المشاكلة قد تكون في طبقات؛ لأن النفوس لا تجود بمكنونها مع الرغبة، ولا تسمح بمخزونها مع الرهبة، كما تجود به مع المحبة والشهوة. (7) ما يجب على الخطيب وما لا يجب
قال بشر بن المعتمر: وينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينهما وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاما، ولكل حالة من ذلك مقاما، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات، فإن كان الخطيب متكلما تجنب ألفاظ المتكلمين، كما أنه إن عبر عن شيء من صناعة الكلام واصفا أو مجيبا أو سائلا، كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين، إذ كانوا لتلك العبارات أفهم، وإلى تلك الألفاظ أميل، وإليها أحسن وبها أشغف؛ ولأن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء، وأبلغ من كثير من البلغاء، وهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني، وهم اشتقوا لها من كلام العرب تلك الأسماء، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم، فصاروا في ذلك سلفا لكل خلف، وقدوة لكل تابع.
قالوا: وقبيح بالخطيب أن يقوم بخطبة العيد أو يوم السماطين، أو على المنبر، أو في سدة دار الخلافة، أو في يوم جمع وحفل، إما في إصلاح بين العشائر واحتمال دماء القبائل، واستلال تلك الضغائن والسخائم، فيقول كما قال بعض من خطب على منبر ضخم الشأن رفيع المكان: ثم إن الله - عز وجل - بعد أن أنشأ الخلق وسواهم ومكن لهم لاشاهم فتلاشوا. ولولا أن المتكلم افتقر إلى أن يلفظ بالتلاشي، لكان ينبغي أن يؤخذ فوق يده. وخطب آخر في وسط دار الخلافة فقال في خطبته: وأخرجه الله من باب الليسية، فأدخله في باب الأيسية إلخ، قال: وكما لا ينبغي أن يكون اللفظ عاميا ساقطا سوقيا، فكذلك لا ينبغي أن يكون غريبا وحشيا إلا أن يكون المتكلم بدويا أعرابيا، فإن الوحشي من الكلام يفهمه الوحشي من الناس، كما يفهم السوقي رطانة السوقي، وكلام الناس في طبقات، كما أن الناس أنفسهم في طبقات، فمن الكلام والجزل والسخيف، والمليح والحسن ، والقبيح والسميج، والخفيف والثقيل، وكله عربي، وبكل قد تكلموا، وبكل قد تمادحوا وتعايبوا.
فإن زعم زاعم أنه لم يكن في كلامهم تفاضل، ولا بينهم في ذلك تفاوت، فلم ذكروا العي والبكي، والحصر والمفحم، والخطل والمسهب، والمتشدق والمتفيهق، والمهماز والثرثار، والمكثار والهماز؟! ولم ذكروا الهجر والهذر، والهذيان والتخليط، وقالوا: رجل تلقاعة (كثير الكلام) وتلهاعة (متشدق) وفلان يتلهيع في خطبته، وقالوا: فلان يخطئ في جوابه، ويحيل في كلامه، ويناقض في خبره، ولو أن هذه الأمور قد كانت تكون في بعضهم دون بعض لما سمي في ذلك البعض والبعض الآخر بهذه الأسماء، قال أبو عثمان: وأنا أقول: إنه ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا أنفع، ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء العقلاء العلماء البلغاء.
يروى أن مطرف بن عبد الله كان يقول: لا تطعم طعامك من لا يشتهيه. ويقول لا تقبل بحديثك على من لا يقبل عليك بوجهه. وقال عبد الله بن مسعود: حدث الناس ما حدجوك بأسماعهم ولحظوك بأبصارهم، فإذا رأيت منهم فترة فأمسك. قال: وجعل ابن السماك يوما يتكلم وجارية له حيث تسمع كلامه، فلما انصرف إليها قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت: ما أحسنه لولا أنك تكثر ترداده، فقال: أردده حتى يفهمه من لم يفهمه. قالت: إلى أن يفهمه من لم يفهمه يكون قد مله من فهمه ، قال عباد بن عوام عن شعبة عن قتادة قال: مكتوب في التوراة لا يعاد الحديث مرتين. وسفيان بن عيينة عن الزهري قال: إعادة الحديث أشد من نقل الصخر، وقال بعض الحكماء: من لم ينشط لحديثك، فارفع عنه مؤنة الاستماع منك. وجملة القول في الترداد أنه ليس فيه حد يحصره من العوام والخواص.
قال ثمامة بن أشرس: كان جعفر بن يحيى أنطق الناس، قد جمع الهدو والتمهل، والجزالة والحلاوة، وإفهاما يغنيه عن الإعادة، ولو كان في الأرض ناطق يستغني بمنطقه عن الإسارة لاستغنى جعفر عن الإشارة، كما استغنى عن الإعادة، وقال مرة: ما رأيت أحدا كان لا يتجسس، ولا يتوقف، ولا يتلجلج، ولا يتنحنح، ولا يرتقب لفظا قد استدعاه من بعد، ولا يلتمس التخلص إلى معنى قد تعصى عليه طلبه أشد اقتدارا، ولا أقل تكلفا من جعفر بن يحيى. وقال ثمامة: قلت لجعفر بن يحيى: ما البيان؟ قال: أن يكون الاسم يحيط بمعناك ويجلي عن مغزاك، وتخرجه من الشركة، ولا تستعين عليه بالفكرة، والذي لا بد منه أن يكون سليما من التكلف، بعيدا من الصنعة، بريئا من التعقيد غنيا عن التأويل.
قال أبو عثمان: أعيب عندهم من دقة الصوت وضعف مخرجه، وضعف قوته أن يعترض الخطيب البهر، والارتعاش، والرعدة، والعرق. قال أبو الحسن: قال سفيان بن عيينة: تكلم صعصمة عند معاوية فعرق، فقال معاوية: بهرك القول، فقال صعصمة: إن الجياد نضاحة بالماء. والفرس إذا كان سريع العرق وكان هشا (كثير العرق) كان ذلك عيبا، وكذلك هو في الكثرة، وإذا أبطأ ذلك وكان قليلا قيل قد كبا وهو فرس كاب وذلك عيب أيضا. (8) لطالب الإجادة في خطبته
رأيت بما مضى بعض العيوب التي يجب على الخطيب أن يربأ بنفسه عنها مما ذكره أبو عثمان الجاحظ، وهاك الآن قطعة أخرى له قال: قال بعض الربانيين من الأدباء، وأهل المعرفة من البلغاء ممن يكره التشادق والتعمق، ويبغض الإغراق في القول، والتكلف والاجتلاب ويعرف أكثر أدواء الكلام ودوائه، وما يعتري المتكلم من الفتنة بحسن ما يقول، وما يعرض للسامع من الافتتان بما يسمع، والذي يورث الاقتدار من التهكم والتسلط، والذي يمكن الحاذق المطبوع من التمويه للمعاني والخلابة وحسن المنطق. قال في بعض مواعظه: أنذركم حسن الألفاظ وحلاوة مخارج الكلام، فإن المعنى إذا اكتسى لفظا حسنا، وأعاره البليغ مخرجا سهلا، ومنحه المتكلم قولا متعشقا، صار في قلبك أحلى ولصدرك أملا، والمعاني إذا كسيت الألفاظ الكريمة، وألبست الأوصاف الرفيعة، تحولت في العيون عن مقادير صورها، وأربت على حقائق أقدارها بقدر ما زينت، وعلى حسب ما زخرفت، فقد صارت الألفاظ في معنى المعارض، وصارت المعاني في معنى الجواري، والقلب ضعيف، وسلطان الهوى قوي، ومدخل خدع الشيطان خفي، فاذكر هذا الباب ولا تنسه، وتأمله ولا تفرط فيه، فإن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - لم يقل للأحنف بعد أن احتبسه حولا مجرما (تاما)؛ ليستكثر منه وليبالغ في تصفح حاله، والتنفير عن شأنه إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد كان خوفنا كل منافق عليم، وقد خفت أن تكون منهم، إلا لما كان راعه من حسن منطقه، ومال إليه لما رأى من رفقه وقلة تكلفه. قال الجاحظ: فالقصد في ذلك أن تجتنب السوقي والوحشي، ولا تجعل همك في تهذيب الألفاظ، وشغلك في التخلص إلى غرائب المعاني، وفي الاختصار بلاغ، وفي التوسط مجانبة للوعورة، وخروج من سبيل من لا يحاسب نفسه.
وقد رد الجاحظ على من زعم أن البلاغة أن يكون السامع يفهم معنى القائل، وجعل الفصاحة واللكنة والخطأ والصواب والإغلاق والإبانة والملحون والمعرب، كله سواء، وكله بيانا قال: وكيف يكون ذلك كله بيانا، ولولا طول مخالطة السامع للعجم، وسماعه للفاسد من الكلام لما عرفه، ونحن لم نفهم عنه إلا للنقص الذي فينا، وأهل هذه اللغة وأرباب هذا البيان لا يستدلون على معاني هؤلاء بأكمالهم (؟) كما لا يعرفون ركاكة الرومي والصقلبي، وإن كان هذا الاسم إنما يستحقونه بأنا نفهم عنهم كثيرا من حوائجهم، فنحن قد نفهم بحمحمة الفرس كثيرا من حاجاته، ونفهم بمواء السنور كثيرا من إرادته، وكذلك الكلب والحمار والصبي الرضيع.
قال: وكانوا يمدحون شدة العارضة، وقوة اللسن، وظهور الحجة، وثبات الجهاد، وكثرة الريق، والعلو على الخصم، ويهجون بخلاف ذلك، ثم قال: وهم وإن كانوا يحبون البيان، والطلاقة، والتحبير، والبلاغة، والتخلص، والرشاقة، فإنهم كانوا يكرهون السلاطة والهذر، والتكلف والإسهاب، والإكثار لما في ذلك من التزيد والمباهاة واتباع الهوى، والمنافسة في العلو والقدر، وكانوا يكرهون الفضول في البلاغة؛ لأن ذلك يدعو إلى السلاطة، والسلاطة تدعو إلى البذاء.
وكل مراء في الأرض فإنما هو من نتاج الفضول، ومن حصل كلامه وميزه، وحاسب نفسه، وخاف الإثم والذم، أشفق من الغرارة، وسوء العادة، وخاف ثمرة العجب، وهجنة القبج، وما في حب السمعة من الفتنة، وما في الرياء من مجانبة الإخلاص.
قال: وكانوا يأمرون بالتبين والتثبت، وبالتحرز من زلل الكلام، ومن زلل الرأي، ومن الرأي الدبري، والرأي الدبري هو الذي يعرض من الصواب بعد مضي الرأي الأول وفوت استدراكه، وكانوا يأمرون بالتحلم والتعلم، وبالتقدم في ذلك أشد التقدم، قال: وأنا أوصيك ألا تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أن لك فيهما طبيعة، وأنهما يناسبانك بعض المناسبة، ويشاكلانك في بعض المشاكلة، ولا تهمل طبيعتك، فيستولي الإهمال على قوة القريحة، ويستبد بها سوء العادة، وإن كنت ذا بيان، وأحسست من نفسك بالنفوذ في الخطابة والبلاغة، وبقوة المنة يوم الحفل، فلا تقصر في التماس أعلاها سورة، وأرفعها في البيان منزلة، ولا يقطعنك تهيب الجهلاء، وتخويف الجبناء، ولا تصرفنك الروايات المعدولة عن وجوهها، والأحاديث المتناولة على أقبح مخارجها، فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة، وتنسب إلى هذا الأدب، فقرضت قصيدة، أو حبرت خطبة، أو ألفت رسالة، فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك، ويدعوك عجبك بثمرة عقلك إلى أن تنتحله وتدعيه، ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل، أو أشعار، أو خطب، فإن رأيت الأسماع تصغي له، والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه فانتحله، وإن كان ذلك في ابتداء أمرك، أو في أول تكلفك، فلم تر طالبا ولا مستحسنا، فلعله أن يكون ما دام ريضا أن يحل عندهم محل المتروك، فإن عاودت أمثال ذلك مرارا فوجدت الأسماع عنه منصرفة والقلوب لاهية، فخذ في غير هذه الصناعة، واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصهم عليه أو زهدهم فيه، قال: وقد يكون الرجل له طبيعة في الحساب، وليس له طبيعة في الكلام، ويكون له طبيعة في التجارة، وليس له طبيعة في الفلاحة، ويكون له طبيعة في الحداء، أو في التعبيرات في القراءة بالألحان، وليس له طبيعة في الغناء، وإن كانت هذه الأنواع كلها ترجع إلى تأليف اللحون، ويكون له طبيعة في الناي، وليس له طبيعة في السرناي، ويكون له طبيعة في قصبة الراعي، ولا يكون له طبيعة في القصبتين المضمومتين، ويكون له طبع في صناعة اللحون، ولا يكون له طبع في غيرها، ويكون له طبع في تأليف الرسائل والخطب والأسجاع، ولا يكون له طبع في قرض بيت الشعر، ومثل هذا كثير جدا.
وقال: ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا أنفع، ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان من طول استماع حديث الأعراب الفصحاء العقلاء، والعلماء البلغاء، وقد أصاب القوم في عامة ما وصفوا، إلا أني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني، وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل الفخم، ومن الألفاظ الشريفة الكريمة من المعاني، كما أن النادرة الباردة جدا قد تكون أطيب من النادرة الحارة جدا، وإنما الكرب الذي يختم على القلوب، ويأخذ بالأنفاس النادرة الفاترة التي هي لا حارة ولا هي باردة، وكذلك الشعر الوسط والغناء الوسط، وإنما الشأن في الحار جدا والبارد جدا، وكان محمد بن عباد بن كاسب يقول: والله لفلان أثقل من مغن وسط، وأبغض من ظريف وسط. قلنا: وهذا يشبه ما قاله لابرويير في كتابه الأخلاق: من الأشياء ما لا يطاق فيه التوسط: الشعر والموسيقى والتصوير والخطاب العام.
قال إسحاق بن حسان بن فوهة: لم يفسر البلاغة تفسير ابن المقفع أحد؛ سئل: ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسم جامع لمعان تجري في أمور كثيرة، منها ما يكون في السكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الحديث، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداء، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سجعا وخطبا، ومنها ما يكون رسائل، فعامة ما يكون من هذه الأبواب الوحي فيها، والإشارة إلى المعنى، والإيجاز هو البلاغة، فأما الخطب بين السماطين وفي إصلاح ذات البين، فالإكثار في غير خطل، والإطالة في غير إملال، وليكن في صدر كلامك دليل على حاجتك، كما أن خير أبيات الشعر البيت الذي إذا سمعت صدره عرفت قافيته، كأنه يقول: فرق بين صدر خطبة النكاح، وبين صدر خطبة العيد، وخطبة الصلح، وخطبة المذاهب، حتى يكون لكل فن من ذلك صدر يدل على عجزه، فإنه لا خير في كلام لا يدل على معناك، ولا يشير إلى مغزاك، وإلى العمود الذي إليه قصدت، والغرض الذي إليه نزعت، قال: فقيل له: فإن مل المستمع الإطالة التي ذكرت أنها حق ذلك الموقف، قال: إذا أعطيت لكل مقام حقه، وقمت بالذي يجب من سياسة ذلك المقام، وأرضيت من يعرف حقوق الكلام، فلا تهتم لما فاتك من رضا الحاسد والعدو، فإنه لا يرضيهما شيء. وأما الجاهل فلست منه وليس منك، ورضا جميع الناس شيء لا ينال. (9) خطباء الجاهلية والإسلام
قال الجاحظ: في الخطباء من يكون شاعرا ويكون إذا تحدث أو وصف أو احتج بليغا مفوها بينا، وربما كان خطيبا فقط وشاعرا فقط، وبين اللسان فقط، ومن الشعراء الخطباء الأنبياء الحكماء قس بن ساعدة الأيادي، والخطباء كثير والشعراء أكثر منهم، ومن يجمع الخطابة والشعر قليل، ومنهم عمرو بن الأهتم المنقري وهو المكحل، ومن الخطباء الشعراء البعيث المجاشعي، واسمه خداش بن بشر بن لبيد، ومن الخطباء الشعراء الكميت بن زيد الأسدي، وكنيته أبو المستهل، ومن الخطباء الشعراء الطرماح بن حكيم الطائي، وكنيته أبو نفر، ومنهم عمران بن حطان، وكنيته أبو شهاب رئيس القعدة من الصفرية، وصاحب فتياهم ومقرعهم عند اختلافهم، ومنهم دغفل بن حنظلة النسابة الخطيب العلامة، ومنهم القعقاع بن شور، ومنهم نصر بن سيار أحد بني ليث بن بكر صاحب خراسان، ومنهم زيد بن جندب الأيادي، وعجلان بن سحبان الباهلي، وهو سحبان وائل وخطيب العرب.
ومن الشعراء العلماء أعشى همذان، ومن الشعراء الخطباء عمران بن عصام العرني، ومن خطباء الأمصار وشعرائهم والمولدين منهم بشار الأعمى، وهو بشار بن برد وكنيته أبو معاذ، ومن الخطباء الشعراء، ومن يؤلف الكلام الجليل ويصنع المناقلات الحسان، ويؤلف الشعر والقصائد الشريفة مع بيان عجيب، ورواية كثيرة، وحسن دل وإشارة عيسى بن يزيد بن دأب أحد بني ليث بن بكر، وكنيته أبو الوليد، ومن الخطباء الشعراء ممن كان يجمع الخطابة والشعر الجيد والرسائل الفاخرة مع البيان الحسن كلثوم بن عمرو العتابي، وكنيته أبو عمرو، وممن جمع الشعر والخطب والرسائل الطوال والقصار، والكتب الكبار المجلدة، والسير الحسان المولدة، والأخبار المدونة سهل بن هارون بن راهييوني الكاتب، صاحب كتاب ثعلة وعفرة في معارضة كتاب كليلة ودمنة، وكتاب الإخوان، وكتاب المسائل، وكتاب المخزومي، والهذلية وغير ذلك من الكتب، ومن الخطباء الشعراء علي بن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة.
ذكر الجاحظ ثمامة بن أشرس فقال: ما علمت أنه كان في زمانه قروي ولا بلدي، بلغ من حسن الإفهام مع قلة عدد الحروف، ولا من سهولة المخرج مع السلامة من التكلف ما كان بلغه، وكان لفظه في وزن إشارته، ومعناه في طبقة لفظه، ولم يكن لفظه إلى سمعك بأسرع من معناه إلى قلبك، قال بعض الكتاب: معاني ثمامة الظاهرة في ألفاظه الواضحة في مخارج كلامه، كما وصف الخريمي شعر نفسه في مديح أبي دلف حيث يقول:
له كلم فيك معقولة
إزاء القلوب كركب وقوف
كان الفضل بن عيسى الرقاشي من أخطب الناس، وكان متكلما، وكان قاصا مجيدا، وكان يجلس إليه عمرو بن عبيد، وهشام بن حسان، وأبان بن أبي عياش، وكثير من الفقهاء وهو رئيس الفضيلية وإليه ينسبون: وكان يزيد بن أبان عم الفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي من أصحاب أنس، والحسن كان يتكلم في مجلس الحسن، وكان زاهدا عابدا وعالما فاضلا، وكان خطيبا، وكان قاصا مجيدا، قال أبو عبيدة: وكان أبوهم خطيبا وكذلك جدهم، وكانوا خطباء الأكاسرة فلما سبوا وولد لهم الأولاد في بلاد الإسلام وفي جزيرة العرب، نزعهم ذلك العرق، فقاموا في أهل هذه اللغة كمقامهم في أهل تلك اللغة، وفيهم شعر وخطب، وما زالوا كذلك حتى أصهر الغرباء إليهم ففسد ذلك العرق ودخله الخور، ومن الخطباء زيد بن علي بن الحسين، وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر، وكان شاعرا بينا، وخطيبا لسنا. ومن أهل الدهاء والنكراء، ومن أهل اللسن واللقن، والجواب العجيب، والكلام الصحيح، والأمثال السائرة، والمخارج العجيبة هند بنت الحسن وهي الزرقاء، وجمعة بنت حابس.
ومن الخطباء خالد بن سلمة المخزومي من قريش، وأبو ماضر وسالم، وقد تكلم عند الخلفاء، ومن خطباء بني أسيد الحكم بن زيد بن عمير، وقد رأس. ومن أهل اللسن منهم البيان الحجاج بن عمير بن زيد.
ومن الخطباء سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي بن أمية، قيل لسعيد بن المسيب من أبلغ الناس؟ قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقيل له: ليس عن هذا نسألك قال: معاوية وابنه وسعيد وابنه، وما كان ابن الزبير بدونهم، ولكن لم يكن لكلامه طلاوة مقبولة، فمن العجب أن ابن الزبير ملأ دفاتر العلماء كلاما، وهم لا يحفظون لسعيد بن العاصي، وابنه من الكلام إلا ما له بال.
ومن الخطباء عمرو بن سعيد وهو الأشدق، وسعيد بن عمرو بن سعيد، وكان ناسبا خطيبا، وأعظم الناس كبرا، وهو خطيب ابن خطيب ابن خطيب، ومن الخطباء سهيل بن عمرو الأعلم أحد بني حسل بن معيص، وعبد الله بن عروة بن الزبير. قالوا: وكان خالد بن صفوان يشبه به، وما علمت أنه كان في الخطباء أحد أجود خطبا من خالد بن صفوان، وشبيب بن شيبة للذي يحفظ الناس ويدور على ألسنتهم من كلامهما، وما علمنا أن أحدا ولد لهما حرفا واحدا.
ومن النسابين العلماء عتبة بن عمرو بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وكان من ذوي الرأي والدهاء، وكان ذا منزلة من الحجاج بن يوسف، وعمر بن عبد الرحمن خامس خمسة في الشرف، وكان هو الساعي بين الأزد وتميم في الصلح، ومن بني الحرقوس شعبة بن القلعم، وكان ذا لسان وجواب وعارضة، وكان وصافا فصيحا، وبنوه عبد الله وعمر وخالد، كلهم كانوا في هذه الصنعة، غير أن خالدا كان قد جمع بلاغة اللسان والعلم والحلاوة والظرف، وكان الحجاج لا يصبر عنه.
ومن بني أسيد بن عمرو بن تميم أبو بكر بن الحكم، كان ناسبا راوية شاعرا، وكان أحلى الناس لسانا، وأحسنهم منطقا، وأكثرهم تصرفا، ومنهم معلل بن خالد أحد بني أنمار بن الهجيم، وكان نسابة علامة راوية صدوقا مقلدا، ومنهم من بني العنبر، ثم من بني عمرو بن جندب أبو الخنساء عباد بن كسيب، وكان شاعرا علامة ورواية نسابة، وكانت له حرمة بأبي جعفر المنصور، ومنهم عمر بن خولة كان ناسبا خطيبا، وراوية فصيحا من ولد سعيد بن العاصي، والذي أتى سعيد بن المسيب ليعلمه النسب، هو إسحاق بن هشام المخزومي، ومن خزاعة ابن مازن أبو عمرو بن العلاء، وأخوه أبو سفيان، ومنهم أبو نوفل بن أبي عقرب، كان علامة ناسبا خطيبا فصيحا، وهو رجل من كنانة أحد بني عريج، ومن بني كنانة، ثم من بني ليث، ثم من بني الشداخ يزيد بن بكر بن دأب، وكان يزيد عالما ناسبا وراوية شاعرا، وولد يزيد يحيى وعيسى، وهو الذي يعرف في العامة بابن دأب، وكان من أحسن الناس حديثا وبيانا، وكان شاعرا راوية، وصاحب رسائل وخطب، وكان يجيدها جدا، وكان أبو الأسود الدؤلي، واسمه ظالم بن عمرو بن جندل بن سفيان خطيبا عالما، وكان قد جمع شدة العقل، وصواب الرأي، وجودة اللسان، وقول الشعر والظرف، ومنهم زياد بن ظبيان التيمي العايشي، وكذلك ابنه عبيد الله كان أفتك الناس، وأخطب الناس، ومنهم صعصعة بن صوحان من خطباء الخوارج، وعبيد الله بن زياد ويضرب به المثل. وكان عثمان بن عروة أخطب الناس. وكان خالد بن يزيد بن معاوية خطيبا شاعرا، وفصيحا جامعا، وجيه الرأي كثير الأدب، وكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء.
ومن خطباء قريش خالد بن سلمة المخزومي، ومن خطباء العرب عطارد بن حاجب بن زرارة، وهو كان الخطيب عند النبي
صلى الله عليه وسلم . ومن الخطباء عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وكان مع ذلك راوية ناسبا شاعرا، وكان الجارود بن أبي سبرة، ويكنى أبا نوفل من أبين الناس وأحسنهم حديثا، وكان راوية علامة شاعرا مفلقا، ومن الخطباء الذين لا يضاهون ولا يجارون عبد الله بن عباس ذكره حسان بن ثابت فقال:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل
بملتقطات لا ترى بينها فضلا
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع
لذي أربة في القول جدا ولا هزلا
سموت إلى العليا بغير مشقة
فنلت ذراها لا دنيا ولا وغلا
ومن الخطباء بني هاشم أيضا داود بن علي، وكان يكنى أبا سليمان، وكان أنطق الناس وأجودهم ارتجالا واقتضابا للقول، ويقال: إنه لم يتقدم في تحبير خطبة قط، وله كلام كثير معروف محفوظ. ومنهم عبد الله بن الحسن، ومن خطباء بني هاشم، ثم من ولد جعفر بن سليمان بن جعفر والي مكة، قال المكي: سمعت مشايخنا من أهل مكة يقولون: إنه لم يرد عليهم أمير منذ عقلوا الكلام إلا وسليمان أبين منه قاعدا، وأخطب منه قائما، وكان داود بن جعفر إذا خطب اسحنفر (مضى مسرعا فلم يرده شيء) وكان في لسانه شبيه بالرثة، وكان أيوب فوق داود في الكلام والبيان، ولم يكن له مقامات داود في الخطب، وكان إسماعيل بن جعفر من أدق الناس لسانا وأحسنهم بيانا.
ومن خطباء بني هاشم جعفر بن حسن بن الحسين بن علي، وكان أحد من ينازع زيدا في الوصية، فكان الناس يجتمعون ليسمعوا مجاوباتهما فقط، وجماعة من ولد العباس في عصر واحد لم يكن لهم نظراء في أصالة الرأي ، وفي الكمال والجلالة، وفي العلم بقريش والدولة، وبرجال الدعوة، مع البيان العجيب، والغور البعيد والنفوس الشريفة، والأقدار الرفيعة، وكانوا فوق الخطباء، وفوق أصحاب الأخبار، وكانوا يجلون عن هذه الأسماء، إلا أن يصف الواصف بعضهم ببعض ذلك، منهم عبد الملك بن صالح، وعبد الله بن صالح، والعباس بن محمد، وإسحاق بن عيسى، وإسحاق بن سليمان، وأيوب بن جعفر، هؤلاء كانوا أعلم بقريش وبالدولة وبرجال الدعوة من المعروفين برواية الأخبار، وكان عبد الله بن علي وداود بن علي يعدلان بأمة من الأمم، ومن مواليهم إبراهيم ونصر ابنا السندي، فأما نصر فكان صاحب أخبار وأحاديث، وكان لا يعدو حديث ابن الكلبي والهيثم. وأما إبراهيم فإنه كان رجلا لا نظير له وكان خطيبا، وكان ناسبا، وكان فقيها، وكان نحويا عروضيا، وحافظا للحديث راوية للشعر شاعرا، وكان فخم الألفاظ، شريف المعاني وكان كاتب القلم كاتب العمل.
ومن خطباء تميم جحدب، وكان خطيبا راوية، ومن ولد المنذر عبد الله بن شبرمة بن طفيل بن هبيرة بن المنذر، وكان فقيها عالما قاضيا، وكان راوية شاعرا، وكان خطيبا ناسبا، وكان حاضر الجواب مفوها، وكان لاجتماع هذه الخصال فيه يشبه بعامر الشعبي، وكان يكنى أبا شبرمة. ومن الخطباء المشهورين في العوام والمقدمين في الخواص خالد بن صفوان الأهتمي. ومن خطباء بني ضبة حنظلة بن ضرار، وقد أدرك الإسلام وطال عمره حتى أدرك وقعة الجمل. ومن خطباء بني ضبة وعلمائهم مثجور بن غيلان خرشة، وكان مقدما في المنطق.
ومن خطباء الخوارج حبيب بن جدرة وقطري بن الفجاءة، وله خطبة طويلة مشهورة وكلام كثير محفوظ. ابن صديقة وهو القاسم بن عبد الرحمن بن صديقة، وكان صفريا خطيبا ناسبا، ويشوبه ببعض الظرف والهزل، ومن علماء الخوارج شبيل بن غرزة الضبعي صاحب الغريب، وكان راوية خطيبا وشاعرا ناسبا، ومن الخطباء المذكورين روح بن زنباع والحجاج بن يوسف، وعبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، ويزيد بن عبد الله بن رؤبة الشيباني، ومن خطباء الخوارج وعلمائهم عمران بن حطان، ومن علمائهم حبيب بن خدرة الهلالي، ومنهم المقعطل قاضي عسكر الأزارقة أيام قطري، ومنهم عبيدة بن هلال اليشكري، ومنهم الضحاك بن قيس ومنهم نصر بن فلحان.
ومن الخطباء معبد بن طوق العنبري، ومن خطباء عبد القيس مصقلة بن رقبة، وكرب بن رقبة، ومن الخطباء قيس بن خارجة، وكان أبو عمار الطائي خطيب مذحج كلها، ومن الخطباء أيوب بن القرية، ومن خطباء غطفان في الجاهلية خويلد بن عمر، والعشراء بن جابر بن عقيل بن هلال بن سمي بن مازن بن فزارة، وخويلد خطيب يوم الفجار، ومن الخطباء الوضاح بن خيثمة ، ومن أصحاب الأخبار والنسب والخطب، والحكام عند أصحاب النفورات بنو الكواء، ومن الخطباء القدماء كعب بن لؤي، وكان يخطب العرب عامة، ويحض كنانة خاصة على البر، فلما مات أكبروا موته فلم تزل كنانة تؤرخ بموت كعب بن لؤي إلى عام الفيل.
ومن الخطباء الأبيناء العلماء الذين جروا من الخطابة على أعراق قديمة شبيب بن شيبة، قال أبو الحسن: كان أبو بكر خطيبا، وكان عمر خطيبا، وكان عثمان خطيبا، وكان علي خطيبا، وكان من الخطباء معاوية، ويزيد، وعبد الملك، ومعاوية بن يزيد، ومروان، وسليمان بن الوليد، ووليد بن يزيد، والوليد بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز، ومن خطباء بني هاشم زيد بن علي، وعبد الله بن حسن، وعبد الله بن معاوية خطباء لا يجارون، ومن خطباء النساك والعباد الحسن بن أبي الحسن البصري، ومطرف بن عبد الله الحرشي، ومورق العجلي، وبكر بن عبد الله المزني، ومحمد بن واسع الأزدي، ويزيد بن أبان الرقاشي، ومالك بن دينار السامي، وليس الأمر كما قال في هؤلاء القاص المجيد، والواعظ البليغ، وذو المنطق الوجيز، فأما الخطب فإنا لا نعلم أحدا يتقدم الحسن البصري فيها، وهؤلاء وإن لم يسموا خطباء فإن الخطيب لم يشق غبارهم.
ومن الخطباء من بني عبد الله بن غطفان أبو البلا، وكان راوية ناسبا، ومنهم هاشم بن عبد الأعلى الفزاري، ومن الخطباء حفص بن معاوية الغلابي، ومن بني هلال بن عامر زرعة بن ضمرة، وكان ابنه النعمان بن زرعة بن ضمرة من أخطب الناس. ومن الخطباء عاصم بن عبد الله بن يزيد الهلالي، ومن خطباء بني تميم عمرو بن الأهتم، وكان يدعى المكحل لجماله، لم يكن في بادية العرب في زمانه أخطب منه، ومن بني منقر عبد الله بن الأهتم، وكان خطيبا ذا مقامات ووفادات، ومنهم صفوان بن عبد الله بن الأهتم، وكان خطيبا رئيسا، وابنه خالد بن صفوان، ومنهم عبد الله بن عبد الله بن الأهتم، وقد ولي خراسان ووفد على الخلفاء وخطب عند الملوك، ومن ولده شبيب بن شيبة بن عبد الله بن عبد الله بن الأهتم، وعبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن الأهتم وخاقان بن الأهتم، ومن خطبائهم محمد الأحول بن خاقان، وكان أخطب بني تميم، ومن خطبائهم معمر بن خاقان، ومن خطبائهم مؤمل بن خاقان، ومن خطبائهم خاقان بن المؤمل بن خاقان، ومن بني منقر الحكم بن النصر وهو أبو العلاء المنقري، ومن خطباء بني صريم ابن الحارث الخزرج بن الصدى، ومن خطباء بني تميم، ثم من مقاعس عمارة بن أبي سليمان، ومن ولد مالك بن سعيد عبد الله وخير ابنا حبيب، ومن ولد مالك بن سعيد عبد الله، والعباس ابنا رؤبة، وكان العباس علامة عالما ناسبا راوية، وكان عبد الله أرجز الناس وأفصحهم، وكان يكنى أبا الشعثاء وهو العجاج، ومن خطباء هذيل أبو الليح الهذلي أسامة بن عمير، ومنهم أبو بكر الهذلي، كان خطيبا قاصا وعالما بينا، وعالما بالأخبار والآثار.
ومن خطباء عمان مرة بن فهم التليد، ومن العتيك بشر بن المغيرة بن أبي صفرة، ومن خطباء اليمن ثم من حمير الصباح بن شقي الحمري، كان أخطب العرب، ومنهم ثم من الأنصار قيس بن الشماس، ومنهم ثابت بن قيس بن الشماس خطيب النبي، ومنهم روح بن زنباع، ومن خطبائهم الأسود بن الكذاب كعب العنسي، وكان طليحة خطيبا وشاعرا وسجاعا كاهنا وناسبا، ومن خطباء الأنصار بشر بن عمرو بن محض، وهو أبو عمرة الخطيب، ومنهم سعد بن الربيع، ومن القدماء في الحكمة والخطابة والرياسة عبيد بن شرية الجرهمي، وأسقف نجران وأكيدر صاحب دومة الجندل، وأفيعي نجران، وذرب بن حوط، وعليم بن جناب، وعمرو بن ربيعة، وهو لحي بن حارثة بن عمرو مزيقيا، وجذيمة بن مالك الأبرش، ومن القدماء ممن كان يذكر بالقدر والرياسة والبيان والخطابة والحكمة والدهاء والنكراء لقمان بن عاد، ولقيم بن لقمان، ومجاشع بن دارم، وسليط بن كعب بن يربوع، سموه بذلك؛ لسلاطة لسانه، ولؤي بن غالب، وقس بن ساعدة، وقس بن كلاب، ومن الخطباء البلغاء والحكام الرؤساء أكثم بن صيفي، وربيعة بن حذار، وهرم بن قطبة، وعامر بن الظرب ولبيد بن ربيعة.
ومن النساك والزهاد من أهل البيان عامر بن عبد قيس، وصلة بن أشيم، وعثمان بن أدهم، وصفوان بن محرز، والأسود بن كلثوم، والربيع بن خيثم، وعمرو بن عتبة بن فرقد، وهرم بن حيان، ومورق العجلي، وبكر بن عبد الله بن الشخير الحرشي، ومالك بن دينار، وحبيب أبو محمد، ويزيد الرقاشي، وصالح المزني، وأبو حازم الأعرج، وزياد مولى عياش بن أبي ربيعة، وعبد الواحد بن زيد، وحيان أبو الأسود، ودهثم أبو العلاء.
ومن النساء رابعة القيسية، ومعاذة العدوية امرأة صلة بن هاشم، وأم الدرداء، ومن نساء الخوارج البلحاء، وغزالة، وقطام، وحمادة، وكحيلة، ومن نساء الغالية ليلى الناعطية والصدوق وهند، وأبو الوليد الحكم الكندي، ومحمد بن محمد الحمراني، وكلاب، وكليب، وهاشم الأوقص، وأبو هاشم الصوفي، وصالح بن عبد الجليل، والخطفي وهو جد جرير بن عطية بن الخطفي، وهو حذيفة بن بدر بن سلمة.
ومن القصاص أبو بكر الهزلي، وهو عبد الله بن أبي سليمان، كان خطيبا بينا صاحب أخبار وآثار وقص ابنه مطرف بن عبد الله بن الشخير في مكان أبيه، ومن كبار القصاص ثم من هزيل مسلم بن جندب، وعبد الله بن عرادة بن عبد الله بن الوضين، ومن القصاص موسى الأسواري، وكان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فيقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره ، فيقرأ الآية من كتاب الله، ويفسرها للعرب بالعربية، ثم يحول وجهه إلى الفرس، فيفسرها لهم بالفارسية، فلا يدرى بأي لسان هو أبين، واللغتان إذا التقتا في اللسان الواحد أدخلت كل منها الضيم على صاحبتها، إلا ما ذكروا من لسان موسى بن سيار الأسواري.
قال أبو عثمان: وشأن عبد القيس عجب؛ وذلك أنهم بعد محاربة أياد تفرقوا فرقتين، فرقة وقعت بعمان وشق عمان، وفيهم خطباء العرب، وفرقة وقعت إلى البحرين وشق البحرين، وهم من أشعر قبيلة في العرب، ولم يكونوا كذلك حين كانوا في سرة البادية، وفي معدن الفصاحة، وهذا عجب، ومن خطبائهم المشهورين صعصعة بن صوحان، وزيد بن صوحان، وشيخان بن صوحان، ومنهم صحار بن عياش، وصحار من شيعة عثمان، وصوحان من شيعة علي، ومنهم مصقلة بن رقبة، ورقبة بن مصقلة، وكرب بن رقبة.
نقل ابن النديم من خط بن مقلة أسماء الخطباء فإذا هم: أمير المؤمنين علي - عليه السلام - طلحة بن عبيد الله، خالد وإسماعيل ابنا عبد الله القسري، عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، جرير بن يزيد بن خالد، يزيد بن عبد الله بن خالد، خالد بن صفوان، عبد الله بن الأهتم، صعصعة بن صوحان، ابن القرية، محمد بن قيس الخطيب، زياد بن أبي سفيان، قطري بن الفجاءة، الوليد بن يزيد، أبو جعفر المنصور، المأمون شبيب بن شيبة، العباس بن الحسن العلوي، محمد بن خالد بن عبد الله القسري وعبد الله ابنه، شبة بن عقال.
الخلاصة
قال أبو جعفر النحاس: إن حفظ خطب البلغاء، والتفنن في أساليب الخطباء من آكد ما يحتاج إليه الكاتب؛ وذلك أن الخطب من مستودعات سر البلاغة ومجامع الحكم، بها تفاخرت العرب في مشاهدهم، وبها نطقت الخلفاء الأمراء على منابرهم، بها يتميز الكلام، وبها يخاطب الخاص والعام، وعلى منوال الخطابة نسجت الكتابة، وعلى طريق الخطباء مشت الكتاب، قال أبو هلال العسكري: الرسائل والخطب متشاكلتان في أنهما كلام لا يلحقه وزن ولا تقفية، وقد يتشاكلان أيضا من جهة الألفاظ والفواصل، فألفاظ الخطب تشبه ألفاظ الكتاب في السهولة والعذوبة، وكذلك فواصل الخطب مثل فواصل الرسائل، والفرق بينهما أن الخطبة يشافه بها بخلاف الرسالة، والرسالة تجعل خطبة، والخطبة تجعل رسالة في أيسر كلفة. ا.ه.
ونحن نوصي القاري ألا يغفل خصوصا عن خطب علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - فإن نهج البلاغة أكبر كنز للخطيب والكاتب، يستقيان منه مادة عقل وعلم، وأدب وبلاغة، وسياسة وإدارة، ونحن نضمن لمن كان له طبع شفاف إذا استظهر نهج البلاغة، وتفطن لما فيه من النكات العلمية، معتمدا مثلا على شرح ابن أبي الحديد المطول، وتمرن في أساليب الخطابة على مناحي البلغاء والعرب المستعربة، والعاربة والعرباء، يوشك أن يكون من أئمة هذا الشأن في هذا العصر أيضا، فإن كلام أمير المؤمنين - رضي الله عنه - لا تبلى ديباجته وجدته، وكلما كرر حلا، ومهما تأملته علا، ففي كلامه عبقة من النور الإلهي، ونفحة من الروح النبوي، ولو لم يكن للسان العرب غير خطب الخليفة الرابع، لكان كافيا في شرفه وبيانه، وأن يجري على لغات الشرق والغرب ذيول الفخر والمباهاة.
الخطابة عند الإفرنج
من تأمل في تاريخ الطرق الخطابية ير أن القدماء
1
أفرطوا في فن الخطابة، وأنه وإن صعب العثور على مبدأ معين في كتب الأقدمين، وطريقتهم في خطاب الجمهور، فإن جميع المصنفات التعليمية تحوي إبهاما خلطوا فيه بين علم الكتابة وعلم الكلام، فإن علم الخطابة لم يكن في نظر القدماء هو علم التكلم والإلقاء، بل علم تحسين الكلام وتنميق الإنشاء، ومن تلا كتاب الجمهورية لأفلاطون، وفيه مباحث جليلة في الخطابة عند اليونان، يتجلى له أن جميع خطباء أثينة كانوا ينمقون العبارات قبل أن يتلوها، وتتراءى له من خلال سطورهم آثار التعمل، والاستعداد قبل إلقاء خطبهم على مسامع الجمهور، وإذ كان يحظر على المحامي في أثينة أن يدافع عن غيره اضطر بلغاء اليونان أن يكتبوا خطبهم في الدفاع، ويعطوها لغيرهم يستظهرها ليلقيها؛ ولذلك قل المرتجلون من الخطباء في يونان وإن وجدوا فهم على ندرة.
قال بعض المعاصرين: لو لم يكن خطباء الأقدمين يهيئون خطبهم قبل إلقائها ما كان بقي لنا من كلامهم إلا النذر اليسير؛ وذلك لأن فن الاختزال لم يكن يعهد إذ ذاك، بيد أنه مما لا شك فيه أن بعض خطباء اللاتين الذين وصلتنا خطبهم قد ألقوها بدون أن يستعدوا لها بكتابتها، وكان من العادة أن يعود الخطيب عندهم، فيدون بالكتابة ما قاله من خطاب كما فعل شيشرون في بعض خطبه، والحق الذي لا مرية فيه أن الخط طالما اعتبر في اليونان ورومية بأنه الأسلوب الوحيد في الجملة لإعداد الكلام ليلقى على المسمع العام، ويجب أن يلاحظ أن الخطيب الأثيني مهما بلغ من ثقته بنفسه، لم يكن يجسر أن يقف موقف الخطابة قبل أن ينظر نظرا بليغا فيما سيلقي عليهم؛ لأنه عارف بدرجة مدارك الحضور، ومعرفتهم نقد ما يقول، وما بقي من خطب خطباء يونان هو مما هذبته أناملهم، ونظرت فيه عقولهم، ملاحظين في ذلك أنهم سيخلفون ذلك للأعقاب، فلا يليق أن تكون إلا من أحسن ما يجب.
وطالما هذب شيشرون خطبه وتمرن على إلقائها، حتى إنه في سن الستين قبل أن يقتل كان يمرن نفسه على كيفية الإلقاء، وكان القدماء يعلقون شأنا عظيما على الإلقاء في المجالس العامة، حتى لقد أفرط شيشرون في قوله بأن الخطاب العام يتطلب تعبيرات لطيفة منتقاة، فقد كتب إلى أحد أصحابه أن الرسالة لا يمكن أن تشبه دفاع المحامي، أو خطابا سياسيا، فإنه تستعمل فيه جمل شائعة بالاستعمال، بيد أن كثيرين من خطباء اللاتين وقدماء خطباء اليونان، كانوا لا يحفلون بإعداد خطبهم، ويظهر أن هورتانسيوس وهو أستاذ شيشرون لم يكن موافقا لتلميذه على قضاياه، وهورتانسيوس هذا كان على جانب من الذكاء وحسن الذاكرة، بحيث كان يستطيع أن يتلو خطبه، ويؤلفها في الحال، جاريا في ذلك على طريقة شارلماد وميترودور، وهما خطيبان أثنيان كانا يعدان في ذهنهما ما يريدان إلقاءه.
وكانت طريقة القائد الخطيب الروماني «كالبا» غريبة في بابها، فكان ينقطع في داره مع خدامه غداة يريد أن يلقي دفاعا ويلقي عليهم ممرنا نفسه فيما يريد أن يخوض عبابه، فكان يخرج من الغد في حالة تهيج خارقة للعادة، وعيناه تقدحان شررا، وهو على غاية التحمس يعبث به هواه، ويذهب إلى ميدان الفوروم، واعتاد بعض شبان الخطباء من الرومان أن يأتوا إلى المحكمة بدفاعهم مكتوبا على الورق، وكان كنتليان من أساتذة الخطابة عند قدماء اللاتين، يرى أن يتقيد الخطباء في إعداد ما سيتلون، ولا سيما للمترشح للخطابة المبتدئ فيها، ويرى أن الارتجال لا يتأتى للمرء إلا في أواخر عمره بعد أن يكون ذاق الأمرين في تعلم صناعة الخطابة، وعرف حلوها ومرها ، ولم يكن في عهده وهو القرن الأول للمسيح سوى خطيبين مرتجلين هما بورسيوس لاترو وكاسيوس، وما عداهما فكانوا ككل الناس يعدون خطبهم قبل إلقائها.
وكان بوسويه خطيب الفرنسيس المتوفى سنة 1704، يكتب خطبه على الورق فيرسمها، ثم يتوقع ما يوحيه إليه المنبر ليجعل فيها حياة وحركة، وظلت الأصول المتبعة في فرنسا مدة القرن الثامن عشر بأن يقيد المحامون والخطباء أقوالهم، هكذا كان يسير أكبر المحامين كوشين، ولما حدثت الثورة الفرنساوية الأولى اضطر أرباب السياسة إلى الارتجال، فأخذوا يخطبون قومهم بدون أن يستعدوا من قبل، ثم ارتقت الخطابة عندهم في الكليات والمحاكم والمجالس حتى قال موريس آجام: ما من شيء يضاد الارتقاء في الخطابة أكثر من إعدادها بالكتابة قبل الإلقاء، فإذا كان وصل كبار المتكلمين إلى أرقى درجات الفصاحة، فبدونها وصلوا، أو بعبارة ثانية على الرغم منها.
ويرى أن يتمرن المرء على الارتجال بأن يرتجل كل صباح في موضوع من الموضوعات لنفسه ولو ربع ساعة، فيتمرن جرسه وصوته، وذلك بأن يذكر دائما قاعدة ينيبون أن المرء يتعلم الارتجال بتكرار العمل فيه، وأن الواجب تعويد الناشئة النطق منذ نعومة أظفارهم، وأن صناعة الخطابة ولا سيما الارتجال لا يتعلمها من جاز الأربعين من العمر، ولا من جاوز الثلاثين، فالأولى أن يبدأ بها منذ الصغر، وأنه من اللازم على من يريد تعلم الخطابة أن يستنصح صاحبا له يدله على عيوبه في النطق والإشارة، وأن يأخذ النفس كل يوم بسماع صاقع الخطباء لا متوسطيهم حتى يتعلم منهم، فإن المتوسط يفسد عليه ملكة الخطابة؛ ولذلك كانت العواصم والحواضر أكبر ميدان للتخرج في الخطابة؛ لأن فيها من أهل الطبقة العالية أصنافا من الخطباء؛ وذلك لأن السماع يجعل المتكلم متكلما، وفكر البشر يغتذي بالتقليد، وعليك يا هذا ألا تعمد إلى استعمال الغريب ولا تتقعر، بل توخ السهولة، ومألوف الناس من الكلمات تؤثر فيهم، وتفعل في عقولهم. لا تعمد لغير الوضوح ودع الكلمة النادرة للشاعر، والكلمة العويصة للفيلسوف، وإذا اعتقدت أنه يكفي الإنسان أن يتلو كتابا يبحث في أصول الخطاب حتى يصبح خطيبا، فألق سريعا هذا الكتاب طعاما للنار.
كان بوسويه نصف مرتجل يعد مفكرات لخطبه، ثم يزيد عليها وينقص منها عند الإلقاء، وكان فلشيه وفنيلون في مواعظهما يعدان ما يلقيان من قبل ويستظهرانه، وكان كوشين يعد من قبل مدافعاته حتى استطاع في آخر عمره أن يرتجل، وكان المحامي جربيه يعد ما يخطب به مطولا، ولا يزال يمحو منه حتى لا يبقى على أكثر من عشرين سطرا، وكان تارجه يكتب دفاعه برمته ويقرؤه، وكان ميرابو خطيب الثورة ممن يعتمد على الكتابة ليخطب، فاضطرته السياسة أن يرتجل، وما كان يحسن الكتابة وهو مستريح البال، أما إذا هاج فإنه يعاود القلم ويكتب في الجملة، وكان يبدأ بخطابه متأنيا في بادئ الأمر ويتحمس بالتدريج، وكان فيرينو من خطباء الثورة لا يخطب إلا إذا تألم لظلم يقع أو حاذر خطرا يدهم، وعندها تنتبه حواسه ويفكر سريعا، ويعمل في ساعة ما لا يعمل في ساعات، بدأ محاميا وكان يكتب دفاعه ويتلوه، ثم كف عن الكتابة، وكان يعد كل الإعداد خطبه الكبرى، ولا سيما في تلاوتها لأصدقائه من قبل أن يلقيها على الجمهور، وهذه الطريقة هي التي جرى عليها بعد حين تيرس رئيس الجمهورية الأول في الجمهورية الثالثة والعالم المشهور.
وكان كواديه من خطباء الثورة، يكتب خطبه عندما كان محاميا، ولما أصبح خطيبا سياسيا صار يرتجل، وكان إيسنارد من خطباء الثورة مرتجلا، ولكنه كان يكتب، وكان دانتون خطيب الثورة الخطيب التام الأدوات في الثورة، وأقدرهم على إدراك حاجة عنصره، وكان أرول دي سيشل من خطباء الثورة يكتب ويحفظ خطبه ويعمل بقول فولتير: إن الألفاظ بريد الأفكار. وكان روبسبير من خطباء الثورة يعد خطابه، ويمحو ويثبت كثيرا كتلميذ مبتدئ، ومعظم خطبه اخترعت وألفت من قبل أن تنشر، لم يتوسع فيها عندما يقولها، وكانت طريقة بانجامان كونستان الكتابة لما يخطب به مثل القائد فواولافيت ودوبون ورويه كولار، وكان النائب مانويل مرتجلا لا يكتب خطبه إلا في أمور المالية، ولم يتخل دي مارتينيان عن كتابة ما يريد إلقاءه مع أنه يرتجل أحسن ارتجال، ومن كان يسمعه يتكلم بصوت رخيم يستريح ويسكت وينوع لهجته، يستدل على أنه يرتجل، وكان لينه مثل كواديه ورافيه وفيرير من أمراء الكلام، لم يجعل المتقيد بالكتابة إلا مقاما ثانويا، وفيرير كان من أعظم من وجد من رجال المحاماة، كان يفكر طويلا فيما يريد أن يلقيه ويتأمله، فلم يكن ممن يعتمد على الكتابة صرفا، وكان هانكن من رجال المحاماة لا يأنف طول حياته من إعداد خطبه، وكان بريه المحامي لا يكتب خطبه ولم يعرفوا طريقته في خطبه، هل كان يحدث بها أصحابه قبل أن يلقيها، كما كان يفعل فرنيو وتيرس، أو يفكر فيها مثل فيرير، أو يكتبها في فكره مثل هورنانسيورس، والذي عرف عنه وكان يكتم طريقة نبوغه أن كلامه كان يسبق فكره، وإنشاؤه كان منحطا.
وكان الأخوان دوبين المحاميان يرتجلان، ولكنهما يدرسان موضوعهما حق الدرس قبل النزول إلى ميدان الخطابة، وكان أحدهما يأسف؛ لأن الوقت لا يساعده أن يفكر مليا في خطابه، ويقول لو أكثر ديموستين وشيشرون من الدفاع كثيرا، لقلنا لم يكونا ديموستين ولا شيشرون، وكان تيرس يعد معظم خطبه من قبل بأن يلقيها مرتين وأحيانا أربعا على من يغشون مجلسه، ولم يكن فيكتور هوغو الشاعر الكبير خطيبا، بل كان يضطر أن يكتب خطبه ويستظهرها، ولطالما قال: لا يستطيع المرء أن يكون خطيبا حقا إلا إذا كتب خطابه. زهد المحامي لاشو في الكتابة، وكان لا يقيد إلا رءوس المسائل التي يتكلم فيها، وكان الوزير غامبتا لا يكتب ما يخطب وهو يشبه نابليون بعقله وذاكرته، وكان يعد بعض خطبه الأولى من قبل، فلما نشبت الحرب أخذ يرتجل حقيقة، وكان في خطبه يبدأ بصوت منخفض جدا، حتى يكاد يقول له الحضور اسكت، وبعد هنيهة ترن القاعة من صوته، وتدهش لفضل بيانه، وكان المحامي ليون دوفال يعد خطبه من قبل، محتفلا بها من وراء الغاية، وكان الدوج دي بروكلي يتأنق في إعداد خطبه، ولكنه يستطيع أن يرتجل على أيسر وجه، وكان بوفه مرتجلا يؤثر بفصاحته في مجلس الشيوخ في مسائل كثيرة، وإن كان عضوا من حزب قليل في الوزراء، وكتب المحامي الإيطالي هنريكوفري عن نفسه فقال: إنه تعلم بأن كان يقصد الضواحي ويرفع صوته، ويجرب نفسه بالخطابة حتى خطب مرة ثماني ساعات متوالية ومرة إحدى عشرة ساعة. •••
ونشر آجام عادات طائفة من الأساتذة والمحاضرين من العلماء في الخطابة من الفرنسيس، فكان منهم أناس يفكرون مليا قبل أن يخطبوا؛ أي إنهم يعدون الكلام أو معناه، ومنهم من يكتب ما يريد قبل إلقائه وآخرون يرتجلون، والأكثر في هذه الفئة الكتابة قبل الإلقاء؛ لأن خطبهم علمية على الأغلب، ولا يرتجل عادة سوى السياسيين. وعلى من أحب أن يجودها أن يخطب لنفسه في متنزه، أو قاعة خاصة مرة، أو عشر مرات ريثما يستجم قريحته، ولا تخونه الألفاظ، وكل مرة في الموضوع الواحد تزيد معانيه وتغزر ألفاظه، ويجب ألا يهتم لانتقائها والتنطع فيها، بل يكتفي بما جاءه عفو الخاطر وابن الساعة.
وقد سأل المؤلف كثيرين من المشتهرين بالخطابة من قومه المبرزين فيها عن طرقهم في تعلمهم وارتجالهم، فمنهم من قال: إنه يفكر مليا في محاضراته بأن يقولها بصوت منخفض أولا، وأحيانا يقولها في عقله، وإنه لا يكتب كتابا صغيرا قبل أن ينشئه في عقله، ويستظهر الجمل الأربع الأولى حتى لا يفاجئه الحضور إذا مثل أمامهم، ومنهم من تحضره الأفكار إذا أمسك القلم وقيدها، ولكنه يحاذر استظهاره، وهو يرى أن من يكتب محاضرته وخطابه يتعلم الارتجال مع الزمن، ومنهم من تتمثل لعينيه المعاني والألفاظ عندما يشرع في الكلام كأنها مكتوبة أمام عينيه، ومنهم من ينظم الأفكار التي يحاضر بها على الورق، ثم يرتجل ويستعد قبل الكلام أن يقول في ذاته ما يجب إلقاءه على الجمهور مرة أو مرتين، وقال: إنه بكتابته خطابه من قبل يسقط على الأفكار التي لا تجيئه بصورة أخرى، ومنهم من قال: إن خير طريقة لاستظهار ما يريد إلقاءه أن يكتب تلك القطعة، ومنهم وهو أستاذ عظيم يعد موضوعه أولا، ثم يعين في عقله أفكاره، ثم يخط لها خطة، ثم يفكر في البراهين التي عثر عليها ونظمها.
ومنهم من ضعفت ذاكرته، فيضطر للاستظهار أن يحرك شفتيه بما يحفظ حتى يعلق شيء منه في ذهنه، ومنهم من لا يحسن الكلام إلا إذا اضطربت نفسه وفرحت أو سخطت، فإنه في تلك الحال يسرع في خطابه غير مبال، أما إذا لم يكن على حاله من تلك الحالات فيتلعثم ويتردد، ولا يعثر على اللفظ الذي يريده، والخجل الذي يشعر به يزيد هذا الارتباك، ومنهم من لا تأتيه الأفكار وتواتيه إلا إذا كان القلم بيده، وآخر يستظهر المقدمة والخاتمة، ومعظم الجمل الأساسية، ثم يتكلم ويترك الباقي للمصادفات، وغيره يرى أن الكلمات تولد فيه الأفكار، وتفتح أمامه أفقا جديدا، وهو يدرس موضوعه بالإيجاز، ويفكر فيه قليلا أو طويلا بدون أن يحكيه ولا يكتبه في عقله، ويكتب أو يحاول أن يكتب، والكتابة تسهل بزوغ الفكر أحيانا، وأحيانا يتضرر من الكتابة وتفلج قريحته، وبالجملة فإن الكلام في الجمهور من شأن الحكومات الديمقراطية، والخطباء يكثرون - كما قال مونتين - حيث تكون الأمور تتقاذفها العواطف الدائمة بين أخذ ورد.
وقال ريبو: إن معرفة الموضوع الذي يريد الخطيب الخوض فيه ورسم خطته في الفكر بسيطة للغاية من قبل، وهما شرطان لازمان للإجادة في الخطابة، وما عدا ذلك فهو من شأن الحضور المستمعين أكثر مما هو من شأن الخطيب، وأسعد ضروب الارتجال ما ساعد فيه الحضور بتراسل عيون الحب بينهم وبين خطيبهم، والعبرة في معرفة روح الجمهور، فإن له مناحي خاصة في الحسن والتعقل والفهم، حتى ولو كان مؤلفا من فلاسفة وعقلاء، قال ماكس نوردو: اجمع عشرين أو ثلاثين من أمثال كيتي، وكانت وهلمهولز وشكسبير ونيوتن واعرض على حكمهم وآرائهم المسائل العلمية الحاضرة، فإن قراراتهم لا تختلف بتاتا عن مقررات أي مجلس كان، ولماذا يكون ذلك؟ لأن كلا من العشرين أو الثلاثين منتخبا فضلا من تفرده بمزايا تجعله رجلا فائقا، قد ورث بعض صفات نوعه مما يكون به مثيلا لجاره في المجلس، بل شبيها لعامة الأشخاص الذي يمرون في الشارع، فإن الجوهر الإنساني مستحكم من شخصية المرء، وطربوش العامل يغطي قبعة الفيلسوف.
وبقدر ما يستطيع الخطيب قيادة جمهور سامعيه يفعل في أرواحهم ويسوقهم إلى حيث يريد، ومن أجمل ما قاله بريان من خطباء فرنسا: إن الخطاب ليس قطعة أدبية بل هو عمل، والخطاب لا يعمل ليقرأ، بل ليسمع، وصورته التي يظهر فيها ثانوية، فالتأثير يحدث والنتيجة الحاصلة هي كل شيء، ومراعاة القواعد مطلوبة في الخطاب، ولكن مهما كانت قيمته من الوجهة الأدبية، فإنه إذا فصل عن محيطه الذي ألقي فيه وفارق الأسباب التي دعت إليه، هل يكون له شأن صحيفة جميلة من الأدب استخرجت من قلم أستاذ في الكتابة؟ •••
وإليك بعض نصائح عملية لطالب النبوغ في الخطابة، منها أن يجتنب حق الاجتناب كل استعداد كتابي للخطاب: أن يحمل الخطيب نفسه كل صباح، ولو عشر دقائق على أن يتكلم كثيرا في مكان عام أيا كان نوعه، وألا يكتب مراسلة قبل أن يتكلم بمضمونها سواء كان في عقله أو بصوت جهوري، فالتفكر والكلام قبل الكتابة في أي شيء كانا مطلوبان، وألا يعد خطابه في آخر ساعة، بل يجب أن تكون بين ساعة إلقائه وساعة الاستعداد له ليلة على الأقل، واستجمام الفكر خلال الساعات الأخيرة التي تسبق المحاضرة، وألا يكثر من استعمال المفكرات، بل يقتصر على قيد التقاسيم الكبرى والتواريخ، وأن يحفظ حق الحفظ الأسماء الخاصة التي ترد في الكلام، وأن يعود المرء نفسه النطق بالصعب من الحروف ومعناة المخارج المختلفة من اللسان، وأن يتفنن الخطيب في الجمل التي لا مناص له من استعمالها، وهي من لوازم أكثر الناس، فيجتهد أن ينوعها، ويكثر من الأساليب التي هي بمعنى واحد وبألفاظ متباينة، وأن يبدأ الخطيب خطابه أبدا ببطء بل بانخفاض، ثم يتدرج في رفع صوته، فكل خطيب يبدأ كلامه بصوت جهوري يوشك أن يختمه، وقد أبح صوته وانخفض، ويجب أن يعرض فكره بدون أن يثور غضبه، فإن الغضب ليس من الصحة في شيء وبه يبح الصوت، وينبغي له أيضا أن يحدق بصره فيمن ينصتون إليه، وألا يشغل نفسه بقراءة شواهد أو التقليل منها ما أمكن.
والمحركات في الخطيب مكانة، ولكن الإكثار منها لا يحتمل، والأحسن أن يذهب الخطيب مع الطبع، وإذا قوطع الخطيب فعليه أن ينتظر ريثما يعود السكون إلى المجلس، وعلى الخطيب أن يلاحظ تتمة سلسلة كلامه قبل أن يعد جوابا على البديهة، والجواب السديد هو على الغالب من جودة الذاكرة، وعليه إذا خانته لفظة ألا يضيع وقته أصلا في البحث عنها، فاللحن والخطأ أفضل من الوقوف في الإلقاء، وإياك أن تضيع فرصة إسماع موسيقار حاذق في صناعة الكلام؛ أي خطيب مصقع، وفر من المدندنين فرارك من الوباء.
هذا ما قاله المؤلف موريس آجام وكتابه علمي عملي معا، وهاك الآن خلاصات لفقناها من كتاب آخر في هذا ألف، وهو عملي محض، واسم مؤلفه سيلفن روديس،
2
واسم كتابه الخطيب الحديث، توخى فيه تعليم الخطابة في الجملة لمن لا يستغني عنها من الناس قال: أما النبوغ فيها فلا بد له من هبة إلهية، ولكن بالتعلم لأسلوب الخطابة يستطيع من يدخل المجتمع، ويشترك في بعض الجمعيات الخيرية، ونقابات العملة والمعلمين، والأندية والمجامع المختلفة أن يخطب على أسلوب حسن، ولا يخجل من التعبير عما في فؤاده، وإن على المرء ألا يلقي بنفسه في ميدان الخطاب العام إذا كان موضوعه لم ينضج أو تافها، فالأولى قبل كل شيء دراسة الموضوع للخوض في عباب الكلام الذي تكثر مناحيه، والأسباب الملجئة إليه اليوم بعد اليوم.
وخير ذريعة للمرء حتى لا يخونه الكلام أن يستظهر كثيرا من المفردات، حتى إذا نسي لفظة أقام غيرها مكانها من دون أن يتوقف، فقد كان الشاعر تيوفيل غوتيه يقرأ كل يوم صفحة من المعجم، ولا يبعد أن يكون شأن الشاعرين بالزاك وبودلير، والكاتب فلوبر على هذا النحو لما علم من تمكنهم من أساليب اللغة ومصادرها، فكانوا يتصفحون أيضا هذه الكتب الضخمة التي جمعت نبوغ عنصر بأجمعه، وبدت بها مظاهر مدنيته المنوعة على اختلاف العصور. وأرى أن من المفيد التطريس على آثار أولئك الكتاب، وأن يقرأ المرء كل يوم صفحة من معجم اللغة، وكم من لفظ تذكر به صاحب الفكر عالما، وروايات وتواريخ، وصفحة من الطبيعة وبلادا وعصرا، ثم إن الألفاظ وحدها لا تكفي لإكثار مادة الخطيب ولا بد له من القوالب، فعليه أن يحفظ جملا مأثورة لطيفة تعلمه أساليب البلغاء، وتركيب الجمل على مختلف الصور، ولا يبالغ في الاستشهاد بها؛ فإنه بذلك يضيع شخصيته، ويكون ناقلا كلام غيره فقط، وعليه أن يركب لنفسه جملا يمكنه أن يقولها ويلفظ بها بصوت جهوري كل يوم من 15 إلى 30 دقيقة، ونجاحه مؤكد لا محالة.
تعلم الارتجال هو غاية الغايات التي يجب على مريد الخطابة أن يحاول بلوغها، وإليك ما عساه يهيئ لك الطريق إلى ذلك: افرض أنك بما لقفته سابقا من المعارف قد استعددت لأن تكتب بعض الشيء خطابا لك على الورق، فاترك الآن عادة تقييد فكرك في الكاغد، وفكر في موضوع لك مدة ساعة أو ساعتين، وذلك بينا أنت سائر، أو راكب في حافلة، أو منصرف إلى عملك البدوي، إن كنت ممن يتعاطون صناعة بيدك، أو بينا تكون في مكتبك فالخطب سيان، انظر إلى جميع النقط التي تعرض لفكرك، وائت بالاعتراضات وردها بما لديك من الحجج تنقضها بها، وخمر المادة العقلية التي بلغت منزلتها، حتى إذا كنت في دارك بمعزل عن المكدرات وجلبة الخارج، اطرد من ذهنك جميع الشواغل الخارجة، وخذ نفسك بما تريد أن تأخذه بها، واجمع كل قوتك العقلية في الفكر الذي يأخذ من نفسك بخط، وتدبر فيما تريد بضع دقائق، واشرع في التكلم جهارا جائيا ذاهبا في غرفتك، تكلم على مهلك بدون أن تبحث عن تعابيرك، ولا تهتم بحالة جملك، ولا لصحتها من النحو والصرف، وداوم بدون انقطاع، ودع كلماتك تتساقط منك، ولكن بأن تصل بينها ما أمكن اتصالا جيدا أو رديئا، فتقارب بينها وتتكرر وتتشوش الأفكار، فالقطع على هذا الضرب من الكلام تنتهي في الدمدمة، أو لا تنتهي أبدا، وأنت لا يأخذنك قلق من ذلك، بل ظل مثابرا أيضا، ونخط العوائق، واطرح وراءك الفقرات التي لم تتلطف في رصفها، ولا تبتئس أبدا لما لا تذكره حافظتك، ولا لما يتخلل كلامك من المنافذ، أو لضعف حججك وتفاهة براهينك، وثابر ثم ثابر، واذهب إلى أدراجك لا تلوي على شيء، وارفع صوتك حتى ينخفض ويخونك بطبعه.
وإياك أن تحبط إذا لحظت أن النتيجة التي تحصل عليها حقيرة، فإن هذا الجهد الذي يبدوا لك هزوا بانحلال السياق والسباق بين أجزائه، ربما عبث بنشاطك وخيب من أملك، فليس هو من العبث بالدرجة التي تتصورها بادئ الرأي، لا جرم أن مثل هذه التجربة لتربية ملكة الخطابة لا تنتج شيئا إذا اقتصر عليها، ومهما بلغت من الثبات في الخطة التي اختطها لنفسك، ورزقت من الصبر لتجديدها على الدوام، فإنك تصلح منطقك بالتدريج والكلام الذي تدعوه يأتيك هفوا أكثر من قبل، ولا تستعصي عليك الجمل، وتلين مادة الكلام وتتلاحم أجزاؤه على أسلوب حسن، وتنجلي الأفكار فتنال كل مرة نتيجة تحمد غب سراها، فتصل بعد فضل الثبات والصبر إلى ما تريد بلوغه من مراقي الكمال، وإياك إذ ذاك أن تقنع بغير سلطة الإرادات العالية، لا يكفي السهولة في المنطق بدون ارتجال، فكثرة مادة الكلام حسن، ولكن الواجب تنظيمه وتخطيط الطريق الذي يجب عليه سيره حتى لا يضل في تافهات لا منفذ لها: إن تعيين الخطة ضرورية في إنشاء خطاب مكتوب، وهو ضروري أكثر عند إرادة الارتجال، إن القريحة المخيلة والمنطق في الخطيب التي تظهر بأنها منبعثة من ذهنه، هي ثمرة التدريب والنظام العلمي بادئ بدء، وبدونه لا رباط ولا سياق.
ثم شبه الخطيب بالممثل في حركاته، ولكن تمثيلا حسنا بحسن استعمال حركاته وسكناته، لا تأخذه رهبة ولا جزع. قال: والأحسن أن يعمد من يحب التبريز في هذا الفن أن يتمرن أمام أصحابه، ويقوم بينهم خطيبا كما لو كان بين غرباء، وهم يدلونه على نقصه ويبينون له عوراته، وبصحة الإرادة وفضل الانتباه يتوصل المرء إلى ما يريد، حتى إذا حصلت له أنسة بالكلام يشرع في خطابه ببطء، والمستمعون لا يستمعون له بكليتهم أولا، بل إن لهم من أحواله أعظم جاذب، وعلى الخطيب أن يلاحظ وسط القاعة التي يخطب فيها أو آخر الحضور يحدق النظر فيهم؛ ليدلهم بلسان حاله أنه يعنى بأسماعهم وإقناعهم.
هذا محصل ما اخترناه من الكتابين في الخطابة عند الفرنسيس، وهم من الأمم المشهورة بفصحائها وخطبائها، فالسياسي الخطيب منهم هو الذي يتسلط على النواب ببيانه، ويتولى الوزارات والسفارات، وكلما برز في هذا الفن استجاش أنصارا وأحرز سمعة على وجه الدهر، والخطيب بين العلماء هو الذي يستولي كل الاستيلاء على المجامع العلمية والكليات، ويكهرب الشعب بأقواله، ويكثر أشياعه وأعوانه.
أصل المعتزلة1
من العادة أن كل فرقة أو أهل مذهب إذا أرادت أن تصف الفرقة المخالفة لها تبخسها حقها، وربما نسبت إليها ما لم تقله، اعتقادا منها بأن تنفير الناس عن المخالف والدعوة إلى المذهب، لا يتيسران إلا بهذه الطريقة الفتة الباردة، حتى إن بعضهم جوزوا الكذب على المخالف، وما ندري أي دين سماوي أو مذهب فلسفي يجوز الكذب في أمثال هذه المسائل.
والمعتزلة ما خلوا ممن يرميهم بما ليس فيهم، خصوصا أيام استحرت المجادلات بينهم وبين الفرق الأخرى من أهل الإسلام، أيام كانوا ممتعين على عهد أوائل الدولة العباسية بحريتهم الدينية على أصولها، ولم يلاقوا من أرباب السلطة شدة ولا عناء، وقد كثر بحث الغربيين في العصر الأخير عن المعتزلة ومنشئهم، حتى قال بعضهم: إن من سوء طالع المسلمين أن ينقرض المعتزلة، فإنهم كانوا معدلين لأمزجة الحكومات وأرباب المذاهب الأخرى، إذ جروا مع العقل وطبقوا المنقول على المعقول، ونظروا إلى الجوهر أكثر من العرض، ومن حكم العقل في أقواله وأفعاله، يحترمه أحبابه وخصومه على السواء.
ولقد استطلعنا طلع رأي أحد كبار علماء الإسلام
2
في أمر المعتزلة، فأملى علينا الجملة التالية، فكانت خلاصة أحوالهم وغاية الغايات في الإفصاح عنهم، قال دام نفعه: في أواخر عصر الصحابة ظهرت ثلاث فرق من فرق الإسلام: أولاها الخوارج، وهذه الفرقة من الفرق التي اعترضت على علي بن أبي طالب في تجويزه التحكيم في أمر الخلافة، وكانت تحكم بكفر الفاسق صريحا، كشارب الخمر ونحوه فضلا عمن يسعى في سفك دماء المسلمين لأجل مأرب دنيوي، ومذهبها مبني على هذه القاعدة، وكان في ذلك العصر قد دخلت الناس أفواجا في دين الإسلام بسبب الفتوحات العظيمة، وأكثرهم ممن لم يتهذب بمكارم أخلاق الدين، فكان الناس يسمون المتساهل في الدين فاسقا، ويجعلونه من المسلمين البتة، وكان كثير من الناس يصرح بأن الأمور كانت مقدرة عليهم تخفيفا عنهم من الملام، وفي خلال ذلك هبت فرقة لهم شدة تمسك بالدين وتحل بآدابه، فأنكروا ذلك وصرحوا بأن الإنسان مختار في أعماله، وأن الله تعالى لو أجبر الإنسان على عمله لم يؤاخذه عليه، وجعلوا الناس ثلاثة أقسام: مؤمن وكافر وفاسق: فالمؤمن من يقوم بجميع شروط الدين، والكافر الجاحد مطلقا، والفاسق من أتى بكبيرة، ومنعوا من تسمية الفاسق باسم المؤمن، واعتزلوا مجلس الحسن البصري؛ لأنه لم يرض بالتصريح بسلب اسم المؤمن عن الفاسق؛ فسميت هذه الفرقة المعتزلة.
وفي أثناء ذلك ظهرت فرقة هي بالفرقة السياسية أشبه منها بالفرقة الدينية، وهي فرقة الشيعة المشايعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والشيعة حزبان حزب منهم كانوا يقولون: إنه هو الأحق بالخلافة غير أن عوارض الأحوال أوجبت تأخيره؛ لكثرة أعدائه من المنافقين وغيرهم، وكانوا لا يطعنون في الذين أخروه عنها، وقسم يقولون: إنما أخروه لعداوة في أنفسهم لا رعاية لمصلحة الأمة، ثم أخذ كل مذهب دورا من الأدوار كما يعلم من التواريخ المفصلة.
وإذ كان الخوارج أرباب حرب وضرب، وتحمس في الدين، وعبادة ونسك، ولم يكن لهم بصيرة في العلم، كانت أمورهم العلمية بسيطة جدا، وأكثر ما يقابلون به السيف، أما المعتزلة فكانوا في أمرهم أرباب تؤدة وتأن، واستبصار بما يقتضيه الوقت، وكان مقتضى مذهبهم القيام بإنكار المنكر، ولو أفضى الأمر إلى سل السيف، إلا أن ذلك مشروط فيه الإمكان، فكان المعتزلة يفضين إلى فريقين العامة والأمراء، أما الأمراء فلما يشترطونه في الإمارة من الشروط التي إذا انتشرت في أفكار العامة لم يتيسر لأمير أن ينطلق في أمر الأمة بما يشاء، وأما العامة فلأنهم ينفرون ممن يخرجهم عن الدين بمجرد إتيان المنكرات التي أطلق لهم العنان فيها من طرف خفي أمراء السوء الذين يهمهم أن تكون العامة ممن يعينونهم على مقاصدهم، وكانت هذه الفرقة أعظم الفرق في المناضلة عن الدين ورد شبه الملحدين، وكان الجمهور يقولون: لا حاجة لنا إلى الجدل، فإن كل من خالفنا استتبناه، فإن قاب فيها ونعمت وإلا طهرنا الأرض بسفك دمه عليها.
ولم يزل الأمر كذلك حتى أفضت النوبة إلى المأمون، وكان ممن خالط ناسا منهم، وكان لهم دهاء عظيم في مخالطة الطبقات العالية مع انكماشهم وشدة ورعهم، فتلقف المأمون أفكارهم فقويت في نفسه، فلما أفضت الخلافة إليه بادر إلى إعلانها، وكان مقتضى الحال أن يدعو إلى مذهبهم، كما يقتضيه حال كل من أخذ بمذهب، إلا أن المأمون للمبدأ، والذي كان عليه وهو إطلاق الحرية للموافق له والمخالف، وجد مني الواجب أن يطلق العنان لكل الفرق، فالتي أخطأت يتيسر إقناعها بالحجة والبرهان، والتي معها الحق ينبغي أن تتبع على ما معها منه، فانطلقت في عصره جميع الفرق، وجعل في داره مجالس للمناظرات بين أرباب الملل والنحل، وكان العصر المفرد في ذلك.
ثم لما أفضى الأمر إلى من بعده خف إطلاق العنان لهم، غير أنه بقيت من ذلك بقية، حتى أفضت النوبة إلى المتوكل، فقام في اضطهاد الفرق المخالفة للجمهور لرعاية المشرب العامة، وخلاصا من فرقة إذا قوي أمرها في مشارق الأرض ومغاربها كان فيها الخطر على أمر الخلافة؛ لأنها شرطت فيها شروطا يصعب القيام بها على كثير، ولم تزل حال المعتزلة بين انخفاض وارتفاع، حتى انحطت الأمة انحطاطا زائدا، وقبل انقراضها كان كثير من الملوك يسعى في إبادتهم بالسيف، كما يعلم من التاريخ، ولم يبق لهم ملجأ غير اليمن، فإن فيه تكون حزب ذو عدة وعدة يصعب محوه، وهم المسمون بالزيدية، فما الزيدية إلا فرقة من فرق المعتزلة يخالفون جمهورهم في بعض مسائل الإمامة ونحوها، ومذهب المعتزلة في كون الإنسان مختارا ليس كما ينقله عنهم المخالفون لهم، فإنهم ينقلونه على صيغة مستبشعة ينفر منها العوام فضلا عن الخواص، فمن ثم وافقهم عليه كثير من علماء أهل السنة، كما وافقهم على كثير من مسائلهم الفرعية التي استخرجوها، وكانت هذه الفرقة كثيرا ما تذكر في التاريخ بأنها معتزلة، مع أن المترجم يكون من المخالفين للمعتزلة في باقي مسائلهم أشد المخالفة، فكان يقع للناظر في التواريخ اضطراب، وحقيقة الأمر تفهم مما ذكره التاج السبكي في الطبقات، فقد نقل في ترجمة القفال عن الحافظ بن عساكر أنه قال في القفال: بلغني أنه كان مائلا عن الاعتدال قائلا بالاعتزال في أول أمره، ثم رجع إلى مذهب الأشعري، قال السبكي: وهذه فائدة جليلة انفرجت بها كربة عظيمة، وحسيكة في الصدر جسيمة، فإن مذاهب تحكي عن هذا الإمام في الأصول لا تصح إلا على قواعد المعتزلة، وطال ما وقع البحث في ذلك حتى توهم أنه معتزلي، واستند الوهم إلى ما نقل أن أبا الحسن الصغار قال: سمعت أبا سهل الصعلوكي وسئل عن تفسير الإمام أبي بكر القفال فقال: قدسه من وجه ودنه من وجه. أي دنه من جهة نصرة مذهب الاعتزال، والقفال هو أستاذ عصره، قرأ عليه الأشعري علم الفقه، وقرأ هو عليه علم الكلام، وهو معدود من كبار أئمة الشافعية، وعلل السبكي ذلك بقوله: أعلم أن هذه الطائفة من أصحابنا ابن سريج وغيره كانوا قد برعوا في الفقه، ولم يكن لهم قدم راسخ في الكلام، وطالعوا على الكبر كتب المعتزلة فاستحسنوا عباراتهم ، والمعتزلة هم الذين أحدثوا علم الكلام، وكان الأولون ينهون عنه كثيرا، إلا أن النفوس لما كانت مولعة بالعلم مطلقا تابعهم عليه غيرهم وألغوا فيه كثيرا، وأوهموا اللائمين لهم بأن الكلام المنهي عنه إنما هو الكلام على طريقة المعتزلة، غير أن الكتب التي ألفت على طريقة المعتزلة أمتن جدا لما كان في أصولهم من منع التقليد البتة، ولذلك لم يكن بعضهم يقلد بعضا، وإن كل إنسان مكلف بقدر ما أداه إليه اجتهاده ووسعه، ولا يخفى الفرق بين المقيد والمطلق.
وهم الذين وسعوا أصول الفقه حتى إن أكثر المسائل المذكورة فيه هي من مبتكراتهم، غير أن الأصوليين لم يحبوا أن يتركوها لهم، وهذا ظاهر لمن يتتبع فن الأصول عصرا فعصرا، وأما ما يرميهم به خصومهم من أن الاعتزال نشأ من انتشار كتب الفلسفة فهي فرية؛ لأن الاعتزال وقواعده الأصلية نشأت قبل ترجمة كتب الفلسفة المتعلقة بالإلهيات بلا خلاف، وكثير مما قالوه كمسألة الاختيار المطلق ومسألة خلود العاصي مؤبدا، ونحو ذلك كان يستعين خصومهم في الرد عليهم بها بكلام الفلاسفة، وإنما كان دأب المعتزلة بمقتضى متانتهم أن يخوضوا في أي شيء كان من العلوم التي كانت قبل، ولن يجروا على ما يظهر لهم؛ لاعتقادهم وجزمهم بأنه لا توجد حقيقة تخالف الدين، فكانوا أشد الناس إسراعا للخوض في الفنون، وأكثر المؤلفات المهمة في العلوم المنوعة، ما عدا الفقه، يدهم فيها أطول من يد من يخالفهم إجمالا، والتاريخ يظهر ذلك بأجلى مظاهره. وأما الفقه فإنهم أخذوا فيه بما أخذ به غيرهم؛ لاعتقادهم أن الخطب فيه سهل، غير أن لهم في الفقه دقائق غريبة يجدها الإنسان في تضاعيف الكتب هم منشأها، وأما الحديث فإنهم رأوا كثرة الوضع، وظهر لهم أن التمييز بين الصحيح وغيره يعسر، لا سيما ما روي من طرق غيرهم، فإنهم لا يطمئنون إليه؛ لاعتقادهم أن كثيرا من أهل الورع والصدق من غيرهم ربما يجوزون وضع الحديث للمصلحة، وشاهدوا في عصرهم أحاديث وضعت في حقهم مثل «القدرية مجوس هذه الأمة»، فنفروا من المحدثين وثلبوهم أشد ثلب، ولما كان لهم علم الحديث أهم علوم الدين وهم أشد الناس ولوعا به، ذهبوا إلى قاعدة غريبة وهي أن كل حديث لا يخالف القرآن، وهو قريب من مقاصد الشارع، أو كان مما يدل على مكارم الأخلاق سلموا به إجمالا بدون نظر في رواته، وما وجدوه مخالفا لذلك ردوه البتة، ومن هذا نشأ كثرة ما تراه من ذكر الأحاديث في كتب مثل الجاحظ والزمخشري وغيرهما من أئمة المعتزلة منهم يبحثون عن القول لا عن راوية.
غير أنهم يعتقدون أن من أخذوا بقوله كان على مذهبهم ومشربهم، وقد وقع في التواريخ مناقشات كثيرة في مسألة نحل كثير من المشهورين في العلم والفضل، والسبب في ذلك أن كثيرا من المتقدمين كانوا لا يصرحون بما يصرح به المتأخرون، فكان كل فريق يدعي أن فلانا منهم، ويظهر ذلك لمن راجع كتب مناقب المشهورين على طريقة المتقدمين، فإنهم كانوا يفيضون في كل شيء لا على طريقة المتأخرين الذين يطوون كل شيء لا يوافق مأربهم الخاص ظنا منهم أنهم بذلك يحسنون صنعا، وكثيرا ما يذكرون منقبة، وهي في الباطن مثلبة وربما كانت موضوعة:
ما يبلغ العاقل من جاهل
ما يبلغ الجاهل من نفسه
هذا ما قاله ننقله بلفظه ومعناه من لسان ذاك الإمام الكبير، وقد قال المرتضى: وأما ما أجمعوا عليه فقد أجمعت المعتزلة على أن للعالم محدثا قديما قادرا عالما حيا، لا لمعان ليس بجسم، ولا عرض ولا جوهر عينا واحدا لا يدرك بحاسة، عدلا حكيما، لا يفعل القبيح ولا يريده، كلف تعريضا للثواب، ومسكن من الفعل وأزاح العلة، ولا بد من الجزاء، وعلى وجوب البعثة، حيث حسنت ولا بد للرسول - صلى الله عليه وآله - من شرع جديد، أو إحياء مندرس، أو فائدة لم تحصل من غيره، وأن آخر الأنبياء محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - والقرآن معجزة له، وأن الإيمان قول ومعرفة وعمل، وأن المؤمن من أهل الجنة وعلى المنزلة بين المنزلتين وهو أن الفاسق لا يسمى مؤمنا ولا كافرا إلا من يقول بالإرجاء، فإنه يخالف في تفسير الإيمان وفي المنزلة، فيقول الفاسق يسمى مؤمنا، وأجمعوا على أن فعل العبد غير مخلوق فيه، وأجمعوا على تولي الصحابة، واختلفوا في عثمان بعد الأحداث التي أحدثها، فأكثرهم تولاه وتأول له، وأكثرهم على البراءة من معاوية وعمرو بن العاص، وأجمعوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي تعداد علمائهم مصنفات عدة، كالمصابيح لابن يزداد وغيره. ا.ه.
هذا ما قاله واحد منهم في حقيقة ما أجمعوا عليه، وإليك ما قاله الشهرستاني صاحب الملل والنحل وهو لين منهم قال: والمعتزلة، ويسمون أصحاب العدل والتوحيد ويلقبون بالقدرية، وهم قد جعلوا لفظ القدرية مشتركا، وقالوا: لفظ القدرية يطلق على من يقول بالقدر خيره وشره من الله تعالى، احترازا عن وصمة اللقب إذا كان الذم به متفقا عليه لقول النبي - عليه السلام: القدرية مجوس هذه الأمة. وكانت الصفانية تعارضهم بالاتفاق على أن الجبرية والقدرية متقابلتان تقابل تضاد، فكيف يطلق لفظ الضد على الضد، وقد قال النبي - عليه السلام: القدرية خصماء الله في القدر.
والخصومة في القدر وانقسام الخير والشر على فعل الله وفعل العبد، لن يتصور على مذهب من يقول بالتسليم والتوكل، وإحالة الأحوال كلها على القدر المحتوم والحكم المحكوم، فالذي يعم طائفة المعتزلة من الاعتقاد القول بأن الله تعالى قديم، والقدم أخص وصف لذاته، ونفوا الصفات القديمة أصلا فقالوا: هو عالم بذاته، قادر بذاته، حي بذاته لا يعلم وقدرة وحياة هي صفات قديمة ومعان قائمة به؛ لأنه لو شاركته الصفات في القدم الذي هو أخص الوصف لمشاركته في الإلهية، واتفقوا على أن كلامه محدث مخلوق في محل، وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه، فإنما وجد في المحل عرض فقد فني في الحال، واتفقوا على أن الإرادة والسمع والبصر ليست معاني قائمة بذاته، لكن اختلفوا في وجوه وجودها ومحامل معانيها، واتفقوا على نفي رؤية الله بالإبصار في دار القرار، ونفي التشبيه عنه من كل وجه جهة ومكانا، وصورة، وجسما، وتحيزا، وانتقالا، وزوالا، وتغيرا، وتأثرا، وأوجبوا تأويل الآيات المتشابهة فيها، وسموا هذا النمط توحيدا، واتفقوا على أن العبد قادر خالق لأفعاله خيرها وشرها، مستحق ما يفعله ثوابا وعقابا في الدار الآخرة، والرب تعالى منزه أن يضاف إليه شر وظلم وفعل هو كفر ومعصية؛ لأنه لو خلق الظلم كان ظالما كما لو خلق العدل كان عادلا، واتفقوا على أن الحكيم لا يفعل إلا الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد، وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه خلاف عندهم، وسموا هذا النمط عدلا، واتفقوا على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض، والتفضل معنى آخر وراء الثواب، وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار، وسموا هذا النمط وعدا ووعيدا، واتفقوا على أن أصول المعرفة وشكر النعمة واجب قبل ورود السمع، والحسن والقبيح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجتناب القبيح واجب كذلك، وورود التكاليف ألطاف للباري تعالى أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء - عليهم السلام - امتحانا واختبارا ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، واختلفوا في الإمامة والقول فيها نصا واختيارا.
وهنا ذكر الشهرستاني مقالة كل طائفة من طوائف المعتزلة مثل «الواصلية» أصحاب أبي حذيفة واصل بن عطاء الغزال، و«الهذيلية» أصحاب أبي الهذيل حمدان بن أبي الهزيل العلاف، و«النظامية» أصحاب إبراهيم بن سيار بن هاني النظام، و«الحائطية» أصحاب أحمد بن حائط، و«الحدثية» أصحاب فضل بن الحدثي، و«البشرية» أصحاب بشر بن المعتمر، و«المعمرية» أصحاب معمر بن عباد السلمي، و«المزدارية» أصحاب عيسى بن صبيح المكنى بأبي موسى، الملقب بالمزدار، و«الثمامية» أصحاب ثمامة بن أشرس النميري، و«الهشامية» أصحاب هشام بن عمر الفوطي، و«الجاحظية» أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ، و«الخياطية» أصحاب أبي الحسين بن أبي عمرو الخياط، و«الجبائية والبهشمية» أصحاب أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي وابنه أبي هاشم عبد السلام.
ومن رجال المعتزلة الحسنان - عليهما السلام - ومحمد بن الحنفية، وسعيد بن المسيب، وأبو الأسود الدؤلي، وعلقمة والأسود، وشريح من أصحاب عبد الله بن مسعود، والحسن البصري، وعبد الله بن عمر، وأبو الدرداء، وأبو ذر الغفاري، وعبد الله بن عباس، وغيلان بن مسلم الدمشقي قتله هشام بن عبد الملك، وقتل صاحبه صالحا في أبشع صورة؛ لأنه أنكر على بني أمية سوء سياستهم في الرعية، وواصل بني عطاء، وهو الذي أنفذ أصحابه إلى الآفاق، وبث دعاته في البلاد، فبعث عبد الله بن الحارث إلى المغرب، فأجابه خلق كثير، وبعث إلى خراسان حفص بن سالم، وبعث القاسم إلى اليمن، وبعث أيوب إلى الجزيرة، وبعث الحسن بن ذكوان إلى الكوفة وعثمان الطويل إلى أرمنية، ومنهم عمرو بن عبيد، وكان المنصور العباسي يبالغ في تعظيمه ورثاه، وقلما عهد أن الخليفة رثى رعية بقوله:
صلى الإله عليك من متوسل
قبرا مررت به على مران
قبر تضمن مؤمنا متخشعا
عبد الإله ودان بالقرآن
وإذا الرجال تنازعوا في شبهة
فصل الحديث بحجة وبيان
ولو ان هذا الدهر أبقى صالحا
أبقى لنا عمرا أبا عثمان
ومنهم أبو الهذيل العلاف الذي قال فيه المأمون: أطل أبو الهذيل على الكلام، كإطلال الغمام على الأنام، ومنهم إبراهيم النظام وهو الذي يقول فيه الجاحظ: الأوائل يقولون في كل ألف سنة رجل لا نظير له، فإن كان ذلك صحيحا فهو أبو إسحاق النظام. وبشر بن المعتمر الهلالي، وأبو عمرو بن بحر الجاحظ، وعبد الرحمن بن كيسان الأصم، وأحمد بن أبي دؤاد، وثمامة بن الأشرس، ومنهم الجعفران اللذان يضرب المثل بعلمهما وزهدهما، كما يضرب المثل في حسن السيرة بالعمرين، وهما أبو محمد جعفر بن مبشر الثقفي، وأبو الفضل جعفر بن حرب، ومنهم أبو جعفر الإسكافي، وأبو عبد الله الدباغ، وأبو علي الجنائي، ومنهم أبو العباس الناشئ، ومحمد بن عمر الصيمري والسيرافيان أبو القاسم، وأبو عمران، وقاضي القضاة عبد الجبار الهمداني، ومنهم الصاحب بن عباد، والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، والجوهري صاحب الصحاح والشريف المرتضى، وأبو بكر الرازي، وأبو بكر الدينوري.
ومما يؤثر من أخلاق أئمة المعتزلة وورعهم ما قاله الواثق لأحمد بن أبي دؤاد: لم لا تولي أصحابي؛ أي (المعتزلة) القضاء كما تولي غيرهم فقال: يا أمير المؤمنين إن أصحابك يمتنعون من ذلك، وهذا جعفر بن مبشر وجهت إليه بعشرة آلاف درهم فأبى أن يقبلها، فذهبت إليه بنفسي واستأذنت فأبى أن يأذن لي، فدخلت من غير إذن، فسل سيفه في وجهي، وقال: الآن حل لي قتلك، فما تصرفت عنه فكيف أولي القضاء مثله؟! وروي أن أحد أئمتهم جعفر بن مبشر أضرت به الحاجة حتى كان يقبل القليل من زكاة إخوانه، فحضره يوما بعض التجار، فتكلم بحضرته في خطبة نكاح، فأعجب به ذلك التاجر، فسأل عنه فأخبر بمسكنته، فبعث إليه بخمسمائة دينار فردها، فقيل له قد عذرناك في رد مال السلطان للشبهة، وهذا تاجر ماله من كسبه فلا وجه لردك، فقال جعفر: إنه استحسن كلامي أفتراني أن آخذ على دعائي إلى الله تعالى وموعظتي ثمنا، لو لم أكن فعلت هذا ثم ابتدأ في لقبلت، وروي أن بعض السلاطين وصله بعشرة آلاف درهم فلم يقبل، وحمل إليه بعض أصحابه بدرهمين من الزكاة فقبل، فقيل له في ذلك فقال: أرباب العشرة أحق بها مني، وأنا أحق بهذين الدرهمين لحاجتي إليهما، وقد ساقهما الله إلي من غير مسألة، وأغناني بهما عن الشبهة والحرام.
وفي طبقات السبكي: قال ابن الصلاح: هذا الماوردي عفا الله عنه يتهم بالاعتزال، وقد كنت لا أتحقق ذلك عليه، وأتأول له وأعتذر عنه في كونه يورد في تفسيره في الآيات التي يختلف فيها أهل التفسير تغير أهل السنة، وتفسير المعتزلة غير متعرض لبيان ما هو الحق منهما، وأقول لعل قصده إيراد كل ما قيل من حق أو باطل؛ ولهذا يورد من أقوال المشتبهة أشياء مثل هذا الإيراد، حتى وجدته يختار في بعض المواضع قول المعتزلة، وما بنوه على أصولهم الفاسدة، ومن ذلك مصيره في الأعراف إلى أن الله لا يشاء عبادة الأوثان. قال في قوله تعالى:
وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ، وجهان في جعلنا؛ أحدهما معناه حكمنا بأنهم أعداء، والثاني تركناهم على العداوة فلم نمنعهم منها، وتفسيره عظيم الضرر لكونه مشحونا بتأويلات أهل الباطل تلبيسا وتدليسا على وجه لا يفطن له غير أهل العلم والتحقيق، مع أنه تأليف رجل لا يتظاهر بالانتساب إلى المعتزلة، بل يجتهد في كتمان موافقتهم فيما هو لهم فيه موافق، ثم هو ليس معتزليا مطلقا، فإنه لا يوافقهم في جميع أصولهم مثل خلق القرآن، كما دل عليه تفسيره في قوله - عز وجل:
ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث
وغير ذلك، ويوافقهم في القدر وهي البلية التي غلبت على البصريين وعيبوا بها قديما. انتهي.
أصل الوهابية1
لغطت ألسن الناس في هذه الأيام بأصل الوهابية وتاريخهم ومعتقداتهم، وتناقضت الروايات وكثرت التخرصات، والقوم بين مفرط في التشيع لهم ومفرط في التشنيع عليهم، وود الكثير لو كان في الأيدي ما يستند عليه لاستقراء الحقيقة، واستجلاء الغامض من هذا السر، وما عاد إلى ذلك إلا اختلاط المتمسكين بذاك المذهب مع أهل الأمصار، كالقطر العراقي والمصري والشامي، وغيرها من الأقاليم يتجرون بنتائج بلادهم، من سمن، وأباعر، وشياه، وأوبار وجلود تجارة رائدها الصدق في التعامل مع الكافة، مما ضاعف الثقة بهم على تطاول الأيام.
وبعد، فإني لا أتوخى في هذه العجالة الإلمام بعقائد تلك الطائفة لتأتي صبرة واحدة، فإن كتبهم المطبوعة أكثرها في بلاد الهند، تتكفل بذلك لمن يروم الاستبقاء، ولا أن أصف بلادهم وأحوالهم وصف مداح متجامل أو قداح متحامل، بل غاية ما أتطال إليه ذكر طرف من أخبارهم، مشفوعة بصحة النقل، والناقل لا تبعة تلحقه إذا خلصت منه النية.
قال الجبرتي في تاريخه عجائب الآثار عند حوادث سنة 1218 هجرية ما نصه: وحضر صحبة الحجاج كثير من أهل مكة؛ هروبا من الوهابي، ولغط الناس في خبره، واختلفوا فيه، فمنهم من يجعله خارجيا وكافرا، وهم المكيون ومن تابعهم وصدق أقوالهم، ومنهم من يقول بخلاف ذلك لخلو غرضه، وأرسل إلى شيخ الركب المغربي كتابا ومعه أوراق تتضمن دعوته وعقيدته وصورتها:
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، ولا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد، فقد قال الله تعالى:
قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ، وقال الله تعالى:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ، وقال تعالى:
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقال تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، فأخبر سبحانه وتعالى أنه أكمل الدين، وأتمم على لسان رسوله
صلى الله عليه وسلم
وأمرنا بلزوم ما أنزل إلينا من ربنا، وترك البدع والتفرق والاختلاف، وقال تعالى:
اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون ، وقال تعالى:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون .
والرسول
صلى الله عليه وسلم
قد أخبرنا بأن أمته تأخذ مأخذ القرون قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع، وثبت في الصحيحين وغيرهما عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟ وأخبر في الحديث الآخر أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي.
إذا عرف هذا فمعلوم ما قد عمت به البلوى من حوادث الأمور التي أعظمها الاشتراك بالله، والتوجه إلى الموتى، وسؤالهم النصر على الأعداء، وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسماوات، وكذلك التقرب إليهم بالنذور، وذبح القربان، والاستغاثة بهم في كشف الشدائد وجلب الفوائد، إلى غير ذلك من أنواع العبادة التي لا تصلح إلا لله، وصرف شيء من أنواع العبادة لغير الله كصرف جميعها؛ لأنه سبحانه وتعالى أغنى الأغنياء عن الشرك، ولا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا كما قال تعالى:
فاعبد الله مخلصا له الدين * ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار ، فأخبر سبحانه أنه لا يرضى من الدين إلا ما كان خالصا لوجهه، وأخبر أن المشركين يدعون الملائكة والأنبياء والصالحين؛ ليقربوهم إلى الله زلفى، ويشفعوا لهم عنده، وأخبر أنه لا يهدي من هو كاذب كفار، وقال تعالى:
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون ، فأخبر أنه من جعل بينه وبين الله وسائط يسألهم الشفاعة فقد عبدهم وأشرك بهم، وذلك أن الشفاعة كلها لله كما قال تعالى:
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ، وقال تعالى:
فيومئذ لا ينفع الذين ظلموا معذرتهم ، وقال تعالى:
يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ، وهو سبحانه وتعالى لا يرضى إلا التوحيد كما قال تعالى:
ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ، فالشفاعة حق ولا تطلب في دار الدنيا إلا من الله كما قال تعالى:
وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ، وقال تعالى:
ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين .
فإذا كان الرسول
صلى الله عليه وسلم
وهو سيد الشفعاء وصاحب المقام المحمود، وآدم فمن دونه تحت لوائه لا يشفع إلا بإذن الله، لا يشفع ابتداء، بل يأتي فيخر لله ساجدا، فيحمد بمحامد يعلمه إياها، ثم يقال: ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع، ثم يحد له حدا فيدخلهم الجنة، فكيف بغيره من الأولياء والأنبياء.
وهذا الذي ذكرناه لا يخالف فيه أحد من علماء المسلمين، بل قد أجمع عليه السلف الصالح من الأصحاب والتابعين، والأئمة الأربعة، وغيرهم ممن سلك سبيلهم ودرج منهاجهم. وأما ما حدث من سؤال الأنبياء والأولياء من الشفاعة بعد موتهم وتعظيم قبورهم ببناء القباب عليها وإسراجها، والصلاة عندها، واتخاذها أعيادا، وجعل السدنة والنذور لها، فكل ذلك من حوادث الأمور التي أخبر بها النبي
صلى الله عليه وسلم
أمته، وحذر منها كما في الحديث عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: لا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وهو
صلى الله عليه وسلم
حمى جناب التوحيد أعظم حماية، وسد كل طريق يؤدي إلى الشرك.
فنهى أن يجصص القبر وأن يبنى عليه، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر، وثبت فيه أيضا أنه بعث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وأمره ألا يدع قبرا مشرفا إلا سواه، ولا تمثالا إلا طمسه؛ ولهذا قال غير واحد من العلماء: يجب هدم القباب المبنية على القبور؛ لأنها أسست على معصية الرسول
صلى الله عليه وسلم
فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا، واستحلوا دماءنا وأموالنا، حتى نصرنا الله عليهم وظفرنا بهم، وهو الذي ندعو الناس إليه ونقاتلهم عليه بعدما نقيم عليهم الحجة من كتاب الله وسنة رسوله
صلى الله عليه وسلم
وإجماع السلف الصالح من الأمة متمثلين لقوله سبحانه وتعالى:
وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، فمن لم يجب الدعوة بالحجة والبيان قاتلناه بالسيف والسنان، كما قال تعالى:
لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وندعو الناس إلى إقامة الصلوات في الجماعات على الوجه المشروع، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام، ونأمر بالمعروف وننهي عن المنكر كما قال تعالى:
الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ، فهذا هو الذي نعتقده وندين الله به، فمن عمل بذلك فهو أخونا المسلم، له ما لنا، وعليه ما علينا، ونعتقد أيضا أن أمة محمد
صلى الله عليه وسلم
والمتبعين للسنة لا تجتمع على ضلالة، وأنه لا يزال طائفة من أمته على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. انتهى. قال الجبرتي بعد إيراد ما تقدم: أقول: إن كان كذلك فهذا ما ندين الله به نحن أيضا، وهو خلاصة لباب التوحيد، وما علينا من المارقين والمتعصبين، وقد بسط الكلام في ذلك ابن القيم في كتابة إغاثة اللهفان والحافظ المقريزي، في تجريد التوحيد والإمام اليوسي في شرح الكبرى، وشرح الحكيم لابن عباد، وكتاب جمع الفضائل وقمع الرذائل، وكتاب مصايد الشيطان وغير ذلك.
وجاء في تاريخ بغداد لعثمان بن سند البصري عند الكلام على الوهابية ما يأتي، فمن اعتقادهم تكفير عموم المسلمين الذين على الكرة الأرضية إلا من اعتقد اعتقادهم. وسموا أنفسهم بالسلف وبالمحمديين، ويبغضون ويلعنون جملة من علماء السنة مثل أبي الحسن الأشعري، ويقولون: إنهم هم الذين أسسوا قواعد الأدلة والبراهين في علم التوحيد، ومنه نشأت الفرق والخلاف بين الأمة المحمدية وإلا فقبله كانت الأدلة هي القرآن والحديث لا غير، وأيضا يكفرون الإمام ابن السبكي الشافعي، ولكن ما أعلم السبب في تكفيره دون سائر المصريين، ويا ليت شعري ما ذنبه معهم، وأظنه لكونه كان يغري الملوك بابن تيمية وجماعته الحنابلة، حتى حبسهم الناصر محمد بن قلاوون في الإسكندرية، كما هو مذكور في الدرر الكامنة لابن حجر.
قال: والحاصل أن الوهابيين آذوا الأحياء والأموات، ومن محاسن الوهابيين أنهم أماتوا البدع ومحوها، ومن محاسنهم أنهم أمنوا البلاد التي ملكوها، وصار كلما كان تحت حكمهم من هذه البراري والقفار سلكها الرجل وحده على حمار بلا خفر ، خصوصا بين الحرمين الشريفين، ومنعوا غزو الأعراب بعضهم على بعض، وصار جميع العرب على اختلاف قبائلهم من حضرموت إلى الشام، كأنهم إخوان أولاد رجل واحد، وهذا بسبب قسوتهم في تأديب القاتل والسارق والناهب، إلى أن عدم هذا الشر في زمان ابن سعود، وانتقلت أخلاق العرب من التوحش إلى الإنسانية، وتجد في بعض الأراضي المخصبة هذا بيت عنزي، وبجنبه بيت عتبي وبقربه بيت حربي، وكلهم يرتعون كأنهم إخوان، وبهاتين الدسيستين خدعوا جميع العوام يعني بمحو البدعة وتأمين الطرقات والسبل، خصوصا بين الحرمين، وأحبهم سائر الأمم وغفلوا عن باقي عقائدهم، ورأيت لهم عقيدة منظومة يحفظها حتى رعاة غنمهم ومنها:
وما الدين إلا أن تقام شعائر
وتأمن سبل بيننا وشعاب
فكأنهم جعلوا تأمين الطرقات ركنا من أركان الدين، ويفهم عقلا من سياستهم، أنه إذا فقد القاتل والسارق والناهب فأي سبب يمنع عموم الناس من الاشتغال بالزراعة والتجارة، واقتناء المواشي في البادية المخصبة؛ للتكسب من ألبانها وأصوافها وجلودها، وإذا اشتغلوا بالكسب الحلال فلا يسرقون، ولا ينهبون، ولا يقتلون، فكأن المسألة شبيهة بالدورية؛ أي إنه متى وجد الأمان ارتفع السارق والقاتل لاشتغالهم بمعاشهم الحلال، ومتى اشتغلوا بالمعاش الحلال وجد الأمان، ولكن هذا الدور منفك الجهة.
ولولا ما في الوهابيين من هذه النزعة؛ أعني تكفير من عداهم لملكوا جميع بلاد الإسلام، وأدخلوهم تحت حكمهم بطوعهم واختيارهم، ولكن بسبب هذه النزغة أبغضتهم الأمم، وتسلطت عليهم الدول، وغزاهم أسد الديار المصرية إبراهيم باشا بن محمد علي باشا، بأمر السلطان محمود سنة 1228، وملك بلادهم، ومحا آثارهم وأبادهم وأسكن عائلة المقرن - أي بيت الملك - وعائلة ابن عبد الوهاب الديار المصرية (وما رجعوا إلى بلادهم إلا بعد أن عاد الحجاز إلى الدولة العلية)، وهذه الفرقة المعبر عنها بالوهابيين هم أتباع محمد بن عبد الوهاب النجدي، ولكنهم في الحقيقة يسمون أهل الحديث؛ لأنه كان نظيرهم موجودا في زمن الدولة العباسية، وينكرون المناكير بالشدة والغلظة مثل الوهابيين، ويثورون على الخلفاء بسبب أن الجهاد في اعتقادهم ركن من أركان الدين، انظر تاريخ النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة من سنة 300 هجرية، وكانوا يسمونهم الحنابلة، وأهل الحديث في ذلك الزمن، ويقولون: قام الحنابلة وثار الحنابلة، وكسر الحنابلة حانات الخمور، وأدبوا من شربها، وكان بينهم وبين العباسيين مقابلات وحروب، ثم ثارت منهم فرق بالمشرق وبجزيرة الأندلس ويسمون الظاهرية، وهم أيضا أهل الحديث، وكانوا ينكرون المناكير مع الغلظة، ويثورون على الملوك، وأكثرهم يموت بين قتيل وطريد، ثم إنه ظهر لهم فرق في دولة يوسف صلاح الدين، وكانوا يسمون أهل الحديث، ولهم ثورات وعداوات مع الملوك أيضا، وينكرون المنكر بغلظة وفظاظة، وتسلسلوا إلى زمن ابن تيمية الحراني، وتلاميذه ابن مقلح، وابن القيم، وابن عبد الهادي، ثم ظهرت هذه الفرقة التي عمت وطمت في القرن الثاني عشر ويسمون بالوهابيين، نسبة إلى محمد بن عبد الوهاب النجدي، وإلا ففي الحقيقة أفعالهم وآثارهم هي أفعال الحنابلة الأقدمين، وهي أفعال أهل الحديث في القرون المتوسطة وأفعال الظاهرية، فالمعنى واحد إنما يسمون في كل عصر باسم على اصطلاح أهل ذلك العصر. ا.ه. •••
أما ناظم عقد هذه الجماعة وصاحب دعوتها محمد بن عبد الوهاب النجدي الآنف ذكره، فقد ورد في كتاب بنصرة الناقد لأبي الفتح عبد النصير الهندي، ثم المدني نقلا عن محمد بن ناصر الحازمي في رسالة فتح المنان، في ترجيح الراجح، وتزييف الزايف من صلح الإخوان أنه محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن يزيد بن محمد بن يزيد بن مشرف، هذا هو المعروف من نسبه، ويذكر أنه من مضر، ثم من بني تميم والله به عليم، أخذ عن أبيه وهم بيت فقه حنابلة، ثم حج وقصد المدينة، ولقي بها شيخا عالما من أهل نجد اسمه عبد الله بن إبراهيم، قد لقي أبا المواهب البعلي الدمشقي، وأخذ عنه وانتقل مع أبيه إلى حريملا من نجد أيضا، ولما مات أبوه رجع إلى العينية وأراد نشر الدعوة، فرضي أهل العينية بذلك، ثم جرج عنها بسبب إلى الدرعية، وأطاعه أميرها محمد بن سعود من آل مقرن ، ويذكر أنهم من بني حنيفة، ثم من ربيعة والله أعلم، وهذا في حدود سنة تسع وخمسين بعد المائة وألف، وانتشرت دعوته في نجد وشرق بلاد العرب إلى عمان، ولم يخرج عنها إلى الحجاز واليمن إلا في حدود المائتين والألف، وتوفي سنة ست بعد المائتين والألف. ا.ه.
وقال أيضا: هو رجل عالم متبع الغالب عليه في نفسه الاتباع، ورسائله معروفة، وفيها المقبول والمردود، وأشهر ما ينكر عليه خصلتان كبيرتان، الأولى تكفير أهل الأرض بمجرد تلقيات لا دليل عليها، والثانية الاجتراء على سفك الدم المعصوم بلا حجة وإقامة برهان، وتتبع هذه جزئيات، وهي حقيرة تغتفر مع صلاح الأصل وصحته - والله أعلم - وقد بنى الشيخ محمد المذكور طريقته على اتباع ابن تيمية، وابن القيم في زعمه، وأخذ من أقوالهما أطرافا بحسب ما وقع له من الاطلاع والإشراف، وقد أصاب في بعض ما نقله، وأخطأ في البعض، وساء فهما، وأخذ على غير القصد في بعض، وقد أحيت دعوته بعضا من الشريعة، وأماتت كثيرا من الباطل في نجد والحجاز، رحمه الله وتجاوز عنه فيما أخطأ فيه، وجزاه أحسن ما عمل به. انتهى ملخصا.
وكتب العلامة الشوكاني اليماني في البدر الطالع في ترجمة سعود بن عبد العزيز ما نصه: «فوصل إليه الشيخ العلامة محمد بن عبد الوهاب، الداعي إلى التوحيد المنكر على المعتقدين في الأموات، وقال أيضا في ترجمة غالب بن ساعد شريف مكة في بيان أتباع صاحب نجد: وتبلغنا عنهم أخبار الله أعلم بصحتها، من ذلك أنه يستحل دم من استغاث بغير الله من نبي أو ولي أو غير ذلك، ولا ريب إن كان ذلك عن اعتقاد تأثير المستغاث به كتأثير الله يصير به صاحبه مرتدا، كما يقع من كثير من هؤلاء المعتقدين للأموات الذين يسألونهم قضاء حوائجهم، ويعولون عليهم زيادة على تعويلهم على الله - سبحانه وتعالى - ولا ينادون الله جل وعلا إلا مقترنا بأسمائهم، ويخصونهم بالنداء منفردين عن الرب، فهذا كفر لا شك فيه ولا شبهة، وصاحبه إذا لم يتب كان حلال الدم والمال كسائر المرتدين، وقال: وبعض الناس يزعم أنه - يعني صاحب نجد - يعتقد اعتقاد الخوارج، وما أظن ذلك صحيحا؛ فإن صاحب نجد وجميع أتباعه، يعملون بما يعلمونه من محمد بن عبد الوهاب وكان حنبليا، ثم طلب الحديث بالمدينة المشرفة فعاد إلى نجد، وصار يعمل باجتهادات جماعة من متأخري الحنابلة، كابن تيمية وابن القيم، وأضرا بهما وهم من أشد الناس على معتقدي الأموات «وقد رأيت كتابا من صاحب نجد الذي هو الآن صاحب تلك الجهات أجاب على بعض أهل العلم، وقد كاتبه وسأله بيان ما يعتقده، فرأيت جوابه مشتملا على اعتقاد حسن موافق للكتاب والسنة والله أعلم بحقيقة الحال»، وبلغنا أنه وصل إلى مكة بعض علماء نجد لقصد المناظرة، فناظر علماء مكة بحضرة الشريف في مسائل تدل على ثبات قدمه وقدم صاحبه في الدين، وفي سنة 1215 وصل من صاحب نجد المذكور مجلدان لطيفان، أرسل بهما إلى حضرة مولانا الإمام - حفظه الله - أحدهما يشتمل على رسائل لمحمد بن عبد الوهاب، كلها في الإرشاد إلى إخلاص التوحيد، والتنفير من الشرك الذي يفعله المعتقدون في القبور، وهي رسائل جيدة مشحونة بأدلة الكتاب والسنة، والمجلد الآخر يتضمن الرد على جماعة من الفقهاء المقصرين من فقهاء صنعاء وصعدة، ذاكروه في مسائل متعلقة بأصول الدين، وبجماعة من الصحابة، فأجاب عليها جوابات محررة مقررة محققة، تدل على أن المجيب من العلماء المحققين العارفين بالكتاب والسنة، وقد هدم عليهم جميع ما بنوه، وأبطل جميع ما دونوه؛ لأنهم مقصرون متعصبون؛ فصار ما فعلوه خزيا عليهم وعلى أهل صنعاء وصعدة، وهكذا من تصدر ولم يعرف مقدار نفسه.» انتهى ملخصا.
وقال القاضي العلامة عبد الرحمن بن أحمد البهكلي في كتاب نفح العود في أيام الشريف حمود: ومن كتب عبد العزيز بن سعود هذا الكتاب:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن سعود إلى من يراه من أهل المخلاف السليماني، خصوصا أولاد الشريف حمود، وناصر ويحيى وسائر إخوانهم، وأولاد إخوانهم، وكذلك أشراف بني النعمى وكافة أشراف تهامة، وفقنا الله وإياهم إلى سبيل الحق والهداية، وجنبنا وإياهم طريق الشرك والغواية، وأرشدنا وإياهم إلى اقتفاء آثار أهل العناية، أما بعد: فالموجب لهذه الرسالة أن الشريف أحمد بن حسين الفلقي قدم إلينا فرأى ما نحن فيه، وتحقق صحة ذلك لديه، فبعد ذلك التمس منا أن نكتب لكم ما يزول به الاشتباه، فتعرفوا دين الإسلام الذي لا يقبل من أحد سواه، فاعلموا - رحمكم الله تعالى - أن الله سبحانه أرسل محمدا
صلى الله عليه وسلم
على فترة من الرسل، فهدى به إلى الدين الكامل والشرع التام، وأعظم ذلك وأكبره وزبدته إخلاص العبادة لله لا شريك له، والنهي عن الشرك، وذلك هو الذي خلق الله تعالى الخلق لأجله، ودل الكتاب على فضله كما قال تعالى:
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، وقال تعالى:
وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ، وإخلاص الدين هو صرف جميع العبادة لله تعالى وحده لا شريك له، وذلك ألا يدعى إلا الله، ولا يستغاث إلا بالله، ولا يذبح إلا له، ولا يخشى ولا يرجى سواه، ولا يرهب ولا يرغب إلا فيما لديه، ولا يتوكل في جميع الأمور إلا عليه، وإن كل ما هنالك لله تعالى لا يصلح شيء منه لملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا شيء غيرهما، وهذا هو بعينه توحيد الألوهية الذي أسس الإسلام عليه، وانفرد به المسلم عن الكافر، وهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.
فلما من الله تعالى علينا بمعرفة ذلك، وعلمنا أنه دين الرسل، اتبعناه ودعونا الناس إليه، وإلا فنحن قبل ذلك على ما عليه غالب الناس من الشرك بالله تعالى من عبادة أهل القبور والاستغاثة بهم، والاستعانة منهم والتقرب بالذبح لهم، وطلب الحاجات منهم، مع ما ينضم إلى ذلك من فعل الفواحش والمنكرات، وارتكاب الأمور المحرمات، وترك الصلاة وترك شعائر الإسلام، حتى أظهر الله الحق بعد خفائه، وأحيا أثره بعد عفائه، على يد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب أحسن الله تعالى إليه في آخرته والمآب، فأبرز ما هو الحق والصواب من كتاب الله المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد إلخ.
ورسالة عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب التي كتبها حين فتح الحرمين الشريفين، شاهدة عدل على أنه بريء من تلك الافتراءات التي افتروها على عقائده وعقائد أبيه، وبنوا عليها تلك الزلازل والقلاقل، وأن مذهبه عين مذهب الأئمة المحدثين والسلف الصالحين، وتلك الرسالة منقولة في اتحاف النبلاء من شاء الاطلاع عليها فليرجع إليها، قال المستشرق سيديللوا الفرنساوي في كتابه خلاصة تاريخ العرب ما نصه: «أخذت العرب من ابتداء القرن الثامن عشر في الاستقلال بالحكم؛ لقوتها وضعف أعدائها، ولم تنقص إلا اتخاذ مركز تجتمع حوله جميع الأذهان، وترجع إليه في تدبير الأمور، فهمت الوهابية سنة 1749 ميلادية، فاتخذت منها عبد الوهاب مركزا، وهو من قبيلة تميم، اشتغل في صغره بالعلوم المعتادة عند العرب خصوصا الفقه، وسافر إلى بغداد والبصرة وبلاد الفرس، ثم أخذ يتفكر فيما يثير الحمية في أبناء وطنه، فوجده إحياء الشريعة نقية من جميع البدع كحالتها الأولية، فألزمهم المواظبة على العمل بالقرآن، ونهاهم عن العلو في تعظيم النبي
صلى الله عليه وسلم
وعن تقديس الأولياء الذين هدم قبورهم، وعن تعاطي المسكر، وأنكر على الأتراك بعض الأحوال، وقال: إن الشريعة تقضي أن يخرج كل إنسان خمس أمواله (كذا) زكاة، وتحرم الزينة، وتلزم القضاة بتحري الصدق، وأخذ يعظمهم بخطب عظم تأثيرها لديهم بموافقتها القرآن، ومقصوده من ذلك استمالتهم إلى الأمور الحربية؛ ليحيوا ما كان لآبائهم من العظمة، وقد كان، فإن أقوى جميع قبائل نجد وفدت عليه، وانتظمت تحت لوائه، فجعل محمد بن سعود من قبيلة مصالح قائد هؤلاء الوفود، وزوج سعود ابنته، وقلده الحكم السياسي على الوهابية لمعرفته بالقوانين العسكرية.»
وقال أحمد سعيد البغدادي في كتابه نديم الأدب: «أما حقيقة هذه الطائفة فإنها حنبلية المذهب، وجميع ما ذكر المؤرخون عنها من جهة الاعتقاد محرف، وفيه تناقض كلي لمن اطلع عليه بتأمل؛ لأن غالب مؤرخي الشرقيين ينقلون عن الكتب الإفرنجية، فإن كان المؤرخ المنقول عنه صاحب دراية وصادق الرواية، تجد أن من يترجم كتابه يجعل الترجمة على قدر اللفظ فيضيع مزية الأصل، وإن كان المؤرخ غير صادق الرواية فمن باب أولى» إلى أن قال: «ومن أراد أن يعرف جليا اعتقاد هذه الطائفة فليطالع كتب مذهب الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه - فإنه مذهبهم.»
أما بلاد نجد فقد وصفها محمد بن سليم الشهابي المدني في رسالته الرحلة الحجازية «إنها أرض مسطحة سهلة، يقل وجود الجبال فيها، والمشهور فيها جبلان أجاء وسلمى، وإنها حسنة الهواء كثيرة الأمطار والسيول، وفي سفح جبل أجاء مدينة تسمى بندر حائل، وهي مسورة ولها ثلاثة أبواب، وبيوتها طبقة واحدة والقليل منها طبقتان، مرتفعة البناء وفيها محال للقهوة، مزينة داخل البيوت على عادة العرب، وفيها قصر أميرها، والأمير ينفذ أحكام القاضي على موجب القرآن الشريف، والأحاديث النبوية والأقوال الصحيحة، فيقتص من القاتل، ويقطع يد السارق، ويقيم حد الرجم، ولا يوجد في بلاد نجد شاهد زور البتة، حتى لو سمع الأمير بشاهد زور يجلبه من أقصى نجد ويعزره وينفيه، وفي أوقات الصلاة يطوف مأمور من قبل الأمير في الأسواق والشوارع، فإذا وجد واحدا لم يحضر صلاة الجماعة يسلبه عمامته ويجره إلى المسجد، وعند خروج الأمير من الصلاة يعرضه عليه، فيؤدبه الأمير لترك الصلاة مع الجماعة، وترى جميع أهل البلد والنازلين فيه متبارين في صلواتهم مع الإمام في الجامع، وهم في غاية الذكاء والكمال والفصاحة العربية، وحديثهم بينهم بالإحسان والتؤدة لا تسمع بينهم لغوا أبدا، ولئن كان بقايا من عوائد العرب القديمة وسننها فهي عندهم. ولقد نزلت بين ظهرانيهم على عهد المرحوم الأمير متعب ثلاثة أشهر، ثم زرتهم مرتين فأكثر لما رأيت من إنسانيتهم، فأمعنت النظر في أحوالهم، فلم أسمع في حائل حاضرة الأمير صوت طبل ولا غناء مزمار، ما خلا طبل الحرب في وقته، وإذا مات أحدهم لا تسمع عويل أهله وعياله سوى حزن وبكاء، ويدفنون موتاهم حال وفاتهم، ولو مات الميت في الليل، وفيها بعض أشجار مثمرة، وبنواحيها في سفح جبل إجاء قرية تدعى قفاد ذات عين ثرة، تسقي النخيل والزروع، وحاضرة أمير حائل تحيط بها من جهاتها الثلاث أرض سهلة ما عدا الجهة الرابعة، حيث جبل إجاء الذي يكثر فيه الربيع مسافة يومين وليلة، وهي حمى جعله الأمير لخاصته، ويربي فيها خيله وهجنه وإبله ومواشيه، وفي محيط الحمى قرى رجال الأمير، وعلى بعد خمسة أيام من الحمى بلدة كبيرة تسمى عنيزة مسورة بسورين، سور على نخيل يحيط بها، وسور على البلدة، وعلى مقربة منها مسيل ماء يجري في الغالب، وعلى أطرافه نخيل كثير، وأكثر سكان البلدة تجار نجد وأعيانها، ويقابلها أيضا بلدة كبيرة مسورة تسمى بريدة، ولها قرى تابعة لها ونخيل كثير تدعى القصيم متصلة بالدرعية، ومنها إلى مدينة عظيمة تدعى العارض، حيث مساكن حكام نجد وأمرائها آل سعود، والأمير في كل عام يأخذ من رعاياه الزكاة وفقا للشرع، من خيولهم وإبلهم وأغنامهم ومواشيهم ونخيلهم وزروعهم، ولا يستثني من ذلك إلا الخيل المعدة للحرب، والذي يجبيه من الزكاة على وفق الشرع يجمعه عنده، فيفرق بعضه على المحاويج والفقراء، ويصرف البقية في المآدب وعطايا قاصديه، حتى لا يبقى على رأس السنة منها شيء.»
هذا طرف مما عثرت عليه من تضاعيف كتب مطبوعة ومخطوطة لمؤلفين متباينين في المشارب، متفرقين في المشارق والمغارب، أثبته على حاله، ولم أمسخ من لفظه ولا ماله، ورأيت وسمعت كثيرا من مؤرخي الفرنجة، وسياحهم تكلموا على هذا المذهب ومنهم المنصف والمجحف، على أن المجحف منهم يفضل بصدقه أمثال أحمد جودت، وعبد الرحمن شرف، وأيوب صبري، وغيرهم من المؤرخين الأتراك الذين أطلقوا مباشرة ألفاظ التكفير والتضليل على أبناء هذا المذهب، ورموا الكلام على عواهنه واتهموهم في أمانتهم؛ ولذا اقتصرت على إيراد ما تقدم وتجافيت عن ترجمة أقوالهم؛ لأنها أمليت بلسان التمويه لا بلسان التاريخ، وعلى ما قيل في عباراتهم يتصرف ما كتبه أحمد زيني دحلان المكي بعبارات محزنة مخجلة، وقد رد عليه علماء الوهابية زاعمين أن الأحاديث التي ساقها في كتابه موضوعة بعد ظهورهم، مطالبين القائل بها ببيان الكتب المأخوذة منها، من أسفار المحدثين المتقدمين والمتأخرين، مطيلين اللسان على علماء ذاك العصر، ناسبين لهم الافتراء على حضرة صاحب الرسالة عمدا، ويا ليت هذا المكي بين مآخذه؛ ليخلص من الطعن؛ فإن المقام مقام جدال.
واختلفت الأقوال في عدد المنتحلين لهذا المذهب في نجد، ويقول شمس الدين سامي - صاحب قاموس الأعلام - إن عددهم قد يرقى إلى ثلاثة ملايين نسمة في نجد، أما مسافة هذه الكورة فيقطعها الراكب على متون المطايا في عشرين يوما عرضا، وثلاثين يوما طولا، وأخبرني أحد الثقات الأثبات أن دعوة الوهابية تنتشر في الهند خصوصا في الأعوام الأخيرة. •••
ويؤخذ مما ذكره حسين بن غنام الإحسائي
2
في كتابه روضة الأفكار والأفهام، لمرتاد حال الإمام، وتعداد غزوات ذوي الإسلام، أن الناس في نجد قبل قيام محمد بن عبد الوهاب كانوا إلى الشرك الخفي والظاهر، وقد وصف المقامات التي نذروها لها، والشيوخ الذين اعتقدوا فيهم، وانتقل إلى «بلدان مصر وصعيدها، وما فيها من الأمور التي ينزه اللسان عن ذكرها وتعديدها، خصوصا عند قبور الصلحاء والعباد من ساداتها وعبيدها بها.»
وذكر ما يفعل من هذا القبيل في بلدان اليمن، وقال: إن حلب ودمشق، وأقصى الشام والموصل، وبلاد الأكراد والعراق، وبغداد، والبصرة، وقرى السلط، والقطيف، والبحرين، وغيرها من بلاد العرب كلها واقعة في هذا، واستشهد بقصيدة للأمير محمد بن إسماعيل الصنعاني، وكان مشهورا بالعلم والفهم، قال واصفا ما سرى من البدع:
طفي الماء من بحر ابتداعا على الورى
فلم ينج منهم مركب وركاب
وطوفان نوح كان في الفلك أهله
فنجاهم والغارقون ثباب
فأنى لنا فلك ينجى وليته
يطير بنا عما نراه غراب
وأين إلى أين المطار وكلما
على ظهرها يأتيك منه عجاب
ترى الدين مثل الشاة قد وثبت له
ذئاب وما عنه لهن ذهاب
لقد مزقته بعد كل ممزق
فلم يبق منه جثة وإهاب
وليس اغتراب الدين إلا كما ترى
فهل بعد هذا الاغتراب إياب
فيا غربة هل يرتجى منه أوبة
فيجر من هذا البعاد مصاب
فلم يبق للراجي سلامة دينه
سوى عزلة فيها الجليس كتاب
واستشهد له بقصيدة أخرى قال فيها:
ويعمر أركان الشريعة هادما
مشاهد ضل الناس فيها عن الرشد
أعادوا بها معنى سواع ومثله
يغوث وود بئس ذلك من ود
وقد هتفوا عند الشدائد باسمها
كما يهتف المضطر بالصمد الفرد
وكم عقروا في سوحها من عقيرة
أهلت لغير الله جهرا على عمد •••
علام جعلتم أيها الناس ديننا
لأربعة لا شك في فضلهم عندي
هموا علماء الدين شرقا ومغربا
ونور عيون الفضل والحق والزهد
ولكنهم كالناس ليس كلامهم
دليلا ولا تقليدهم في غد يجدي
ولا زعموا حاشاهمو أن قولهم
دليل فيستهدي به كل مستهدي
بل صرحوا أنا نقابل قولهم
إذا خالف المنصوص بالقدح والرد
وترجم المؤلف شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب بما لم يخرج عما تقدم من ترجمته آنفا، ومما قاله: إنه كان أكثر لبثه لأخذ العلم بالبصرة، وأخذ في بث الدعوة، ثم سكن حريملا مع والده، مثابرا على دعوته، تاركا ما سلكه علماء السوء، فانتظم في سلكه عصابة اتخذوه جليسا، واتبعوا طريقته فقرءوا عليه كتب الحديث والفقه، واشتهر في بلدان العارض من حريملا والعينية، والدرعية، والرياض، ومنفوحة، وانحاز لدعوته جم غفير، وأقام في حريملا سنين، واهتدى به أحد الأمراء عثمان بن معمر في العينية، فأقام بها وساعده الأمير على الإرشاد فبدأ يعظم أمره ففشا الدين في بلدان العارض، فأمر الشيخ الأمير بهدم القباب، والمساجد المبنية على قبور الصحابة، وقطع الأشجار التي كان ينتابها الناس للتبرك وعدلت على السنن المشروعة، فأنكر عليه ذلك وحكوا بكفره واستحلال دمه وماله، وتقول بعضهم عليه ووشوا به إلى علماء الإحساء والبصرة والحرمين، وأفتوا الحكام بأنه أقبح الضلال والفساق وأشر الخوارج، وحسبوا أنهم إذا حرشوا عليه الحكام يجدون في قتله، فصنفوا المصنفات في تبديعه وتضليله، وقالوا: إنه مغير السنة والأحكام؛ يقصد تنفير الخواص والعوام ليشاقوا الولاة فيعصوهم، ولما تظاهر الشيخ بالدعوة والناس قد أشربت محبة المعاصي قلوبهم لم يكفر أولئك العربان وتوقف تورعا حتى تألبوا عليه وكفروه وجماعته، ولم يأمر بسفك دم أكثر أهل الأهواء، حتى حكموا عليه وأصحابه بالقتل والتكفير، ومع ما كان ينقل إليه من الأذى لم يكترث بهم، وكان يتضرع إلى مولاه أن يشرح للحق صدورهم، ولم يعامل أحدا بالإساءة بعد القدرة عليه، ولما وفدوا عليه ومثلوا بين يديه، لم يوبخ أحدا منهم، وأسدى إليهم معروفه وتجاوز عما فعلوه، فعل به أعداؤه ذلك، وأكثرهم معترف أن ما أتى به هو الحق والصواب، ولكن خشوا أن تسلب رئاستهم ودنياهم، توفي صاحب الدعوة وله من العمر قريب من اثنين وتسعين سنة، كان في خلالها مستمرا في تحصيل نافع الزاد، وصنف مصنفات كثيرة منها «كتاب التوحيد»، ورسالة عامة للمسلمين تسمى «كشف الشبهات» جوابا لشبههم التي أدلوا بها فيها خلاصة دعوته، ولباب علمه وكتب رسائل كثيرة في حث مجاوريه على الأخذ بما ارتآه والرد على خصومه، قال من جملة جواب له: إن تعليق التمائم من الشرك، وكتب الطلاسم في الحجب هي من السحر، والسحر يكفر صاحبه، وإن من دعا نبيا، أو صحابيا، أو وليا مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني وأغثني كافر بالإجماع، وأنكر التذكير، وقال: إنه من البدع، وذكر السيوطي في الأوائل أن أول ما حدث التذكير يوم الجمعة ليتهيأ الناس بصلاتها بعد السبعمائة في زمن الناصر بن قلاوون.
قال المؤرخ: والسبب الذي دعا ابن عبد الوهاب إلى الخروج من بلدة العينية بعد أن كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، أن امرأة من أهل تلك البلدة عرفت بسوء، فأقرت على نفسها وتكرر ذلك منها، فأعرض الشيخ عنها، ثم أقرت وعادت إلى الإقرار مرارا، فسأل عن عقلها، فأخبر بتمامه وصحته، فأمهلها أياما؛ رجاء أن ترجع عن الإقرار إلى الإنكار، فأقرت أربع مرات فأمر برجمها، فشدت عليها ثيابها لترجم بالحجارة على الوجه المشروع، فخرج الأمير عثمان وجماعة فرجموها حتى ماتت، فلما طار هذا الخبر كثر لغط أهل البدع، وطارت قلوبهم شعاعا، فلما أعياهم رد ما قاله من تلك المسائل عدلوا إلى ردها بالمكر والحيلة، فشكوه إلى شيخهم فأغروه به، فطلب إلى الأمير عثمان يأمره بقتله أو إجلائه عن وطنه، فأمر هذا الأمير الشيخ بالخروج فجاء الدرعية، فلما سمع الأمير محمد بن سعود بقدومه، أسرع إليه مسلما عليه فلطف منه محله وأخبره بأن يمنعه بما يمنع به نساءه وأولاده من جميع من عاداه، وطلب إلى الشيخ ألا يرحل عن بلده، وكان هذا الأمير معروفا في جاهليته بحسن السيرة، فعاهده الشيخ على عدم الخروج، وقام يدعو الناس إلى التوحيد وآزره وزراء الأمير وأعوانه وإخوانه من أهل الدرعية، وذلك في حدود سنة 1157ه، وبقي الشيخ سنتين يناصح الناس، وهاجر إلى الدرعية خلق كثير بينهم زمرة من أهل البيوتات ، وسنة 1206ه توفي الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وحاله من العبادة في الصلاة والصيام مشهورة، يتلو القرآن أبدا ويحيي غالب الليل بالقيام والتأني في تنفيذ الأحكام من كتب الأئمة الأربعة المقلدة، وكان يجبى إليه المال من جميع بلدان المسلمين، فيتفرقه عليهم في طريقة من الزهد مرضية، وكان متكففا من ذلك المال، لا يأكل منه إلا بالمعروف، وكان سمحا كريما لا يرد سائلا، ومات ولم يخلف دينارا ولا درهما، وكان عليه دين كثير وفي عنه.
وذكر ابن غنام في تاريخه أيضا غزوات أتباع ابن عبد الوهاب مع من جاورهم من القبائل والبلدان، وكلها دائرة على بث دعوة واحتياز مغنم ومقابلة شر بمثله أخبار متشابهة، كان يجري مثلها في تلك الأصقاع، ويظهر للمتأمل أن معظم تلك الحروب التي جرت على عهد ابن عبد الوهاب كانت للدين، فلما مات عادت المطامع إلى مجراها السابق، والغالب أن الأمير النجدي وابنه اللذين عملا بمشورة الشيخ طول حياته، قاما ببث دعوته بين الأمراء المجاورين بعد أن اشتدت شكيمتهما.
ومن طالع هذا التاريخ وعرف حال الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يلبث أن يقع في ذهنه أن كل تاريخ هذه الطائفة قتل وقتال وقيل وقال. نعم، إن الأمر على ما يقول؛ فقد ذكر لي أحد عقلاء النجديين يوما ما معناه: يعاب على قومنا شيئان مهمان: أحدهما الفتن التي ما فتئت يثور ثائرها بين أظهرنا، والدماء التي تهراق من رفيعنا ووضيعنا ، وإن تكن غارات اليوم بين ابن سعود وابن الرشيد مثلا ليست كغارات أمس - تفرد السلطان عبد العزيز بن سعود منذ بضع سنين بحكم نجد كلها - المذكورة في تاريخ ابن غنام، فإن تلك كانت لنشر كلمة التوحيد بين أولئك الأعراب الجفاة، وهذه تدعو إليها المطامع - وثانيهما انقسام الناس في نجد إلى قبيلين، قبيل يقال له الخضيرية، وآخر يقال له قبيلية أو شيوخ، فالأول في حل من تعاطي الصناعات كلها، والثاني لا يجوز له تعاطيها؛ لأن ذلك يعد شينا عليهم وعرة في وجوه أنسابهم، فيقتصرون على التجارة والفلاحة، وإذا تعاطى أحد الشيوخ، وبعبارة ثانية الأشراف صناعة ما، وكان في الأصل شريفا يسقط عندهم شرفه، ويمسي معدودا من الطبقة النازلة طبقة الصناع والأجراء في بلاده طبقة الخضيرية، وإذا تزوج أحد الشيوخ من بني خضير؛ أي صاحب الشرف من فاقده، وكان للشريف عصبة يستحلون قتله مدعين أنه أسقط شرفهم. قلت له: وأنا أعيب عليكم أمرا ثالثا، ولطالما ذاكرتكم به وهو جمودكم على حالة واحدة في العلم، وتحريمكم مطالعة كتب لا تخلو مطالعتها من إنارة عقولكم، ووقوفكم عند حد البحث في الدين دون الالتفات إلى ما لا بد منه من علوم الدنيا، وما يخيل إلي إلا أن رجالكم الذين يأتون الأمصار عارفون ما تمس إليه حاجة بني نحلتهم من العلوم والصنائع، وما ينقصهم من المتممات التي لا أثر لها في باديتكم، أما انقسام الناس في نجد إلى فئتين فليس بالأمر الجديد، فإن الرومان كانوا كذلك، بل كان أشراف أسلافكم العرب الخلص يرون الصنائع مضيعة لشرفهم، ويعتدون في الغزو والغارة شرفهم الوحيد.
هذا ما لقفناه من تاريخ الإحسائي في أتباع محمد بن عبد الوهاب وهم الحنابلة بعينهم، وما ابن عبد الوهاب إلا داعية هداهم من الضلال، وساقهم إلى الدين السمح، وإذا بدت شدة من بعضهم فهي ناشئة من نشأة البادية، وقلما رأينا شعبا من أهل الإسلام يغلب عليه التدين والصدق والإخلاص مثل هؤلاء القوم، وقد اختبرنا عامتهم وخاصتهم سنين طويلة، فلم نرهم حادوا عن الإسلام قيد غلوة، أما الغزوات التي يغزونها فهي سياسية محضة، ومذهبهم برئ منها، وما يتهمهم به أعداؤهم زور لا أصل له والله أعلم.
دولة الأدب في حلب1 على عهد سيف الدولة بن حمدان
لكل قرن من قرون العز في العرب نابغة أو نوابغ من الملوك والأمراء، ومثلهم من العلماء والأدباء، وقد امتاز القرن الرابع في الشام - وإذا قلنا الشام عنينا هذا القطر المحبوب الممتد من العريش إلى الفرات، ومن جبال طورس إلى البادية على نحو ما كان يعرفه العرب - بقيام بني حمدان فيه، ورئيسهم سيف الدولة بن حمدان استولى على القسم الشمالي منه، والدولة العباسية قد أخذت تتناوشها ملوك الأطراف، وأمراؤها في العراق ومصر والشام والجزيرة، وأخذت دولة الخلافة بالضعف بصنع بعض الخوارج، ومنهم من كان ينازعها السلطة علنا، ومنهم من كان يشاركها فيها، ويخضع لها في الصورة الظاهرة، وبنو حمدان كانوا من هذا النوع الأخير.
أصل بني حمدان بطن من بني تغلب بن وائل من العدنانية، وهم بنو حمدان بن حمدان، كانوا ملوك الموصل والجزيرة وحلب في أيام المقتفي بالله العباسي، وأول من ملك منهم أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان، ثم أخوه إبراهيم بن حمدان، ثم أخوه سعيد ونصر أبناء حمدان، ثم استولى على الشام وحلب معين الدولة علي بن أبي الهيجاء بن حمدان، ثم لؤلؤ مولى سعد الدولة بن حمدان، ثم غلبه على ذلك صالح بن مرداس أمير بني كلاب وانتزعه منه في سنة 402ه.
كان للقبائل سلطان في هذه الديار، وأي سلطان؛ لأن البادية خلقوا رجال حرب وغزو أكثر من الحضر؛ لذلك كان العرب قبل الإسلام بخمسة أو ستة قرون يحكمون هذه الديار، أو يغيرون على المعمور منها، أو ينزلون في صقع معين منها فيبنون المصانع، ويغتنون كما يغتني أهل الحضر ويعيشون عيشهم، ومن هؤلاء العرب من كان لهم قبل الهجرة وبعدها مدنية رائعة مثل النبطين في الجنوب، وهم عرب تعزى إليهم آثار البتراء، أو وادي موسى، وآثار جرش في عجلون، ومثل الغسانيين في حوران، والصفا، واللجاة، ودمشق ، وحمص وغيرها، ومثل التنوخيين في أرجاء حلب، ومثل بني لخم وجذام، وكلب، وكلاب، وتميم وطي، وسليم، وعاملة، والضجاعم وغيرها من قبائل العرب التي نزلت الشام، فكانت عرضة كل حين لاستيلاء البادية عليها؛ لأن أهلها أشد مراسا وأجرأ على القتال يوم النزال؛ ولأن سلاح المدن والبوادي كان واحدا إذ ذاك، وهذا ما حدا بدولة الرومان لما أضافت هذه الديار إلى مملكتها أن تنشئ على سيف البادية مخافر كثيرة؛ ليأمن المعمور عيث البادية، ومن جملة الدواعي إلى استيلاء الحمدانيين على حلب طمع العرب فيها، وغزوهم لها المرة بعد المرة، ففي سنة 292ه ولى المكتفي أبا الحسن ذكا بن عبد الله الأعور حلب، ودام بها إلى سنة 302، فعاثت بنو تميم في أيامه في حلب، وأفسدت فسادا عظيما وحاصروا ذكا بحلب، فكتب المقتدر إلى الحسين بن حمدان في إنجاد ذكا بحلب، فأسرى من الرحبة حتى أناخ عليهم بخناصرة وأسر منهم جماعة، وقامت على الحسين بن حمدان العرب من كلب، واليمن، والنمر، وأسد وغيرهم فاجتمعوا بنواحي حلب، فخرج للقائهم سنة 294 فهزموه حتى بلغوا به باب حلب.
تبعت الشام مصر في حكومتها سنة 325، فأقام محمد الإخشيد واليا على حلب أحمد بن سعيد الكلابي شيخ قبيلة بني كلاب، فكثر الكلابيون إذ ذاك، وأقطع الخليفة العباسي الشام لمحمد بن رائق على أن يستخلصه من الإخشيدية الذين خلعوا طاعته، فطرد ابن رائق وقاتل الإخشيدية فاستولى على دمشق.
وفي سنة 329 بعث محمد الإخشيد قائده كافورا إلى الشام في جيش عظيم، فهزم عامل ابن رائق واستولى على حلب، وفي السنة التالية عقد الصلح بين محمد الإخشيد واستأثر هذا بولاية حلب، والإخشيد محمد بن طغج صاحب الديار المصرية، وما معها من البلاد الشامية والأعمال الحجازية، كانت له سياسة حسنة مع جميع رعاياه؛ أي إنه كان بارعا بما نسميه اليوم «سياسية العناصر»، فقد كتب إلى أرمانوس ملك الروم من كتاب: «وسياستنا لهذه الممالك قريبها وبعيدها على عظمتها وسعتها بفضل الله علينا، وإحسانه إلينا ومعونته لنا وتوفيقه إيانا، كما كتبت إلينا، وصح عندك من حسن السيرة، وبما يؤلف بين قلوب سائر الطبقات من الأولياء والرعية، ويجمعهم على الطاعة واجتماع الكلمة، ويوسعها الأمن والدعة في المعيشة ويكسبها المودة والمحبة.»
وفي سنة 329 وصل الروم إلى قريب حلب ونهبوا وخربوا البلاد، وسبوا نحو خمسة عشر ألف إنسان، وفي هذه السنة أيضا قتل ابن رائق قتله ناصر الدولة بن حمدان، وكتب بالأمر إلى الخليفة المتقي لله فحل ذلك من نفسه محلا عظيما ولقبه ناصر الدولة، وجعله أمير الأمراء وتقلد حلب وأعمالها، ودانت له العرب، ولقب شقيقه علي سيف الدولة وخلع عليه، وهذا هو موضوع كلامنا في هذه المحاضرة. •••
سار سيف الدولة إلى حلب سنة 333 فحكمها واستولى عليها، وكان مع المتقي لله بالرقة، فلما عاد المتقي إلى بغداد وانصرف الإخشيد إلى الشام، لقي يأنس المؤنسي بحلب فقصده سيف الدولة، فلما نازلها فارقها يأنس، فحكمها سيف الدولة وهزم الروم لما قاربوها، ودخل الإخشيد سنة 334 حلب، وأفسد أصحابه في جميع النواحي، فقطعت الأشجار التي كانت في ظاهر حلب، وكانت عظيمة جدا - وقيل إن حلب كانت من أعظم المدن شجرا وأشعار الصنوبري تدل على ذلك - ونزل عساكر الإخشيد على الناس بحلب وبالغوا في أذى السكان لميلهم إلى سيف الدولة.
مال الناس هنا إلى سيف الدولة لما اشتهر عنه من الشجاعة والكرم، ومال أهل دمشق عنه فطردوه عن بلدهم؛ لأنهم رأوا منه ما أخافهم على أملاكهم؛ وذلك أنه لما ملك دمشق اتفق - وهو مقيم بها - أنه كان يسير هو والشريف العقيلي بنواحي دمشق فقال سيف الدولة: «ما تصلح هذه الغوطة إلا لرجل واحد»، فقال له العقيلي: هي لأقوام كثيرة، فقال سيف الدولة: «لئن أخذتها القوانين السلطانية ليتبرءوا منها»، فأعلم العقيلي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافورا يستدعونه من الإخشيدية فجاءهم وأخرجوا سيف الدولة عنهم، وظل ملك الحمدانيين مقصورا في الشام على شماله ودخلت فيه حماة، وحمص، وسلمية، وجوسية، وشيزر، وكفر طاب، وأفامية، ومعرة النعمان، وجبل السماق، ومعرة مصرين، والأثارب. •••
رسخت بسيف الدولة أقدام بني حمدان في هذه الديار، واتخذ حلب عاصمته، وكانت مملكته عبارة عن جند حمص، وجند قنسرين، والثغور الشامية والجزرية، وديار مصر وديار بكر، ولما تم له الأمر مثل في بلاده الصورة التي كان يريد أن يمثلها في دمشق، وأبى أهلها عليه تمثيلها، فأخذ يستصفي الأملاك، ويصادر الأموال ويبني الدور والقصور، ويظهر من الأبهة ما كان يعجز عنه الخوالف من العباسيين في بغداد والأمويين في الأندلس والفاطميين في مصر. •••
لم تكن الجباية في تلك القرون على حالة مستقرة، فما ورد عن الشارع وأصحابه من قوانينها العادلة السهلة التطبيق، كان يجري العمل به في البلاد كلها، وكانت صورة التنفيذ تختلف باختلاف نزاهة السلطان وعفته عن أموال الناس، وسيف الدولة كان على الأرجح من القائلين بأن الغاية تبرر الواسطة.
كان رحمه الله على ما أجمع عليه الثقات مثل ابن حوقل معاصره والأزدي، وسبط ابن الجوزي، يجوز أخذ ما في أيدي الناس ليستعين به على غزو الروم، ويسرف بجانب كبير يفضل به على الشعراء والأدباء، فيخرجه من أكياس الرعية وجيوبهم؛ لينفقه في وجوه المبرات والعطايا؛ ولذلك أسس في هذه المدينة الجميلة دولة في الأدب، لم يقم مثلها في الشام منذ نحو عشرين قرنا إلى يوم الناس هذا.
ليس العالم شر محض ولا خير محض، ولكل عاقل في الأرض مزية، كما أن له ما يعد عليه من الهنات، وسيف الدولة من هذا القبيل لم تكن أعماله إلى الخير المحض بمصادراته وإسرافه، وكانت له مزيتان قل أن يكتبا لغيره وهما: نهضة الآداب في هذه البلاد، ودفع عادية الروم عنها، ولولاه لعاد إليها سلطانهم بعد أن تقلص بالإسلام نيفا وثلاثة قرون، وهذا الإجمال كما ترون يحتاج إلى تفصيل.
كان هم سيف الدولة في سياسته الخارجية أن يضعف الروم في آسيا الصغرى، فكان كثيرا ما يغزوهم ويفتح حصونهم، ويسبي من أبنائهم، ويخرب في زرعهم وقراهم، ويستصفي أموالهم وعروضهم، وقيل: إنه غزاهم أربعين مرة كانت فيها بعض الغزوات له وبعضها عليه. وكان همه في سياسته الداخلية تنجيد القصور، وجمع الأموال، والتجوز في أخذ الحلال والحرام منها، وإظهار أبهة الملك، والإفضال على الشعراء، وكانت عصبيته من عرب الجزيرة مسقط رأسه ومنبعث دولته. ومن عرب الشام مثل بني كلاب الذين أدناهم وأمن سربهم فقهروا العرب وعلت كلمتهم، قال في مسالك الأبصار: وبنو كلاب هم عرب أطراف حلب والروم، ولهم غزوات عظيمة معلومة وغارات لا تعد، ولا تزال (أي في القرن الثامن) تباع بنات الروم وأبناؤهم من سباياهم، ويتكلمون بالتركية ويركبون الأكاديش، وهم عرب غزو ورجال حروب وأبطال جيوش، وهم من أشد العرب بأسا وأكثرهم ناسا.
قل في أيام سيف الدولة غزو الروم لمدينة حلب، وكانوا يغزونها السنة بعد الأخرى، ويعيثون في أرباضها وقراها ، ويحرقون ويخربون ويسبون، دع غزوتهم لها سنة 351 أيام استولوا عليها دون قلعتها، ولم يعلم سيف الدولة بالخبر، فخرج إليهم فيمن معه فقاتلهم، فلم يكن له قوة الصبر لقلة من معه فقتل أكثرهم، ولم يبق من أولاد داود بن حمدان أحد، فانهزم سيف الدولة في نفر يسير وظفر الدمستق بداره، وكانت خارج مدينة حلب وتسمى الدارين، فوجد فيها لسيف الدولة ثلاثمائة بدرة (والبدرة كيس فيه ألف، أو عشرة آلاف درهم، أو سبعة آلاف دينار من الدراهم، ويبلغ مجموعه نحو مليوني دينار باصطلاحنا اليوم) وأخذ له ألفا وأربعمائة بغل، ومن خزائن السلاح ما لا يحصى، وأخذ الجميع، وخرب الدار، وملك الحاضر، وحصر المدينة فقاتله أهلها، وهدم الروم في السور ثلمة فقاتلهم أهل حلب عليها، فقتل من الروم كثير ودفعوهم عنها، فلما جنهم الليل عمروها، فلما رأى الروم ذلك تأخروا إلى جبل الجوشن، ثم إن رجال الشرطة بحلب قصدوا منازل الناس، وخانات التجار لينهبوها فلحق الناس أموالهم؛ ليمنعوها فخلا السور منهم، فلما رأى الروم السور خاليا من الناس قصدوه وقربوا منه فلم يمنعهم أحد، فدخلوا البلد بالسيف يقتلون من وجدوا، ولم يرفعوا الفتك حتى تعبوا وضجروا، وكان في حلب ألف وأربعمائة من الأسارى، فتخلصوا وأخذوا السلاح وقتلوا الناس، وسبي من البلد بضعة عشر ألف صبي وصبية، وغنموا ما لا يوصف كثرة، فلما لم يبق من الروم ما يحملون عليه الغنيمة أمر الدمستق بإحراق الباقي وإحراق المساجد، قال ابن الأثير: وكان عدد عسكره مائتي ألف رجل، منهم ثلاثون ألفا بالجواشن (الدروع) وثلاثون ألفا للهدم، وإصلاح الطرق من الثلج، وأربعة آلاف بغل يحمل الحديد، وكانت هذه الموقعة بسفح (بالقوسا) فأحرقوا جامعها.
بيد أن هذه الواقعة وأمثالها لم تثن من همة سيف الدولة، فظل على غزو الروم؛ ليكف عاديتهم عن هذه الديار، وكانت له طرق غريبة في الرحمة، من ذلك أنه سار مرة بالبطارقة الذين في أسره إلى الفداء، وكان في أسر الروم ابن عمه أبو فراس، وجماعة من أكابر الحلبيين والحمصيين فأخذ بالفداء، ولما لم يبق معه من أسرى الروم أحد اشترى الباقين كل نفس باثنين وسبعين دينارا، حتى نفد ما معه من المال، فاشترى الباقين ورهن عليهم بدنته (درعه) الجوهر المعدومة المثل، ثم لما لم يبق أحد من أسرى المسلمين كاتب نقفور ملك الروم على الصلح، قال ابن الوردي: وهذه من محاسن سيف الدولة.
ولقد امتازت دولة سيف الدولة بمزيتين: الأولى سياسية إسلامية، والثانية علمية أدبية، فمزيتها السياسية أنه كثيرا ما أغار على الروم، وجعل ديدنه التخريب في بلادهم؛ ليردهم عن قصد بلاده؛ لأنهم كانوا يطمعون فيها منذ القديم، ويذكرون من تاريخها أنهم حكموها طويلا، فكان بعمله سدا حاجزا دون انبعاثهم إلى هذه البلاد، فخدم بذلك الإسلام والعرب، والمزية الثانية لدولته جعلها كحضرة بني العباس على ضيق رقعتها، وذلك في الإفضال على العلم والأدب، فكان يقصده أهل هذا الشأن، فينزلهم في بلاده على الرحب والسعة ويبرهم بصلاته، قال في دائرة المعارف الإسلامية: «إن الفضل الذي أحرزه سيف الدولة بن حمدان بنشر العلوم والآداب العربية هو عنوان مجد لا يقل عن أعماله الحربية.»
ومما يؤخذ عليه تغاليه في الإفضال على الشعراء والأدباء، على أن منهم كأبي الطيب المتنبي مثلا من فارقه بعد أن منعه الإقطاعات والإنعامات الكثيرة؛ ليستجدي أكف كافور في مصر، فقد أعطى سيف الدولة شاعره المتنبي ضيعة بالمعرة اسمها «صف» إقطاعا له، وأقطع قرية «عين جارة» وهي من الضياع الكبرى على ابن أحمد بن البازيار نديمه عدا ما كان يناله من صلاته، وذكروا أن الناشئ الأحصى دخل على سيف الدولة فأنشده قصيدة له فيه، فاعتذر سيف الدولة بضيق اليد يومئذ، وقال له: أعذر فما يتأخر حمل المال فإذا بلغك ذلك، فإننا نضاعف جائزتك ونحسن إليك، فخرج من عنده فوجد على باب سيف الدولة كلابا تذبح لها السخال وتطعم لحومها، فعاد إلى سيف الدولة فأنشده هذه الأبيات:
رأيت بباب داركم كلابا
تغذيها وتطعمها السخالا
فما في الأرض أدبر من أديب
يكون الكلب أحسن منه حالا
ثم اتفق أن حملت إلى سيف الدولة أموال من بعض الجهات على بغال، فضاع منها بغل بما عليه، وهو عشرة آلاف دينار، وجاء هذا البغل حتى وقف على باب الناشئ الشاعر بالأحص، فأخذ ما عليه من المال وأطلقه، ثم جاء حلب ودخل على سيف الدولة وأنشده قصيدة يقول له فيها:
ومن ظن أن الرزق يأتي بحيلة
فقد كذبته نفسه وهو آثم
يفوت الغنى من لا ينام عن السرى
وآخر يأتي رزقه وهو نائم
فقال له سيف الدولة: بحياتي وصل إليك المال الذي كان على البغل، فقال: نعم، فقال: خذه بجائزتك مباركا لك فيه.
إن ما صدر عن سيف الدولة غاية في الكرم، ولكنه لا يجوز في شرع العقل أن تجبى هذه الأموال من الفقراء والأغنياء؛ لتصرف في مصالح الأمة، ثم يأخذها شاعر واحد، ومعلوم أن العشرة آلاف دينار في القرن الرابع لا تقل قيمتها عن مائة ألف دينار في هذا القرن؛ ولذلك قال ابن نباتة في مدح سيف الدولة، وقد تبرم بكثرة ما ناله من عطائه:
قد جدت لي باللها حتى ضجرت بها
وكدت من ضجر أثني على البخل
إن كنت ترغب في بذل النوال لنا
فاخلق لنا رغبة أو لا فلا تنل
لم يبق جودك لي شيئا أؤمله
تركتني أصحب الدنيا بلا أمل
مثال آخر من إسراف الدولة: ذكر أنه ضرب دنانير خاصة للصلات في كل دينار منها عشرة مثاقيل، وعليه اسمه وصورته، قال بعض المؤرخين في حوادث سنة 354: فيها صاهر سيف الدولة أخاه ناضر الدولة، فزوج ابنته أبا المكارم، وأزوج أبا المعالي بابنة ناصر الدولة، وأزوج أبا تغلب بابنته ست الناس، وضرب دنانير في كل دينار ثلاثين دينارا، وعشرين وعشرة عليها مكتوب: محمد رسول الله، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فاطمة الزهراء، الحسن، الحسين، جبريل، (وكان سيف الدولة يرى رأي الشيعة)، وعلى الجانب الآخر: «أمير المؤمنين المطيع لله، الأميران الفاضلان ناصر الدولة وسيف الدولة، الأميران أبو تغلب وأبو المكارم»، وجاد بما لم يجد به أحد، يقال: إن المبلغ الذي جاد به سبعمائة ألف دينار، فما قولكم بمن يجود بهذا المبلغ في عرس، وهو مبلغ جسيم لا تقل قيمته إذا قدرناه بسكة زماننا عن سبعة ملايين دينار، إن هذا العمل ممقوت شرعا وعقلا؛ لأنه التبذير بعينه.
ومما ذكره المؤرخون أن سيف الدولة كان مرة في بغداد، فدخل على جماعة في مجلس أنسهم، فرفعوا منزلته بدون أن يعرفوه وشاركهم في طربهم، ولما تقوض المجلس طلب ورقة ودواة، وكتب رقعة وتركها وانصرف، فنظر أصحاب المجلس في رقعته، فإذا هي سفتجة بألف دينار يؤديها وكيله في دار السلام، فلما حملوا إليه خطه سألوه من عساه أن يكون الذي جاد بهذا المبلغ، فقال لهم: هو سيف الدولة بن حمدان. وكان كثيرا ما يفتقد رجال الدولة في بغداد، ويتعهد بعض علمائها وشعرائها، ولكن عطاياه للشعراء أجزل، فقد كان يعطي المعلم الثاني أبا النصر الفارابي أربعة دراهم في اليوم؛ أي القدر الذي يستطيع به فيلسوف الإسلام أن يعيش عيش الكفاف، على حين كان يعطي ابن عمه أبا فراس ضيعة تغل ألف دينار في السنة من قرى منبج جائزة عن بيت استجاده، وأبو فراس هو الذي قال فيه الصاحب ابن عباد: «بدئ الشعر بملك - أي بامرئ القيس - وختم بملك أي بأبي فراس.» •••
وبهذا رأيتم أن المال لا قيمة له في نظر سيف الدولة، فقد ذكروا - وهو مما يعاب عليه - أن الخليفة المتقي العباسي لما استولى البريدي على بغداد، استنجد ببني حمدان أمراء الموصل ، فطلب سيف الدولة من الخليفة مالا لينفقه في الجيش؛ حتى يقويه ويمنع الأتراك من بغداد، فأعطاه الخليفة أربعمائة ألف دينار، ففرقها سيف الدولة في أصحابه، ثم هرب سيف الدولة ودخل «تورون» بغداد وملكها، ومنها أن أبا الحصين علي بن عبد الملك الرقي ولي قضاء حلب وكان ظالما، فإذا مات إنسان أخذ تركته لسيف الدولة، وقال: «كل من هلك فلسيف الدولة ما ملك»، ولما مات هذا القاضي رفسه سيف الدولة برجله فيما قيل، وقال له: قبحك الله كم كنت تزين لي الظلم، وذكر ابن حوقل في كلامه على بالس «مسكنة»: إن سيف الدولة بعد انصرافه عن لقائه صاحب مصر، وقد هلك جميع جنده أنفذ المعروف بأبي الحصين القاضي، فقبض من تجار كانوا بها معتقلين عن السفر، ولم يطلق لهم النفوذ، فأخرجهم عن أحمال وأطواف زيت إلى ما عدا ذلك من متاجر الشام في دفعتين بينهما شهور قلائل، وأيام يسيرة ألف ألف دينار، وقال ابن حوقل أيضا: «إن نصيبين لم تزل منذ من أول الإسلام تضمن بمائة ألف دينار إلى سنة 360، فأكب عليها بنو حمدان بصنوف من الجور وتجديد الكلف، إلى أن حمل ذلك بني حبيب، وهو بنو عم بني حمدان على أن خرجوا بذراريهم ومواشيهم، وثقلهم في اثني عشر ألف فارس إلى بلد الروم، فتنصروا بأجمعهم، وأوثقوا ملك الروم من أنفسهم بعد أن أحسن لهم النظر في إنزالهم على كرائم الضياع ونفائس المتاع، فعادوا إلى بلد الإسلام على بصيرة بمضاره، وعلم بأسباب فساده وقلوبهم تضطرم حقدا، فلحق بهم كثير من المخلفين عنهم، فشنوا الغارات على بلد الإسلام، وافتتحوا بعض الحصون وألحقوا أسوار بعضها في الأرض، وخربوا الضياع وتزايدت ثقة الروم بهم، إلى أن جعلوا لهم الأرزاق والأعطية، وصاروا خاصة الملك، وفتحوا له المضايق وأطعموه في أنطاكية، والمصيصة، وحلب، وطرسوس.»
هذا ما ذكره الجغرافي الرحالة ابن حوقل في أعمال سيف الدولة؛ على أنه قد وسم كتابه باسمه، وقد سكت بعض المؤرخين عن ذكرها بتاتا، وأشار إليها بعضهم بصورة مختصرة، قال ابن مسكويه : «كان سيف الدولة معجبا بنفسه يحب أن يستبد برأيه، كريما شجاعا، محبا للفخر والبذخ، مفرطا في السخاء والكرم، شديد الاحتمال لمناظريه والعجب بآرائه، سعيدا مظفرا في حروبه، جائرا على رعيته، اشتد بكاء الناس عليه ومنه.
ومن جملة بذخه أنه كان يقف على مائدته إذا أكل أربعة وعشرون طبيبا، وكان فيهم من يأخذ رزقين لأجل تعاطيه علمين، ومن يأخذ ثلاثة لتعاطيه ثلاثة علوم. ولقد قيل: إنه اجتمع لسيف الدولة بن حمدان ما لم يجتمع لغيره من الملوك، كان خطيبه ابن نباتة الفارقي، ومعلمه ابن خالويه، ومطربه الفارابي، وطباخه كشاجم وخزان كتبه الخالديان (وهما يشبهان الأخوين الإفرنسيين ليكونكور)، والصنوبري ومداحه المتنبي، والسلامي والوأواء الدمشقي، والببغاء، والنامي، وابن نباتة السعدي وغيرهم، بل إنه اجتمع ببابه ما لم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء من شيوخ الشعر ونجوم الدهر، وكان أديبا شاعرا، محبا لجيد الشعر شديد الاهتزاز بما يمدح به. ولقد أورد صاحب اليتيمة من شعراء سيف الدولة، وممن كانوا يقصدونه من الآفاق؛ لينفقوا من أدبهم في سوقه ما هو بهجة النفوس مدى الأيام، وربما قل في الملوك من مدح بمثل ما مدح به سيف الدولة، حتى إن كلا من أبي محمد عبد الله بن محمد الفياض الكاتب، وأبي الحسن علي بن محمد السميساطي قد اختار من مدائح الشعراء لسيف الدولة عشرة آلاف بيت.»
وكل هذه الإجادة في الشعراء وتخريج الرجال كانت منبعثة من وراء إعطاء سيف الدولة للمال بدون حساب، أجاد شعراء الشام؛ لأنهم رزقوا ملوكا وأمراء من آل حمدان وبني ورقاء، هم كما قال الثعالبي: بقية العرب المشغوفون بالأدب، والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين آداب السيف والقلم، وما منهم إلا أديب جواد، يحب الشعر وينتقده، ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل، وبنو ورقاء أبو محمد جعفر، وأبو أحمد عبد الله أبناء ورقاء الشيباني من رؤساء عرب الشام وقوادها، والمختصين بسيف الدولة، وكان جعفر من بيت أمرة وتقدم وآداب، وكان المقتدر يجريه مجرى بني حمدان، وتقلد عدة ولايات، وكان شاعرا كاتبا جيد البديهة والروية، وكان يأخذ القلم، ويكتب ما أراد من نثر ونظم، كأنه عن حفظه، وكان بينه وبين سيف الدولة مكاتبات بالشعر والنثر مشهورة.
وإن بابا يقف فيه أمثال أبي الطيب المتنبي، وأبي عبادة البحتري من الذين انتهت إليهم الرئاسة في هذه الصناعة، ومثل النامي، والببغاء، وكشاجم، والصنوبري، وابن خالويه، وابن جني، والبازيار، والصفيري، والناشئ، والبنص، والرقي، وابن نباتة، والفارابي، وابن كشكرايا، وعيسى الرقي، وغيرهم من العلماء والبلغاء والشعراء والندماء؛ إن بابا يقف فيه أمثال هؤلاء هو باب ولا شك عظيم، وفضل صاحبه على الآداب جسيم. •••
تجلت في عهد سيف الدولة في ديار الشام روح غريبة في الأدب العربي، وظهر بمظهر لم يسبق له عهد مثله، ولا جاء في القرون التالية شبه له ونظيرا لهم إلا إذا كان على عهد الأمويين، ولم تبلغنا أخبار شعرائه، وقد استفاد من هذه الحركة الأدبية القاصي والداني، كان أبو بكر الخورزي في ريعان عمره، قد دوخ بلاد الشام، وحصل من حضرة سيف الدولة بحلب في مجمع الرواة والشعراء، ومطرح الغرباء والفضلاء، فأقام ما أقام بها على أبي عبد الله بن خالويه، وأبي الحسن السميساطي، وغيرهما من أئمة الأدباء، وأبي الطيب المتنبي، وأبي العباس النامي وغيرهما من فحول الشعراء، بين علم يدرسه وأدب يقتبسه، ومحاسن ألفاظ يستفيدها، وشوارد أشعار يصيدها، وهو أحد أفراد الدهر وأمراء النظم والنثر، وكان يقول: ما فتق قلبي، وصقل ذهني، وأرهف حد لساني، وبلغ هذا المبلغ بي إلا تلك الطرائف الشامية، واللطائف الحلبية التي علقت بحفظي، وامتزجت بأجزاء نفسي.
قام سيف الدولة بهذه النهضة الأدبية، وقد كاد القرن الثالث في الشام يخلو من الشعراء والأدباء؛ لأنهم قصدوا بغداد عاصمة الملك، وبقيت الشام بمعزل، ولم ينبغ في هذا العصر غير رجال في الحديث والمغازي والفقه، وضعف الأدب حتى أخذ ابن حمدان بيده وأيدي المشتغلين به، فكأن القرنين السالفين كانا كالمقدمة للكاتب الكبير الذي صدر في القرن الرابع، وشرحه نوابغ الأدب العربي أحسن شرح، وفيه قام أساطين الشعر وأبو تمام وأبو الطيب وأبو عبادة ، وإليهم انتهت الزعامة في الإجادة.
بلادنا بلاد الشعر، والشعر كان مبدأ دخول العرب في الحضارة، لم يحرصوا على شيء حرصهم على روايته ودرايته، وأشد ما يكثر الشعراء في أرض صح إقليمها، واعتدل نسيمها، وطابت تربتها وأديمها، وصفت أمواهها وسنح نميرها، وكثرت ظلالها بأشجارها، وغردت أطيارها في أسحارها، وهذه الحالة على حصة موفورة في القطر الذي يتاخم جزيرة العرب من شمالها، فكان شعراء الشام وما يقاربها أشعر من شعراء العراق، وما يجاورها في الجاهلية والإسلام، والسبب في تبريزهم قديما وحديثا على من سواهم في الشعر قربهم - كما قالوا - من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض إلا لسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم.
وإذا أضيفت إلى هذه الأسباب الطبيعية أسباب أخرى من تنشيط ملك، وإعجاب أمة بعمل العالم، أو الشاعر والكاتب، تفتحت القرائح وتجلى نبوغ الأفراد في أجمل مظاهره، كما جرى في أيام سيف الدولة الذي يشبه من كثير من الوجوه لويس الرابع عشر ملك فرنسا، هذا مع اعتبار الفرق بين العصرين، فإن ابن القرن التاسع لا يتأتى أن يكون مثل ابن القرن التاسع عشر، وابن غربي آسيا لا يصح بحال من الأحوال أن يشبه ابن غربي أوروبا، ولكن الرجال قد يتشابهون على كل حال، ووجه الشبه ظاهر بين الملكين، ولا سيما فيما يتعلق بالمعارف والآداب، ولكن عمل لويس الرابع عشر اتصل بعده، وما زال في نمو وعلو، وعمل سيف الدولة زال - ويا للأسف - بزواله، وهذا أهم فرق بين هذا الشرق وذاك الغرب، هناك يتسلسل الفكر قرونا، وهنا ينقطع ويتحول، هناك تتناوله الجماعات بعد الأفراد فتحسنه وتزيد فيه، وهنا يدفن مع صاحبه، ولا يبقى غير تذكاره، فعاش الشرق بالفرد وعاش الغرب بالجماعة.
لو ألهم سيف الدولة أن يقتصد قليلا من جوائز الشعراء فقط، خل عنك سائر إسرافاته، ويعمل فيها عملا يكل أمره إلى إبقاء الأجيال التي جاءت بعده، لأثر وحده في مدنية الشام أكثر من تأثير الرومان واليونان، ولما نسي اسمه إلا من دواوين الأدب وأسفار المحاضرات، ومن قام أمره بالاستبداد ولم يحفل بآراء أصحاب الرأي، تضمحل سلطته عند أول عارض داخلي أو خارجي يعرض لها. إن سيف الدولة مثل الاستبداد الممزوج بالعقل، وحب الأدب والشعر؛ لأنه كان شاعرا مجيدا، جيد الطبع، كريم النفس، وكانت فائدته الشخصية أقل من فائدة الآداب عامة على يده، وجعل الشهباء مركز دائرته، فأصبحت في سنين قليلة عاصمة الآداب، فأورثنا شعراء سيف الدولة وأورثوه مجدا لا يبلى على وجه الدهر جديده. ا.ه.
بين دمشق والقاهرة1
(1) سادتي الإخوان
يعجز البيان عن توفية صداقتكم حقها، ومقابلة عواطفكم الجميلة بمثلها ، فقد كسوتم وطنيكم هذا حلة تقصر عنها قامته، وظهر إحساسكم الشريف في مظهر أنساه ما لقيه من المشاق في سبيل الوصول إلى حماكم، فدمتم ودامت عوارفكم كهفا يلجأ إليه في الملمات، وعلم نور يستضاء به في الظلمات. ولقد كنت بيت العزم منذ شهرين أن أزور مصركم في الشتاء المقبلي؛ لألقى من خلفتهم فيها من خلص الأصدقاء مصريين وعثمانيين، ولكن قضت الأقدار أن أهبط مصر في صيفها وأهلها يرحلون عنها، على أن مصر حلوة في فصولها الأربعة؛ لأن السر في السكان لا في المكان، كما كنت أود أن أشخص إليها من طريق البحر المطروق في ست وثلاثين ساعة موفورة لي أسباب الراحة، لا أن أوافيها من طريق البر المهجور على مطية أقضي في السير والسرى من دمشق إلى القاهرة أربعة عشر يوما، وألقى فيها من فقد الراحة ما يلقاه في العادة السفار في القفار.
إن ما حملني على انتيابكم في هذه الحال تعرفونه بأجمعكم، وليس ببدع أن ينال مثله كل من يتصدى لطلب الإصلاح، وينشد الحق والعدل في بلاد حكمت قرونا بالاستبداد، ولم تكتب لها السلامة منه، ومن ابتلي بذلك يستطيب الأذى إذا أنتج عمله نفعا للخير العام.
قضيت في الشهر الفائت ثلاثة وعشرين يوما في زيارة مدينة الرسول، وآثار وادي موسى أو البتراء المعروفة بالعربية الصخرية، وبلاد مآب أي الكرك، وأرض الشراة التي كان يسكنها بنو العباس في أيام بني مروان، ومنها خرجوا بالدعوة لدولتهم، وأرض البلقاء التي كانت مصايف لبني أمية أيام حكومتهم في دمشق، وغير ذلك من الأقاليم في أقصى حدود بلاد الشام الجنوبية، ومن هذه الأقاليم ما وصل إليه الخط الحجازي، ومنها ما يقصد إليه على الدواب، فلما عدت إلى دمشق استريح من وعساء السفر، فاجأتني الحكومة المحلية بما عودتنيه أيام الحكم المطلق والحكم المقيد من خرق قانون الحرية الشخصية والفكرية، ومحاولة النيل مني بلا موجب.
سعيت وطائفة من أصدقائي في سورية بعد انتشار القانون الأساسي أن يكون في بلادنا دستور حقيقي، يستمتع به العثمانيون على اختلاف عناصرهم ونحلهم، ولكن الفئة المتغلبة على الحكومة في الآستانة والمرسلة بصنائعها إلى الولايات أبت - وخصوصا بعد سقوط وزارة رجل السياسة العثمانية كامل باشا - إلا أن يكون الدستور استبدادا في صورة حرية، فكنا كلما طالبنا بمطلب من مطالب الإصلاح الطفيف اتهمونا أنواع التهم، بل كنا معهم - كما قال ابن أبي طالب - «كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم»، فالحكومة بل الحاكم الذي كان يرهقنا زمن الاستبداد، ويشردنا على أننا ناقمون على حكومة المخلوع، حتى اضطررنا أن نقضي أربع سنين في هذا القطر فرارا من الحيف، عاد في الدور الذي يدعونه بالحرية، يرمينا بالارتجاع، ثم بالدعوة لإنكلترا، ثم بالدعوة لحكومة عربية، إلى غير ذلك مما يختلقون من ضروب الافتراء الذي لا يستنكف كل ضعيف في حكومة هذا الشرق التعس من أن يلصقه بمن لا يقدر على حجاجه بالبرهان إذا دله على عيوبه ليتقيها، ونصح له بالاعتدال؛ لتطول أيامه ولا تساوره أسقامه.
ففي مثل هذه الحالة يسارع مثلي إلى الهرب من وجه الظلم؛ إذ لا قانون هناك يأخذ للضعيف من القوي، وما القانون عندهم إلا هوى النفوس، ولا رواج إلا للزور والنفاق، ولا عجب، فقد قال ابن خلدون: إن الدول إذا تنزهت عن التعسف والميل والأفن والسفسفة، وسلكت النهج الأمم، ولم تجر عن قصد السبيل، نفق في سوقها الإبريز الخالص واللجين المصفى، وإن ذهبت مع الأغراض والحقود وماجت بسماسرة البغي والباطل، نفق البهرج والزائف.
ولذا أرسلنا ساقينا للريح، ساعة بلغنا أن الحكومة المحلية في سورية تريد القبض علينا على نحو ما قبضت على شقيقنا أحمد المدير المسئول لجريدة المقتبس، فسرنا (يوم 17 نيسان (أبريل) 1912) بدون ريث بين حدائق صالحية دمشق، حتى بلغنا الزاوية الغربية الشمالية منها في المكان المعروف بقبة السيار، ومنها قصدنا إلى دمر من طريق الجبل مشيا على القدم، ثم انصرفنا من دمر إلى المزة بالتصعيد في الجبل أيضا، وهناك اختبأنا في إحدى قرى وادي العجم أياما، حتى تهيأت لنا أسباب الهزيمة على حصان في صحابة صديق لنا قديم ، رافقنا من أقصى حدود وادي العجم، فمررنا من طريق معوج اجتزنا فيه أرض المزة وبلاس والأشرفية وصحنايا والدرخبية والطيبة وشقحب، ثم دير العدس والحارة من قرى إقليم الجيدور المعروف عند الإفرنج بإيتورة، حتى بلغنا النقرة من بلاد الجولان التي يسميها الفرنجة غولانيتيد، فرقدنا بالقرب من نهر الرقاد، وكنا هومنا في الليلة الفائتة على مقربة من نهر الأعوج المعروف في الكتب المقدسة باسم فرفر من عمل وادي العجم.
وفي الجولان اتصلنا بجماعة من تجار الإبل ذاهبين إلى مصر، فسايرناهم، وقطعنا سهول الجولان ومراعيه، وبتنا في الليلة الثالثة دون عقبة فيق، ومن الغد هبطنا العقبة وهي لا تقل عن ساعتين، وتعد من أعظم عقاب بلاد الشام، ومنها يشرف المرء على أراضي الغورغور بيسان وبحيرة طبرية ونهر الشريعة أي الأردن، وليس على هذا النهر العظيم سوى جسر قديم متداع وجسر بنات يعقوب، فقطعنا الأول سباحة على الدواب، ثم توقلنا الجبل إلى موقع الدلايكة، وهو واد بين جبلين منفرجين متآزيين من عمل طبرية عاصمة الأردن القديمة، بل عاصمة الجليل، أصبح أكثره ملكا للصهيونيين من مهاجرة الإسرائيليين الأوروبيين يستنبتونه ويستثمرونه على طريقتهم المتعارفة في ديار الغرب، حتى لقد تحس للحال بالفرق بين زراعة الوطنيين وزراعة المهاجرين، فقرية بما ملكهم أرقى بزراعتها مرات من قرية كفر سبت وسكان هذه من مهاجرة الجزائر، فبتنا تلك الليلة في سوق الخان بلد الصبيح على ساعتين من الناصرة وفي سفوح جبل الطور المشهور في التاريخ المسيحي.
وفي اليوم الرابع اجتزنا غابة غبياء من شجر البطم، فرأيناها آيلة للخراب كما تئول الآن غابات الشام كلها، اللهم إلا ما كان من غابات لبنان التي تزيد ولا تنقص، وقطعنا هذه الحراج في ساعة ونصف حتى بلغنا قرية دبورية، وفي منقطع أرض هذه الدسكرة يبتدئ مرج ابن عامر أو سهل يزرعيل المذكور غير ما مرة في التوراة، قطعناه بالعرض في أربع ساعات حتى بلغنا قرية اللجون، ومنها دخلنا في وادي عارة من عمل نابلس، وطوله ثلاث ساعات، وهو ضيق النطاق متوازي الأضلاع حصب الرباع ، وفي آخره كان آخر عهدنا بجبال الشام، إذ لم نعد نرى بعده جبلا يذكر حتى بلغنا أرض مصر في جهات العريش وقطية، فلمحنا عن بعد جبلا في الرمال يسمونه جبل الحلال، وبتنا الليلة الخامسة في عيون الأساور على ساعتين من قيسارية،
2
وهي قرية يسكنها مهاجرون من البوشناق، وكانت من المدن الكبرى العامرة في القديم، وفي اليوم السادس اجتزنا قرى بلاد نابلس مثل: قاقون، وقلنسوة، والطيرة، ومسكة حتى بلغنا نهر العوجاء على ساعة ونصف من يافا، وعنده حططنا رحالنا، وطريق هذا اليوم والذي قبله عامر بالحبوب، ويكثر الزيتون في بلاد نابلس إحدى أمهات مدن السامرة من كور فلسطين،
3
وتقل المياه حتى يضطر الأهلون أن يستقوا من أماكن بعيدة، وفي اليوم السابع اجتزنا بقرى الساحل أمثال جبنة، سدود، مجدل، بربرة، بئر هديهد، غزة، وقضينا الليل في دير البلح، وفي اليوم الثامن بدأ سيرنا في رمال على نحو ثلاث ساعات من غزة، وبعد أن سرنا ست ساعات دخلنا في رفح أول حدود مصر والشام، وقد كانت تنتابني الهواجس تلك الليلة، أحاذر أن أقع في يد عدو للحرية أو أن أجالس من يستدل بذكائه على أنني لست من تجارة الإبل في العير ولا في النقير، أو لا ناقة لي في ذلك القطيع ولا جمل، فما فتحت عيني قبيل الغسق، إلا وأنا أنشد بيت المتنبي:
تدبير ذي حنك يفكر في غد
وهجوم غر لا يخاف عواقبا
فتفاءلت خيرا بالنجاة، وإن كنت لا أحب التفاؤل ولا التشاؤم، ولا أبني أعمالي على الأحلام والمرائي، حتى إذا قيل لي: ها أنت في رفح تدوس تربة مصر، قلت: ما أحراها أن تدعى فرحا لا رفحا؛ ليكون لكل شيء من اسمه نصيب، ولا غرو، فليس أحلى من النجاة على من كان يتوقع الخطر، أو من الوصل على من طال به السهاد والسهر.
ومن عجيب ما لاحظته في أراضي فلسطين، أنني شهدت لحكومتها بعض أثر من عمل مثل إنشائها بعض الجسور على الأودية، في حين لم أر عملا عمرانيا في ولايتي سورية وبيروت، كأن مجاورة لواء القدس للأراضي المصرية عدت فلسطين أو القسم الأعظم منها من ارتقاء بلاد الفراعنة، فصحت عزيمة حكومة القدس على أن تمد جسورا على الأقل، وتعبد الطرق بعض الشيء، لا جرم أن العلى تعدى كما قال أبو تمام. ولقد كنا كلما اقتربنا من غزة نحس بتغبر المشاهد في بلاد أشبه بهوائها وزراعتها بالبلاد المصرية، والناس يكادون يشبهون سكان الصعيد بألبستهم ولهجاتهم، وهذا من عدوى الجوار، وكثرة اختلاط المتجاورين من سكان القطرين، فإنك كما ترى جمهورا كبيرا من جالية المصريين في يافا وغزة، هكذا تجد الجميز والموز من أشجار البلاد الحارة شائعين في صقع غزة.
دخلنا اليوم التاسع في رمال، ولم يكن يتغير شكلها خمسة أيام متوالية إلى أن قالت الإسماعيلية: ها أنا ذه، وهذه الرمال كانت تعرف قديما بالجفار جمع جفر، وهي البئر القريبة القعر الواسعة لم تطو، قال ياقوت: وهي أرض من مسيرة سبعة أيام بين فلسطين ومصر، أولها رفح من جهة الشام وآخرها الخشبي، متصلة برمال تيه بني إسرائيل، والخشبي بينه وبين الفسطاط ثلاث مراحل كما في معجم البلدان، فيه خان، وهو أول الجفار من ناحية مصر وآخرها من ناحية الشام، قال أبو العز مطفر بن إبراهيم بن جماعة بن علي الضرير العيلاني معتذرا عن تأخره لتلقي الوزير الصاحب صفي الدين بن شكر، وكان قد تلقى إلى هذا الموضع:
قالوا إلى الخشبي سرنا على لهف
نلقى الوزير جموعا من ذوي الرتب
ولم تسر قلت والمولى ونعمته
ما خفت من تعب ألقى ولا نصب
وإنما النار في قلبي لغيبته
فخفت أجمع بين النار والخشب
وكل الجفار رمال سائلة بيض، في غربيها منعطف نحو الشمال بحر الشام، وفي شرقيها منعطف نحو الجنوب بحر القلزم، وسميت الجفار لكثرة الجفار بأرضها، ولا شرب لسكانها إلا منها، وكان فيها لعهد ياقوب نخل كثير ورطب جيد، وهو ملك القوم متفرقين في قرى مصر يأتونه أيام لقاحه فيلقحونه، وأيام إدراكه فيجنونه، وينزلون بينه بأهاليهم في بيوت من سعف النخل والحلفاء، وفي الجادة السابلة إلى مصر عدة مواضع عامرة، يسكنها قوم من السوقة للمعيشة على القوافل، وهي رفح والقس والزعقا والعريش والورادة وقطية، وفي كل موضع من هذه المواضع عدة دكاكين،
4
قال المهلبي: وأعيان مدن الجفار العريش ورفح والورادة، والنخل في جميع الجفار كثير، وكذلك الكروم وشجر الرمان (أما نحن فلم نر كرما ولا رمانا ولا دكانا ولا خانا)، وأهلها بادية متحضرون، ولجميعهم في ظواهر مدنهم أجنة وأملاك وأخصاص فيها منهم كثير، ويزرعون في الرمل زرعا ضعيفا يؤدون فيه العشر، وكذلك يؤخذ من ثمارهم، ويقطع في وقت من السنة إلى بلدهم من بحر الروم طير من السلوى يسمونه المرغ (والمرغ هو الطير بالفارسية)، يصيدون فيه ما شاء الله، يأكلونه طريا، ويقتنونه مملوحا، ويقطع أيضا إليهم من بلد الروم على البحر في وقت من السنة جارح كثير، فيصيدون منه الشواهين والصقور والبواشق، وقل ما يقدرون على البازي، وليس لصقورهم وشواهينهم من الفراهة ما لبواشقهم، وليس يحتاجون لكثرة أجنتهم إلى الحراس؛ لأنه لا يقدر أحد منهم يعدو على أحد؛ لأن الرجل منهم إذا أنكر شيئا من حال جنانه نظر إلى الوطء في الرمل، ثم قفا ذلك إلى مسيرة يوم ويومين حتى يلحق من سرقه، وذكر بعضهم أنهم يعرفون أسر وطء الشاب من الشيخ، والأبيض من الأسود، والمرأة من الرجل، والعاتق من الثيب، فإن كان هذا حقا فهو من أعجب العجائب.
قلت: وبعض ما قاله هذا المؤرخ من الاستدلال بالأقدام على الأشخاص صحيح، والوطء يبقى أثره في الرمل أياما، وليس من الصعب أن يتأثر المرء هنا من استباح جنته، فإنه إذا علا نشزا من هذه الرمال، وهي عبارة عن تلعات ومنعرجات ومنفرجات وأحادير، لا يلبث أن يشاهد السائر من مسيرة ساعات. وفي اليوم العاشر اجتزنا بالعريش وهو من البحر الأبيض على نصف ساعة فالمسعوديات على الساحل، وفي الحادي عشر نمنا بالمزار، وفي الثاني عشر بالجنادل، وفي الثالث عشر بأبي العفين، وفي الرابع عشر مررنا بالقطية، وبتنا بعراص، وفي الخامس عشر بلغنا الإسماعيلية فالقاهرة.
هذا هو الطريق الذي كان يطرقه المصريون والشاميون منذ عرف التاريخ، وكثيرا ما كان بعضهم يؤثرونه على ركوب المراكب والسفن الشراعية، لما كان فيها من الأخطار أيام لم يكن البخار يسير مراكب البحار، قطعناه في أربعة عشر يوما، وكان أجدادنا يقطعونه في أربعة أيام على خيل البريد، ومن هذا الطريق سار عمرو بن العاص سنة 19 للهجرة لفتح مصر، فنزل العريش، ثم أتى الفرما، وبها على رواية البلاذري قوم مستعدون للقتال، فحاربهم فهزمهم وحوى عسكرهم، ومضى إلى الفسطاط، والفرمى أو الفرماء كان حصنا على ضفة البحر، يحمل إليه ماء النيل في المراكب من تنيس، ويخزن أهله ماء المطر في الجباب، وكان بعض أهلها قبطا، وبعضهم من العرب، وقد ورد ذكرها كثيرا في شعر أهل القرون الأولى، وفي الفرما أرق الخليفة المأمون - رضي الله عنه - لما سار إلى مصر فبات فيها، وقد ذكر بغداد ونعيمها وقصورها فقال:
لليلك كان بالميدا
ن أقصر منه بالفرما
غريب في قرى مصر
يعاني الهم والسدما
والميدان من أحياء دار السلام، والسدم الهم مع الندم والحزن، ذكر المقريزي أن الدرب الذي يسلك فيه إلى مصر في القرن التاسع للهجرة، لم يحدث إلا بعد الخمسمائة من سني الهجرة عندما انقرضت الدولة الفاطمية، وفي المسالك والممالك أن الطريق من دمشق إلى الكسوة اثنا عشر ميلا (كذا والميل بحسب اصطلاحهم ثلاثة آلاف ذراع بالهاشمي، والذراع أربعة وعشرون إصبعا، والإصبع أربع شعيرات ظهر واحدة إلى ظهر الأخرى، والشعيرة أربع شعيرات من ذنب بغل)، ثم إلى جاسم بلد أبي تمام الطائي أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى فيق أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى طبرية مدينة الأردن ستة أميال، ومن طبرية إلى اللجون عشرون ميلا، ثم إلى القلنسوة عشرون ميلا، ثم إلى الرملة مدينة فلسطين أربعة وعشرون ميلا، والطريق من الرملة إلى أزدود (؟) اثنا عشر ميلا، ثم إلى غزة عشرون ميلا، ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلا في رمل، ثم إلى الواردة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى أم العرب عشرون ميلا، ثم إلى الفرما أربعة وعشرون ميلا ، ثم إلى جرير ثلاثون ميلا، ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلا، ثم إلى مسجد قضاعة ثمانية عشر ميلا، ثم إلى بلبيس واحد وعشرون ميلا، ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلا، فهذه ثلاثمائة وخمسة وستون ميلا تبلغ نحو سبعمائة كيلومتر.
وكان الدرب المسلوك من مصر إلى دمشق من بلبيس إلى الفرما في البلاد التي كانت تعرف ببلاد السباخ من الجوف، ويسلك من الفرما إلى أم العرب، وهي بلاد خراب على البحر فيما بين قطية والواردة، فلما خرج الفرنج من بحر القسطنطينية في سنة تسعين وأربعمائة، أغار بغدوين صاحب الشوبك على العريش، وهو يومئذ عامر، بطل السفر حينئذ من مصر إلى الشام، وصار يسلك على طريق البر مع العرب مخافة الفرنج إلى أن استنقذ السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بيت المقدس من أيدي الفرنج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فصار يسلك هذا الدرب على الرمل إلى أن ولي ملك مصر الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل، فأنشأ مدينة الصالحية في سنة أربع وأربعين وستمائة، فلما ملك الظاهر بيبرس البندقداري رتب البريد في الطرقات، حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل إلى دمشق في أربعة أيام ويعود في مثلها، فصارت أخبار الممالك ترد إليه في كل جمعة مرتين، ويتحكم في ممالكه بالعزل والولاية وهو مقيم بالقلعة، وأنفق في ذلك مالا عظيما حتى تم ترتيبه، وكان ذلك في سنة تسع وخمسين وستمائة.
وما زال أمر البريد مستمرا فيما بين القاهرة ودمشق، يوجد بكل مركز من مراكزه عدة من الخيل المعدة للركوب، وتعرف بخيل البريد، وعندها عدة سواس، وللخيل رجال يعرفون بالسواقين، واحدهم سواق يركب مع من رسم بركوبه خيل البريد؛ ليسوق له فرسه، ويخدمه مدة مسيره، ولا يركب أحد خيل البريد إلا بمرسوم سلطاني، وتارة يمنع الناس من ركوبه إلا من انتدبه السلطان لمهماته، وتارة يركبه من يريد السفر من الأعيان بمرسوم سلطاني، قال صاحب الخطط: وكانت طريق الشام عامرة، يوجد بها عند كل بريد ما يحتاج إليه المسافر من زاد وعلف وغيره، ولكثرة ما كان فيه من الأمن أدركنا المرأة تسافر من القاهرة إلى الشام بمفردها راكبة أو ماشية لا تحمل زادا ولا ماء، فلما أخذ تيمورلنك دمشق وسبى أهلها، وحرقها في سنة ثلاث وثمانمائة خربت مراكز البريد، واشتغل أهل الدولة بما نزل بالبلاد من المحن عن إقامة البريد، فاختل بانقطاعه طريق الشام خللا فاحشا.
قالوا: والبريد خيل تشترى بمال السلطان، ويقال لها: السواس والعلوفات، وهي مقررة على عربان ذوي إقطاعات عليها خيول موظفة تحضر في هلال كل شهر إلى كل مركز أصحاب النوبة بالخيل، فإذا انسلخ الشهر جاء غيرهم، وهم لهذا يسمون خيل الشهارة، وعلى الشهارة وال من قبل السلطان، يستعرض في رأس كل شهر خيل أصحاب النوبة فيه، ويدوغها بالداغ السلطاني، وقد أنشأ أمراء مصر وملوكها مثل كريم الدين وكيل الخاص الناصري، والملك الأشرف خليل، وفخر الدين كاتب المماليك، وناصر الدين الدوادار التنكزي، وطاجار الدوادار، وكافل الشام الطنبغا، والظاهر بيبرس البندقداري وغيرهم؛ خانات ورباطات وفنادق ومساجد وآبارا ودساكر لأبناء السبيل، وكان الطريق في بعض الأدوار يتحول قليلا من أول الكورة إلى آخرها، ولكنه لم يخرج قط في كونه من مصر من الغرب إلى الشرق، ثم يعرج في بلاد الشام نحو الشمال قليلا حتى دمشق.
وكان حمام الزاجل الذي هو بمثابة تلغراف أجدادنا، يسير من القاهرة إلى بلبيس ومنها إلى الصالحية، ومن الصالحية إلى قطية، ومن قطية إلى الواردة، ومن الواردة إلى غزة، ومن غزة إلى القدس، ومن غزة إلى نابلس، ومن غزة إلى لد، ومن لد إلى قاقون، ومن قاقون إلى جينين، ومن جينين إلى صفد، ومن جينين إلى بيسان، ومن بيسان إلى أربد، ومن أربد إلى طفس، ومن طفس إلى الصنمين، ومن الصنمين إلى دمشق.
وكان الثلج ينقل على الهجين من بلاد الشام إلى حضرة السلطان بقلعة الجبل بالقاهرة، وقد جاء زمن وهو لا يحمل إلا في البحر خاصة - كما جاء في التعريف بالمصلح الشريف - ومن الثغور الشامية بيروت وصيدا، ويفرض على البقاع وبعلبك أرفادهما في ذلك ، وكان يسيرا فكثر، وقرر منه على طرابلس مما استقر على جبة بشرى والمنيطرة من عمل لبنان اليوم، والمركب تأتي دمياط في البحر، ثم يخرج الثلج إلى الشرابخانات الشريفة، ويخزن في صهريج أعد له، وأصبح في القرن الثامن يحمل في البر والبحر، ومدة ترتيب حمله من حزيران (يونيو) إلى آخر تشرين الثاني (نوفمبر)، وعدة نقلاته في البر 71 نقلة متقاربة مدة ما بينها، وقد صار يزيد على ذلك، ويجهز بكل نقلة بريدي يتداركه، ويجهز معه ثلاج خبير بحمله ومداراته، يحمل على فرس بريد ثان، والمرصد في كل نقلة خمسة أحمال، والمستقر في كل مركز له ستة هجن، خمسة للحمل وواحد للهجان، قال العمري: ولا يصل الثلج متوفرا إلا إذا أخذ الثلج المجلد وأجيد كبسه، واحترز عليه من الهواء، فإنه أسرع إذابة له من الماء. وكذلك كانت المناور مواضع رفع النار في الليل، والدخان في النهار للإعلام بحركات العدو، وقد أرصد في كل منور الديادب والنظارة لرؤية ما وراءهم وإيراء ما أمامهم، وهي من أقصى ثغور الإسلام إلى حضرة السلطان بقلعة الجبل، حتى إن المتجدد بكرة بالفرات كان يعلم بها عشاء، وهذه المناور بدخانها ونيرانها أشبه بالهليوستاو الأبجكتيف لعهدنا.
هكذا كان طريق مصر إلى القرن التاسع للهجرة، وهذا أقصى ما بلغته مدنية القوم في أسباب النقل والراحة، وينزل اليوم في هذه النفود - أي الرمال المتراكمة كما يسميها العرب - أناس من عرب مصر يرجعون في أصولهم إلى بطون وأفخاذ معروفة عندهم، تعرفهم بسيماهم، ضئال الأجسام، صفر الوجوه على نحو ما وصفهم واصفوهم في القرون الوسطى، وهم شاوية يقومون على تربية الشاء ولهم جمال قليلة، وزروعهم في الأكثر الشعير في الشتاء والبطيخ في الصيف، ولهم نخيل قليل في بعض واحاتهم وبالقرب من سبخاتهم، ولا حجر في ديارهم يبنون به بيوتهم، ومساكنهم حقيرة يصنعونها من الخوص، فلا هم بادية يأوون إلى الخيام، ولا هم حضر كالعرب النازلين منذ القديم في ريف مصر كالفيوم والشرقية وغيرهما من مديريات القطر مثلا، ولهجاتهم أقرب إلى لهجة سكان جنوبي الشام منها إلى اللهجة المصرية، ومن فلسطين يكتالون، وفي فلسطين يقضون شطرا من السنة في رعي أغنامهم وماعزهم، ولم تعمل الحكومة المصرية شيئا لارتقائهم سوى أنها نشرت أعلام الأمن على ربوعهم؛ ولذلك ترى تجار الإبل يأتون بها من بلاد نجد والجزيرة والشام، ولا يزالون يحاذرون اعتداء السراق عليها حتى يبلغوا رفح، وعندها يوقنون بأنه لا يضيع لهم في تلك البادية عقال بعير، وكان عرب هذه النفود من قبل مثلا سائرا في الاعتداء على السابلة، وهم اليوم معفون من الضرائب والخدمة العسكرية، وغريب كيف لا ينالهم قسط من مدنية مصر، فحرموها كما حرموا الاستمتاع بماء النيل العذب وتربة واديه الممرعة. •••
هذه النفود هي الحد الطبيعي بين مصر والشام، بل الحد الصناعي الذي اصطلحت عليه مؤخرا الحكومتان المصرية والعثمانية في رفح والعقبة، بل الحد الفاصل بين قارتي آسيا وأفريقيا، لم يحل في كل الأزمان دون اختلاط أهل هذين القطرين الشقيقين، ومن قرأ تواريخ الجبرتي وابن إياس والسخاوي وابن حجر والغزي وغيرهم، يدرك أن هجرة السوري إلى مصر ترد إلى مئات من السنين، ومن بحث في أنساب من تولوا أعمال الحكومة المصرية، وشاركوا مصر في سعودها ونحوسها من العلماء والتجار والصناع، يجد فيهم كثيرا من الشاميين، وكذلك الحال في المصريين ببلاد الشام، فلا عجب إذا كان حظ مصر والشام واحدا في السراء والضراء، وعلائقهما الاقتصادية موفورة مستحكمة، وليس أعلق بالقلوب من الصلات المالية، وإنا لنرى الشام أمس واليوم وغدا تتأثر لأقل أزمة مالية في مصر، كما أن هذه تتأذى من العوارض السماوية أو الأرضية كلما اجتاحت الشام، فمصر والشام هما قطران بالاسم، ولكنهما بالفعل قطر واحد، جرى الاصطلاح على تسمية كل منهما باسم، وكل منهما متمم لصاحبه، حتى لقد سئل أحد عمال الدولة العثمانية في القرن الماضي عن رأيه في القطرين فقال: مصر مزرعة حسنة والشام مصيف جميل.
وإذ قد عرفنا أن أجدادنا أحسنوا الانتفاع من مجاورة القطرين العزيزين، ساغ لنا أن نطالب في هذا العهد بزيادة أواخي الإخاء بينهما من طريق البر على نحو ما هي عليه من طريق البحر، فيسعى العقلاء من الماليين إلى نيل امتياز، يربط عاصمة الشام بعاصمة مصر بخط حديدي عريض، حتى يأتي الراكب في أربع عشرة ساعة بدلا من أربعة عشر يوما، وإذا أحب القائمون بالأمر الاكتفاء بوصل السكة الجديدة مع أقرب الطرق إلى مصر، فما عليهم إلا أن يكتفوا الآن بإيصاله إلى القدس، وهذه ستتصل هذا العام بخط حيفا مبدأ السكة الحجازية من محطة العفولة، والمسافة بينهما لا تقل عن مائة كيلومتر، تمد على نفقة إدارة الخط الحجازي، ومعلوم أن حيفا مرتبطة بدرعا ودمشق، وعندها يسهل على ابن مصر الاصطياف في جبال الشام، وتبعث هذه بحبوبها وثمارها، وترسل مصر إلى الشام بشيء من مدنيتها وعلومها وانتظامها، ويخلص كل من يريد أن يخلص إلى مصر من هذه الرمال الموحشة المرعشة والمفازة المدهشة المعطشة التي تعوذ منها كل من اجتازها وقاسى الأمرين من مائها البشع المر المهوع المتروح، ولولا أنني تسليت عن المأكل والمشرب في الأيام الخمسة التي قضيتها في اجتياز هذه المفاوز بما سمعته من أحاديث رفاقي العرب في الإبل حتى صرت كأنني بعض رعاتها؛ لطال علي أمرها، ولكني حملت النفس على أن تتعلم الصبر من تلك الجمال، وطبقت فيها بالعمل ما قرأته بالنظر أيام الطلب من مصطلحات العرب في إبلهم وحدائهم، فصار مذهبي - ولا فخر - جماليا بعد أن كان جماليا، وعلمي بالأباعر عمليا وكان من قبل نظريا.
وكأن رحلتي في الشهر الماضي إلى الحجاز وجنوبي الشام ونزولي على أهل البادية من أهل المدر والوبر كانت مقدمة لما امتحنت به هذا الشهر من مواكلة الأعراب في صحفة واحدة والتخلي عن الملعقة والشوكة والسكين والفوطة والكأس، والأكل من أطعمتهم، وهي الثمن أرز العراق، والبرغل جريش الحنطة، والتمر والخبز المعمول بالملة أو على الصاج، يسجر ببعر الأباعر، والإدام في هذه الأيام يخالطه رمل، وهذا يدخل في كل مأكول ومشروب تسفوه الرياح طوعا أو كرها. ولقد صدق الواصفون منذ القديم لهذه الجفار بأن «الخبز إذا أكل يوجد الرمل في مضغه، فلا يكاد يبالغ فيه».
وإني أحمد الله إليكم على أني قضيت أيام هذه الرحلة ولياليها برمتها لم أطالع فيها جريدة ولا مجلة ولا كتابا، ولا وقعت عيني على ورقة، ولا مسكت قلما، ولا كتبت محاضرة ولا مقالة ولا نكتة، ولا قيدت شاردة، ولم أسمع غير حداء الإبل وغناء الأعراب، ولم يصل فكري إلى أبعد من عمل القهوة البدوية وأكل التمر، ولم يبلغ أذني غير أحاديث الإبل، فأصبحت - ولله المنة - أستعذب تردادها استعذابي لترديد أخبار المدنية، ومن نعم المولى علي أني رأيت صورة مصغرة من عيش أهل جزيرة العرب تمشي بين بلاد الشام ومصر، ودرست نموذجا صالحا من أخلاق العرب بالاختلاط بتجار الجمال ورعاتها، ممن كانوا يختلفون إلينا ونختلف إليهم كل مساء وصباح، فلم أسمع كلمة هجر وبذاء وتجديف قط، وما تبينت في أخلاقهم إلا الجد الذي ليس وراءه جد، والعزيمة التي تخور أمامها العزائم، والبحث على الدوام فيما هم بسبيله من التجارة والعناية برعية إبلهم والقيام على صحتها، فكان وجود السبط والأرطة والقطف والحمط من العريش إلى قطية فالإسماعيلية، وغير ذلك من الأشواك والأعشاب كالشيخ والرتم التي تستطيبها أنعامهم أهم لديهم من كل حديث، وأشهى لقلوبهم من كل نغمة، وأفعل في نفوسهم من كل نعمة من نعم الجمال والكمال.
قضيت - ويا لسعادتي - أسبوعين كاملين في عالم الأباعر والبعران والإبل والحوار والبطين والبطنان والكثيب والكثبان وشين وزين، وترد وتصدر وندلج ونسري وننشد ونمرخ ونضحى ونعشى، وغير ذلك من فصح العربية الباقية على أسلات ألسن أولئك العرب الأميين، ولو أردت أن أستوفي ما سمعته من هذا القبيل لاستغرق مجلدا برأسه، وما أحلى ما سمعته من أحدهم وهو يقول لصاحبه: يا فلان! خذ من فلان كذا جنيها وأنت الفالج؛ أي الرابح من الفلج وهو الظفر. وكيف لا أؤخذ بما وعيت ورأيت، وأنا طول هذه الفترة لم أسمع نميمة ولا غيبة، ولا شهدت كذبا ولا منكرا، وكان أولئك الأعراب بأجمعهم مواظبين على صلواتهم بدون تكلف، يتيممون يوم يقل ماؤهم، ولا يسرفون فيه إذا وجد، أخلاق طاهرة متينة، ما كنت أظنها باقية في البادية، وأرجو ألا تفقد بتاتا من أهل الحضر، ولو تهيأ لسكان اليمن - ونجد خاصة - شيء من المدنية الصحيحة لفاقوا - ولا جرم - الإنكليز السكسونيين بأخلاقهم وأناتهم ورويتهم، وإني لما خبرت القوم أيقنت بفساد القضية التي وضعها أحد الباحثين في أصول الشعوب من أن الطيش والرعونة والفسق تغلب على سكان البلاد الحارة، ومع أن بلاد هؤلاء الأعراب من الأقاليم الحارة جعلت منهم التربية الدينية المعتدلة أهل اعتدال وكمال ورجال مال وأعمال.
هذا، وقد أطلت حواركم حتى خفت عليكم التبرم بحديثي، وإني حامد شاكر لكل ما تم علي لإيقاني بأن الحوادث أكبر معلم، ولولا الحادثة الأخيرة في دمشق لما تيسر أن أبلغ مصر من شرقها وأن أستمتع بلقياكم الآن، وأرجو أن يدوم لي هذا الاستمتاع، ولكن على شرط أن يقيض الله للبلاد العثمانية من يغار على مصلحتها، وينقذها من سقطتها، وأسأل قاهر الجبابرة والسلاطين أن يمن علينا بنعمة الراحة أجمعين.
مدن العرب1
يظن بعض الجاهلين أو المتجاهلين لحسنات المدنية الإسلامية أن العرب إبان عزهم لم يأتوا شيئا يذكر في أعمال العمران، وأن قصاراهم أن تلقفوا بعض المدنية الفارسية واليونانية، وتمتعوا بها بضعة قرون، ثم نقلوها إلى من بعدهم من أمم المدنية الحديثة في الغرب، ويقول بعضهم: إنهم كانوا في فن البناء دون الرومان، وإن قصورهم الباقية لا تشهد بتفنن عجيب في الهندسة، على أن الباقي من آثارهم إلى اليوم في الأندلس ومصر والشام والعراق وفارس والهند شاهد أبد الدهر بإبطال دعوى المدعين، وما يحيك في صدورهم من الأهواء.
ولقد رأينا بعضهم يتوكئون في الحط من أقدار العرب في العمران على الفصل الذي عقده ابن خلدون في مقدمته في «أن العرب إذا تغلبوا على الأوطان أسرع إليها الخراب»، الذي قال في آخره: «وانظر إلى ما ملكوه وتغلبوا عليه من الأوطان من لدن الخليقة، كيف تقوض عمرانه، وأقفر ساكنه، وبدلت الأرض فيه غير الأرض، فاليمن قرارهم خراب إلا قليلا من الأمصار، وعمران العرب كذلك قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك، وإفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة، وتمرسوا بها لثلاثمائة وخمسين من السنين قد لحق بها، وعادت بسائطه خرابا كلها، بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمرانا، تشهد بذلك آثار العمران فيه من المعالم وتماثيل البناء وشواهد القرى والمداشر.»
هذا ما يحتجون به، ولو علموا أن مقصد ابن خلدون بالعرب هنا البدو أو البادية أو العربان الرحل كما نسميهم لعهدنا لارتفع كل إشكال، وإلا فإن المدن التي مدنها العرب أيام عزهم، والأمصار التي مصروها، والقرى التي عمروها، لا تدخل تحت حصر في كل قطر دخلوه ولو أياما مما لم يتيسر لغيرهم من الأمم كالترك مثلا، الذين حكموا الأقطار الواسعة العامرة بطبيعتها ستمائة سنة، ولا تكاد تعرف لهم مدينة أسسوها، ولا مواتا أخصبوه، ولا ماء أسالوه، وشغلهم الشاغل حروب وغزوات. هكذا مضوا أيام القوة، وهكذا الحال زمن الضعف.
ومن قرأ كتب وصف البلاد تجلى له مقدار عناية العرب ببناء مدنهم، خذ لك على سبيل المثال ما رواه الأقدمون في كيفية بناء سامرا أو سر من رأى إحدى المدن العباسية التي أنشئت على دجلة على مسافة ثلاثين فرسخا من بغداد، فقد قالوا: إن السفاح أراد أن يبني سامرا، فبنى مدينة الأنبار بحذائها، وأراد المنصور بعدما أسس بغداد بناءها، فابتدأ بالبناء في البردان، ثم بدا له وبنى بغداد، وأراد الرشيد أيضا بناءها، فبنى بحذائها قصرا، وهو بإزاء أثر عظيم قديم كان للأكاسرة، ثم بناها المعتصم، ونزلها في سنة 221، وكان الرشيد حفر نهرا عندها سماه القاطول، وأتى الجند وبنى عنده قصرا، ثم بنى المعتصم أيضا هناك قصرا، ووهبه لمولاه أشناس، فلما ضاقت بغداد عن عساكره، وأراد استحداث مدينة كان هذا الموضع على خاطره، فجاءه وبنى عنده سر من رأى، بنى دارا وأمر عسكره بمثل ذلك، فعمر الناس حول قصره حتى صارت أعظم بلاد الله، وبنى بها مسجدا جامعا في طرف الأسواق، وأنزل أشناس بمن ضم إليه من القواد كرخ سامرا، وهو كرخ فيروز، وأقام ابنه الواثق بسامرا حتى مات بها، ثم ولي المتوكل، فأقام بالهاروني، وبنى به أبنية كثيرة، وأقطع الناس في ظهر سر من رأى في الحيز الذي كان احتجزه المعتصم، واتسع الناس بذلك، وبنى مسجدا جامعا فأعظم النفقة عليه، وأمر برفع منارة لتعلو أصوات المؤذنين فيها، وحتى ينظر إليها من فراسخ، فجمعوا الناس فيه، وتركوا المسجد الأول، واشتق من دجلة قناتين شتوية وصيفية، تدخلان الجامع وتتخللان شوارع سامرا، واشتق نهرا آخر وقدره للدخول إلى الحيز، فمات قبل أن يتمم، وحاول المنتصر تتميمه فلقصر أيامه لم يتمم، ثم اختلف الأمر بعده فبطل، وكان المتوكل أنفق عليه سبعمائة ألف دينار.
ولم يبن أحد من الخلفاء بسر من رأى من الأبنية الجليلة مثل ما بناه المتوكل، فمن ذلك القصر المعروف بالعروس أنفق عليه ثلاثين ألف ألف درهم، والقصر المختار خمسة آلاف ألف درهم، والوحيد ألفي ألف درهم، والجعفري المحدث عشرة آلاف ألف درهم، والغريب عشرة آلاف ألف درهم، والشيدان عشرة آلاف ألف درهم، واليرج عشرة آلاف ألف درهم، والصبح خمسة آلاف ألف درهم، والمليح خمسة آلاف ألف درهم، وقصر بستان الألتاخية عشرة آلاف ألف درهم، والتل علوه وسفله خمسة آلاف ألف درهم، والجوسق في ميدان الصخر خمسمائة ألف درهم، والمسجد الجامع خمسة عشر ألف ألف درهم، وبركوان للمعتز عشرين ألف ألف درهم، والقلائد خمسين ألف دينار، وجعل فيها أبنية بمائة ألف دينار، والغرد في دجلة ألف ألف درهم، والقصر بالمتوكلية وهو الذي يقال له: الماحوزة، خمسين ألف ألف درهم، والبهو خمسة وعشرين ألف ألف درهم، واللؤلؤة خمسة آلاف ألف درهم، فذلك الجميع مائتا ألف ألف وأربعة وتسعون ألف ألف درهم.
وكان المعتصم والواثق والمتوكل إذا بنى أحدهم قصرا أو غيره أمر الشعراء أن يعملوا فيه شعرا، فمن ذلك قول علي بن الجهم في الجعفري الذي للمتوكل:
وما زلت أسمع أن الملو
ك تبني على قدر أقدارها
وأعلم أن عقول الرجا
ل تقضي عليها بآثارها
فلما رأينا بناء الإما
م رأينا الخلافة في دارها
بدائع لم ترها فارس
ولا الروم في طول أعمارها
وللروم ما شيد الأولون
وللفرس آثار أحرارها
وكنا نحس لها نخوة
فطامنت نخوة جبارها
وأنشأت تحتج للمسلمين
على ملحديها وكفارها
صحون تسافر فيها العيون
إذا ما تجلت لأبصارها
وقبة ملك كأن النجو
م تضيء إليها بأسرارها
نظمنا الفسافس نظم الحلي
لعون النساء وأبكارها
لو ان سليمان أدت له
شياطينه بعض أخبارها
لأيقن أن بني هاشم
تقدمها فضل أخطارها
وقال الحسين بن الضحاك:
سر من را أسر من بغداد
قاله عن بعض ذكرها المعتاد
حبذا مسرح لها ليس يخلو
أبدا من طريدة وطراد
ورياض كأنما نشر الزه
ر عليها محبر الأبراد
واذكر المشرف المطل من التل
على الصادرين والوراد
وإذا روح الرعاء فلا تن
س رواعي فراقد الأولاد
وله فيها وبفضلها على بغداد:
على سر من راء المصيف تحية
مجللة من مغرم بهواهما
ألا هل لمشتاق ببغداد رجعة
تقرب من ظليهما وذراهما
محلان لقى الله خير عباده
عزيمة رشد فيهما فاصطفاهما
وقولا لبغداد إذا ما تنسمت
على أهل بغداد جعلت فداهما
أفي كل يوم شف عيني بالقذا
حرورك حتى رابني ناظراهما
قال ياقوت: ولم تزل كل يوم سر من رأى في صلاح وزيادة وعمارة منذ أيام المعتصم والواثق إلى آخر أيام المنتصر بن المتوكل، فلما ولي المستعين، وقويت شوكة الأتراك، واستبدوا بالملك والتولية والعزل، وانفسدت دولة بني العباس، لم تزل سر من رأى في تناقص للاختلاف الواقع في الدولة بسبب العصبية التي كانت بيد أمراء الأتراك، إلى أن كان آخر من انتقل إلى بغداد من الخلفاء، وأقام بها وترك سر من رأى بالكلية المعتضد بالله أمير المؤمنين كما ذكرناه في التاج، وخربت حتى لم يبق منها إلا موضع المشهد، الذي تزعم الشيعة أن به سرداب القائم المهدي، ومحلة أخرى بعيدة منها يقال لها: كرخ سامرا، وسائر ذلك خراب يباب يستوحش الناظر إليها بعد أن لم يكن في الأرض كلها أحسن منها، ولا أجمل ولا أعظم ولا آنس ولا أوسع ملكا منها، فسبحان من لا يزول ولا يحول.
وذكر الحسن بن أحمد المهلبي في كتابه المسمى بالعزيزي قال: وأنا اجتزت بسر من رأى منذ صلاة الصبح في شارع واحد ماد عليه من جانبيه دور كأن اليد رفعت عنها للوقت لم تعدم إلا الأبواب والسقوف، فأما حيطانها فكالجدد، فما زلنا نسير إلى بعد الظهر حتى انتهينا إلى العمارة فيها، وهي مقدار قرية يسيرة في وسطها، ثم سرنا إلى الغد على مثل تلك الحال، فما خرجنا من آثار البناء إلى نحو الظهر، ولا شك أن طول البناء كان أكثر من ثمانية فراسخ.
وكان ابن المعتز مجتازا بسامرا متأسفا عليها، وله كلام منثور ومنظوم في وصفها، ولما استدبر أمرها جعلت تنقض، وتحمل أنقاضها إلى بغداد، ويعمر بها فقال ابن المعتز:
قد أقفرت سر من رأى
وما لشيء دوام
فالنقض يحمل منها
كأنها آجام
ماتت كما مات فيل
تسل منه العظام
وكتب على وجه حائط من حيطان سامرا الخراب:
حكم الضيوف بهذا الربع أنفذ من
حكم الخلائف آبائي على الأمم
فكل ما فيه مبذول لطارقه
ولا ذمام به إلا على الحرم
وكتب عبد الله بن المعتز إلى بعض إخوانه يصف سر من رأى، ويذكر خرابها ويذم بغداد وأهلها ويفضل سامرا: كتبت إليك من بلدة قد أنهض الدهر سكانها وأقعد جدرانها، فشاهد اليأس فيها ينطق وحبل الرجاء فيها يقصر، فكأن عمرانها يطوى ، وكأن خرابها ينشر، وقد وكلت إلى الهجر نواحيها، واستحث باقيها إلى فانيها، وقد تمزقت بأهلها الديار فما يجب فيها حق جوار، فالظاعن منها ممحو الأثر، والمقيم بها على طرف سقر، نهاره أرجاف وسروره أحلام، ليس له زاد فيرحل ولا مرعى فيرتع، فحالها تصف للعيون الشكوى، وتشير إلى ذم الدنيا بعدما كانت بالمرأى القريب جنة الأرض وقرارة الملك، تفيض بالجنود أقطارها عليهم أردية السيوف وغلائل الحديد، كأن رماحهم قرون الوعول، ودروعهم زبد السيول، من خيل تأكل الأرض بحوافرها، وتمد بالنقع سائرها، قد نشرت في وجوهها غررا كأنها صحائف البرق، وأمسكها تحجيل كأسورة اللجين، ونوطت عذرا كالشنوف في جيش يتلقف الأعداء أوائله، ولم ينهض أواخره، وقد صب عليه وقار الصبر، وهبت له روائح النصر، يصرفه ملك يملأ العين جمالا والقلوب جلالا، لا تخلف مخيلته ولا تنقض مريرته، ولا يخطئ بسهم الرأي غرض الصواب، ولا يقطع بمطايا اللهو سفر الشباب، قابضا بيد السياسة على قطار ملك لا ينتشر حبله، ولا يتشظى عصاه، ولا تطفأ جمرته في سن شباب لم يجن مأثما وشيب لم يراهق هرما، قد فرش مهاد عدله وخفض جناح رحمته راجما بالعواقب الظنون، لا يطيش عن قلب فاضل الحزم بعد العزم ساعيا على الحق يعمل به، عارفا بالله يقصد إليه، مقرا للحلم ويبذله، قادرا على العقاب ويعدل فيه، إذ الناس في دهر غافل قد اطمأنت بهم سيرة لينة الحواشي خشنة المرام، تطير بها أجنحة السرور، ويهب فيها نسيم الحبور، فالأطراف على مسرة، والنظر إلى مبرة قبل أن تحث مطايا الغير وتسفر وجوه الحذر، ما زال الدهر مليا بالنوائب طارقا بالعجائب، يؤمن يومه ويغدر غده؛ على أنها - وإن جفت - معشوقة السكنى وحبيبة المثوى، كوكبها يقظان، وجوها عريان، وحصاها جوهر، ونسيمها معطر، وترابها مسك أذفر، ويومها غداة، وليلها سحر، وطعامها هنيء، وشرابها مريء، وتاجرها مالك، وفقيرها فاتك، لا كبغدادكم الوسخة الومدة الهواء، جوها نار، وأرضها خبار، وماؤها حميم، وترابها سرجين، وحيطانها نزوز، وتشرينها تموز، فكم من شمسها من محترق، وفي ظلها من غرق ، ضيقة الدار قاسية الجوار، ساطعة الدخان، قليلة الضيفان، أهلها ذئاب وكلامهم سباب، وسائلهم محروم ومالهم مكتوم، لا يجوز إنفاقه ولا يحل خناقه، حشوشهم مسابل وطرقهم مزابل، وحيطانهم أخصاص وبيوتهم أقفاص، ولكل مكروه أجل وللبقاع دول، والدهر يسير بالمقيم، ويمزج البؤس بالنعيم، وبعد اللجاجة انتهاء والهم إلى فرجة ولكل سائلة قرار، وبالله أستعين وهو محمود على كل حال.
غدت سر من را في العناء فيا لها
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
وأصبح أهلوها شبيها بحالها
لما نسجتها من جنوب وشمأل
إذا ما امرؤ منهم شكا سوء حاله
يقولون: لا تهلك أسى وتجمل
ويطول بنا المقال إذا أردنا استقصاء أسماء المدن العربية كلها من شواطئ بحر الظلمات في الغرب إلى شواطئ المحيط الهندي في الشرق، قال البلخي: ومن يحصي بناة المدن وواضعي القرى ومن يعلم مبادئ إنشائها إلا الله عز وجل، وهبنا أخبرنا بمدن فارس على نحو ما نجد في كتبهم، والمدن التي أحدثت في الإسلام لقرب العهد وجدة التاريخ، فمن لنا بمدن الهند والصين والروم والترك، وليس كل مدينة أو قرية مبنية منسوبة إلى بانيها؛ لأنه قد تسمى المدينة باسم الباني أو باسم لها قبل حدوثها أو باسم ماء أو شجر أو شيء ما، وقد يجوز أن يجتمع قوم بموضع من المواضع، فيصير ذلك مدينة، فهذا يبين لك أن كل مدينة لا يوجب بانيا لها قاصدا إليها، إلى أن قال: والكوفة مصرها سعد بن أبي وقاص، وكان بها رمل فسميت به، ويقال لها: الكوفان، والبصرة مصرها عتبة بن غزوان، وسماها بحجارة بيض كانت في موضعها، وواسط بناها الحجاج، ويقال لذلك واسط القصب، ويقال: بل توسطت البصرة والكوفة، وبغداد سميت باسم موضع كان قبلها، ويقال لها: الزوراء، ويقال: بغ اسم صنم، وسمتها الخلفاء مدينة السلام، وأول من بناها جعفر المنصور، بنى بها قصر الخلد، بناها في الجانب الغربي من دجلة، وجعل حواليها قطائع لحشمه ومواليه وأتباعه كقطيعة الربيع والحربية وغيرها، ثم عمرت وتزايدت، فلما ملكها المهدي جعل معسكره في الجانب الشرقي ، فسمي عسكر المهدي، وتزايدت بالناس والبناء.
قال البلخي: فاعلم أن المدن تبنى على ثلاثة أشياء، على الماء والكلأ والحطب، فإذا فقدت واحدة من هذه الثلاثة لم تبق. قال بعض الجغرافيين: مصرت البصرة على يد عتبة بن غزوان سنة أربعة عشرة، وعظم أمرها حتى سميت قبة الإسلام، ولها نخيل متصلة من عبداس إلى عبدان نيف وخمسون فرسخا، ثم بني بعد ذلك واسط، بناها الحجاج بن يوسف سنة ثمان وسبعين، وهي جانبان بينهما جسر على دجلة طوله ستمائة وثمانون ذراعا، وفي الجانبين جامعان، ثم لما استخلف الله من بني العباس السفاح بنى مدينة قريبة من الكوفة وسماها الهاشمية، ثم رحل عنها إلى الأنبار فعمرها وسكنها، ولم يزل بها إلى أن مات، فلما ملك أخوه المنصور بنى على دجلة بغداد، ويقال: إن اسمها بك دار معناه دار العدل بالتركية، كأنهم قالوا: الحاكم العادل، وسميت مدينة السلام؛ لأنها يسلم فيها على الخلفاء؛ ولأنها على دجلة نهر السلام، وفي تسميتها بغداد وبغذاد وبغذاذ وكان ابتداء بنائها في سنة خمس وأربعين ومائة، وتم بناؤها في سنة تسع وأربعين، ثم ضاقت بالجند والرعية، فبنى المهدي ولد المنصور مدينة تجاهها سماها الرصافة سنة إحدى وخمسين، ولبغداد من المدن والبلاد صرصر وقصر ابن هبيرة مدينة بناها يزيد بن عمر بن هبيرة.
وإليك الآن شذرة قليلة مما عثرنا عليه بالعرض من مدن العرب وأمصارهم، فمنها شيراز وهي مدينة إسلامية بناها محمد بن أبي القاسم الثقفي على أثر بناء قديم، ومدينة قم كورها الرشيد، وجعل لها اثنين وعشرين رستاقا، بنيت زمن الحجاج سنة ثلاث وثمانين، وكان مكانها تسع قرى، فجمعت وصارت محالا، وكان اسم إحدى القرى كميدان، فأسقطوا بعض الحروف للإيجاز والاختصار وأبدلوا الكاف قافا.
والمنصورية في الهند مدينة بنيت في صدر الإسلام وتسمى بالهندية تاميران، كان موضعها غيضة، يحيط بها خليج من نهر مهران، والحلة في العراق بناها سيد الدولة صدقة بن دبيس سنة خمس وأربعين وأربعمائة، وتسمى الكوفة الصغرى لكثرة ما فيها من التشيع، وأردويل وتسمى أردبيل في بلاد أذربيجان مصرت أيام الرشيد، وإنما سميت باسم أردبيل بن أرميني، ومراغة بناها محمد بن مروان بن الحكم، وكانت قبل مراغة لدوابه فسميت بذلك، ومرند بناها الأفشين على أثر بناء قديم، ومزيد بناها مراد بن الضحاك، ومن بلاد أرمينية مدينة شمكور، وكانت مدينة قديمة أخربتها الصناوردية، ثم جددها بغا سنة أربعين ومائتين وسماها المتوكلية، ومن مدن الجزيرة مدينة أذرمة، بناها الحسن بن عمر بن الخطاب التغلبي، وبنى المنصور إلى جانب مدينة الرقة قصبة ديار مضر مدينة وسماها الرافقة سنة خمس وسبعين، فخربت الأولى وبقى الاسمان واقعين على مدينة واحدة، ومن المدن حضرموت في اليمن مدينة الشحر ولم تكن بمدينة، وكان الناس ينزلون منه في إخصاص، فبنى الملك المظفر صاحب اليمن مدينة به حصينة بعد سنة سبعين وتسعمائة، وكذلك بلاد مهرة ومصرها ظفار، بناها أحمد بن محمد، وسماها الأحمدية في سنة عشرين وستمائة.
وجدد قتيبة بن مسلم سمرقند، وأحاط بها سورا دوره سبعون ألف ذراع، وذلك سبعة عشر ميلا ونصف ميل، هو بالفرسخ نحو ستة فراسخ، ومدن بخارى كرمينية وبيكند والطواويس بناها قتيبة بن مسلم أيضا، ومن مدن خراسان الجبلية ذوات الكور العريضة والأعمال الفسيحة سرخس وبوزجان وسامان وبيورد مدينة وزوزن وكومن بناها عبد الله بن طاهر، كما بنى مدينة شهرستان من أعمال خراسان، وبنى في إقليم مازندران دهيسان ثغرا على طرف مغارة، كما بنى يزيد بن المهلب سنة ثمان وتسعين مدينة بكراباد في ذاك الصقع نفسه.
وبنى عمرو بن العاص الفسطاط (مصر)، وبنى أحمد بن طولون القطايع، ولما ملك العبيديون مصر بنى جوهر مولى المعز مدينة فوق القطايع وسماها القاهرة، وفي إفريقية مدينة المهدية بناها المهدي العبيدي سنة ست وثلاثمائة، ومدينة بونة بنيت بعد الخمسين وأربعمائة، ومدينة بجادته وهي مدينة حسنة البناء طيبة الفناء، بناها الناصر بن علناس أحد بني حماد سنة سبع وخمسين وأربع مائة، ومدينة وهران بنيت سنة تسعين ومائتين، ورباط الفتح في سلا من أعمال طنجة بناها عبد المؤمن، وقصر الفرج بناه المنصور من بني عبد المؤمن، والسوس الأقصى يقال: إن أول من عمره وأجرى فيه الأنهار عبد الرحمن بن مروان بن الحكم وفيه مدن كثيرة، وقصبتها تامدلت مدينة سهلية جبلية مسورة من بناء عبد الله بن إدريس، ومن بلاد السوس مدينة إيغلي بانيها عبد الله بن إدريس أيضا، ومراكش بناها يوسف بن تاشفين الصنهاجي سنة 490، ويلي مراكش فاس، وهي مدينتان إحداهما عدوة الأندلس بنيت سنة 292، والأخرى عدوة القرويين بنيت سنة ثلاث وتسعين ومائة، وسوق حمزة بناها حمزة بن سليمان العلوي، وأشير بناها زيري، والمسيلة بناها محمد بن عبيد الله المهدي المنعوت بالقائم وسماها المحمدية، وقلعة بني حماد بناها حماد بن زيري، والقيروان اختطها عقبة بن نافع، ومدينة بطليموس بالأندلس بناها عبد الرحمن بن مروان، ومدينة تطيلة بنيت أيام الحكم بن هشام، والهارونية من أعمال الفاكية بناها هارون الرشيد.
وسلمية بالشام على سيف البرية بناها عبد الله بن صالح وعلي بن عبد الله بن عباس وطرابلس المستجدة بعد طرابلس الشام بجيش المسلمين في مملكة الملك المنصور وسيف الدين قلاوون الصالحي، بنيت في سفح ذيل من أذيال جبل لبنان بكورة من أكوار طرابلس، بعدها عن طرابلس القديمة الخربة نحو من خمسة أميال على شاطئ نهر يجري إلى البحر، وهي المدينة المعروفة اليوم البعيدة عن الميناء المعروفة بميناء طرابلس الشام، والممصر لمدينة أنطرسوس معاوية بن أبي سفيان في أيام عثمان بن عفان حين غزا قبرص، ومدينة عكا بناها عبد الملك بن مروان، ومرعش من بناء خالد بن الوليد، وجددها مروان بن الحكم ثم المنصور بعده، وسميت الثغور؛ لأن المطوعين من أهل الحوزة كانوا يرابطون فيها، ويغزون مدن الروم، وأذنة (أطنة) بناها الرشيد على نهر سيحان.
وطرسوس بنيت في أيام هارون الرشيد، والمصيصة بناها المنصور، وعسكر مكرم نزلها مكرم بن مطرف اللخمي فصارت مدينة ونسبت إليه.
ومدينة الأقلام بإفريقية مدينة أحدثها آل إدريس، وسيلة مدينة أحدثها علي بن الأندلسي أحد خدم القائم بحانه، وهي المرية من الأندلس محدثة، ومدينة الزهراء بناها عبد الرحمن بن محمد خط فيها الأسواق، كما قال ابن حوقل، وابتنى الحمامات والخانات والقصور والمتنزهات، واجتلب إلى ذلك بناء العامة، وأمر مناديه بالنداء ألا من أراد أن يبني دارا أو يتخذ مسكنا بجوار السلطان، فله أربعمائة درهم، فتسارع الناس إلى العمارة، فتكاتفت وتزايدوا فيها فكادت أن تتصل الأبنية بين قرطبة والزهراء.
هذا ما التقطناه في هذه العجالة، ولعل بعض الباحثين يتوسعون في هذا الموضوع في رسالة على حدة، يذكرون فيها جميع ما أقامه العرب من الأمصار والقرى وأعمال العمران كالطرق والجسور والأنهار والترع، وغير ذلك مما يفيد في تصور المدنية العربية، ويدعو الأخلاف إلى التطريس على آثار الأسلاف.
سماع الألحان1
فن الغناء نشأ مع البشر منذ طفوليتهم، وتدرج في درجات العلو ودركات الهبوط بحسب ارتقاء الأمم. ولقد كان له شأن وأي شأن عند الأمم الراقية في القديم على ما دلت عليه روايات التوراة والصور التي وجدت في النواويس المصرية والنقوش البارزة في قصور نمرود وخراساباد، حيث مثلوا الموسيقيين
2
والمغنين، وأدوات الطرب كالشبابة والبوق والصنج والجنك والعود وغيرها، ومزامير داود مشهورة مذكورة.
أجمعت الأمم من جميع الطبقات (الموسيقى الشرقي) على حب الألحان حسب عاداتهم واصطلاح بلادهم، ولكل أمة ألحان ونغمات يستلذونها، ويفرحون بها، لا يستلذها غيرهم، ولا يفرح بها سواهم إلا بتعود سماعها، أو بمعرفة مواقع الطرب في أي لحن كان، ومن الدليل البين على أن لها تأثيرا في النفوس كون الناس يستعملونها تارة عند الفرح واللذة والأعراس والولائم، وأخرى عند الحزن والغم والمصائب والمآتم، وطورا في بيوت العبادات والأعياد، وآونة في الأسواق والمنازل وفي الأسفار والحضر وعند الراحة والتعب وفي مجالس الملوك ومنازل السوقة، ويستعملها الرجال والنساء والصبيان والمشايخ والعلماء والجهلاء والصناع والتجار وجميع طبقات الناس.
قال ابن ساعد: ومنفعة الموسيقى بسط الأرواح وتعديلها وتقويتها وقبضها أيضا؛ لأنه يحركها إما عن مبدئها، فيحدث السرور واللذة، ويظهر الكرم والشجاعة ونحوها، وإما إلى مبدئها فيحدث الفكر في العواقب والاهتمام ونحوها؛ ولذلك يستعمل في الأفراح والحروب وعلاج المرضى تارة، ويستعمل في المآتم وبيوت العبادات أخرى.
قال أفلاطون: من حزن فليستمع الأصوات الطيبة ، فإن النفس إذا حزنت خمد منها نورها، فإذا سمعت ما يطربها اشتعل منها ما خمد. وقال: إن هذا العلم لم تضعه الحكماء للتسلية واللهو، بل للمنافع الذاتية ولذة الروح الروحانية، وبسط النفس، وترويق الدم، أما من ليس له دراية في ذلك، فيعتقد أنه ما وضع إلا للهو واللعب والترغيب في لذة شهوات الدنيا والغرور بأمانيها.
قال الغزالي في الإحياء: لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح، حتى إنها لتؤثر فيها تأثيرا عجيبا، فمن الأصوات ما يفرح ومنها ما يحزن، ومنها ما ينوم، ومنها ما يضحك ويطرب، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على وزنها باليد والرجل والرأس، ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر، بل هذا جار في الأوتار حتى قيل: من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره، فهو فاسد المزاج ليس له علاج، وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده، فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه، وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه، والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثرا يستخف معه الأحمال الثقيلة، ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه، فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال، إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها، وتصغي إلى الحادي ناصبة آذانها، وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها، وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل، وهي لا تشعر به لنشاطها.
فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقى - رضي الله عنه - قال: كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب، فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه، فرأيت في الخباء عبدا أسود مقيدا بقيد، ورأيت جمالا قد ماتت بين يدي البيت، وقد بقي منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه، فقال لي الغلام: أنت ضيف ولك حق، فتشفع في إلى مولاي، فإنه مكرم لضيفه، فلا يرد شفاعتك في هذا القدر، فعساه يحل القيد عني، قال: فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت : لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد، فقال: إن هذا العبد قد أفقرني وأهلك جميع مالي، فقلت: ماذا فعل؟ فقال: إن له صوتا طيبا، وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال، فحملها أحمالا ثقالا، وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته، فلما حطت أحمالها ماتت كلها، إلا هذا الجمل الواحد، ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك قال: فأحببت أن أسمع صوته، فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقي الماء من بئر هناك، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل، وقطع حباله، ووقعت أنا على وجهي ، فما أظن أني سمعت قط صوتا أطيب منه.
قال الغزالي بعد إيراد ما تقدم: فإذن تأثير السماع في القلب محسوس، ومن لم يحركه السماع فهو ناقص، مائل عن الاعتدال، بعيد عن الروحانية، زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة؛ ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود - عليه السلام - لاستماع صوته، ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب، لم يجز أن يحكم فيه مطلقا بإباحة ولا تحريم، بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات، فحكمه حكم ما في القلب.
قال حجة الإسلام: إن الغناء اجتمعت فيه معان ينبغي أن يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها، فإن فيه سماع صوت طيب موزون، مفهوم المعنى، محرك للقلب، فالوصف الأعم أنه صوت طيب، ثم الطيب ينقسم إلى الموزون وغيره، والموزون ينقسم إلى المفهوم، كالأشعار وإلى غير المفهوم، كأصوات الجمادات، وسائر الحيوانات، أما سماع الصوت الطيب من حيث إنه طيب فلا ينبغي أن يحرم، بل هو حلال بالنص والقياس، أما القياس فهو أنه يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخصوص به، وللإنسان عقل وخمس حواس، ولكل حاسة إدراك، وفي مدركات تلك الحاسة ما يستلذ، فلذة النظر في المبصرات الجميلة كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن، وبالجملة سائر الألوان الجميلة وهي في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة، وللشم الروائح الطيبة وهي في مقابلة الأنتان المستكرهة، وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة، وهي في مقابلة المرارة المستبشعة، وللمس لذة اللين والنعومة والملاسة، وهي في مقابلة الخشونة والضراسة، وللعقل لذة العلم والمعرفة، وهي في مقابلة الجهل والبلادة، فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها، فما أظهر قياس هذه الحاسة ولذتها على سائر الحواس ولذاتها.
ونقل الغزالي أيضا عن أبي طالب المكي إباحة السماع عن جماعة فقال: سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، والمغيرة بن شعبة ومعاوية وغيرهم، وقال: قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي وتابعي بإحسان وقال: لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في أفضل أيام السنة، وهي الأيام المعدودات التي أمر الله عباده فيها بذكره كأيام التشريق، ولم يزل أهل المدينة مواظبين كأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا، فأدركنا أبا مروان القاضي، وله جوار يسمعن الناس التلحين قد أعدهن للصوفية، قال: وكان لعطاء جاريتان يلحنان، فكان إخوانه يستمعون إليهما، قال: وقيل لأبي الحسن بن سالم: كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يستمعون، فقال: وكيف أنكر السماع، وقد أجازه وسمعه من هو خير مني، فقد كان عبد الله بن جعفر الطيار يسمع وأنا أنكر اللهو واللعب في السماع.
هذا ما قال الغزالي، ونقله في السماع وفوائده، والمحرم منه في الإسلام ما كان مانعا عن العمل والعبادة محركا للشهوات البهيمية، كما أن آلات الطرب يكون حكمها حكم السماع والتلحين، وفي هذه المسألة مرادات واختلافات بين العلماء في القديم والحديث، ولكن العقلاء منهم اختاروا التوسط، والتوسط محمود في كل حال، فإنهم لم يقبلوا أن يخرجوا بالناس عن الطبع والطبيعة؛ لأنهم إذا منعوا ما هو ضروري من ضرورات الحياة لا يعود الناس يبالون ويسيرون بلا وازع، وعلى كل فإن الاعتدال هو غاية الغايات حتى في العبادة.
نحن في عصر أصبح فيه الغناء من الفنون ذات القواعد والروابط والأصول؛ ولذلك ترى المنشدين والمغنين والموسيقيين يختارون من الألحان ما يناسب الظرف الذي هم فيه، وتراعى به حالة المستمعين، وقد ادعى بعضهم أن من النغمات ما يطيب في يوم ولا يطيب في آخر، وبعض الألحان قد يكون لها من التأثير ما لا يكون لغيرها، ولا شك أن للحالة النفسية التي يكون عليها المغني والمغنى له دخلا كبيرا في الطرب، فقد وقع لنا أن طربنا مرات بشباب الراعي في الجبال أكثر من سماع الناي والقيثارة، وأن راقنا الغناء الطبيعي أكثر من المصنع الموقع على الألحان، وكثيرا ما يسمع المرء أمهر الموسيقاريين بين المنشدين، فلا يرتاح كما يرتاح لسماع بدوي في البادية يحدو ويتغنى، كأن النفس لا تميل إلا إلى الطبيعي من الأشياء الخالي من الطلاء الصنعي.
قال أبو المنذر هشام بن الكلبي: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج، فأما النصب فغناء الركبان والقينات، وأما السناد فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأما الهزج فالخفيف كله، وهو الذي يثير القلوب ويهيج الحليم، وإنما كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى من بلاد العرب ظاهرا فاشيا، وهي المدينة والطائف وخيبر ووادي القرى ودومة الجندل واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب، وكانت العرب تسمي القينة الكرنية والعود الكران والمزهر أيضا هو العود وهو البربط، وكان أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق طويس، وهو علم ابن سريج والدلال ونؤمة الضحى، وقالوا: غناء كل مغن مخلوق من قلب رجل واحد وغناء ابن سريج مخلوق من قلوب الناس جميعا، وكانوا يقولون: الغناء على ثلاثة أضرب: فضرب منه مطرب محرك ويستخف، وضرب ثان له شجى ورقة، وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعة.
الغناء مؤثر في البهائم فكيف لا يؤثر في الإنسان، هو يؤثر في الطيور والهوام، ولطالما شوهد العصفور والشحرور يرفرفان أمام مغن مطرب وآلة موسيقية شجية، وقد أخذهما الطرب فاقتربا يستمعان للأغاني، ورنات المثالث والمثاني كما يقترب الطروب من الأناسي، وشوهد أن الأفاعي خرجت من أوكارها تستمع لنغمة شاد أو ضربة موسيقار، بل شوهد أن من الغناء ما تهتز له جوانب القصور ، وترتج رفوفها وحيطانها، ولعل ما قيل من أن صوت فلان يطرب الجماد له من الواقع أو الوقائع ما يؤيده.
الألحان تصفي الأرواح، وتبعث النشاط في النفوس، فبها قد يجسر الجبان في ساحة الوغي، ويكرم الشحيح، ويرق الكثيف، ويلين القاسي، ويقوى الضعيف، ويعدل الظالم، ويعطف اللئيم، وخير الأغاني والأناشيد ما كانت ملحنة بألحان تناسبها معربة الألفاظ جيدة المعاني، وما قيل من أنه ليس على المطرب أن يعرب ليس صحيحا من أكثر وجوهه، فإن لجودة اللفظ والمعنى تأثيرا لا ينكره إلا مريض الذوق بعيد عن مناحي الآداب سقيم الفهم.
كان الناس في القديم لا يعرفون غير العود
3
والقانون والمزامير والشبابات والصلاصل والطارات والتغيير والكوبة من آلات الطرب، واليوم أتى الإفرنج بالأرغن والبيانو وغيرهما من أدوات الطرب، ولكن جل الاعتماد على البيانو لا يكاد يخلو منه بيت ذي نعمة في الغرب، يضرب به أولاده وزوجه وضيوفه، ويوقعون عليه أنواع الأغاني والأناشيد، وتعلمه فيما نحسب أسهل من تعلم العود المألوف في هذا الشرق الأقرب، والتغيير هو الغناء بالطقطقة بالقضيب، وإنما سمي تغييرا لأن محدثيه يسمون المغيرة، والكوبة طبل طويل ضيق الوسط ذو رأسين وهو المعروف بالدربكة في بلاد الشام.
قال يزيد بن عبد الملك يوما وذكر عنده البربط: ليت شعري ما هو؟ فقال له عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أنا أخبرك ما هو، محدودب الظهر أرسح البطن، له أربعة أوتار إذا حركت لم يسمعها أحد إلا حرك أعطافه وهز رأسه.
وقد ورد في الكتاب والسنة وسيرة أعاظم سلف الأمة إشارة إلى الغناء، وإلى تجوزهم في سماعه، وهم - ولا شك - أحسن قدوة في هذا الباب، قال القرطبي: ومن الاستدلال بالكتاب من ذلك أي على الغناء قوله تعالى:
ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله ، قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد وعكرمة: هو الغناء، وقوله تعالى:
واستفزز من استطعت منهم بصوتك ، قال مجاهد: إنه الغناء والمزامير،
وأنتم سامدون ، قال ابن عباس: هو الغناء، ومن السنة ما خرجه الترمذي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
رجع من بعض مغازيه، فجاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله! إني كنت نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف وأتغنى، فقال لها: إن كنت نذرت فاضربي، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب ثم دخل عمر، فألقت الدف تحتها، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان ليخاف منك يا عمر. وفي حديث عائشة أن امرأة زفت إلى رجل من الأنصار، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : يا عائشة! أما كان معهم لهو، فإن الأنصار يعجبهم اللهو. واللهو هو الغناء.
وحكي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قدم من سفر، فصعد النساء على السطوح يضربن بالدفوف ويقلن:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
روى ابن عبد ربه في العقد الفريد: قال بعض أهل التفسير في قول الله:
يزيد في الخلق ما يشاء
هو الصوت الحسن، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم
لأبي موسى الأشعري لما أعجبه صوته: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود.
كان أبو يوسف القاضي ربما حضر مجلس الرشيد وفيه الغناء، فيجعل مكان السرور به بكاء، كأنه يتذكر به نعيم الآخرة، وقال أحمد بن أبي دؤاد: إن كنت لأسمع الغناء من مخارق عند المعتصم، فيقع علي البكاء حتى إن البهائم لتحن إلى الصوت الحسن وتعرف فضله.
وكان صاحب الفلاحات يقول بأن النحل أطرب الحيوان كله إلى الغناء وأن أفراخها تستنزل بمثل الزجل والصوت الحسن، قال في العقد: وأردف النبي
صلى الله عليه وسلم
الشريد فاستنشده من شعر أمية فأنشده مائة قافية وهو يقول: هيه استحسانا لها، فلما أعياهم القدح في الشعر والقول فيه، قالوا الشعر حسن ولا نرى أن يؤخذ بلحن حسن، وأجازوا ذلك في القرآن وفي الأذان، فإن كانت الألحان مكروهة فالقرآن والأذان أحق بالتنزيه عنها، وإن كانت غير مكروهة فالشعر أحوج إليها؛ لإقامة الوزن وإخراجه عن حد الخبر، وما الفرق بين أن ينشد الرجل «أتعرف رسما كاطراد المذاهب» مرسلا أو ليرفع بها صوته مرتجلا، وإنما جعلت العرب الشعر موزونا لمد الصوت فيه والدندنة، ولولا ذلك لكان الشعر المنظوم كالخبر المنثور.
واحتجوا في إباحة الغناء واستحسانه بقول النبي
صلى الله عليه وسلم
لعائشة: أهديتم الفتاة إلى بعلها، قالت: نعم، قال: فبعثتم معها من يغني؟ قالت: لا، قال: أو ما علمت أن الأنصار قوم يعجبهم الغزل ألا بعثتم معها من يقول:
أتيناكم أتيناكم
فحيونا نحييكم
ولولا الحبة السمرا
ء لم نحلل بواديكم
واحتجوا بحديث عبد الله بن أويس ابن عم مالك، وكان من أفضل رجال الزهري، قال: مر النبي
صلى الله عليه وسلم ، بجارية بظل قارع وهي تغني:
هل علي ويحكم
إن لهوت من حرج
فقال النبي
صلى الله عليه وسلم : لا حرج إن شاء الله.
حدث عباس بن المفضل قاضي المدينة قال: حدثني الزبير بن بكار قاضي مكة عن مصعب بن عبد الله قال: دخل الشعبي على بشر بن مروان وهو والي العراق لأخيه عبد الملك بن مروان، وعنده جارية في حجرها عود، فلما دخل الشعبي أمرها، فوضعت العود، فقال له الشعبي: لا ينبغي للأمير أن يستحي من عبده قال: صدقتم، ثم قال للجارية: هات ما عندك، فأخذت العود وغنت:
ومما شجاني أنها يوم ودعت
تولت وماء العين في الجفن حائر
فلما أعادت من بعيد بنظرة
إلي التفاتا أسلمته المحاجر
فقال الشعبي: الصغير أكيسهما - يريد الزير - ثم قال: يا هذه، أرخي من بمك وشدي من زيرك، فقال له بشر: وما علمك، قال: أظن العمل فيهما، قال: صدقت، ومن لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه.
أرق معاوية ذات ليلة، فقال لخادمه خديج: اذهب فانظر من عند عبد الله (ابن جعفر وكان ضيفه أنزله في دار عياله بالشام) وأخبره بخروجي إليه، فذهب فأخبره، فأقام كل من كان عنده ثم جاء معاوية، فلم ير في المجلس غير عبد الله، فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس فلان، قال معاوية: مره يرجع إلى مجلسه، ثم قال: مجلس من هذا؟ قال : مجلس فلان، قال: مره يرجع إلى مجلسه، حتى لم يبق إلا مجلس رجل، فقال: مجلس من هذا؟ قال: مجلس رجل يداوي الآذان يا أمير المؤمنين، قال له معاوية: فإن أذني عليلة، فمره فليرجع إلى موضعه، وكان موضع بديج المغني، فأمره ابن جعفر فرجع إلى موضعه، فقال له معاوية: داو أذني من علتها، فتناول العود ثم غنى:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلم
بحومانة الدراج فالمتثلم
فحرك عبد الله بن جعفر رأسه، فقال معاوية: لم حركت رأسك يا ابن جعفر؟ قال: أريحية أجدها يا أمير المؤمنين لو لاقيت عندها لأبليت، ولئن سئلت عندها لأعطيت، وكان معاوية قد خضب، فقال ابن جعفر لبديح: هات غير هذا، وكانت عند معاوية جارية أعز جواريه عنده كانت متولية خضابه فغناه بديح:
وليس عندك شكر للتي جعلت
ما أبيض من قادمات الشعر كالحمم
وجددت منك ما قد كان أخلقه
صرف الزمان وطول الدهر والقدم
فطرب معاوية طربا شديدا، وجعل يحرك رجله، فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين، سألتني عن تحريك رأسي فأخبرتك وأنا أسألك عن تحريك رجلك، فقال معاوية: كل كريم طروب، ثم قام وقال: لا يبرح أحد منكم حتى يأتيه أذني، فبعث إلى ابن جعفر بعشرة آلاف دينار ومائة ثوب من خاص ثيابه، وإلى كل رجل منهم بألف دينار وعشرة أثواب.
روى المبرد في الكامل، قال: حدثت أن معاوية استمع على يزيد ذات ليلة، فسمع من عنده غناء أعجبه، فلما أصبح قال ليزيد: من كان ملهيك البارحة، فقال له يزيد: ذاك سائب خاثر، قال: إذن فاخثر له من العطاء. وحدثت أن معاوية قال لعمرو: امض بنا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو، وسعى في هدم مروءته حتى ننعي عليه أي نعيب عليه، فعله يريد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فدخلا إليه وعنده سائب خاثر وهو يلقي على جوار لعبد الله، فأمر عبد الله بتنحية الجواري لدخول معاوية، وثبت سائب مكانه، وتنحى عبد الله عن سريره لمعاوية، فرفع معاوية عمرا، فأجلسه إلى جانبه، ثم قال لعبد الله: أعد ما كنت فيه، فأمر بالكراسي، فألقيت وأخرج الجواري، فتغنى سائب بقول قيس بن الخطيم:
ديار التي كادت ونحن على منى
تحل بنا لولا نجاء الركائب
ومثلك قد أصبيت ليست بكنة
ولا جارة ولا حليلة صاحب
وردده الجواري عليه، فحرك معاوية يديه، وتحرك في مجلسه، ثم مد رجليه، فجعل يضرب بهما وجه السرير، فقال له عمرو: اتئد يا أمير المؤمنين، فإن الذي جئت لتلحاه أحسن منك حالا وأقل حركة، فقال معاوية: اسكت لا أبا لك، فإن كل كريم طروب.
وذكر ابن عميرة الضبي
4
في ترجمة محمد بن إسحاق بن السليم قاضي الجماعة بقرطبة أنه كان من العدول المرضيين والفقهاء المشهورين، وله عند أهل بلاده حالة مذكورة ومنزلة في العلم والفضل معروفة، وكان مع هيبته ورياسته حسن العشرة والأنس كريم النفس مات سنة 367، حدث القاضي أبو الوليد يونس بن عبد الله بن مغيث عرف بابن الصفار أن رجلا من أهل المشرق يعرف بالشيباني دخل الأندلس، فسكن بقرطبة على شاطئ الوادي بالعيون، فخرج قاضي الجماعة ابن السليم يوما لحاجة، فأصابه مطر اضطره إلى أن دخل بدابته في دهليز الشيباني فوافقه فيه، فرحب بالقاضي وسأله النزول، فنزل وأدخله إلى منزله وتفاوضا في الحديث، فقال له: أصلح الله القاضي عندي جارية مدنية، لم يسمع بأطيب من صوتها، فإن أذنت أسمعتك عشرا من كتاب الله عز وجل وأبياتا، فقال له: افعل، فأمر الجارية فقرأت له، ثم أنشدت فاستحسن ذلك القاضي، وعجب منه وكان على كمه دنانير، فأخرجها وجعلها تحت الفرش الذي جلس عليه، ولم يعلم بذلك صاحب المنزل، فلما ارتفع المطر ركب القاضي وودعه الشيباني، فدعا القاضي له ولجاريته.
ولا بأس هنا أن نختم هذا الفصل بأبيات في صنعة الغناء، نقلها الشريف المرتضى في أماليه قال: أخبرنا المرزباني قال: حدثنا علي بن هارون قال: حدثني أبي قال: من بارع شعر بشار قوله يصف جارية مغنية قال علي: وما في الدنيا شيء لقديم ولا محدث من منثور ولا منظوم في صفة الغناء، واستحسانه مثل هذه الأبيات:
ورائحة للعين فيها مخيلة
إذا أبرقت لم تسق بطن صعيد
من المستهلات الهموم على الفتى
خفا برقها في عصفر وعقود
حسدت عليها كل شيء يمسها
وما كنت لولا حبها بحسود
وأصفر مثل الزعفران شربته
على صوت صفراء الترائب رود
كأن أميرا جالسا في ثيابها
تؤمل رؤياه عيون وفود
من البيض لم تسرح على أهل ثلة
سواما ولم ترفع حداج قعود
تميت به ألبابنا وقلوبنا
مرارا وتحييهن بعد همود
إذا نطقت صحنا وصاح لنا الصدى
صياح جنود وجهت لجنود
ظللنا بذاك الديدن اليوم كله
كأنا من الفردوس تحت خلود
ولا بأس إلا أننا عند أهلنا
شهود وما ألبابنا بشهود
شرف الموسيقى
كل شيء يشرف، ويتضع بشرف القائمين به ووضاعتهم، وكل علم يشرف ويتضع على نسبة اعتبارية من فائدة تتوقع منه، وغاية تكون وراءه، وصناعة الموسيقى هي من إمارات الظرف، تعد عند الأمم الحديثة المتحضرة من الفنون الجميلة، كما كان يعهدها العرب إبان حضارتهم من الكماليات.
قال ابن خلدون: والغناء يحدث في العمران إذا توفر وتجاوز حد الضروري إلى الحاجي، ثم إلى الكمالي، وتفننوا فتحدث هذه الصناعة؛ لأنه لا يستدعيها إلا من فرغ من جميع حاجياته الضرورية والمهمة من المعاش والمنزل وغيره، فلا يطلبها إلا الفارغون عن سائر أحوالهم تفننا في مذاهب الملذوذات، وكان في سلطان العجم قبل الملة منها بحر زاخر في أمصارهم ومدنهم، وكان ملوكهم يتخذون ذلك ويولعون به، حتى لقد كان لملوك الفرس اهتمام بأهل هذه الصناعة، ولهم مكان في دولتهم، وكانوا يحضرون مشاهدهم ومجامعهم ويغنون فيها.
قال: وأما العرب فكان لهم أولا فن الشعر يؤلفون فيه الكلام أجزاء متساوية، لم يزل هذا شأنهم في بداوتهم وجاهليتهم، فلما جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدنيا، وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه، وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عرفت لهم مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ، وما ليس بنافع في دين ولا معاش، فهجروا ذلك كثيرا، ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي هو ديدنهم ومذهبهم، فلما جاءهم الترف، وغلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم، صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ، وافترق المغنون من الفرس والروم، فوقعوا إلى الحجاز، وصاروا موالي للعرب، وغنوا جميعا بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم، وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خائر مولى عبيد الله بن جعفر، فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر، ثم أخذ عنهم معبد وطبقته وابن سريج وأنظاره، وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم وابنه إسحاق وابنه حماد.
قال: وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها، وكان للموصليين غلام اسمع زرياب، أخذ عنهم الغناء، فأجاد فصرفوه إلى المغرب غيرة منه، فلحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل أمير الأندلس، فبالغ في تكرمته، وركب للقائه، وأسنى له الجوائز والإقطاعات والجرايات، وأحله من دولته وندمائه بمكان، فأورث بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف، وطما منها بإشبيلية بحر زاخر وتناقل منها بعد ذهاب غضارتها إلى بلاد العدوة بإفريقية والمغرب، وانقسم على أمصارها، وبها الآن منها صبابة على تراجع عمرانها وتناقص دولها.
وهذه الصناعة آخر ما يحصل في العمران من الصنائع؛ لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ والفرح، وهو أيضا أول ما ينقطع من العمران عند اختلاله وتراجعه.
قال ابن خلدون أيضا: ولقد عذلت يوما بعض الأمراء من أبناء الملوك في كلفه بتعلم الغناء وولوعه بالأوتار، وقلت له: ليس هذا من شأنك، ولا يليق بمنصبك، فقال لي: أفلا ترى إلى إبراهيم بن المهدي كيف كان إمام هذه الصناعة، ورئيس المغنين في زمانه، فقلت له: يا سبحان الله، وهلا تأسيت بأبيه وأخيه، وما رأيت كيف قعد ذلك بإبراهيم عن مناصبهم؟ فصم عن عذلي وأعرض.
هذه زبدة تاريخ الغناء أو الموسيقى في العرب، وطرف مما كان من عناية ملوك الإسلام بها أيام الحضارة. ولقد انتشرت بعد حتى صار يتعلمها بعض أهل العلم من غير نكير، وشرفت بإقبال الكبراء عليها، بحيث لم تكن في شرفها دون غيرها من العلوم، فقد ذكر ابن أبي أصيبعة أن الفارابي المعلم الثاني وصل في علم صناعة الموسيقى، وعملها إلى غاياتها، وأتقنها إتقانا لا مزيد عليه، ويذكر أنه صنع آلة غريبة يسمع عنها ألحانا بديعة يحرك بها الانفعالات، وله كتاب الموسيقى الكبير ألفه للوزير أبي جعفر محمد بن القاسم الكرخي، وكتاب في إحصاء الإيقاع، وكلام له في النقلة مضافا إلى الإيقاع كلام في الموسيقى، ويحكى أن القانون الذي يضرب عليه للطرب هو من وضعه، وأنه كان أول من ركب هذه الآلة تركيبها المعهود اليوم.
وألف يعقوب بن إسحاق الكندي فيلسوف العرب في الموسيقى، فكتب رسالة في ترتيب النغم الدالة على طبائع الأشخاص العالية وتشابه التأليف، ورسالة في المدخل إلى صناعة الموسيقى، ورسالة في الإيقاع، ورسالة في الأخبار عن صناعة الموسيقى، ومختصر الموسيقى في تأليف النغم، وصنعة العود ألفه لأحمد بن المعتصم، ورسالة في أجزاء جبرية الموسيقى.
وألف أحمد بن الطيب السرخسي العالم الحكيم كتاب الموسيقى الكبير، ولم يعمل مثله، كما ألف كتاب نزهة النفوس ولم يخرج باسمه، وكتاب اللؤلؤ والملاهي، ونزهة المفكر الساهي في الغناء والمغنين والمنادمة والمجالسة، وأنواع الأخبار والملح صنفة للخليفة.
وألف ثابت بن قرة كتابا في الموسيقى، ورسالة إلى علي بن يحيى المنجم فيما أمر بإثباته من أبواب علم الموسيقى، ورسالة إلى بعض إخوانه في جواب ما سأله عنه من أمور الموسيقى، وكان أبو بكر محمد بن طفيل من فلاسفة المسلمين في الأندلس، يأخذ رواتب كثيرة مع الأطباء والمهندسين والكتاب والشعراء والرماة والأجناد وغيرهم، ويقول: لو نفق عليهم علم الموسيقى لأنفقته عندهم.
وكان ابن باجة الفيلسوف الأندلسي على جلالة قدره متقنا لصناعة الموسيقى جيد اللعب بالعود، قال ابن سعيد: إن ابن باجة في الموسيقى بالمغرب بمنزلة أبي نصر الفارابي بالمشرق، وإليه تنسب الألحان المطربة بالأندلس التي عليها الاعتماد.
وكان ابن يونس المنجم المشهور يضرب بالعود على جهة التأدب، وكان أبو المجد بن أبي الحكم من الحكماء المشهورين يعرف الموسيقى، ويلعب بالعود، ويجيد الغناء والإيقاع والزمر وسائر الآلات، وعمل أرغنا وبالغ في إتقانه، وكان أبو زكريا يحيى البياسي من أفاضل العلماء جيد اللعب بالعود وعمل الأرغن أيضا وحاول اللعب به، وكان يقرأ عليه علم الموسيقى، وكان أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي العالم الرياضي الطبيب متقنا لعلم الموسيقى، وعمله جيد اللعب بالعود، وكان الحرث بن كلدة الثقفي أحد أطباء العرب يضرب بالعود، تعلم ذلك بفارس واليمن، وكان قسطا بن لوقا البعلبكي العالم الفيلسوف بارعا في علم الموسيقى، وكان أمين الدولة بن التلميذ يحب صناعة الموسيقى وله ميل إلى أهلها، وكان صفي الدين عبد المؤمن بن فاخر العالم المفنن عالما بالموسيقى، وكان نجم الدين بن المنفاخ المعروف بابن العالمة؛ لأن أمة كانت عالمة بدمشق، وتعرف ببنت دهين اللوز فاضلا في الأدب والطب، وله معرفة بالضرب بالعود، استوزره الملك مسعود صاحب آمد وحظي عنده، وكان فخر الدين بن الساعاتي الفلكي الفيلسوف الطبيب خدم بني أيوب، وتوزر للملك العادل والملك المعظم، وكان ينادم هذا ويلعب بالعود، وكان رشيد الدين بن خليفة الطبيب العالم أعرف أهل زمانه بالموسيقى واللعب بالعود، وأطيبهم صوتا ونغمة حتى إنه شوهد من تأثير الأنفس عند سماعه مثل ما يحكى عن أبي نصر الفارابي، فكثر إعجاب الملك المعظم به جدا، وبعد ذلك أخذه إليه واستمر في خدمته، وذكر ابن خلكان أن أبا بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب المشهور كان في شبيبته يضرب بالعود ويغني، فلما التحى وجهه قال: كل غناء يخرج من بين شارب ولحية لا يستظرف، فنزع عن ذلك وأقبل على دراسة كتب الطب والفلسفة.
وكان أبو الحسين علي بن الحمارة آخر فلاسفة الأندلس آخر من برع في الألحان وعلمها وهو من أهل غرناطة، قال في نفح الطيب: واشتهر عنه أن كان يعمد إلى الشعراء، فيقطع العود بيده، ثم يصنع منه عودا للغناء، وينظم الشعر ويلحنه، ويغني به فيطرب سامعيه، وكان الفاضل أبو الحسين بن الوزير أبي جعفر الوقشي آية في الظرف والموسيقى والتهذيب، وشيخه في هذا الفن أبو الحسين بن الحسن بن الحاسب، كان ذا ذوق فيها مع صوت بديع أشهى من الكأس للخليع، قال أبو عمران بن سعيد: ما سمعته إلا تذكرت قول الرصافي:
ومطارح مما تجس بنائه
لحنا أفاض عليه ماء وقاره
يثني الحمام فلا يروح لوكره
طربا ورزق بنيه في منقاره
وكان محمد بن أحمد بن أبي بكر القرموطي المرسي من أعرف أهل الأندلس بالعلوم القديمة - المنطق والهندسة والعود والموسيقى والطب - فيلسوفا طبيبا ماهرا، يقرئ الأمم بألسنتهم، فنونهم التي يرغبون فيها وفي تعلمها، ولما تغلب الإفرنج على مرسية عرف له حقه، فبنى مدرسة يقرئ فيها المسلمين والنصارى واليهود. قاله في النفح.
وعلى الجملة لم تكن صناعة الموسيقى بالمنزلة التي يصورها أهل جيلنا من الغضاضة والضعة، بل عرف بها أناس من أهل الصيانة والعلم، وما كان كل من تعاطى صناعة الغناء عاريا من سائر العلوم، فقد كان إسحاق بن إبراهيم الموصلي نديم الخلفاء وشيخ الغناء، ومع هذا كان من العلماء باللغة والشعر وأخبار الناس، وله يد طولى في الحديث والفقه والكلام، وكان المأمون يقول: لولا ما سبق لإسحاق على ألسنة الناس، واشتهر بالغناء لوليته القضاء، فإنه أولى وأعف وأصدق وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة، ولكنه اشتهر بالغناء، وغلب على جميع علومه مع أنه أصغرها عنده.
ومثل هذا ما وقع لقاضي إشبيلية أبي بكر بن القاضي أبي الحسن الزهري، فإنه كان كثير اللعب بالشطرنج، لم يكن من يلعب به مثله في بلده، قال: فكانوا يقولون أبو بكر الزهري الشطرنجي، فكان إذا بلغني ذلك أغتاظ ويصعب علي فقلت في نفسي: لا بد أن أشتغل عن هذا بشيء غيره من العلم لأنعت به، ويزول عني وصف الشطرنج، وعلمت أن الفقه وسائر الأدب ولو اشتغلت به عمري كله لم يخصني منه وصف أنعت به، فعدلت إلى أبي مروان عبد الملك بن زهر واشتغلت عليه بصناعة الطب، وكنت أجلس عنده وأكتب لمن جاء مستوصفا من المرضى الرقاع، واشتهرت بعد ذلك بالطب وزال عني ما كنت أكره الوصف به، وهذا هو السبب والله أعلم في إخفاء كثير من أهل الوقار والعلم أنهم على جانب من علم الموسيقى والضرب على العود وغيره من أنواع المذوذ، ولولا التقية لانتهى إلينا أسماء كثير ممن لم تبلغنا عنهم سوى أخبار العلوم المتعارفة، على أن الشرف كله اعتباري، ولا مانع من الغناء والتلحين إذا لم يتبعه التلطخ بحمأة السفاهة والرذيلة.
أما الملوك والأمراء الذين عنوا بالموسيقى قديما، فأكثر من أن يحصوا، منهم يزيد بن عبد الملك، ومسلمة بن عبد الملك، وأبو عيسى بن الرشيد، وعبد الله بن موسى الهادي، وإبراهيم بن عيسى بن جعفر المنصور، ومحمد بن جعفر المقتدر، والمتوكل، والمهدي، والمؤيد، وطلحة الموفق، والطائع، والمقتدر، وابن المعتز وغيرهم من الملوك المتأخرين والله أعلم.
الاستشفاء بالموسيقى1
قال أفلاطون: لم يبعث الأرباب فن الموسيقى لإدخال السرور على البشر واللذة على حواسهم، بل لتسكين اضطرابات نفوسهم وتهدئة تلك الحركات المشوشة التي لا مندوحة لجسد مليء بالنقص عن الشعور بها، وقد جعل الأطباء قديما وحديثا هذه الكلمات نصب أعينهم، عرف ذلك من ثباتهم على المحاولة في شفاء مرضاهم بالأنغام، فاستعملوا الموسيقى لشفاء أو تخفيف الصرع والسويداء والأب (النزاع إلى الوطن) والخبل وضيق الصدر والهوس والجنون والبلادة والسير والتكلم في حال النوم والخدر والنقطة والهستريا والسكتة والفالج والسرسام وداء الأعصاب والحميات والنقرس وعرق النسا والرثية والطاعون والحميراء والكلب وغيرها، كما استعملوها لشفاء الجروح والقرصات السامة ولتقوية الهضم والتنفس وترشيح الأخلاط، فللموسيقى شأن في الطب، وتستخدم للتمريض، وكانت تتم في القديم معرفة فنون الشعر والموسيقى والطب لشخص واحد.
يقول الين - الكاتب اليوناني من أهل القرن الثالث: إن ترباندر وتاليت وترتي كانوا أطباء موسيقيين، وأوصى كسينو كرات وأبقراط وإسكلبيادس وكاليين وأرتي وسليوس أورليانوس وتيوفراست باستخدام الموسيقى في عدة أمراض، عندما تنقطع الحيلة من العلاج في بعض الأدواء، وكان الأحياء والأموات يسمعون أدوات الطرب، قال مونارك: إن القدماء كانوا يسمعون المحتضرين بعض الألحان، وربما أسمعوها من قضوا نحبهم لعلهم تعود الحياة إليهم. وقال سليوس أورليانوس: إن فيثاغورث كان أول من استعمل الموسيقى في شفاء الأمراض، وإنه جرب ذلك في بلاد اليونان، وقال بورهان (1668-1738): لا بأس بنسبة جميع الخوارق التي رويت عن الرقيات والأشعار في شفاء الأمراض إلى الموسيقى التي كان قدماء الأطباء يجيدونها.
استعملت الموسيقى في عصرنا لمعالجة عامة الأمراض، فأصدر بونابرت أمره إلى أجواق موسيقى كتائب جيش الشرق أن تصدح كل يوم تحت نوافذ المستشفيات، ولا تزال أجواق الموسيقى العسكرية إلى اليوم في كثير من الحاميات في الولايات تذهب مرة أو مرتين في الأسبوع؛ لتنغم بأبواقها أمام مرضى الجند.
ولقد عزمت إحدى جمعيات الإحسان في إنكلترا على تحقيق تأثير الموسيقى في تسكين الآلام الطبيعية والأدبية في كثير من الأسقام، فألفت من مرضى الموسيقيين عصابة تقوم في مكان خاص بها، تتناوب العمل فيه ليل نهار؛ لنقل الأنغام الموسيقية بواسطة أسلاك الهاتف (التلفون) إلى قاعات مخصوصة من كل مستشفى كبير في لندرا، فأسفر ما جرى من التجارب في هذا الشأن حتى الآن عن نتائج مهمة، داخل ما نجم من الفوائد أن أخذ المضطربون من المرضى ينامون ملء جفونهم واستراحوا من التشويش والتبليل، وتألفت في سها لنبورغ جمعية من النساء المريضات لتصدح كل يوم بالقرب ممن أجريت لهم العمليات بالأنغام الموسيقية صوتية كانت أو آلية، فثبت أن درجة حرارتهم كانت تنزل وأن آلامهم تخف، ومثل ذلك جرب في مستشفى بلتون بإنكلترا.
والكمنجة هي الآلة المستعملة في الأكثر، وأحسن الآلات استعمالا في حال الأرق، علبة موسيقية بسيطة تدور بحركة ساعة دقاقة أو بمحرك كهربائي، بيد أن تأثير الموسيقى في المرضى يحتاج إلى درس طويل، إذا أخذ بمجموعه لا على التعيين.
نشر أحد أطباء الألمان كراسة في فعل الموسيقى في النفوس، فقال: إنها إذا أضعفت الأصحاء فهي تسكن حواس المرضى، وإنها لتنفع في أوجاع الرأس والدوار والإغماء، واستشهد على ذلك بامرأة كان صوت الأرغن يضيع رشدها فيعروها جذب، وكانت تلك الآلة بعينها تحدث نفس التأثر في فني طلياني كان مصابا بالدودة الوحيدة، وذكر روسو الفيلسوف أن كاهنا كان إذا سمع صوت الأرغن يتأثر حتى ليضطر إلى مغادرة الهيكل، وعلى العكس في رجل من قومه كان يستولي عليه وهو في حالة السماع ضحك عصبي يستلزم إخراجه من الكنيسة، ولاحظ الطبيب المشار إليه أن الموسيقى تعدل سير الدم وتحسن حالة النفس، فإذا كانت الأنغام الموسيقية حادة بهجة تبرق العين، وتزيد حمرة الوجه، ويسرع ضرب النبض ونمو حرارة الجسد، ويضرب القلب ويسهل الهضم، وإذا كانت الأنغام الموسيقية كئيبة وبطيئة تحدث للعين غشاوة، ويصفر الوجه، وتقل رطوبة الجلد، ويزداد تواتر الدم إلى القلب، ويضعف ضرب النبض، ويقل التنفس ويطول.
قال: وتفعل الموسيقى في المجموع العضلي، فبها يتحمل الجنود الشدائد والمتاعب، فتتضاعف قوتهم عندما يباشرون القتال، وتؤثر أيضا في التهييج العضلي، فإنك ترى أناسا يرقصون من الليل ويطيلون الرقص، وما كانوا ليقوموا بهذه الرياضة لولا سماع الأنغام، فالمرأة مهما بلغ من لطف مزاجها وتأثرها من أقل تعب ينالها يهون عليها الرقص ساعات على صوت آلات الطرب، ثم إن الملاح والمعدن والبحري يتغنون عندما يقومون بأعمالهم الصعبة.
يحب صاحب المزاج الدموي من الموسيقى ما أفرح وجاز على السمع، وكان طبيعيا في الوضع، ويفضل السوداوي من الموسيقى الشديد القاسي العالي، ولا يحب البلغمي شيئا من أنواع الموسيقى، أما أهل الدعة والسكون والعلماء فلا يجيدون الشعر ولا يحسنون صنعة الغناء، على أن في هذا القول نظرا؛ لأن القول بأن المزاج الفلاني لا يقبل النغم الفلاني هو ناشئ لا من المزاج فقط، بل من الوراثة والمحيط والتربية.
قال الذي أخذنا عنه هذه الأفكار، ونقلناها إلى لغتنا:
ولقد عرفت علماء لا يرتاحون للموسيقى، ورأيت من لا يفضلون شيئا عليها، وشهدت من يتوفرون عليها ويعتدلون في سماعها.
وضع الطبيب المنوه به ست قواعد لاستعمال الموسيقى في شفاء الأمراض: أولها: أنه كلما كانت الموسيقى طبيعية وأعربت عن اللغة الطبيعية في الفكر تؤثر في النفوس كثيرا، ولا سيما في نفوس من لم يتعلموا التعليم الكافي، ثانيها: لما كان لكل بلاد أنغامها الخاصة بها، فإن الموسيقى تؤثر في الروح كلما قربت من هذه الأنغام، ثالثها: ينبغي أن تكون الموسيقى متناسبة مع درجة تأثير الموضوع، رابعها: ينبغي أن يحدث تأثير الموسيقى ببطء، فيبدأ مع السوداويين باستعمال ألحان يتدرج فيها من الخفيف إلى القوي، ويستعمل من الألحان الشديد أمام أصحاب النفوس الغضبية، خامسها: اختيار الآلات المستعملة للغاية التي تطلب، فصاحب المزاج السوداوي يرتاح لسماع الطبل والبوق ذي الأنبوبتين
Trombon
وكذلك المزمار والعود يناسبان مزاجه، سادسها: تطرب الموسيقى الطبقات العالية أكثر مما تؤثر في الطبقات النازلة.
ومن رأي هذا الطبيب أن الموسيقى تشفي صاحب السويداء، كما تزول بها الكآبة والحزن وتبعد الخوف. ولقد أجمع الفلاسفة على أن شيئين إذا عادلا ثالثا يكونان متعادلين، فإذا كانت الموسيقى نافعة في إزالة الكدر والسويداء، فالكدر والسويداء هما في الحقيقة شيء واحد، إن أبقراط حدد السويداء بأنها الكدر والحزن، وهنا أورد صاحب المقالة حوادث من التاريخ في أوروبا - ولا سيما في فرنسا - تدل على ما نفع من الأنغام في مداواة بعض الأسقام، ولا سيما الجنون والاختلال وداء النقطة.
ثم قال: إن الإسلام انتفع من تأثير الموسيقى لتحريض أشياع الحسين الشهيد على الجذب والتهيج؛ وذلك بقرع الطبول المتواتر على إيقاع متساوق سريع، فيردد الشيعة على نغم الطنبور ألحانا مقفاة، حتى ينتهي الحضور بأن لا يعودوا يتأثرون للضرب ولا للجرح، وكذلك الحال في دراويش الهند، فإنهم يستعملون كلمة واحدة، ويكثرون من ترديدها، فتؤدي بهم إلى الجذب مصحوبا بقلة التأثر.
وبعد أن أفاض في إيراد حوادث القدماء وأخبار عنايتهم بالموسيقى في شفاء بعض الأمراض، قال: إن مراد الرابع (1623) أثرت فيه الموسيقى، فعقد النية على أن يبقي على إخوته الذين كان ينوي إهراق دمهم، وأن فرنسيس الأول بعث إلى سليمان الثاني بجوق من الموسيقى، فلاحظ هذا أن شراسة خلقه لطفت بسماع ألحانهم، فأسف من جراء ذلك كثيرا، ولم يلبث أن طرد للحال جميع الموسيقيين من حضرته. وجملة القول: إن الموسيقى تؤثر في الدورة الدموية في الإنسان والحيوان، ويزيد بها حفظ الدم وينقص، وتتبع هذه التقلبات تأثير تهييج الأعصاب السمعية.
وإن آلات الطرب والصفير ليظهر فعلها بتحسن في تشنج القلب خاصة، وتغيير الدم الناتج من تأثير الموسيقى يناسب تحول التنفس، وإن كان يتجلى ذلك مستقلا عن تحول التنفس، يزيد الستركنين في تأثير التهييج السمعي في الدورة الدموية، والكلورال على العكس يضعفه، والألكحول والأفيون يضعفان أيضا تأثير التهييج السمعي في الدورة الدموية، وتغيير الدورة الدموية تابع لارتفاع الصوت وشدته، بل لارتفاع الجرس ونزوله، ولتغيير الدورة الدموية دخل كبير في ذاتية الحيوان والإنسان، ولا سيما في جنسية الإنسان وتابعيته.
وعلى من أرد الوقوف على تأثير الموسيقى في أحد أعضاء الجسم سليما كان أو سقيما أن يفرق بين العناصر التي ينبعث منها ذاك التأثير، فالهزج واللحن والإيقاع تؤثر تأثيرات مختلفة بحسب تركيبها وتلحينها.
وفي الختام نقول: إن الاستشفاء بالموسيقى قديم العهد، وقد ظل محتفظا بمكانته العلمية والعملية على حالة واحدة رغم اختلاف العصور.
الموسيقى الغربية
مدعاة السرور، مجلبة النشأة، مسلاة الحزين، مفرجة الكروب، مهونة الخطوب، عنوان الحياة الداخلية، مظهر الأخلاق القومية، مصورة الفواعل النفسية أصدق عامل على التحمس والتحسس، أقوى دافع إلى النهوض، معلمة أنفع الدروس الشريفة، مذكرة بالمطالب العالية مما لا يعلمه الضعف، دافعة عن مزالق الشباب وطيش الحلوم، فيها يتجلى العقل البشري الفعال بإشارات وأي إشارات، تعمل عملها في الأفئدة والوجدانات.
هذه هي الموسيقى، وهذا ما يتوخاه الغربيون منها؛ ولذلك تجد لها في كل صقع من أصقاعهم نغمة ورنة، وفي كل مملكة من ممالكهم وترا خاصا، بل أوتارا تهز القلوب وتعمل عملها فتقوي الضعيف، وتجبر الكسير، وتهيب بالمستمع إلى ميدان المضاء، وتمكن فيه أواخي الحزم والعزم، وتطرد عنه الوساوس والهواجس وتجعله في الذروة، تشرف على التصورات البشرية فيتدبرها في سره، ويهيم ويتعلم ويطرب ويسلو.
تدخل الموسيقى عندهم في معظم مظاهر الحياة الخاصة والعامة، فلا مجتمع دينيا كان أو مدنيا، ولا ملهى ولا مسرح ولا ملعب ولا مرقص ولا مطعم ولا فندق إلا وللموسيقى في الغالب دخل كبير فيها، يتعلمونها صغارا ويرضعون حبها مع اللبن؛ لأن الحاجة إليها مغروسة في الفطرة البشرية، والدافع إليها الطبع أولا ثم التطبع، فكيف بهما إذا اجتمعا؟! ولذلك يحسنها أو يستحسنها رب الأسرة وصاحبة البيت، والطفل والابنة، والفتى والفتاة، والسيد والمسود، والموسر والمعسر، والعامل والماهن، والغلماني والكاهن، والكبير والصغير، والقائد والجندي، تساووا في حبها، وأجمعت كلمتهم على عموم نفعها والأخذ بحظ منها.
قال لي من طاف أميركا الشمالية وتوغل في ريفها وقراها: إن أصغر فلاح فيها يملك آلة البيانو يطرب عليها هو وأهله وأولاده وأصحابه، وقالت مدام دي ستيل: إنك لا تجد في سكان المدن ولا القرى ولا الجنود ولا الحراثين من لا يعرف الموسيقى في ألمانيا، ففي أحقر كوخ تسمع صوت الموسيقى على نحو ما تسمع ذلك في إيطاليا إلا قليلا، والأولاد والطلبة يطوفون يوم الأحد في الشوارع يمجدون الله وينشدون الأناشيد الحماسية.
آلات الموسيقى متحدة في الغرب، ولكن الصور التي تخرجها مختلفة، وإن أسمعوك في بلد ما هو من صنع غيرهم، فتسمع في كل أمة ألحان رجال الفن في أمة أخرى، وأمم الغرب مهما تباعدت في المقاصد، وتباينت في المصالح لا تجدها إلا متفقة في تمجيد المغنين من الموسيقيين يضربون أوتارهم من غير نكير، ولو بلغ الحقد أو التنافس أو التنابز مداه في صدورهم، فليس لهم شيء أجمعوا على تقديسه مثل نغمة تصدر في يد صناع، ولحن يلحنه نفس نفيس.
الشرقي أمام الموسيقى الغربية كالمقلد بالسمع، أو كمن يسمع بأذن غيره، يطول به العهد حتى يطرب لها طرب أهلها بها؛ لأن موسيقاه وأغانيه تخالف موسيقاهم وأغانيهم؛ ولأنه ألف نغمات أخرى، فهو وإن لم يفهمها ولكنها قريبة من مصطلح قومه، مؤتلفة مع مناخه ومحيطه ودرجة رقية وتاريخية، فالعربي يطرب من الموسيقى التركية، وبالعكس للمجاورة والألف، والفارسي يحب الموسيقى العربية لتمازج تاريخ أمته بالعرب، وكلما قويت الروابط بين الأمم وسهلت الشقة وارتفعت تأثيرات التخوم، والمبعدات بين القلوب، زاد طرب الجار من نغمة جاره.
سمعت الموسيقى في أكثر بلاد الغرب في إيطاليا والنمسا والمجر وسويسرا وألمانيا وإنكلترا وفرنسا وهولندة والبلجيك وإسبانيا، فكان طربي بالموسيقى الإسبانية أكثر من غيرها؛ لأنها تترشح من الأنغام العربية لتمازج تاريخ العرب بتاريخ الإسبان، وكذلك تطرب النفس بالموسيقى التركية لأنها ترشح من موسيقاته، وقد أتت قرون والعرب والترك متلاحمون في البلاد مشتدة روابطهم متحدة كلمتهم.
ولقد طربت من موسيقى أهل الغرب الأقصى وأهل الجزائر وأهل فارس طربي من الموسيقى الشامية، ودون طرب كل عربي بالموسيقى المصرية؛ لأنها أرقاها، وقد بلغت بالنسبة إلى سائر البلاد مرتقاها، تأثرت مرة لنغمة فارسي كان ينشدني قصيدة من نظمه في الحرية، وتأثرت مرة من فتاة صربية في قطار كانت ترنم بنغمتها الوطنية، وأنا لم أفهم معاني الفارسي ولا الصربية، ولكن ما ذهبت إليه النفس من التذكارات فعل فيها فعله فأخرجها عن كثافتها، وسمعت مؤخرا مغنية إسبانية في مسرح الأولمبيا في باريز تتغنى بالإسبانيولية، وتبيع بنفسجا ترشقه على الحضور، فكان منظرها وحركتها ونغمتها من أجمل ما رأته العين في الغرب، وطربت به حقيقة، وما ذلك إلا للأثر الناتج عن تأثيرات الموسيقى، وما يتذكر الإنسان من الوقائع والحوادث.
كان لنا في بر الشام موسيقى راقية، فكادت تندثر لزهد الناس في هذا الفن؛ لأنه دليل ارتقاء الأمة، والأمة كانت مشتغلة بنفسها ترجع القهقرى، وكان المشتغلون بهذا الفن مرذولين ممتهنين، فبينا نجد الموسيقار والمنشد في الأمم الأخرى عشير الملوك والرؤساء والعلماء منعما مرفها، إذا مات مشى في جنازته العظماء - كما فعل الفرنسيس بجنازتي سان ساينس وفوريه الموسيقيين، وعدوهما من المفضلين على أمتهم، ومجدوهما وقدسوهما، ترى مثيلهما في أرضنا مهانا لا يؤبه له، إن أخذ بفنه عاش فقيرا ومات خاملا حقيرا، وكم من نابغة في الموسيقى عندنا تخلى عن هباته خشية أن يلحق به العار، وزهد نفسه طوعا أو كرها بما يحبه، وكان في مستطاعه أن يبرز فيه لعلمه بضيق العيش من هذا الباب؛ ولأن صاحبه لا يعد في الطبقة التي هو حري أن يعد فيها.
جاء دور كان الفقهاء يعدون ساقطا من العدالة كل من يغني عندنا، ولا سيما إذا كان غنى بالأجرة،
1
ويتسامحون مع من يغني مع جماعة من أصحابه، وكانوا يعدونه فنا يفقر صاحبه، ولكن الغرب على العكس من ذلك، يفاخر بهذا الفن أعظم عظيم، ولا يستنكف أن يأخذ نفسه بأدبه، ويرزق عشرات الألوف منه، فإذا مات مات عن ثروة طائلة، وخلف لأهله مجدا وغنى.
ولو لم نر من نهضة الموسيقى آخرا وتشريف قدرها في مصر اليوم لسجلنا بأن هذه الأمة العربية جمعاء منحطة، وأي انحطاط عن أمم الحضارة الحاضرة، ولقلنا: إنها أمة مات شعورها في كل معنى، وهي والأمم المتوحشة سواء في أوضاعها وعاداتها وأسباب هنائها وراحتها.
الاستقلال والاتكال1
يطالع المستفيد مئات من كتب الفلسفة والأدب وعلوم العمران، فلا يعتم أن يستقل منها ما يأخذ مأخذه من العقول، ويحدث أثرا في النفوس، ولا عجب، فقد تنصرف وجهة الألوف إلى خدمة العلم وبث الملكات الصحيحة، فإذا فوضل بينهم ووضعت أعمالهم في ميزان النصفة وعلى محك الاستبصار يكثر الشائل ويقل الراجح، والمؤثرون في الأفكار في كل الأعصار والأمصار أندر من الغراب الأعصم والكبريت الأحمر، على أن كل من بذر بذورا طيبة لا ينفك مثلوجا فؤاده مهما تأخر نباتها وإيتاؤها، لعلمه بأنها ستؤتي أكلها عاجلا أو آجلا إذ لاءمتها طبيعة المنبت، وأحسنت تعهدها أيدي القائمين عليها.
وقد وقع شيء من هذا - إن صح حدسي - للكتاب الذي ألفه المسيو أدمون ديمولان الفرنساوي، وعربه أحمد فتحي بك زغلول المصري المسمى «سر تقدم الإنكليز السكسونيين»، فإنه أثر في الفرنسيس أثرا حسنا، وسرى قول مؤلفه في بلاد الإفرنج منذ نحو خمس سنين، فترجم إلى لغاتهم، وتناولته ألسن الناقدين والمسلمين، وعاد بعض المنشئين يرون رأي صاحبه، وينطقون بلسانه، ويكتبون بقلمه، ودل كثير من أهل العلم على مواقع الفساد من تربيتهم، ونقص الاستعداد من عاداتهم، وأشاروا إلى تخلفهم في حلبة تنازع البقاء عن جيرانهم الألمان والإنكليز والأميركان تخلفا يخشى معه أن يبتلعهم الجنس السكسوني، فيكون مستقبل العالم له دون سواه.
هكذا يقولون، وغير منكر أن الفرنسيس نفعوا الإنسانية نفعا لا تنكره، وكفاهم مفاداتهم بأبنائهم مرارا تخفيفا من سلطة الملوك ورفعا لغشاوة جهالة ظلت مسدولة على أوروبا قرونا، جعلتها وراء شعوب الأرض، فخلعت ربقة الاستعباد، وقررت حقوق الإنسان وقواعد الحرية والإخاء والمساواة، ونشرت المعارف في الأطراف حتى ابتذلت، واشترك في الأخذ من بحرها المحيط عامة الطبقات، فأصبح الحراث الفرنساوي يقرأ ويكتب، ويفهم أكثر من بعض من ندعوهم بالمنورين في بلادنا، وما يأخذه الآن بعض علماء الفرنسيس على أمتهم إن هو إلا من باب الاستزادة من الفضيلة، والدعوة إلى الكمال والسبق في ميدان التغلب والسيادة، نعم، إنه ليستنشق من غال المكتوب رائحة الغرض، ويعترض على بعضهم مبالغتهم في وصف أعراض الضعف، حتى أوشكت الفائدة أن تضيع، وينسب كل ما يخطونه إلى التشيع والتحزب، ويؤيد ذلك أن ما يكتب صادر من بلاد تأصل فيها الانشقاق الداخلي، وراجت بضاعة الأحزاب، وساد فيها تباين الآراء، فلا يكتب الملكي أو الكهنوتي إلا ويرمي ببصره إلى القديم يمجده، والتليد يبكيه وينشده، ولا يجهر الجمهوري إلا ويفاخر بما تم على يديه من ارتقاء ونماء، ولا ينبري الفوضوي أو العدمي أو الاشتراكي إلا ويستدعي الأمثلة، ويستجيش البراهين إعلانا بدعوته واستتماما لرغبته، ولكن فرنسا ما زالت بفضل أساسها القديم أم المدنية وربيبة الحضارة، وإن تقهقرت في سياستها وأخلاقها، فلمرتبتها الميزة على سائر الشعوب الأوروبية خلا السكسونيين، ولكن صحة الوطنية التي عرف بها مساعير أبطالها ومشاهير رجالها جعلتهم اليوم يفرطون في النصح والقدح. (1) استقلالهم
وبعد، فإن الأمم من حيث كيانها قسمان: استقلالية واتكالية، فالأمة الاستقلالية هي التي طبعت على حب الانفراد، يعتمد كل فرد منها على نفسه لا على حكومة ولا جمعية ولا حزب ولا عشيرة ولا أسرة:
وإنما رجل الدنيا وواحدها
من لا يعول في الدنيا على رجل
ومثالها الشعوب الإنكليزية السكسونية، والأمم الاتكالية هي التي يعتمد أفرادها على مجموعها من الأمة أو الدولة، فيتوكأ كل فرد على غيره، وأعظم مثال لها الأمم الشرقية حاشا سيدتها الأمة اليابانية العظيمة، فإن التربية الاستقلالية عندها على ما يبلغنا قائمة على أعظم هياكلها، وأبناؤها أبعد المشارقة عن النشأة الاتكالية.
وبديهي أن العلم وحده لا يكفي في سعادة الشعوب ما لم يقرن بالعمل، وفرنسا وقعت مع من وقع في مثل ذلك من أمم الخليقة، فزاد فيها التكالب على المصالح الهينة والوظائف اللينة، فكثر فيها الموظفون والمحامون والأطباء والمهندسون وأهل الصحافة والأدب، بحيث تعذر قبول من تخرجهم المدارس العالية باسمها، فسدت في وجوه الناشئة أبواب الرزق؛ لأن معظمهم يرى السعادة أن يعيش في باريس ونحوها من المدن الحافلة؛ ليستمتع برفاهها وأنسها ولو عاش في قل، وزهدوا في الاشتغال بالصنائع الحرة كالفلاحة والصناعة والتجارة، وذلك غير معهود عند من كان دمه سكسونيا؛ إذ لا يرى حطة عليه أن يحترف أيه حرفة مهما كان علمه واستعداده؛ ليضمن لنفسه وذويه مرتزقا فسيحا وعيشا استقلاليا لبابا، فإن لم يجد ما يعمل في بلاده يغادرها؛ ليستعمر مكانا آخر من الكرة، ويستوي عنده العيش بلندن أو برلين، والعيش في زيلندة الجديدة أو مستعمرة الرأس أو زنجبار، وإن شئت فقل في أقاصي صحاري أفريقيا حيث الوحوش ضارية، والسموم لافج، والعيش مر المذاق.
وتأييدا لذلك أنقل هنا ما صرح به أحد علماء الأخلاق من الفرنسيس بهذا الشأن قال: «يزعمون أن شهادة العالمية عندنا باب يدخل منه إلى كل سبيل، وتسلك بحاملها في كل مسلك، وهي على التحقيق لا تفتح إلا ثقبا كبيرا، هجم عليه أصحاب الرغبات من كل صوب، فاستغرقت الحرف الشريفة ووظائف الحكومة جملة، بحيث وجب على الأمة ألا تساعد على شر ما برح يتفاقم أمره منذ سبعة قرون، حتى صار جرحا نغارا، وضربة مبرحة، وأعني بذاك الشر داء الاستخدام والتوظف.
لا جرم أن الحركة التي بدأت طلائعها في فرنسا زمن فيليب الجميل أزعج أمرها على عهد لويس الرابع عشر، فزاد الحال إشكالا على أثر عودة الملكية إلى فرنسا، واستيلاء أسرة بوربون على منصة الحكم، وصار على عهد الجمهورية الثالثة الحالية أدهى وأمر، فإذا نشأ الأبناء على آسال آبائهم ولم يصلح حالهم يضيعون مجد أسلافهم، ويخربون مملكة قويت على الحوادث، على حين تعدهم عدتها في شدتها، وبيدهم إنقاذها وإسقاطها.
فالجيل الفرنساوي الحاضر سيء حاله ومآله، وهو إلى الكسل والجبن أميل منه إلى العمل والنصب، حتى يصح أن يقال: إن البلاد به أضاعت من فتائها، وأمست تسير إلى فلاة فنائها، ومن الأسف أن فرنسا التي كانت على مر العصور في مقدمة من يحسن الأعمال، وأول مثيرة لكل نجاح هي اليوم من حيث تهذيب أبنائها متقهقرة عدة قرون إلى الوراء، وكأن تعاليمها الآن هي عينها في القرون المتوسطة التي تركت ألمانيا وشأنها، إلى أن علا صوت جهوري من الشاعر كيتي
2
يبين للألمان مواقع الضعف، ومزالق المقاتل، ومداحض المخاطر، ويقود الأفكار إلى الحملة على كسر القيود، ونزع ربق الرق، وتجديد جدة الشباب، ينادي يا قوم هؤلاء الإنكليز أمعنوا في حالهم، وانسجوا على منوالهم، فإنكم وإياهم سواء في القيم، فما ضركم لو باريتموهم في الهمم؟ عملكم قليل ولا تحسنونه، وقلما تنهضون بأعبائه، وليس لكم نصيب مما أوتوا من مميز الواجب الشخصي والكفاءة الشخصية، وهما دعامتا القوى التي تشتد بها سواعد الملل. ولما كان كيتي يصرح بهذه الأفكار كانت ألمانيا بعيدة عن معاناة التجارة مقطورة في مؤخر الشعوب، ولم تمض على ذلك مائة سنة حتى استولى أنصار ذلك الشاعر الكبير والمتعظون بأقواله على محور التجارة، فهاج نشاطهم قلق الأمة التي حذوا حذوها، وإن الإنكليز لينظرون اليوم نظر المرتجف إلى انبساط ظل النفوذ الألماني بهذه السرعة والقوة، ويزعمون أنه لا بد من أن تخلف طوابع البرد الجرمانية الطوابع الإنكليزية قريبا.
كل هذا نتيجة تغير التربية وانتشار المعارف بين الأفراد وكثرة الكفاءات في كل فروع العمل، فمن العقل والحالة هذه أن يتدرع الفرنسيس بسلاح من العمل مفيد، ويعتاضوا من الركوب على متن عمياء بالجري في طريق جديد من إتقان المبادئ الصحيحة والأخلاق الفاضلة.
من رقاعة الفرنسيس أن يعتقدوا علو كعبهم في كل منحى ومنزع، ولو ذهب أحدهم إلى ألمانيا ودرس أحوالها عن أمم، لرأى شعبا كان يشكو مما نشكو منه، داء أصيب به زمنا فشفى نفسه من أوصابه، يرى السكسونية مجسمة بأبهى مظاهرها فيقدس «كارلايل»
3
ظهيرها ونصيرها، ويقيس حاله بالإنكليز على أنهم سباق غايات وأصحاب آيات بينات، ثم إذا قضى من تينك المملكتين لبانته، وعرف بالنسبة إليهما حالته، يركب البحر المحيط الأتلانتيكي ليتبصر فيما تورثه جدد الفضائل في هذا القرن الحديث، وينجلي له الفرق بين رغائبه ورغائب الأميركان.
لفرنسا نظارة للمعارف العمومية، ولأمريكا مدرسة للتربية، فالأولى تعلم والثانية تربي، الأولى تلقن أبناءها كلمات يحفظونها، والثانية تعلم مبادئ يسيرون عليها، تعد فرنسا أدمغة لحفظ قانون، وتهيئ أميركا أذرعا للعمل، الأميركان رجال عمل، والفرنسيس ليسوا كذلك، يغرس الأميركان في نفوس ناشئتهم شهامة الإرادة التي لا تجدي أجمل الهبات الخلقية بدونها، ولا يكون العلم نفسه إلا عطلا من النفع مع فقدها، وهذا هو القانون الذي سنه لهم فيلسوفهم إميرسون
4
تلميذ هيكل الألماني
5
القائل في فلسفته: إن الحياة ليست شغلا عقليا ولا مناقشة ومهاوشة، بل الحياة إنما هي العمل. ولقد علق في أعلى باب كل مدرسة بأميركا شعار معناه: إن تهذيب الخلق أسمى غاية للمدرسة، وعلى الشبان أن يحسنوا معرفة الحياة بإرادة ثابتة.»
ثم توسع الكاتب في بيان نقص تربية أبناء وطنه وعاد يقول:
يلزمنا رجال مهذبون لا رجال متعلمون، وفي فرنسا طبقتان من المدارس، أولاهما للصغار وثانيتهما للكبار، وبعبارة أجلى مدارس الصناع ومدارس المفكرين، أما حسن التربية الإنكليزية السكسونية ورجحانها على التربية الفرنساوية، فهي قائمة فيما أوتيه بعضهم من الصفات الشخصية مثل المروءة وحسن الخلق والحصافة والبداهة والجرأة والإقدام على المشروعات والاكتشاف والافتتاح والمخاطر، فبدلا من أن تنمي فرنسا في نفوس أبنائها هذه الصفات تغرس فيهم ملكات حب التآلف والاجتماع، تبث فيهم التأثر بدل المروءة، وتبث فيهم الخشية من أقوال الناس، فيشاكل المرء الجمهور بأقواله وأفعاله بدل تنشئتهم على خلق يبقى فيه الإنسان مستقلا بنفسه، وبدل الحصافة التي يتأتى بها للمرء إيجاد الأشياء بذاته تقوى فيه ملكة الذاكرة التي تعيد عليه ذكر الأشياء التي يحفظها مما عثر عليها غيره بالتجارب، وعوضا عن البداهة التي يتمكن بها المرء من تطبيق ما أوجده بنفسه تبث فيه الثقة، فيصبح عرضة لأغراض حكامه، وبدل الجرأة تبث فيه الحذر، وبدل الإقدام على المشروعات والفتوح والاستنفاض (فتح البلاد) تبث فيه ملكة الاقتصاد والسلم وحب السكن، وبدلا من اقتحام المخاطر تحسن له الرضى بالاستخدام.
ثم أجمل الكلام هنا على الفلاحين والصناع والتجار والعملة من مجموع الأمة الفرنساوية، وانتقل إلى الخيار من قومه، وعنى بهم العلماء والفلاسفة وأهل البصر، فقال مستندا إلى أقوال العلماء:
إن دماغ الجنس السكسوني متمدد ومحدود، وذكاءه تحليلي وجنسه جنس العمل والكد، وعلى عكسه دماغ الجنس الفرنساوي؛ فإنه موسع وذكاؤه تأليفي، وهو خيالي يعشق التصورات، وبالجملة يعنى الجنس الأول أبدا بالحقائق على حين يفضل الثاني الأفكار والخواطر، يجيد السكسوني في الغالب القيام على الأعمال المادية، وبعض الفرنسيس يحرزون قصب السبق في ميادين الذكاء المتسعة الأطراف .
ألا وإن قيمة الجنس السكسوني بمجموعه، وقيمة الجنس الفرنساوي بخياره، فالإفرنسي المتوسط لا يساوي الإنكليزي المتوسط، والإفرنسي العالي يساوي أكثر من إنكليزي عال، ولكن الخيار من الفرنسيس لا يشغلون المكانة التي يستحقونها؛ لأنهم مغلوبون للأخلاق الحالية، لم يستوفوا شروط النفع ولا أتموا أدوات التهذيب.
وأنجح طريقة يجب على فرنسا سلوكها تحسين تربية خيارها وتربية أفرادها، ومزج الخاصتين السكسونية والإفرنسية وتطبيق تربية جمهور الإنكليز على تربية خيار الفرنسيس ليأتي الغد ولفرنسا من وراء هذه التربية شعب صغير كالشعب الأثيني يهب لها فاتحين ذوي أفهام، ورجالا صحاح الأحلام، يساوون الجيوش، ويوازون كل عدد وعدة، ويخدمون أمتهم خدمة أرخميدس
6
وينقذون وطنهم إنقاذ تيمستوكلس.
7 (2) اتكالنا
بمثل هذا اللسان يخاطب الكاتب الفرنساوي أمته، ويقرعها تقريعا أمر من الصاب والعلقم؛ لتستفيق من غشية تخشى مغبتها، وتفلت من الوقوع في مخالب أسود السكسون؛ لئلا يكون حظها في الوجود حظ الأمم البائدة كالرومان واليونان والفرس والعرب، وما القصد من إيراد كلامه بنصه إلا ليحصل التمثيل بيننا وبين أمة نشابهها في الأعراض، وإن كانت أعلى منا جوهرا.
ولعله يخيل لبعض سكان هذه الديار أن الفرنسيس مثلهم في الانحطاط، وأن لهم بهم قدوة حسنة وأعظم سلوى، ولكن شتان بين حالنا وحالهم، ورجالنا ورجالهم، وحضارتنا وحضارتهم، أمة تشخص الداء، وتفكر في وصف الدواء، أو تشعر بنقصها وتسعى إلى كمالها، وأمة موقنة بأن داءها عين الصحة لا بأس عليها ولا خشية من ناحية حياتها، يرضيها نقصها فلا تريد استبدال غيره به، وكل من محضها النصح رمته بانحلال عقدة الوطنية والمروق من عهود الحمية وصدق التابعية.
لا جرم أن الرجل الفرنساوي الراغب في الاستخدام لا يشبه الرجل المصري أو السوري أو العراقي مثلا، فإن الأول يستعد ليحسن الاضطلاع بما يوسد إليه من أمر أمته، ومعظم هؤلاء على نقص في المدارك وانحطاط في الفضيلة، يطمحون إلى السعادة والسيادة بلا سابق معرفة سوى أواصر القربى أو التقرب أو أواخي المؤاخاة والتزلف أو وشائج الدرهم والدينار.
ولقد أصبح من الرأي المقرر بين الناس أن كل من ليس له علاقة بالحكام كعضو أصيب بالآكلة لا حيلة فيه إلا بالبتر أو الموت، بيد أنه لا تثريب على الفقير إذا رشح ابنه لأي خدمة كانت ليرتفع بها من الدنية، ما دامت البلاد صفرا من أصناف المعاش الذي يزعج صاحبه عن العيش الاتكالي ويورده موارد الاستقلال، بل اللوم كل اللوم على رجل يعد من نواصي أهل وطنه وعليتهم وله من العقار والقرى ما يسد عوزه وعوز مئات معه، وهو على ما له من الاعتبار بين جيله وقبيله يسف إلى الاستخدام في وظيفة؛ ليتباهى بها أمام العدو والصديق.
أعرف رجلا في إحدى مدن الشام الحافلة له عراقة في محتده، وأصالة بين قومه وسعة من دنياه، وتراه مع هذا يصرف من نهاره وليله في نيل الزلفى من الأمراء كبتا لخصومه، فيبذل كل عام في هذا السبيل من الصفراء والبيضاء ما يكفي لإعالة ألف نسمة من أصحاب البأساء، وكلما طعن في السن يزداد غلوا في مباديه وإصرارا على نكاية أعاديه، وهو دائما أجول من قطرب وأشغل من ذات النحيين، ومساعيه أبدا مخفقة، وآماله مخيبة، وهكذا حال خصمه اللدود له مال وبنون ومقام بين أهل حيه كريم، ولكن لا يهدأ له بال إلا بالجلوس على أرائك الحكم، ومقاعد التصدر، يتلمس لبنيه إذنا بملازمة الدواوين، مزاحمة لأولاد الفقراء ليستأثروا بعد بالرواتب دونهم، وينالوا المعالي بنفوذ والدهم عفوا صفوا.
ولو عقلا لاستعاضا عن التلهي بهذه السفاسف بإدارة شئون مزارعهما الواسعة، وتحسين طرقها وتنمية غلاتها وثمراتها، ولكن هو حب الرئاسة يستلب الألباب وفي الأمثال: «يا حبذا الإمارة ولو على الحجارة.»
ولطالما سمعنا أن فلانا غادر سكنه ومسكنه، تاركا دخلا يكفيه وعياله لأن يعيش عيش الاستقلال، فيوكل به من يسرق نصفه لينتظم في سلك الموظفين، ويأخذ من استخدامه ما يوازي النصف الذي فقده بغيابه ويغتذي من دماء الأمة سحتا بحتا وحراما محضا ليقال عنه: إنه من الموظفين، ويخاطب بالفضيلة والسعادة، ثم إذا كثر سواد أقرانه يقضي حياته قلق الضمير، وربما أنفق كل ما يملكه من تراث آبائه؛ ليرتقي إلى وظيفة أعلى من وظيفته، ويسبق من سبقوه أو هم لاحقوه، وما الموظفون في الحكومات الاستبدادية براغبين أن يعدوا من ممثليها ليحموا ما يملكونه من اعتداء المعتدي، وتعسف الظالم كما هي دعواهم، بل ليكونوا جلادين في تلك الدولة، ويسوغ لهم إتيان كل منكر أرادوه بلا وازع ولا رادع.
ألا وإن الأمثال لكثيرة على من آثروا العيش الاتكالي، ورضوا بالإسفاف إلى الدنايا كأصحاب الأوقاف ممن يرضون بالكفاف من العيش، ويقنعون بدريهمات تأتيهم من وراء أجدادهم، أضف إلى زمرتهم من حبسوا أنفسهم في الصوامع والجوامع مثل المدرس والمؤذن والخطيب ممن يكتفون بالنزر من المشاهرات، يقبضونها ببذل ماء المحيا، ويصرفون لأجلها من الأوقات ما لو صرفوه في بيع الثرى لأثروا به، ثم يرقبون ما يأتيهم من أجور الطلاق والمناكحات، ويتلمظون بطعام الولائم والوضائم، ويقنعون بتقبيل الأيدي ومصافحة المريدين، وكذلك حال الرهبان والقسيسين وسائر من يتصرف باسم الدين، وهم فائضون عن الحاجة، فكلهم يتقربون بالفاقة إلى مولاهم، ويستوكفون أكف الصدقات، وينتظرون قيم الصلوات والدعوات، وهذا الخلق مستحكم من المسلمين بحكم التربية أكثر منه بغيرهم من الطوائف.
إليك شرح الاتكال المجسم الذي شكا منه كبار الفرنسيس، وهو عندنا في أرقى درجاته، ولا نشكو ولا نتبرم، وأما شكواهم من كثرة المرشحين للحرف الأدبية فيقابله شكوانا من قلتهم إذا لم نقل من فقدهم، يعوزنا الصحفي العلامة، والطابع الماهر، والطبيب النطاسي، والمحامي الحاذق، والاقتصادي المدرب، والرياضي المنجذ، والطبيعي المتعقل، والمهندس الفطن، والسائح الثابت، والممثل الفاضل، ممن تبرم بكثرتهم في فرنسا صاحب سر تقدم الإنكليز السكسونيين، ولكننا نحن في غنية عن هذا العدد الدثر من الحاجب والكاتب والمصاحب، والجاسوس والمسجل، والرئيس والمرءوس، بل وألوف مؤلفة من أصحاب الرواتب بلا عمل الذين يأكلون مال الأمة بالباطل، ويعيشون على عاتقها حملا ثقيلا، فلا هم بوجودهم ينفعونها، ولا هم عن مغرمها غافلون.
أين حال الأغنياء والأعيان المتهافتين على المناصب في بلادنا من أهل تلك الطبقة في إنكلترا مثلا حيث الحكومة تخطبهم، والشعب يطلبهم، وشتان بين خاطب ومخطوب.
كتب أحد سراة بريطانيا إلى صديق له يقول: دع الناس يطلبون الأرزاق من الدولة، فأنا لا أنحو منحاهم؛ لأنني أقدر أن أكون غنيا بتسامي عن الدنايا، ولا أرتضي أن أشين خدمتي لوطني بفوائد ذاتية، فإني أعمل في بستاني بيدي وأجتزئ بالقليل من النفقة عن الكثير.
وهو - كما رأيت - كلام من يوقن أن الإمارة ليست بمذهب طبيعي للمعاش، بل كلام من ارتقى وتهذب وعلم علم اليقين أن الحكومات ليست إلا خادمة للأمم، وأن الشعب في غنية عنها ولا غنى لها عنه، فمتى يكون مثل هذا القول لسان حال أعيان بلادنا حتى لا يكونوا على أمتهم أضر من العث في الصوف والدودة في الكرمة، ولكن المشارقة انغمسوا في مضال الجهالة منذ قرون، حتى أصبحوا يقدسون حكامهم ومن انتسب إليهم، وغالوا في تعظيمهم إلى أن بلغوا بهم منازل الألوهية، وأنشئوا يستحلون لهم المحارم، ويطلقون عليهم ألقاب الربوبية.
وما برح الناس يبحثون عن داء المجتمع الإنساني، ويصفون له الأدوية وهو لا يزداد إلا تفشيا، وقد أعضل ما يسميه الغربيون بالمسألة الاجتماعية، حتى حار في طبها رجال العلم والسياسة، وأصبحت شغلا شاغلا لأهل المدارك السامية، ولذا قال صاحب سر تقدم الإنكليز السكسون: ليست المسألة الاجتماعية عبارة عن مساعدة الأفراد، كما أن مسالة الحياة لا تقوم بكثرة تناول الأدوية والعقاقير؛ إذ ليست المساعدة أو العقاقير من وسائل الحياة الطبيعية، وليست الحكمة إلا ما أدت إلى الاستغناء عن تلك الوسائل الصناعية، وليس من حل للمسألة الاجتماعية إلا جعل الأفراد بحيث يستطيع كل فرد منهم أن يقوم بأمر نفسه، وأن يرتقي بجده وعمله؛ لأن سلامة الاجتماع كالسلامة الأخروية تقوم بكل واحد على حدته، وعلى كل واحد أن يسعى إليها، وقولي هذا لا يروق في أعين الذين اتخذوا السياسة حرفة وغيرهم ممن طلبوا رزقهم من انحطاط الأمة، وضعف مدارك الطبقات النازلة، وكانت منفعتهم في بقاء الناس دائما على حالة يشبهون فيها القاصرين، حتى يتيسر لهم أن يكونوا عليهم أوصياء.
ونحن لو استشهدنا التاريخ لرأينا أجدادنا كانوا في منازع حياتهم أشبه بالجنس السكسوني، لا يعرفون مع بسطة الجاه واتساع الثروة والملك إلا النشأة الاستقلالية، بعيدين في كل أطوارهم عن السرف والترف، فقد اشتهر من سيرة الصديق الأكبر - رضي الله عنه - أنه كان يغدو كل يوم إلى السوق فيبيع ويبتاع، وكانت له قطعة غنم تروح عليه، وربما خرج هو بنفسه فيها، وربما رعيت له، وكان يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع بالخلافة قالت جارية منهم: الآن لا يحلب لنا منائح
8
دارنا، فسمعها فقال: بلى، لعمري لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغير بي ما دخلت فيه، فكان يحلب لهم، ثم قال: ما تصلح أمور الناس مع التجارة وما يصلح إلا التفرغ لهم والنظر في شأنهم، فترك التجارة، وقيل: أراده الصحابة على تركها، وأنفق من مال المسلمين ما يصلحه وعياله يوما بيوم، فكان الذي فرضوا له في كل سنة ستة آلاف درهم، وقيل: فرضوا له ما يكفيه، فلما حضرته الوفاة أوصى أن تباع أرض له، ويصرف ثمنها بدلا مما أخذه من مال المسلمين.
ولما فرض عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - العطاء، قال للمسلمين: إني كنت امرأ تاجرا، يغني الله عيالي بتجارتي، وقد شغلتموني بأمركم هذا، فما ترون أنه يحل لي في هذا المال، وعلي ساكت فأكثر القوم فقال: ما تقول يا علي؟ فقال: ما أصلحك وعيالك بالمعروف ليس لك غيره. فأخذ عمر قوته، وإن لنا في غير هذين الإمامين من رجال سلفنا الصالح الأسوة الحسنة في فضيلة الاستقلال وترك الاتكال، ولنا الأسوة في الأمم الحية لعهدنا التي نرى آثارها باهتين شاخصين، فالعبر بين أيدينا ومن ورائنا وعن أيماننا وشمائلنا ولكننا لا نعتبر.
الهجرة
أربعة أحوال تعمل في تكثير سواد الأمم: الهجرة والاستيطان والولادات والوفيات، وبنقيضها تقفر البلاد وتقل الأمم، ومحور الهجرة يدور في الأكثر على تحصيل القوت والفرار من ظلم، خصوصا أيام كانت المجاعات في القرون الأولى والوسطى من أكبر العوامل المهددة للشعوب، وكانت تغذية الجماعات الكبرى مناطة بمحصول السنة حتى كان تأخر وصول الحبوب المشحونة في البر والبحر يحدث مخاوف هائلة، ويثير مناوشات وثورات، وكانت الفوضى والحروب تجعل المواصلات صعبة أو متعذرة، ويهلك سكان المدن جوعا، وتحتكر المدن الحبوب في أماكن خاصة، وتدخرها لحين الحاجة، أما سكان القرى والأرياف، فكانوا يقاسون الأمرين، ولا يجدون غير الهجرة بابا لنجاتهم بأرواحهم وأرواح ذراريهم، وهذا ما دعا إلى إقفار كثير من الأصقاع في الشرق والغرب؛ لأن من ولد من الأسر المهاجرة لم يواز عدد من فقدتهم البلاد بهجرتهم لها.
1
جاءت أزمان على البشر كان الشرق أو أفريقيا وآسيا أعمر من الغرب، وكانت آسيا تقدم كثيرا من أبنائها؛ ليكونوا جندا في الجيش الروماني، ورومية كانت حاكمة على معظم أصقاع أوروبا وجزء كبير جدا من آسيا وأفريقيا وسلطانها فوق كل سلطان، وما ملوك تلك الأيام إلا أقيال يخضعون لصولجان رومية، وقد كنت ترى أناسا من بلاد الشام في كل مكان كما تراهم الآن، وكان منهم في جيش جرمانيكوس القائد الروماني عدة كتائب عندما حمل حملته على الرين.
قال سكريتان: إن القرون الوسطى بإقطاعها وما كان فيها من اللصوصية والأخلاق الوحشية وقلة المواصلات والحياة الزراعية والصناعية الأهلية، وتنوع اللهجات وحكومة الجماعات
polyarekie
والاشمئزاز من الحياة، والتشتت السياسي الذي هو من خصائص تلك القرون - كل ذلك مما يتمثل لعيني بقلة الرجال وطول إقفار البلاد، فأقفر العالم الروماني، وظل الشعب زمنا على نسق واحد، ثم زاد بإنشاء المدن وتوطيد دعائم المركزية السياسية، التي تسهلت أسبابها بنمو الموارد الاقتصادية والأيدي العاملة التي أنشأتها، ومن المدن تنبعث أبدا حركة تنظيم القوة العامة، فصاحب الأملاك يعيش بما تدر عليه أملاكه على حين تضطر المدن أن تطلب ذلك من التجارة، وأن تضمن حقوقها في البلاد القاصية بتأمين السبل والتجارة.
قال: وما المصانع العظمى التي قامت في القرن الثالث عشر للميلاد، وما تلك البيع والمعابد إلا أثرا من آثار زيادة السكان في أوروبا، وإن الناس أصبحوا يهتمون لأمور أخرى غير حفظ حياتهم مباشرة، والسكان من العوامل الضرورية في التبدلات السياسية، وعندنا أن الشعب هو أرض التاريخ الذي تنبت فيه الأوضاع والأفكار، ولما نمت النفوس منذ القرن الحادي عشر في حمى أسوار المدن والمقاطعات المنظمة ظهرت قوة جديدة أمام الإقطاعات، وانتهى التماسك السياسي بقيام المدنية الحديثة، وأدى نمو السكان نموا عاما بقاعدة الانتخاب الطبيعي، أي الأفضل والأحسن إلى شكل جديد في الحياة وتحسين الأخلاق وتدميثها، وكثرة السكان شرط في قيام المدنيات العليا، وفي تأسيس الأملاك العظمى، وهي التي تزيد حياة البشر حركة وغنى وبهجة.
نعم، كثرة السكان شرط في الحضارة، ولكنها إذا بلغت درجة تؤدي إلى قلة سريعة في المواليد، ربما كان فيها الخطر على المدنية، والمدنيات لا تقوم إلا في بعض أدوار التاريخ، على أن الرفاهية العامة والأمن هما من أهم العوامل في المدنيات الكبرى، قد يكون منها قلة عدد المواليد، وهذه القاعدة تجري في كل مكان اليوم في ألمانيا وإيطاليا وإنكلترا، وقد كانت فرنسا أول من وصلت إلى هذا المعدل، فتعدلت وفياتها مع ولاداتها، مع أن فرنسا كان عدد سكانها في أواسط القرن الثامن عشر عشرين مليونا، وإنكلترا ثمانية ملايين، وإسبانيا ثمانية، وإيطاليا عشرة، وألمانيا كلها مع النمسا، وتوابعها اثنين وعشرين مليونا، وروسيا في أوروبا اثني عشر مليونا، وقد زادت كلها على كثرة من هاجر منها إلى أميركا في القرون الثلاثة الأخيرة، ومع هذا زادت كل مملكة، ولكن زيادة بلاد الإنكليز والجرمانيين كانت أهم وأعظم، فبلغت بريطانيا العظمى اليوم نحو خمسة وأربعين مليونا، وفرنسا نحو أربعين مليونا، وألمانيا خمسة وستين مليونا، والنمسا والمجر خمسة وخمسين مليونا، وإيطاليا خمسة وثلاثين مليونا، وإسبانيا ثمانية عشر مليونا، فمنها ما تضاعف ثلاث مرات ومنها مرة ومنها مرتين.
وقد نفى سكريتان أن تكون قلة السكان ناشئة من فساد الآداب، وقال: إن الروس بإقرارهم أنفسهم من أعظم الموغلين في المفاسد والموبقات، ومع هذا يزيد سكان الأرياف عندهم، والسبب في قلة المواليد هو في الحقيقة إرادة الرفاهية، الولادة لا تشكو من الفقر ولا من حرية الفكر ولا من حرية الأخلاق، وما خرابها آت إلا من كثرة الحذر الذي هو ابن الطمع. •••
عرف السوري منذ القديم بحب الهجرة للكسب وإحراز المجد، والفينيقيون أو سكان الساحل الأوسط من هذا القطر كانوا رواد الحضارة وربابنة البحار في سواحل البحر المتوسط، حتى بلغوا شطوط الجزر البريطانية في أقصى شمالي أوروبا، وأنشئوا المكاتب التجارية في جنوبي القارة الأوروبية وشمالي أفريقيا، وكان من أخلاقهم ما يشبه هذه الأعمال والهجرات، ولا سيما على عهد الحكومة الرومانية، حتى إذا جاء الإسلام كانت منهم جيوش وقواد وقضاة تسافر إلى القاصية، ورجال الشام كانوا في مقدمة الفاتحين للأندلس في الغرب، وهم الذين فتحوا الفتوح في الشرق وأوغلوا فيها حتى وصلوا إلى بكين عاصمة الصين، وضربوا الجزية على صاحبها.
وبعد، فإن فتن التاتار والصليبيين أضعفت حال البلاد وقللت سكانها، خصوصا على عهد حكومات الإقطاعات الظالمة، فقلت الولادات وكثرت الوفيات، والأمة المظلومة في الغالب يضعف تناسلها، ويكثر الموتان في أولادها، بل تندر النضرة في وجوه أهلها، ولم تقصر الحوادث السماوية في انتياب هذه البلاد، فكانت الزلازل والأوبئة تحصد أهلها بالألوف، وما بقي منهم يهلكه الظلم وقلة العلم.
حتى إذا جاء القرن الماضي، ونشر خط كلخانة، ووضعت التنظيمات الخيرية، ودخلت البلاد العثمانية في طور أحبت فيه احتذاء مثال الغربيين في إدارتها، وضعفت سلطة العمال بعض الشيء، وقوي ارتباطهم بالمركز، خصوصا بعد إنشاء الأسلاك البرقية التي سهلت وصول الشكاوى إلى العاصمة بعض التسهيل، وأخذ الفلاح يأمن على زرعه وضرعه بالنسبة للماضي، والتاجر في المدن قد تنجو من البوائق متاجره، وكثر بعد حوادث سنة 1860 اختلاط أهل هذا القطر بالغربيين، وأنشأت الجمعيات الدينية مدارسها الراقية في المدن والقرى، بعد كل هذا عادت النفوس تنمو خصوصا في لبنان بعد نظامه الجديد، وارتفاع أعلام الأمن في ربوعه، وأصبح من الندرة الاغتيال والاقتتال فيه فكثرت نفوسه.
وإذ كانت زراعة لبنان ضعيفة، تعد بين الزراعات في الدرجة الثالثة أو الرابعة، لم يقم بمعاش سكانه، فأخذوا يهاجرون أولا إلى البلاد القريبة منهم، ولما تنوقلت الأنباء عن نجاح جماعة من تجار بيت لحم في أميركا سمت الهمة ببعضهم إلى السير على آثار من سبقوهم، وساعد على ذلك اتصال آسيا بأفريقيا وأوروبا وأميركا بالبواخر، فوفق بعض من هاجروا من لبنان إلى جمع جانب من المال، فاشتهر بين قومهم نجاحهم، وأخذ يتبعهم في خطتهم الأقرب فالأقرب من سكان البلاد، وكان أهل الجبال وهم معتادون القلة وشظف العيش في الجملة هم الناهضون لهجرة بلادهم، ولم تمض بضع سنين حتى سرى داء الهجرة إلى الأصقاع المخصبة من أرض الشام مثل وادي الأردن، ووادي العاصي، وسهل البقاع، وسهل حوران، فجاراها جبل لبنان، وجبل عامر، وجبل حرمون، وجبال عكاء، وجبال اللكام، وجبال الخليل، واشترك السهل والوعر في الهجرة، ونال من آثارها دمشق وبيروت وحلب والقدس كما نال أحقر قرية.
واشتهر في الأكثر من ارتاشوا واغتنوا وآبوا إلى بلادهم، فعمروا لهم دورا على الطرق الغربية، واقتنوا الأملاك وأقاموا العقارات، وأخذوا بحظ من الرفاهية، ونسي الناس أو لم يذكروا من هلكوا وتشتتوا، فما عتمنا وقد حسبنا الراحل عنا، والراجع إلينا إلا وقد أصبح المهاجرون زهاء أربعمائة ألف رجل على أقل تقدير من السكان مهما بالغنا في تقديرهم، وعددنا في جملتهم بعض البوادي، لا يبلغون أكثر من أربعة ملايين، وقدر بعض الصحافيين عدد المهاجرين من السوريين بخمسمائة وسبعين ألفا، وغالى بعضهم فقدرهم بزهاء مليون، ويمكن أن يجاب عن هذا التقدير الكبير بالأثر الحادث عنه أي بإضافة عدد من الأولاد الذين كانوا يولدون لهذا القدر من المهاجرة لو بقوا في بلادهم من أزواجهم، أو تزوج العزب منهم في السن المعينة للزواج في هذه البلاد.
خسرت البلاد من وجهين في الجملة وربحت من وجهين، خسرت البلاد من عمل هؤلاء الشبان المتغيبين سنين عن أوطانهم، وعن تعطلهم عن التناسل، وربحت مما حملوه إلى الشام من النقود والتهذيب الغربي، ولكن الخسارة أعظم بدليل أن الثروة هي العمل لا النقود كما يقول علماء الاقتصاد، وأن التهذيب الذي حملوه ناقص؛ لأنه علمهم أمورا رفعت من شممهم، فلم يعد يستطيع المهاجر أن يقيم في قريته إذا آب إليها بعد تغيبه عنها بضع سنين؛ إذ يرى الفرق محسوسا بين ما شاهد في بلاد غيره وعهد في بلاده، ويتأفف من عمله الصغير في الزراعة أو الصناعات الضعيفة ، فلا يلبث أن يعود أدراجه إلى أميركا، ويختار الموت هناك على البقاء في أرض ذلة وقلة.
ولذا لا تعجب إذا رأيت مئات من الدور الفخمة التي عمرت بدراهم أميركا في هذه الديار خالية من سكانها، يلعب فيها الجرذ والفار ولا من يقطنها؛ لأن بناتها عادوا فرحلوا إما طلبا لثروة غير التي نالوها وصرفوها كلها في إنشاء دورهم، وإما لضيق صدر نالهم من سوء إدارة وفساد نظام، وهذا قليل.
قال قنصل فرنسا في تقريره الأخير على بلاد الجليل: إن هؤلاء المهاجرين ينفعون بالأجور التي يؤدونها لشركات الملاحة، ولكنهم يضرون البلاد في ارتقائها الاقتصادي إذ يحرمونها من الأيدي العاملة، وقد نجحوا بأن أسسوا في البلاد التي هاجروا إليها (أميركا الشمالية والجنوبية وأوستراليا وأفريقيا الجنوبية أو مصر) مستعمرات مهمة للغاية، وكثير ممن غادروا بلادهم حفاة لا يملكون أجرة المركب الذي يقلهم وهم في الدرجة الرابعة، قد عادوا إليها يحملون الدنانير في جيوبهم أو الأوراق المالية، وقد اقتبسوا الأذواق والعادات الغربية وأنشئوا يستخدمونها في بيوتهم، وهم يبتاعون الأراضي وينشئون الزراعات الكبرى، وأكثر العائدين منهم على ما أظن هم اللبنانيون والبقاعيون.
قال: وأما سبب الهجرة فلارتفاع وصاية الحكومة عليهم، ولعدم قوانين لحماية الزراعة، ولندرة معاهد المعاونة والإحسان، ولإرهاق العشارين والمرابين، ولكسل لا ينفض غباره إلا بالإقلاع عن البلاد وحبا بالأرباح السهلة، واقتداء بمواطنيهم المغتنين ولجذب البلاد الجديدة لهم، وبينا نرى الوطنيين - ولا سيما من سورية - يهاجرون، نرى الأجانب يهاجرون إليها ولا سيما في فلسطين (أي الصهيونيين). ا.ه.
وبعد، فقد كانت الهجرة مقصورة بادئ بداء على المسيحيين، فأخذ إخوانهم المسلمون يقتفون آثارهم، وكثر المهاجرون من جميع الطوائف في السنين الأربع الأخيرة عندما طبقت الحكومة قانون الجندية على عامة شبان هذا الوطن، فكان الوالد يسفر ولده في العشرين والخامسة والعشرين، فأنشأ يرحله اليوم في الخامسة عشرة، بل وفي الثانية عشرة لينجو من الخدمة العسكرية، أو ليجمع بدله النقدي قبل أن تصيبه القرعة، وبعد أن تفاقم شر الهجرة في العهد الأخير، أرادت الحكومة أن تمنع الشبان من السفر، فكان ذلك مورد عيش جديد لارتشاء بعض الولاة والمتصرفين والقائم مقامين ورجال الشرطة، وكثرت سماسرة المهاجرة حتى لم يتركوا مزرعة إلا ولجوها وأخرجوا منها أعزة أهلها، وسهلوا لهم سبل الهجرة، ووجد حتى الفقير المعدم من يقرضه على أن يوفيه من عمله في ديار المهجر، وزادت المنافسة بين شركات الملاحة، فأصبح السفر ميسورا من بيروت إلى نيويورك بعشر ليرات، وزاد الصادر وقل الوارد، وكلما أمل المؤملون أن تهدأ أحوال البلاد، تعقدت مشاكلها الداخلية والخارجية، وانتشرت عن البلاد أخبار السوء، فتأخر عن العودة إليها أبناؤها الذين هجروها.
هذا، والحكومة لم تتذرع بأدنى سبب لنزع هذا الخلل في حياة البلاد من أصوله، بل إن النوائب الأخيرة التي صادف وقوعها في عهد الدستور لم تزد البلاد إلا فقرا، إذ اضطرت الحكومة أن تزيد الضرائب والعشور والرسوم، فضعفت الزراعة، وأكثر من ثلاثة أرباع هذه الأمة تعيش من أرضها، وارتقت أجرة العامل إلى أعلى من منسوبها، فأصبح في بعض الأصقاع الزراعية من المتعذر القيام بأعمال الزراعة على ما ينبغي لصاحب ملك ومزرعة؛ لأنه إذا أعطى العامل في اليوم ثلاثة أرباع الريال أو الريال لا يبقى له في آخر السنة ما يوازي نصف إيجار أرضه، ولولا أن بعض البلاد التي أعوزتها اليد العاملة مثل البقاع، استعاضت عنها بما جلبته من الآلات الزراعية الحديثة كالحصادة والدراسة والحراثة والذراية والطحانة لأمست زراعتها بائرة، ولو جرى أهل هذا القطر على سنة أهل أطنة (أذنة) في قليقية من آسيا الصغرى، وأكثروا من الأدوات الحديثة لتم لهم الغنى، وعوضوا ما فاتهم من عمل العاملين، ولعاد جديبها خصيبا ونالوا من أسباب الثروة حظا عجيبا.
إذا قدرنا ثروة السوريين في مصر والسودان وأميركا وكندا وأوستراليا والترنسفال ومدغسكر والسنيغال بمائة مليون جنيه،
2
وهو أقل تعديل؛ لأن نصف هذا المبلغ يملكه السوريون في مصر فقط، وفرضنا أن نصف المهاجرين أحبوا العودة إلى أصقاعهم، يحملون خمسين مليون جنيه من النقود، وما زكنوه وتعلموه من أساليب الصناعة والزراعة والتجارة، تفتح بالطبع موارد اقتصادية جديدة في البلاد، إذا صحت - قبل كل شيء - نية الحكومة على توطيد دعائم الأمن وإحقاق الحق، وذلك باختيار طبقة راقية من العمال والضرب على أيدي الجاهلين والمرتشين منهم.
نعم، إذا قامت الحكومة بواجبها الإداري تستميل المهاجرين إلى العودة، وتحبب إليهم بلادهم التي يؤثرون أن يكون لهم في ربوعها من المغانم نصف ما يتمتعون به في ديار المهجر، فتقوم سورية وحدها بعد بضع سنين بسد العجز من ميزانية الدولة العامة مهما كان مقدارها. •••
وبعد، فيكاد يكون في درجة الثبوت أن البشر نما عددهم منذ عرف التاريخ على الرغم مما نالهم من الطوارئ، التي ذكرها التاريخ من مثل الحروب والأوبئة أو الأسباب الأخرى التي تفقر النمو وتقلل التناسل، ومع هذا فقد كان النسل كثيرا في أوروبا منذ بضعة قرون، وإن كان يكثر موت الأولاد في الطفولية أكثر من اليوم، وتلتهم الأديار جانبا من الرجال والنساء يتعطلون عن التناسل، وليس ترك الأرياف والقرى ونزول الحواضر والمدن مقصورا على بلد خاص أو صقع معين، بل هو ظاهر في كل مكان في البلاد الأوروبية القديمة مثل: سويسرا وألمانيا وفرنسا وإنكلترا ونروج والبلجيك وهولاندة ظهوره في البلاد التي أخذ سكانها بالنمو مثل الولايات المتحدة وكندا وأوستراليا، فترك الأرياف عام يشترك فيه جميع الأجناس: السلتيون كاللاتين، والسلافيون كالروس والبلقانيين، والسكسونيون كالإنكليز، ولا يظهر أن للأوضاع السياسية والاجتماعية دخلا فيه، وما من حكومة من الحكومات خالية منه، حتى إن طريقة تقسيم الأملاك لا تمسك الإنسان في الحقول، وليس في قوانين المواريث ما يظهر أنه أسمى من غيره، فقد خضعت لسلطان الهجرة حتى البلاد المتماسكة الأجزاء مثل فرنسا وإنكلترا والمجر وروسيا والولايات المتحدة وأوستراليا والأرجنتين، فإن أصقاعا كبيرة استعمرت منذ زمن طويل في الولايات المتحدة، ولا سيما ولايات إنكلترا الجديدة قد خضعت لهذا النظام، فترك أهلها قراهم لينزلوا الحواضر يسكنونها، فنمت بذلك المدن نموا هائلا بالنسبة لمجموع البلاد، فقد بلغ سكان مدينة بونس أيرس عاصمة الجمهورية الفضية مليونا وثلاثمائة ألف، في حين بلغ سكان جميع هذه البلاد ستة ملايين نسمة تدخل فيها العاصمة ، ومساحة أراضي الأرجنتين خمسة أضعاف مساحة فرنسا، وهكذا تجد النمو باديا في مدن الولايات المتحدة كنيويورك وشيكاغو وفيلادلفيا وسان لوي وسنسيناتي وبوسطون وسان فرنسيسكو وستل وأورليان الجديدة، كما هو باد في ملبورن وسدني من عواصم أوستراليا.
هذا ما قاله أحد الاقتصاديين في جريدة الاقتصاد، وعقب عليه بقوله تجمل رءوس أموال كثيرة من العالم القديم - أي من أوروبا - تستثمر في العالم الجديد، فالمليون من الفرنكات يستثمر في أرض فرنسا، فيعود بربح سنوي يختلف بين ثلاثمائة أو مائتي ألف فرنك إذا حسبنا جميع الأيدي التي تتناوله، فنربح منه على حين لو جرت تنمية هذا المليون في البلاد الأجنبية لا تعود من الفائدة بأكثر من 40 إلى 45 ألف فرنك.
إن من يهاجر إلى القاصية كمن يتركون قراهم؛ ليستوطنوا المدن المجاورة يبحثون عن رفاهية أسمى مما تمتعوا به، ويظنون بأنهم يحققون أمانيهم في النجاح بانتقالهم إلى محيط يصرفون فيه قواهم بما يعود عليهم بالنفع أكثر، ومعنى ذلك يدور على البحث عن أجرة أكثر، وهذا هو الباعث الأول على هذه النقلة، بل الباعث الوحيد، فالأجور هي العامل الوحيد الذي يدعو الناس إلى التنقل في عصرنا، أما حب الهواء الجيد والحياة الاجتماعية ولطف الأخلاق وسلاسة العمل، فليس لها محل من الإعراب في جملة هذه الحال.
ترى العامل في الولايات المتحدة وأوستراليا يتنقل من المدن إلى القرى وبالعكس؛ لأن الأجور واحدة في الزراعة والصناعة وكلها رابحة، والقاعدة العامة في ذلك أن المدن والقرى تمسك السكان متى كانت أجورهم مضمونة وحالتهم مأمونة، فقد قل المهاجرون من ألمانيا منذ كثرت صناعتها ونمت بحريتها وتجارتها، ويقل المهاجرون من المجر وروسيا وإيطاليا متى حسنت حالة الزراعة فيها، وانتظمت أسباب التملك، وجودت الأسباب الاقتصادية أي الأجور، فإذا كانت البلاد الجديدة تستميل إليها المهاجرين بمئات الألوف بل بالملايين؛ فذلك لأنها توزع أجورا عالية، وأوروبا وانكلترا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وروسيا والمجر تبقي اليد العاملة في الحقول إذا ارتفع سعر الأجور الزراعية، وذلك لا يكون إلا بتنويع الزراعة وتكثير المحاصيل والمواشي وتكثير الإيراد ولو قلت أسعار الحاصلات.
إن هولاندة التي تعتبر مجموعها أرضا فقيرة؛ لأن في استثمارها صعوبة قد كثر سكانها اليوم كثرة زائدة بفضل عملهم بحيث حق على الهولانديين ما قاله فرنكلين: «بالقرب من رغيف الخبز يولد رجل»، والمرء كلما دفعته الحاجة يحسن الاحتيال على المعاش، وأميركا وأوستراليا إلى اليوم لم تستثمر من أرضها خيراتها كلها، بل إن خصبها هو المساعد فقط على العكس في غربي أوروبا، فإن العمل هو الذي يستثمرها، وبعد فإن المجتمعات لا تتحرك بالنظريات بل بالعمليات، وكل نظرية تخالف المصالح الحاصلة المبنية على العدل لا يتأتى أن تجري في العمل إلا إذا جعلت هذه المصالح قيد النظر.
الهجرة إلى مصر1
إذا كان أصلي من تراب فكلها
بلادي وكل العالمين أقاربي
دحا الله الأرض ليعيش عليها البشر ويتناسلوا فيها فيعمروها ويحيوا مواتها ويسيطروا على المخلوقات كلها، فالأرض هي المنزل العام يجلس أهله في أي ناحية منه أحبوها وراقتهم، ويتنقلون في بقاعها وأصقاعها، ووهادها ونجادها، وسهلها وحزنها، وبحرها وبرها، على حسب ما تقضي أحوال الصحة، وطبائع الأجسام، وخواص النفوس.
فقد هاجر الفينيقيون قديما وأقاموا قرطجنة، عمروها وغيرها من شواطئ البحر الرومي، وهاجر الغوط من جرمانيا إلى جنوبي أوروبا وداهموا المملكة الرومانية، وهاجر الروم من بلادهم إلى شواطئ البحر المتوسط وجزره وشواطئ البحر الأسود وبلاده وعمروها، وكثير من الأمم أمثالهم غادروا مساقط رءوسهم، واتخذوا لهم بلادا ثانية استعمروها .
وهاجرت في العهد الحديث أمم كثيرة، وأهم هجرة وقعت هجرة الأوروبيين إلى أميركا، عمروها بجنسهم الأبيض بعد أن كانت خربة بالجنس الأسود، وكذلك هجرة الهولانديين إلى جنوبي أفريقيا وهجرة الروس إلى سيبيريا، وهجرة القافقاسيين والجراكسة إلى البلاد العثمانية، وهجرة الإسرائيليين من بلاد روسيا، وهجرة المسلمين الروسيين إلى أميركا وغيرهم.
وللعرب حظ وافر من الهجرة والتنقل في الجاهلية والإسلام، بل إن الهجرة من طبيعة جزيرتهم يعمدون إليها طلبا للكلأ والمراعي أو للاتجار بنتائج مواشيهم وحاصلاتها، وأول هجرة في الإسلام كانت هجرة عشرة من الصحابة وأربع نسوة وقيل أكثر، أمرهم الرسول بالهجرة إلى الحبشة لما رأى ما يصيبهم من البلاء قائلا: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن فيها ملكا لا يظلم أحد عنده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه، فخرجوا ثم عادوا بعد سنين، وهكذا هاجرت العرب إلى فارس ومصر والشام وإفريقية والأندلس والسند وكشغر لما فتحت، ولولا إقدامهم على الهجرة ما رأينا الإسلام منتشرا في قلب آسيا وأفريقيا.
ولا نزال إلى اليوم نشهد أثرا من آثار حب العرب للهجرة، وقد زادها اليوم قرب المواصلات وسهولة السفر، نرى أهل حضرموت في جنوبي الجزيرة يهاجرون إلى حيدر آباد الدكن الهندية، فيكون معظم جيش البلاد منهم، ونراهم يهاجرون إلى جاوة فيكثر فيها سوادهم ويغتني بعض أفرادهم، ونرى النجديين يهاجرون إلى الهند في التجارة ثم يستوطنونها ويصبحون فيها أصحاب كلمة ونفوذ، ونشهد السوريين يهاجرون إلى أميركا وأفريقيا فيرتاشون ويتأثلون.
وانهيال السوري على هذا القطر (المصري) خاصة قديم جدا يصعب تعيين زمنه لاتصاله ببلاد الشام برا وبحرا، ولم تكن القوافل في الإسلام تنقطع في البر كما أن المراكب لم تكن تنقطع عن السفر في البحر، ولم تبرح بلاد الشام مصيف مصر وإحداهما مكملة لعمران جارتها، وقد وصف ابن فضل الله العمري في التعريف بالمصطلح الشريف طريق القوافل بين القطرين، كما عقد القلقشندي في صبح الأعشى فصلا في مراكب الثلج الواصل من البلاد الشامية إلى الملوك بالديار المصرية، ومصر ما برحت كما وصفها ابن خلدون في القرن الثامن: «بستان العالم، ومحشر الأمم، ومدرج الذر من البشر.»
نعم هي محشر الأمم ولا سيما الأمم المجاورة لها من البر أو المناوحة لها من سيف البحر؛ وذلك لأن عمرانها طبيعي مستمر في معظم أدوارها، فلا عجب إذا كانت مهاجر الأمم من عرب وعجم، قبل أن تكون نقطة الاتصال بين قارات أوروبا وأفريقيا وآسيا بفتح ترعة السويس، فما بالك بعد أن تم لها ذلك، فمصر والحالة هذه مقصودة من أقطار الأرض أكثر مما يقصد أهلها سائر الأقطار، والأمة التي تكثر في الغالب خيرات بلادها لا يهون عليها مغادرتها، وطلب الحاجيات هو الباعث الأقوى على المهاجرة ، فإذا كفيها المرء يصاب بالوفاء وضعف العزائم.
وما فتئ السوريون والروم والترك والمغاربة مذ كانت حكوماتهم تتغلب على مصر ينزلون بلاد النيل، فالروم حكموها زمنا طويلا وكذلك الترك والعرب والجراكسة، فكان من هذه العناصر أن نزلتها بكثرة، وأصبح أكثرهم فيها عمالا وحكاما وقضاة، ورؤساء جند وعلماء، وأرباب صنائع وتجارة، ولم تكثر هجرة الأوروبيين إليها إلا عقيب الاحتلال الفرنسوي عندما بدأ الفرنسيس والطليان والمجر وغيرهم من أمم الغرب يهبطون إليها، وقد كثر سوادهم على عهد الخديوي إسماعيل لأنه فتح أمامهم طرق الهجرة، وأحسن معاملتهم ووفر لهم المغانم وطرق الكسب.
ولما قبض رجال الاحتلال من الإنكليز على أزمة الأعمال، أخذ الناس يفدون على مصر من كل فج عميق، حتى إنك لتجد فيها الآن من جميع الشعوب واللغات أناسا أسسوا فيها الأعمال التجارية والزراعية والمالية والعلمية، وكثير منهم اغتنوا من خيراتها بفضل كدهم، وقد قدرت ثروة السوريين فيها بخمسين مليون جنيه؛ أي بعشر ثروة القطر، وهكذا سائر الأمم، ولا سيما الروم والطليان والفرنسيس، فإن فيها من هذه الأجناس ألوفا اغتنوا من خيراتها، واتخذوها دار هجرتهم، ووطنا ثانيا لهم، وحال مصر اليوم مع المهاجرين إليها يختلف عن حالها مع أمثالهم في القرن الماضي؛ لأن ثقة الأمم تزداد بها الحين بعد الآخر؛ ولأن الأساس الذي قامت عليه حضارتها اليوم أساس مالي زراعي، خصوصا وقد ظهرت الآن نتائج ما تعب القابضون على أزمة سياستها سنين في تأسيسه، واشتهر ذلك عند الخاص والعام في الأقطار النائية بما يتصل بهم من أخبارها، وأخبار من يغتنون من المهاجرين إليها، ممن توفرت لديهم رءوس أموال، أو كانوا من أرباب العقل والعمل، فكانت مصر ميدانا لظهور آثارها، وربما لا يذكر الناس إلا من نجحوا، وقلما يذكرون من أخفقوا عادة في البشر، ولعلها من موجبات أقوامهم على الكسب والكدح في هذه الدار.
ولقد ساعد على كثرة الهجرة إليها حال بعض البلاد المجاورة لها من حيث اجتماعها ومادتها، فترى سكان جنوبي إيطاليا القاحلة يهاجرون إليها أكثر من القاطنين في الشمال منها؛ لأن شمالي إيطاليا مخصب، وأهلها مكتفون بما تجود به عليهم أرضهم وسماؤهم، وكذلك تكثر إليها هجرة سكان جزائر البحر الرومي، ولا سيما بلاد اليونان الجديبة وأهل سواحل الشام وجبالها.
هذه مصر من حيث مهاجر الأمم، فهي دولية - كما يقول الساسة - أو مشتركة بين أجناس وأديان شتى، والتاريخ يشهد أنها كانت رحبة الصدر بالوافدين عليها في كل العصور؛ للين عريكة أهلها، ولم يحدث هذا التميز بين سكانها، إلا عندما أراد مهاجرو الإفرنجة أن يستطيلوا على أهلها، فأحدثوا لهم ما يقال له «الامتيازات الأجنبية»، التي تخولهم من الحقوق ما ليس للوطني مثله، ثم كثر توارد الأخلاط عليه، ولم يكن الوافدون إليها على غرار واحد، بل كان منهم المنورون العالمون وهم أفراد، ومنهم المتعلمون المهذبون وهم أكثر، ومنهم العامة الأميون وهم السواد الأعظم، ومعظمهم طلاب رزق وسوقة نازعوا ابن البلاد وربما غلبوه؛ لأن من جاء في طلب غرض يحتال للوصول إليه، والغريب في الغالب يكون أجرأ وأنشط من الأصيل؛ لأن الغربة في ذاتها إمارة من إمارات النشاط:
وطول مقام المرء في الحي مخلق
لديباجتيه فاغترب تتجدد
والأمثلة كثيرة في هذا الباب من القديم والحديث، فليس للوافد ما للقاعد من الخمول والاتكال، ويكفي أن في لندرا لهذا العهد، وهي مهد الصناعات والارتقاء زهاء مائتي ألف رجل من رجال الألمان، استولوا على أعمالها المالية، واستأثروا بها دون ابن البلاد المتعلم المنور، الذي لا يقل عنه في مواهبه، هذا في عاصمة إنكلترا، فما الحال بمصر وأكثر الوافدين إليها هم من الشعوب القوية، ومن أهل البلاد الباردة التي تبعث النشاط في قلوب أبنائها وأجسامهم وعقولهم، فيتخذون عدتهم استعدادهم، وكدهم رأس مالهم، وعتادهم وذخرهم قصدهم واقتصادهم، على حين قد أتت على الوطني أزمان من الفوضى ضعفت بها قواه، فأصبح لا يقوى على العمل إلا إذا عوده زمنا ولقنه بالتعليم والتربية، وقد فجأته الثروة والحرية مفاجأة بهرته وحيرته، ثم إن ابن البلاد في الغالب لا يسف إلى المكاسب التي يتنازل إليها الغريب، فالأول يدل بأرومته أو يعتز بأمته، والثاني يذل في سد حاجته ونيل بغيته.
ولما رأت الحكومة المصرية على عهد الوزارة الرياضية أن الوطني يكاد يفنى في الدخيل سنت لائحة صعبت فيها على النازل في مصر أسباب الحصول على حقوق الوطني، إلا بعد مقامه خمس عشرة سنة، وإشعاره الحكومة بعزمه على تغيير جنسيته قبل حلول الوقت المعين بخمس سنين، فكانت هذه اللائحة غريبة في بابها، منعت بعض الطراء على القطر من ولوج باب الاستخدام في دواوين الحكومة، وحظرت عليهم تعاطي الأعمال الإدارية والسياسية، إلا أنها صرفت وجهتهم إلى اتخاذ الأعمال التجارية والزراعية والمالية والعلمية الحرة، فأفلحوا أكثر مما لو كانوا حصروا كدهم في الوظائف الاتكالية، ولم تحق عليهم كلمة «مصر للمصريين»، ومن هنا نشأ بغض كثير من المصريين للغرباء، كان السبب في ذلك أولا منافسة هؤلاء لأبناء البلاد في احتياز الوظائف، وساعد عليها ما ألفته بعض الجرائد المسموعة الكلمة من عبارات التفرقة، وهناك أسباب أخرى قواها أرباب الأهواء والغايات، فانتقلت بالتقليد إلى العامة، ومن نحا منحاهم من الخاصة.
وليست الشكوى التي يشكوها بعض الوطنيين من الوافدين في محلها كلها؛ لأن من اغتنى بكده أو بطرق غير شريفة، فإنما غنمه له وغرمه عليه، ولو تسنى لابن البلاد أن يعمل عمله ما تأخر، ويا ليت خاصة هذه البلاد يسعون إلى نزع هذه الأوهام من عقول العامة، حتى لا يبغضوا غيرهم بسبب وبلا سبب، ويمتزج بعضهم مع بعض لتحيل بوتقة مصر ذاك الدخيل إلى المعدن الذي تريد أن يكونوا كلهم عليه، فقد ثبت أن هذه البوتقة المصرية أحالت إليها فيما مضى التركي والألباني والجركسي والكردي والحجازي واليماني والعراقي والشامي والمغربي والسوداني والرومي والفارسي، فأتى منهم بعد مقامهم قليلا في هذا الوادي مصريون يغارون على مصلحة مصر، وكثير منهم نفعوها وخدموها بعقولهم، وأيديهم أكثر من خدمة أبنائها لها تحت اسم مصريين، وما كانت قط بقعة من الأرض معلومة الحدود والمساحة وقفا على جنس خاص من البشر، لا ينازعها فيه منازع، تسرح وتمرح فيها ما شاءت، فالأرض أرض الله، والناس عباد الله، وما أحلى بيت البحتري في هذا المعنى:
ولا تقل أمم شتى ولا فرق
فالأرض من تربة والناس من رجل
وكل من نظر في نهوض الأمم لا يعتم أن يرى أن كل أمة ربيت على كره غيرها وتجافت عن الاختلاط به وحسن الانتفاع منه تجني من الخسارة أكثر من الربح.
ولقد كانت بغداد من أكثر أمثلة التسامح في البلاد الإسلامية، رفعت مقام الغريب، وأحسنت الاستفادة منه، فكان يعد بغداديا كل من دخل بغداد، تساوى في ذلك عجميها وديلميها وعربيها وتركيها، ونسطوريها وروميها ومجوسيها ومسلمها، فجمع العدل من شملهم، وآخت الراحة بينهم، وعد سواء في النسبة إليها من نزلها اليوم ومن نزلها منذ قرن، وقد أعان على تكوين هذا المزيج انتقاء الجنسية في الإسلام ورفق المسلمين بأهل ذمتهم، ولولا ذلك ما قامت تلك الحضارة التي نسبت للمسلمين العرب مع أن أثرهم فيها كأثر غيرهم من الأجناس والأديان، ولكن العمل مشترك وهو منسوب لصاحب البيت، كالجنود يشقون في الحرب، ثم ينسب النصر لقائدهم.
وإنا لا نزال نقول: إن من حظ مصر أن تكون البلاد المجاورة لها محتاجة إليها، حتى أشبهت فاس في القرون الوسطى لما تواتر عيث الأعراب على القيروان، واضطربت قرطبة باختلاف بني أمية بعد موت محمد بن أبي عامر وابنه، فرحل من قرطبة ومن القيروان من كان فيها من العلماء والفضلاء من كل طبقة، فنزل أكثرهم مدينة فاس، قال صاحب المعجب في الثلث الأول من المائة السابعة: إن فاس اليوم على غاية الحضارة، وأهلها في غاية الكيس ونهاية الظرف، ولغتهم أفصح اللغات في ذاك الإقليم، وما زلت أسمع المشايخ يدعونها بغداد المغرب، وبحق ما قالوا ذلك، وقال: إن القيروان كانت منذ الفتح إلى أن خربها الأعراب دار العلم بالمغرب، إليها ينسب أكابر علمائه، وإليها كانت رحلة أهله في طلب العلم، فلما استولى عليها الخراب تفرق أهلها في كل وجه، فمنهم من قصد مصر، ومنهم من قصد صقلية والأندلس، وقصدت منهم طائفة عظيمة أقصى المغرب، فنزلوا مدينة فاس.
قصدوا فاس كما قصد الأندلسيون بلاد مراكش والجزائر وتونس وطرابلس ومصر والشام لما أذن الله بانقراض دولتهم فعدوا من أهلها، بل كما رحل الإيطالي والألماني والإسباني والإنكليزي والفرنسوي إلى أميركا، لما ضاقت سبل الرزق في وجوههم، فعدوا أميركيين وأنشئوا يخدمون أميركا أكثر من خدمتهم لبلادهم، حتى إذا تناسلوا فيها جاء أولادهم أميركيين صرفا، وكلما ارتقت الأمم تتطال إلى إدماج غيرها في مجموعها، والأمم الإفرنجية اليوم أكثر تسامحا في هذا المعنى من الأمم الشرقية كما يظهر بالاستقراء.
قال ابن حزم الأندلسي: إن جميع المؤرخين من أئمتنا السالفين والباقين دون محاشاة أحد، بل قد تيقنا إجماعهم على ذلك متفقون على أن ينسبوا الرجل إلى مكان هجرته التي استقر بها، ولم يرحل عنها رحيل ترك لسكانها إلى أن مات، فإن ذكروا الكوفيين من الصحابة - رضي الله عنهم - صدروا بعلي وابن مسعود وحذيفة - رضي الله عنهم - وإنما سكن علي الكوفة خمسة أعوام وأشهرا (قال ابن حجر: صوابه أربعة أعوام) وقد بقي 58 عاما وأشهرا بمكة والمدينة شرفها الله تعالى، وكذلك أيضا أكثر أعمار من ذكرنا، وإن ذكروا البصريين بدءوا بمران بن حصين، وأنس بن مالك، وهشام بن عامر، وأبي بكرة، وهؤلاء مواليدهم وعامة زمن أكثرهم وأكثر مقامهم بالحجاز وتهامة والطائف، وجمهرة أعمارهم خلت هنالك. وإن ذكروا الشاميين نوهوا بعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وأبي عبيدة بن الجراح، ومعاذ، ومعاوية، والأمر في هؤلاء كالأمر فيمن قبلهم ، وكذلك في المصريين عمرو بن العاص، وخارجة بن حذافة العدوي، وفي المكيين عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، والحكم في هؤلاء كالحكم فيمن قصصنا فيمن هاجر إلينا من سائر البلاد، فنحن أحق به وهو منا بحكم جميع أولي الأمر منا الذين إجماعهم فرض اتباعه، وخلافه محرم اقترافه، ومن هاجر منا إلى غيرنا ملاحظ لنا فيه، والمكان الذي اختاره أسعد به.
التفاضل بالبلاد
ألف الناس التمجد بالبلاد والآباء والأجداد والمال والبنين، عادة في البشر تكثر فيهم بكثرة الجهل، وتقل بانتشار العلم. ولقد كان لأهل هذه البلاد من هذا التمجد الباطل قسط وافر ساعد على إنمائه في النفوس جهل بعض ولاة الأمر السالفين، واتخاذ هذه الأضاليل حجة على من يريدون مناوأته وإرجاعه إلى الطاعة، لطالما خطب الحجاج في أهل العراق، ووصفهم بقوله أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، وأطلق عليهم من قبله ومن بعده من أمراء ذاك القطر مثل تلك الصفات، وما كانت هذه المعاملة لأهل العراق إلا سياسية، ولو كانت أخلاقهم كذلك، وكان فيمن ولي رقابهم علم وشفقة؛ لسعى السعي الحثيث إلى نزعها منهم بحكم العادة والأسوة والقدوة، ولعل هذه الدعوة كانت جملة فلسفة أولئك الحكام وبيت قصيد حملهم على رقاب الناس، وكان من أهل الشام أن وسمهم أعداؤهم بكل كبيرة، وألصقوا فيهم باطل التهمات، وهكذا الحال بين الشام والحجاز والشام والعراق.
فإن معظم المؤرخين والمؤلفين نبغوا في العراق، فأكثروا في مصنفاتهم من الأحاديث الموضوعة على أهل الشام؛ لقلة من كتب من هؤلاء ودافع عنهم، ومثل ذلك قل في المغرب مع مصر، ومصر مع الشام، وفارس مع الهند، وكلها في الحقيقة سفاسف لا تساوي درهما عند المحققين، وما البلاد في أمر الأفضلية إلا سواء، لا يفضل شرق عن غرب ولا جنوب عن شمال إلا بالعلم النافع والأدب الرافع والعمران والسعادة؛ ولذا ضل رأي من وضعوا من المتأخرين كتبا خاصة في فضائل بلد أو قطر، وأضل منهم من وضعوا أحاديث مكذوبة على الرسول
صلى الله عليه وسلم
في تفضيل مدينة أو بلد، كما ضل من وضعوا الموضوعات طعنا على فئة خالفت ما هم عليه.
وبعد، فالأرض كلها سواء في هوائها ومائها، دحاها الله ليعيش فيها البشر، ويتنقلوا في أقطارها، وقد لا تختلف الأقطار المتنائية في قوة الإنبات إلا قليلا، فليس من العقل أن تمدح بلد لجبل فيها، أو سهل فسيح حواليها، أو نهر كبير يمر في وسطها، ولا أن تذم أخرى لحرارتها أو لضيق حاراتها وجاداتها.
فكانت مصر - ولا تزال - مثلا منذ ألوف من السنين طريدة من الأرض عرفت بخصبها وغناها الطبيعي، وكانت الشام - ولا تزال - منذ ألوف من الأعوام مشهورة باختلاف أهويتها، ورقة نسيمها، وتنوع جبالها وأوديتها ، فما عد ذلك فضيلة للأولى على الثانية ولا للثانية على الأولى، بل حسب لهما خاصية يمتاز بها كلا القطرين بعضهما عن بعض، وقد أنصفهما في الوصف أحد عمال الدولة، وقد سئل عنهما فقال: مصر مزرعة ممرعة، والشام مصيف بهيج.
إن كان ما تفاخر به البلاد بعضها بعضا هذا إذا سوغنا التفاخر، فبالعلم والتربية وغلبة الفضيلة والخير على طبقات الناس كلها، لا بالماء والهواء والواحات والجبال والأودية والأشجار والأثمار، وكل ما وزعته الطبيعة بين بلدان العالم، فنال كل منها بحسب حالته. دخل أبو الحكم المغربي الأندلسي الحكيم المرسي مدينة دمشق، فلما حل ظاهرها سير غلاما له يبتاع لهما ما يأكلانه في يومهما وأصحبه نزرا يكفي رجلين، فعاد الغلام ومعه شواء وفاكهة وحلواء وفقاع وثلج، فنظر أبو الحكم إلى ما جاء به، وقال له عند استكثاره: أوجدت أحدا من معارفنا، فقال: لا، وإنما ابتعت هذا بما كان معي، وبقيت منه هذه البقية، فقال أبو الحكم: هذا بلد لا يحل لذي عقل أن يتعداه، ودخل وارتاد منزلا وسكنه، وفتح دكان عطار يبيع به ويطب، وأقام على ذلك إلى أن وافاه أجله.
ومثل ذلك ما وقع للملك المعظم شمس الدين توران شاه أخو السلطان صلاح الدين يوسف، لما تمهدت له بلاد اليمن واستقامت أمورها، مل المقام بها، وحن إلى الشام، وفيها نشأ واشتاق إلى خيراتها والتمتع بثمراتها ؛ إذ إن اليمن محرومة ذلك، قال ابن خلكان: فكتب إلى أخيه صلاح الدين يستقيل منها، ويسأله الإذن له في العود إلى الشام، ويشكو حاله وما يقاسيه من عدم المرافق التي يحتاج إليها، فأرسل صلاح الدين رسولا مضمون رسالته ترغيبه في الإقامة، وأنها كثيرة الأموال ومملكة كبيرة، فلما سمع الرسالة قال لمتولي خزانته: أحضر لنا ألف دينار فأحضرها، فقال لأستاذ داره والرسول حاضر عنده: أرسل هذا الكيس إلى السوق يشترون لنا بما فيه قطعة ثلج.
فقال أستاذ الدار: يا مولانا هذه بلاد اليمن من أين يكون فيها ثلج؟ فقال: دعهم يشترون بها طبق مشمش لوزي، فقال: أين يوجد هذا النوع ههنا؟ فجعل يعد عليه جميع أنواع فواكه دمشق، وأستاذ الدار يظهر تعجبه من كلامه، وكلما قال له عن نوع يقول له: يا مولانا من أين يوجد هذا ههنا؟ فلما استوفى الكلام إلى آخره قال للرسول: ليت شعري! ماذا أصنع بهذه الأموال إذا لم أنتفع بها في ملذاتي وشهواتي، فإن المال لا يؤكل بعينه، بل الفائدة فيه أنه يتوصل به الإنسان إلى بلوغ أغراضه.
ولعمري، هل يصح أن تجعل أمثال هذه القصص حجة في أفضلية دمشق على غيرها من أمهات المدن حيث المعيشة غالية، وهل هذا الرخص مما ينبغي أن يفاخر به، وأهل الاقتصاد في عصرنا يجعلونه إذا استحكم من بلد شؤما عليه، ويعدون البلد كل البلد الذي غلت فيه أسعار الحاجيات والكماليات، وارتفعت الأجور والارتفاقات على نسبتها، والأمثلة على ذلك كثيرة، فإنه يبلغنا لهذا العهد عن بلاد الأناضول وهبوط أسعار المأكولات فيها لقلة ما يصدر عنها، ما لا يكاد يصدق لولا تواتره على ألسن الطارئين على ذاك الصقع، فهل تفضل السكنى فيه على الروم أيلى المرتفعة أسعار الأرزاق فيه، وبعد، فإن كان لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، فلا فضل لبلد على آخر إلا بالعلم والعمل والسعادة الحقيقة.
النزلاء المسلمون1
قضى الله على هذا القطر أن يكون منذ القديم مهاجرا لأمم الأرض، ولا سيما من الأولى قيض لهم الحكم عليه من روم وفرس وترك وجركس وكرد، أو كانوا مجاورين له من شماله وجنوبه وشرقه وغربه، فيأتيه بعضهم متاجرا، وآخر موظفا، وفريق غازيا وغيره مسالما، وتربة مصر الجيدة تبتلع من تبتلع من تلك العناصر وتحيلهم بوتقة النيل مصريين، ومنهم من يعود من حيث أتى بعد أن يقضي في ربوعها زمنا، وقد استفادوا منها ماديا أو معنويا.
وكان بعض تلك الأجناس إذا نزلوا العاصمة وقواعد المدن في القطر يجتمعون في بقعة واحدة، ويؤلفون جماعة أو حزبا، ويتخذون لهم حارات خاصة بهم يسكنونها، ومحال تجمعهم وعادات يحرصون على الاحتفاظ بها والجنسية علة الضم، أو كما قال امرؤ القيس:
وكل غريب للغريب نسيب
أما إذا نزلوا الأرياف فقلما كنت ترى لهم كلمة، فيبقون في غمار السكان في الغالب ويمتزجون بأهلها، فيجعل ذلك لهم فقد لغاتهم أن يكونوا لا يتكلمون العربية، أو فقد جنسياتهم إن كانوا عربا، وما هي إلا بضع سنين حتى يصبحوا مصريين صرفا.
والغالب أن كل فاتح يستعين بالغرباء على قيام أمره، ويعتمد في الأكثر على أناس من بني جنسه، هكذا فعل الرومي والفارسي قبل الإسلام، وهكذا فعل التركي والجركسي والكردي والأرناؤدي بعده، وإن كان الإسلام قد منع من القول بالجنسية والعصبية، ولكن الدول تراعي في هذا الشأن حالة الزمان والمكان، ثم إن الغالب يرى من الواجب عليه أن يقرب إليه الأقرب والأقرب، والأقربون أولى بالمعروف.
هذا إجمال من تاريخ نزول الذين هبطوا مصر في الأدوار السالفة، وإنا لنرى منه اليوم مثالا مجسما من المحتلين وتوسيدهم الوظائف الكبرى الرابحة إلى أبناء جلدتهم، فإذا لم يجدوا منهم من يرتضونه، يختارون أن يوسدوها إن أمكن لرجل أوروبي بدل المصري أو العثماني، كما يختارون توسيدها للمسيحي أو غيره من غير أهل الإسلام.
بمثل هذه الحال السياسية يحدث الخلف بين الوطني والنزيل، ويلتف كل فريق على فريقه، والحكام من وراء ذلك يسرون بهذه الفرقة بين الأجناس والعناصر، ما دامت القاعدة التي سارت عليها الحكومات هي «فرق تسد»؛ ولذلك كان يزداد هذا التنافر بين الدخيل والأصيل، كلما نفخ الحاكم في ضرامه، ويخمد كلما انقطعت عنه مادة التفريق، وهذا ما دعا إلى أن تكون لكل عنصر من النزلاء جمعياتهم الخاصة بهم ومدارسهم وكنائسهم وحاراتهم ومحالهم وأنديتهم.
لا يكاد يمضي شهر إلا ويجيئني كتاب من جماعة، يطلبون إلي أن أشاركهم في جمعية سورية، يريدون تأسيسها لغرض اجتماعي أو أدبي أو خيري، وأن أساعدهم مساعدة أدبية بالقلم إن لم تتيسر لي مساعدتهم بالدينار والدرهم فأعتذر إليهم، فمنهم من يقبل العذر، ومنهم من لا يقنعه قولي ويحمله على ما يقع في نفسه من الظنون، ومعظم هؤلاء الداعين جماعة من المسيحيين يريدون أن يكثروا بالمسلمين سوادهم، ويستعينوا بهم على غرض يرون فائدته لأبناء بلادهم.
المسلمون العثمانيون أو السوريون في مصر أفراد قلائل بالنسبة لسائر العناصر؛ ولذلك لم ير اللورد كرومر في كتابه «مصر الحديثة» أن يخصهم بكلمة لقلة سوادهم، وبعبارة أخرى إن أكثرهم من التجار أو من السوقة لا يدخلون في مسائل البلاد العمومية، ولا يتأتى للاحتلال أن يعتمد عليهم؛ لأن الدين يمنعهم من خدمة أفكاره، وهم يرون المصريين إخوانهم في الدين والتابعية واللغة والجوار، وهل أعظم من ذلك رابطة؟!
وما راعني أمس إلا كتاب من أحد المسلمين السوريين من تجار هذه العاصمة، يقول لي: إنه ساع مع بعض أصحابه في تأسيس جمعية خيرية إسلامية سورية بالقطر المصري، تساعد الفقراء السوريين المسلمين ممن لا ناصر لهم ولا ملجأ، يلجئون إليه عند الشدائد؛ وذلك لأن إلقاء حبلهم على غاربهم مما يشين سمعتنا الأدبية بين الخاص والعام، ولا فرق في ذلك بين الدمشقي والحلبي والبيروتي والطرابلسي وغيرهم؛ لأنهم كلهم أبناء طائفة واحدة، وتظلهم راية واحدة، ويدور محور أعمال هذه الجمعية على مواساة الفقراء، وتربية الأيتام على الطرق الحديثة، وإدرار الأرزاق على الأرامل والمرضى، وتجهيز الموتى، وتسفير الفقراء، وتتولى الجمعية غير ذلك من أعمال الخير، وستكون قيمة الاشتراك في الشهر عشرة قروش صحيحة، وإذا تبرع بعض الأغنياء بأكثر من ذلك فيكون لهم الفضل ... إلخ.
هذه خلاصة الكتاب، وفيه من الحث على مساعدة الجمعية ما هو طبيعي، ولكن حسن ظن القوم بي لا يمنعني من النصح لهم، بأن يجعلوها جمعية خيرية مطلقا بدون وضع اسم «السوري» عليها، وأرجو ألا يحمل ذلك على ضعف في الوطنية، بل أن يتدبر القائمون بالأمر فيما أقول.
المسلم السوري هنا لا يعتبر كما يعتبر غيره خصوصا، وهو - كما قلنا - لم يدخل في معترك السياسة المصرية؛ ولذلك ينظر إليه المصري بأنه أخوه ووطنيه يعامله كما يعامل ابن النيل، ويبوح إليه ببثه وحزنه ويصاهره ويعاشره ويرتبط به؛ ولذلك تدعو الحكمة أن يقوم السوري هنا - إن كان لا يرى مندوحة له عن أن يسمي نفسه بهذا الاسم - في جميع أعماله تبعا لأخيه المصري.
ليعمل السوري الخير، ولكن لا على أنه سوري، بل على أنه مسلم أو مصري؛ لأن الأدب يقضي عليه أن يندمج في جسم أخيه المصري لينتفع كلاهما بصاحبه، وما جزاء من يحب إلا أن يحب، ومن أدب الغريب ألا يجهر بأن مصلحته تخالف مصلحة من ينزل عليه.
المسلمون من أهل البلاد المجاورة لمصر ما زالوا منذ القديم يهبطون هذا القطر كسائر الأمم، ولكنهم يندمجون في سلك أهله، ولا يلبثون أن تكون لهم نفس حقوقهم؛ وذلك لما وقر في النفوس من انتفاء الجنسية في الإسلام؛ ولأن من مصلحة النزيل أن يكون تبعا للزميل لا يقاومه في رغباته، بل يخدم الغرض الذي يرمي إليه ما دام الغرض لا يتعدى طور العقل، فيجد النزيل من ابن البلاد كرم الوفادة بما لا يعذر به ابن البلاد نفسها، والغريب بالنظر لنشاطه إذا لزم الأدب مع من ينزل عليه يربح أكثر من حرصه على الأسماء.
وما سورية ومصر إلا بلدان متجاوران، والسوري الذي ينفع مصر مصري والمصري الذي ينفع سورية سوري، والحمد لله أن خلقنا في زمان سقطت معه دولة التحزب للجنسيات، فلم يعد الناس كما كانوا في الأزمان السالفة يعادي بعضهم بعضا في القطر الواحد، بل في البلد الواحد، بل في الحارة الواحدة على أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، اللهم إلا عدم المعرفة بطبيعة الكون ، وطبيعة تنقل الناس في هذه الأرض منذ القديم.
الحمد لله أن جئنا في زمن نسمع فيه أن البشر يفكرون في اختيار لغة واحدة تجمعهم ليتعارفوا بها، وأن يزيلوا الحدود من تخوم الممالك؛ حتى لا يكون بين أمة وأمة ما يصدهما عن الاختلاط وجلب المنافع ودرء المضار.
وإن كل عاقل ليوقن بأن النغمة التي ضرب على وترها بعض السوريين في هذا القطر على عهد انتشار حرية الأقلام لم تكن إلا من باب «خالف تعرف»، أراد بها أربابها التذرع إلى نيل الشهرة أو أغراضا مادية أخرى، ولذلك أخشى أن تكون تلك النغمة التي سكنت نأمتها الآن هي التي بقيت بقاياها في أذهان بعض المسلمين من السوريين، فقاموا اليوم يريدون أن يخرجوا عن الجماعة، ويؤسسوا لأنفسهم جمعية تضم شتاتهم، ولو فعلوا لكان شرها أكثر من خيرها، وعلى الله قصد السبيل.
غوطة دمشق1
إيه، غوطة الفيحاء، مجلى الطبيعة ومغنى الأنس، وروضة الطيبات، ومهبط التجليات، سلام زكي كتربتك المسكية، جميل جمال بسطك السندسية، عطر كأنوار أدواحك الجنية، وتحية طيبة تتساقط على عمرانك، تساقط الوابل والطل على جناتك الغناء، وحراجك الغلباء، وأشجارك الميلاء، وغلاتك الكثيرة الأتاء.
سلام عليك يا مستقر النعماء، وقرارة الهناء والرخاء، وخير خلوة يفزع إلى أرجائها الناسكون والعالمون، ويتقلب في أجوائها عشاق الطرب وأرباب المجون، فيك تتجسم عظمة خالق السماوات إذا بالغ في الإفضال على الأرضين، وتبدو همة الخلق إذا صحت عزائمهم أن يكونوا عاملين لا خاملين، فليس في الأقاليم ما يفوقك باعتدال المواسم، وافترار المباسم، وتلون المظاهر، وتنوع الثمرات والأزاهر، وتلوي الجداول والأنهار، وتجلي الطبيعة في العشايا والأسحار.
سلام على وادي دمشق، إنه آية الحسن والإحسان، فيه تتجدد الحياة كل حين؛ لأنه بمنزلة الربيع من الزمان، ويحلو العيش في ظل أفيائه على سذاجته مهما كان مرا، وتطمئن النفس إلى التنقل في رباعه بردا كان أو حرا، إيه غوطة جلق لم يؤثر عنك أن أمسكت خيراتك عاما عن أبنائك، فلا تفتئين على الدهر تخرجين لساكنيك أفلاذ أكبادك، على تعاقب الأمم والدول، وتصدقين الود لكل من يطلب قربك، فيعيش معك في رخاء وصفاء.
سلام على سكونك في الليالي الظلماء والقمراء، ربيعا كان أو صيفا أو خريفا أو شتاء، وهنيئا مريئا لمن يستمتعون بالنظر إليك من الصباح إلى المساء، ويتعهدونك بالحرث والكرث والتقليم والتنقية والزرع والإرواء، سواء عندهم حمارة القيظ وصبارة القر، وظلمة الليل وشمس النهار، سلام عليهم أنهم مثال النشاط في المزارعين، لا يضنون على أرضهم بأوقاتهم وأتعابهم، وهي تجودهم ضروب الخير والمير كلما جودوا زراعتها، وتزيدهم بركات على بركات كلما رعوها فأحسنوا رعايتها، وهم مهما صهرت جسومهم حرارتها، وصفرت سحناتهم رطوبتها بيض الوجوه شم الأنوف؛ لأن رزقهم مناط أيديهم العاملة، لا يعتمدون في تحصيل قوتهم على غير قوتهم، ولا يتكلون إلا على من ينزل الغيث، ويمرع الزرع، ويدر الضرع، ولو حسن فيها نزع الفضول من العقول، وأنيرت بأنوار علوم المدنية على الأصول، فتعهد أبناؤها بالتربية كما تربى عندهم الرياض والحقول، وتوقى مما يؤذي الزروع والثمار والبقول، لكانت خير بقعة يسكنها ساكن في الحياة، ولصح عليها قول من قال: طوبى لمن كان له في أرضها مربض شاة.
سلام غوطة دمشق كلما غردت أطيارك، فلك على المشاعر سجع الحمام واليمام، وهديل العندليب والهزار، وتغريد العصفور والشحرور، كيف لا تستهوين النفس، ونعيق الغربان، ونقيق الضفادع، إذا رددهما الصدى في لياليك يفسرهما القلب بمعان لا تفهم منهما في الكور الأخرى، كما يفسر في النهار ثغاء الماعز والحملان، وجؤار البقر وخوار الثيران.
فسلام وألف سلام عليك يا كريمة الطبع، وبديعة الصنع، وعريقة المجد، ونبيلة الجد والجد، وزكية العرق، وهينة الرزق، وطيبة النجار، والمحسنة للأهل والجار، ففي مغانيك تصفو النفس من كدورات هذه الحضارة الملفقة، وتنجو من سماع فظائع الإنسانية المعذبة، وبقليلك - وإن كان قليلك لا يقال له قليل - يغتبط الإنسان، ولا يتكالب على حطام الدنيا تكالب الضاري من الحيوان، ويطلع الزهرة ربة الجمال من منافذ أفقك، توحي إلى الخيال روحا من عندها، فتفيض القرائح وترق العواطف، وفي منبسط صعيدك الطيب، يسلو الخاطر همومه، وتطرب الحواس، من دون ما كاس، ولا نغمة أوتار وأجراس.
في هذا الريف العجيب تقرأ سور العدل الإلهي في تقسيم الأرزاق، فلا فقر مدقع، ولا غنى مفرط، ويعيش القائمون على تعهده عيشا متشابها إلا قليلا، يغتني أفراد منهم بذكائهم واقتصادهم، فلا ترى في فقرائهم سلاطة الجياع أرباب النهم، ولا في أغنيائهم قسوة قلوب أهل الرفاهية والنعم، فسبحان من وفر للغوطة قسطها من الغنى والغناء، وضاعف لها حظها من الجمال والاعتدال، وأجزل لها عناصرها الحيوية، فزادها كر الجديدين نماء إلى نماء.
شبه جزيرة كليبولي
إلى هذه البقعة الطيبة بمناظرها وغاباتها وسهولها وجبالها يهوي اليوم ويحق له أن يهوي فؤاد كل عثماني يحب هذا الوطن المحبوب ، ويتفانى في التبرك بتربته، ويخاف عليها من عوادي المعتدين، ويكره لها ظل المستعمرين من الغربيين.
جزيرة مستطيلة كهذه يبلغ عرضها - فيما أذكر - من ستة كيلومترات إلى ثلاثين، وطولها 85 كيلومترا، تتقاذفها القنابل والقذائف والدمرات والمنفجرات وطيارات السماء ودوارع الماء منذ زهاء سبعة أشهر، وهي لا تزال صابرة على الأذى باسمة الوجه للقاء العدى.
في هذه الشبه الجزيرة تجلى العقل العثماني، وتم آخر ما وصلت إليه مدارك أبناء هذا الوطن في استكمال أسباب الدفاع، والأخذ بحظ أوفر من أساليب الكر والفر والتعبئة والمصاف، ولولا هذه العناية والاستهانة بكل عزيز في سبيل الذود عن حمى هذه الشبه الجزيرة؛ لتبدلت وجه الحرب الأوروبية، ولنالنا من الاضطهاد ما لا يكاد يخطر لنا على بال.
هذه الأرض المحاطة بالبحر من أكثر أطرافها عرفت دول الاتفاق المربع أن هناك قوة أسمى من قوة البشر، وهي القوة الإلهية التي استند إليها العثمانيون قبل كل شيء، ودونها قوى الأساطيل والغواصات والطيارات والمقذوفات والمفرقعات، يضاف إليها يقين مازج الأفئدة، والأرواح من ثقة الانتصار، وكراهة ليس بعدها غاية لحكم الأجنبي والتشبيع بمعاني الوطنية والجنسية.
وقفت على جبهات الحرب في مواقع «آري بروني» و«أنافورطة» و«جناق قلعة»، وأشرفت على أنحاء «سد البحر»، وهي المواقع الأربعة التي دار ويدور عليها القتال، واشتد فيها الطعن والنزال، فعظم في عيني غناء جيشنا، وفاخرت نفسي بقوادنا وضباطنا وجندنا، وأيقنت أننا إذا ضممنا شملنا في كل نازلة وكل شأن، وتذرعنا بعامة الأسباب التي يتذرع بها البشر الممدن، نضاهي أعظم الدول منعة ومضاء، وها قد قضينا باعتصامنا بحبل الله على مطامع الطامعين، وهم ما هم بقواهم البرية والبحرية.
سبعة أشهر مضت على دفاع جناق قلعة والعدو يمخر العباب بدوارعه وطراداته ورعاداته ومدمراته، ويخرج إلى البر الكتائب أثر الكتائب، ويستجلب السلاح، ويتذرع بأقصى ما وصل إليه طوق الإنسان من التفنن في إرهاق الخصم واقتحام السبل، فلم يستطع التقدم شبرا عن المكان الذي نزله أول يوم، ولا يزال جيشه تحت حماية أساطيله لا ذرى له ولا أكمات، وجيشنا يطل عليه إطلالا يذيقه كل يوم مرارة الهزائم ألوانا وأشكالا، ويفحش القتل في رجاله حتى قدر الهالك منه بنحو مائة ألف، فقدها وفقد معها جانبا من أسطوله، وأنفق عشرات الملايين من الدنانير، وهو في مكانه لم ينل ولن ينال بحول الله ما تطمع به نفسه من استباحة حمانا.
هذا المضيق هو في الحقيقة مفتاح دار الخلافة، وكان المتفقون على مثل اليقين بأن عمله سهل يحتاج إلى بضعة أسابيع، ولكن خيب المولى ظنونهم ونعى عليهم اعتدادهم بقوتهم، وألقى عليهم أمثولة مما ينال الظلمة من سوء المغبة، وأن التمويه للعبث بعقول الناس لحكمهم كما تحكم البهائم إن جاز يوما فلا يجوز على الأمم في آخر، وأن الله لا يضيع عمل عامل.
إن دفاعنا في حمانا في جناق قلعة قطع آخر عرق من الآمال للمتفقين، وقضى على مطامعهم فينا أبد الدهر إن شاء الله، ومن رأى ما رأيناه هنا من إبداعنا في طرق القتال، وشاهد استعدادنا في خصومنا وطرقنا وسلاحنا ومدافعنا ونظام جيشنا، وما ينبغي له من المؤنة والذخيرة والتمريض، يجهر بصوته قائلا: هذا عمل لا يتهيأ إلا لأمة تحب أن تبقى، ولا يتيسر ذلك إلا لمن كتبت له السعادة.
غابات شبه جزيرة كليبولي ونجادها ووهادها وسواحلها وسهولها، لقد طلت في ربوعك دماء زكية من دماء العثمانيين، ولكنها ستبقى على جبين الأيام مسكية الأريج عطرة بالثناء، تنم عن معرفة من استشهدوا في سبيل الفرض الوطني، وذاقوا معنى الوطن والوطنية، إن الدم الطاهر الذي أريق على تربتك جعل لها ريحا من ريح الجنة، وسيكون لمن فادوا بها من الذكر الجميل ما كان لأبطال المسلمين في وقائع الصليبيين، وشعار ذلك: هذا عمل أفراد قتلوا ليحيوا أمة، وفادوا بنفوسهم في سبيل الله ليحموا ذمار الخلافة المعظمة، ويربئوا بهذا الوطن عن أن يستباح حماه، ويحافظوا بأرواحهم على آخر دولة إسلامية مستقلة، جمعت شمل الإسلام والمسلمين، وحمت حمى الحرمين الشريفين.
كلما هبت الصبا والشمال على أرجاء شبه جزيرة كليبولي، وطلعت عليها الشمس وغربت، وأقمرت السماء وأظلمت وأمطرت وأثلجت، وأرعدت وأبرقت، يردد لسان الحال فيها هذه ثمرة التضامن بين أعضاء البيت الواحد، هنا قضى العربي والتركي والكردي واللازي وغيرهم لإعلاء كلمة الحق، واتقاء عادية الدخيل الثقيل، هنا نظم العثمانيون أرقى جيش انتظم لهم منذ عهد الفاتح وسليم وسليمان وتشبع أهله بروح الوطنية، وغنم غزاتهم أحياء وأمواتا سعادة الدارين.
أرض شبه جزيرة كليبولي، ستبقين مقدسة في نظر كل مسلم كما قدس الله الأرض المقدسة، وستذكرك الأجيال عقيب الأجيال والدهور أثر الدهور بالإعظام والاحترام، كما تذكر هذه الحرب العامة بالهول والاستغراب، أنت كذبت البشر في ادعائهم أن «كل محصور مأخوذ»، وأكدت لهم عكس القضية في أن «كل محصور محفوظ»، فسلام عليك محاربة ومسالمة، وألف ألف رحمة ورضى على عظام شهداء ضمتها تربتك الطيبة، ومروجك السندسية وتلعاتك الزمردية.
جبال طوروس
هذا مضيق يسمونه اليوم «كولك بوغازي»، ومعناه مضيق الكيلة كيلة الحبوب، كانت العرب تسميه الدرب أو الدروب، ذكره امرؤ القيس ملك الشعر في الجاهلية في شعره لما توجه إلى قيصر الروم، وكان مشى معه صاحب يقال له عمرو بن قميئة الشاعر، فلما رأى عمرو الدرب وهو الحاجز بين بلاد العرب وبلاد العجم بكى جزعا لفراقه بلاد العرب ودخوله بلاد العجم، ففي ذلك قال امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما
نحاول ملكا أو نموت فنعذرا
أما نحن فابتهجت أنفسنا وايم الله، واطمأنت لما اجتزنا الدرب، وعلمنا أننا نركب بعده القطار، ولم يبق لنا إلا ساعات معدودة لنبلغ دار السلطنة، بهجة الدنيا، وقرارة الدعة، ومدينة المنعة، ومهد الظرف واللطف، وبلد الشعر والخيال، إن الدرب أو مضيق «كولك بوغازي» واد تتخلله الأنهار والجداول، ويكسو شجر الأرز نجاده ووهاده، على صورة تظنها من هندسة أعظم مهندسي الزراعة لعهدنا، وما وهو في الحقيقة إلا مما نبت واستطال بنفسه، أنت لا تنفك منذ تطأ عتبة جبال طوروس، تشم أريج شجرها ورندها وعرارها، ولا تسأم من مناظرها؛ لأنها منوعة في تقاطيعها وجمال هندستها، بحيث لا تمل العين النظر ، ولا الأنف الشم ولا الأذن السماع؛ لحفيف أشجاره، وتمايل أغصانه، وثغاء حملانه، وخرير مياهه، وأصوات عندليبه وهزاره.
إن من يسمع من بعد وصف «كولك بوغازي» يقول في نفسه: ماذا عسى يكون في هذا المضيق؟ وجبال الدنيا كثيرة متشابهة، صخور وتلعات، وأكمات وبطون ومنفرجات، وشيح وقيصوم، وسنديان وزان، ولكن جبلنا هذا لا يشبه الأجبل بحال؛ لأن مدير الأكوان خلقه على غير مثال من الجبال، ولون صخوره، وأحسن قطعها، فمنها الكبير الهائل، ومنها الصغير الحقير، وتربته حمراء وسوداء وبيضاء، ترى تارة في الهضاب طريقا معبدة من الصم الصلاب، أو مرصوفة بالتربة الذكية، غرست فيها يد القدرة أشجار الأرز غرسا يتخلل الهواء بيننا، ولا تنبو العين عنها لعدم نظامها، واختلال هندستها، وترامي أبعادها، وهناك الأشكال الهندسية برمتها: فمن تلعة مستطيلة إلى أخرى هرمية، وبجانبها ذروة ذات شكل بيضوي، وآخر محدوب أو مربع أو قائم الزوايا ومنفرجها، جعل بعضها إلى جانب بعض، ومساحتها السطحية متقاربة، وكلها مزينة بالأشجار، أنت هنا تجتاز واديا ولا كالأودية، بحيث تعطي الحق لمن قال في القدم: «ماء ولا كصداء» و«مرعى ولا كالسعدان» و«فتى ولا كمالك»، ولو رأى القائل الدرب لقال: مضيق ولا كهذا وجبال ولا كطوروس.
هذه العظمة في الخلق التي تراها ماثلة على أتمها في جبال طوروس التي أعجزت الفاتحين من الأقدمين والمحدثين، فكانت كالحاجز الطبيعي الذي لا يرام بين الثغور وبين بلاد الروم، عامرة بطبيعتها، هندسها الفاطر، وحفها بأنواع البهجة والزينة، بحيث لا تملها نفس مهما اكتأبت، وتود لو تقضي فيها شطرا من العمر، بعيدة عن ضجة العالم وأوهام الخلق، وترهات المتمدنين والمتبربرين.
جبال طوروس البديعة، لقد أعجزت الفاتحين عن اجتياز مضايقك، كما أعجزت الشعراء والمصورين عن رسم بدائعك وخصائصك، فما هذا الإبداع الذي عز نظيره في الأصقاع والبقاع، إيه يا منطقة البكم بالشعر، ومعجزة المتكلمين في ذكرى فضائلك وفواضلك.
إن جبال الألب التي استبت الألباب ببدائعها، وجبال الكاربات التي اشتهرت بصياصيها الطبيعية، وجبال حملايا المعروفة بسموها، هي دونك في جمع كل هذه المعاني، ولو هيئ لك ما تهيأ لتلك من يد صناع، تحسن حواشيك، وتهذب من أطرافك، وتتعهد أزهارك وأشجارك بآخر ما اهتدى إليه العقل البشري من ضروب الصناعة، لكنت لعمر الحق معهد اجتماع المصطافين والمرتبعين، ومسرح أنس طلاب اللذائذ الطبيعية والصناعية، وخزانة ثروة لأهلك ولا ينضب معينها، وتنضب مياه الرافدين دجلة والفرات، ولكنه تعالى لا يمنح بلدا كل ما يحتاجه، ولا يجمع في شخص كل الصفات والمزايا، فسبحان من قسم الخصائص بين البلاد، كما قسم الحظوظ بين الجماعات والأفراد.
على قبر أبي الفدا في حماة1
حنانيك إسماعيل، أجبني، فدتك نفوس الملوك يا عالمهم وعادلهم وسيدهم، كنت في عصرك مثال العمل الصالح، وها أنت لمن بعدك عبرة لمن يعتبر.
زرت قبرك الشريف، وذكرت سيرتك المثلى، فبكيت على الإسلام والعرب، وقابلت بما قرأته على ضريحك بين السذاجة الغالبة عليك، وفخفخة الألقاب بعدك.
قرأت: «هذا ضريح العبد الفقير إلى رحمة ربه الكريم إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب عمر في شهور سنة سبع وعشرين وسبعمائة»، جملة لا يجوز نقشها اليوم على قبر أحد العامة، فأين أنت منها يا أبا الفدا في مفاخرك وسؤددك، ومجدك التالد والطارف.
حنانيك إسماعيل كنت في حياتك قدوة الملوك العادلين، تعلم الناس حب الخير، وتعلم العلماء فيما توفروا عليه، والفاتحين ما يفاخرون بمعرفته، والحكماء ما هو ثمالة أمجادهم، وها أنت الآن رهين حفرة، قد كاد ينسى بين قومك ذكرك فلا تبدي ولا تعيد، وقومك نسوا دينهم ودنياهم، فكيف لا ينسون رجالهم.
نشأت أيها السلطان العادل من بيت عز وملك، فلم تأخذ الزخارف بلبك، بل تخرجت في العلم، وربيت على أدب النفس وأدب الدرس، حتى جاء منك عالم، بل معلم للعلماء بسيرته وتفننه.
نشأت نشأة عالية في القرون الوسطى، وغيرك من الملوك نشئوا، ولا سيما بعدك نشأة جاهلية: على الخمر والزمر والقمر، لا يعرفون غير القصور، والولدان والحور، وغاية مفاخرهم أنهم يبطشون ولا يبالون، يقتلون ولا يتألمون، يتعاظمون ولا يتواضعون، يقضون فلا يراجعون، يأمرون ولا يعدلون.
أضحت أحكام بعض الملوك بعدك ذوقية، وأعمالهم على الأكثر استبدادية، اتخذوا الإسلام دينا وهو منهم بريء، وعبثوا بالرخص والعزائم، ليس لهم وازع من أنفسهم، ولا رادع من أممهم، أضحوا جبابرة لا ملوكا، وشياطين لا إنسا، وأنعاما لا يعرفون إلا ما فيه راحتهم، وتوفير قسطهم من اللذائذ والبذخ والنعيم.
كنت أبا الفدا ملكا بالاسم، وملكا بالفعل، كنت شريفا بماضيك وحاضرك، وها أنت إلى يوم الناس هذا وإلى غد وما بعد غد شريف في عامة أحوالك.
لم نعهد لك كما عهدنا للملوك قبلك وبعدك أن عددت الرعية كالسائمة التي تملك، فيتصرف مالكها بدرها ووبرها وجلدها ولحمها، ويعمل مطلقا في الاستمتاع بما لا ينازعه منازع، بل عهدناك تؤاسي الضعيف، ولا تجور على الفقير، وتحسن للعلماء، وتتفضل على الفقهاء والأدباء والشعراء، وتصرف فضل أوقاتك في التأليف والتصنيف، يا ثاني المأمون بعلمك وعقلك، وثاني صلاح الدين بعدلك وجهادك.
أبا الفدا، إن قومك أغفلوك وسيرتك، بل أهملوا ضريحك، ولو ذكروك لساروا ولو قليلا على سنتك المحمودة، فعلمت الملوك من بعدك بسيرتك الطاهرة، كما كنت في عصرك خير معلم للملوك العادلين والعلماء العاملين.
أبا الفدا، إن الملوك بعد عصرك جمعوا كثيرا وأضاعوا كثيرا، جمعوا فكان ملكك بجانب ما ملكوا جزءا صغيرا جدا، وما خلفوا إلا ما تحمر وجوههم خجلا منه، ويأتون في الآخرة، وقد شهدت عليهم لا لهم أعمالهم، وأنت سعدت بمن وليت عليهم وسعدوا بك، فأبقيت ذكرا لا تمحوه الأيام.
أنت علمت الخلق بأن القليل مع العقل يستفاد منه أكثر من الجزيل بدونه، وأن وفرة المال والعقار لا تكون من السعادة في شيء، إذا لم تسبقها نفس مهذبة بالآداب والفضيلة، وعقل يحسن التصرف بما يملك.
من لي بنظرة منك لترى ما حل بالعرب اليوم من التمزيق والتفريق، والفساد في المعاش والمعاد، والجهل المطبق، وضعف العقول، رئم أخلاف من حكمت للمذلة، وخنعوا للاستبداد، وتفرقوا تحت كل كوكب، فرثى لهم الصديق، وشمت بهم العدو، وخانهم الدهر فاستخذوا، وكل ذلك بما فعله سفهاء الأحلام من أمرائهم وعلمائهم إنهم كانوا ظالمين .
قم وانظر، فقد بدلت الأرض غير الأرض بعد عصرك: اخترع الإفرنج في زماننا البخار والكهرباء، ووفروا مرافق الحياة، وقربوا الأبعاد، وحسنوا العيش، أما قومك فليس لهم من مدنية القرون الأخيرة إلا النظر، وزادوا على جهلهم فسادا في أخلاقهم، بحيث لم يبق لهم من المجد إلا أن يعودوا إلى صحيفة أجدادهم، ويفاخروا بما تم على أيدي أمثالك، كالقرعاء تفخر بشعر أمها، أو العجوز الشوهاء لا تفتأ تذكر ماضي شبابها.
قالوا: إن نظام الحكومات بعد أيامك ارتقى، وأنكم كنتم في عصر تقل فيه القوانين الوضعية، وكان أكثر العمل بالقوانين السماوية، فمن لنا بعصرك، فإن القوانين الوضعية ارتقت، ولكن عند غيرنا من أهل الغرب، والقوانين السماوية أعرضنا عنها إلا قليلا، فلم نحسن تقليد المقننين المحدثين، ولا احتفظنا بتراث الأقدمين، فكنا كالعقعق أراد أن يمشي كالحجل، فنسي مشيته ولم يمش مثله، بل كنا من الأخسرين أعمالا.
ألا عطفة من نظراتك الرشيدة أيها الكريم، تنظر أمتك الآن إلى الانقراض أقرب منها إلى البقاء: كل يوم تصغر رقعة بلادها، ويتحيفها الخراب، وينقصها من أطرافها، تحاول تقليد الراقين من الأمم، فلا نراها تستطيع إلا تقليدها في الموبقات والشرور، لا في مقومات الحضارة وأساليب النهوض.
رحماك أبا الفدا، إن أمثالك أنفقوا أموالهم وأموال الأمة في شهواتهم على المغنين والمغنيات، والكواعب الغانيات، وأنت أنفقتها على العلم والعلماء، إنهم إذا كانوا جهلة أغبياء فقد كنت العالم المؤرخ الجغرافي الطبيب الحكيم الفلكي، ومصنفاتك شاهدة لك على غابر الدهر، بأنك عالم الملوك وملك العلماء، خلد أضرابك بسيرتهم صيت بطش وفتك، وقطع وقت في العبث، وأنت أقمت نصاب العدل على من وليت أمرهم، فكانت أيامك رياض الأزمنة وبهجة العصور، فجزاك الله عن أمتك أجزل ما يجازي ملكا صالحا عن رعيته، وعالما عاملا يخدم الناس بعمله وفضيلته. ا.ه.
نحن والمسكرات1
صرنا إلى زمان لو قلنا لحكومتنا: إن الطريقة الفلانية في الحكم أو منهج كذا في القضاء والإدارة لا توافق بلادنا، ولا تنطبق مع عاداتنا، وشرعنا هزت رأسها، وأعرضت عنا إعراضا، وصرنا إلى زمان لو قلت لأكثر أهل الطبقة العليا والوسطى من قومنا قال الله وقال الرسول رأيتهم ينأون عنك، ويصدون صدودا.
فلعل الحاكم والمحكوم عليه إذا أتيتهما بكلام جديد، قاله غيرنا يلقيان إليك بالأسماع، وتلين لمقالك القلوب والطباع، قال بنتام المتشرع الإنكليزي (1748-1832) في كتابه أصول الشرائع: «الخمر في الأقاليم الشمالية يجعل المرء كالأبله، وفي الأقاليم الجنوبية يصبح به كالمجنون، ففي الأولى يكتفى بالمعاقبة على السكر؛ لأنه عمل فظيع، وفي الثانية يجب منعه بطرق أشد؛ لأنه أشبه «بالتشرر». ولقد حرمت ديانة محمد
صلى الله عليه وسلم
جميع المشروبات الروحية، وهذا التحريم من محاسنها.»
نعم، حرم الإسلام الخمر، ولكن أمتنا عز عليها إلا أن تزهد في كل ما أتى به شرعها من المحاسن، وأن تقلد غيرها فيما هم منه يشكون ويئنون، ولو كنا أخذنا عن الغربيين النافع كما تلقفنا الضار لهان الأمر، وسلمنا من النقد بعض السلامة، ولكننا أجدنا التقليد في المضار، ولم نحسن الجري على مثالهم في المنافع.
قضى الله أن تمنى هذه البلاد بحكومة ليست منها ولا مزاجها مما يلتئم مع مزاج من تحكم عليهم، فكان من الغرب أنه أخذ منذ عشرات السنين، يحارب المسكرات بكل قوته، ونحن نفتح لها السبل ونهيئ الأسباب، الغرب يضرب عليها المكوس الفادحة، ونحن باسم الحرية التجارية، وبفضل تهاون الحكومة نقبل من ضروبها ما نعرف جوهره وما لا نعرفه، يقوم قادة الأفكار في الغرب فيبينون مضار الخمور، وينعون على شاربيها، ويضيقون المسالك في وجوه عاصريها وبائعيها، وأغلب قادة الأفكار منا يشربونها بلا حرج ولا نكير، بل يسخرون ممن لا يشاركونهم في إثمهم، ويريدونهم على أن يتشبهوا بهم ليعدوا من المتمدنين العصريين.
فالذنب إذن ليس على الحكومة وحدها، بل عليها وعلى الأهالي أيضا، بيد أن هؤلاء يعذرون بعض الشيء؛ لأن الحكومة لم تعلمهم التعليم الصحيح، حتى يتبين لهم الضار من النافع، وما دام السواد الأعظم جهالا وخيرة الناس ليس لهم من الأمر شيء، فاللوم يرجع على الحكومة في الأكثر.
والغالب أن عميد الاحتلال أدرك ما تتوقع البلاد من الشرور، إذا هي ظلت مسترسلة في الخمور، فقال في تقريره: إن الحكومة وجهت التفاتا خاصا إلى مسألة المسكرات؛ لأنها من المسائل المهمة، وإنها رفضت عام 905م 370 عريضة طلب أربابها رخصا ببيع المسكرات، وأنها لم تعط رخصة إلا بعد أن ظهر من البحث الدقيق أن معظم الأوروبيين المقيمين في جوار الحانة لا يستغنون عنها، وأنه نقص 278 من الأماكن ذات الرخصة وغيرها منها 178 محلا ليست ذات رخصة.
قال: وقد تم الاتفاق مع سكة الحديد على إقفال الحوانيت التي تفتح تحت اسم «بوفيه» في جميع المحطات ما عدا الكبيرة، فكلما انتهت رخصة واحدة منها لا تجدد لها ما لم تكن المحطة مهمة، وإن القانون الحاضر لا يسري على بيع المسكر في زجاجات أو براميل؛ ولذلك لم تراقب دكاكين البقالين، وغيرهم من الذين يبيعون المسكرات.
قال: ويظهر أن العمال في الأرياف قلما يتعاطون المسكرات! وقل أن يرى ساكنو الأرياف رجلا سكران! أما البنادر فالسكر فيها أكثر انتشارا ولكنه ليس كثيرا لحسن الحظ، وقال المستر متشل: من أعظم عيوب نظام الامتيازات الأجنبية أننا نسعى جهدنا في منع بيع المسكر بالمفرق ولا نستطيع منع عمله وبيعه براميل.
هذا كلام زعيم الاحتلال، وهو - كما تراه - لو أنصفت لا يخلو من جمجمة، فقد تلطف في قوله: إن أهل الأرياف قلما يرون ثملا، وإن السكر شائع في البنادر، وإن الحكومة لا تعطي رخصا ببيع المسكرات إلا في المحال التي لا يستغني عنها الغربيون النازلون في جوارها.
كل من طاف الأرياف وخبر حال البنادر والدساكر يتضح له أن الحانات في القرى تزداد سنة عن سنة بل شهرا عن شهر، فيجيء الرومي يفتح دكان «بقالة»، ويضع برميلا من الكحول، فما هو إلا أن تمضي سنة حتى يقتل كثيرين بما يسقيهم من السم الزعاف ويروح بالمغانم، فيكون له الغنم وعلى غيره الغرم، وتستوي في ذلك القرى التي فيها أوروبيون لا يستغنون عن الحانات، فتفتح من أجلهم والقرى التي لا يكثر في جوارها الغربيون.
كلما نادى المنادون في التماس تعديل الإدارة الحاضرة قالت لهم الحكومة: كنت أفعل لولا ما هناك من الامتيازات الأجنبية، فإنها تعوقني عن مباشرة أي عمل، وتغل مني اليد والساعد، ولكن حصون الامتيازات ليست بالذي يصد في الحقيقة من عمل ينتفع به الأجانب كما ينتفع به الوطنيون.
تسمح الحكومة لمأموري الإدارة في بعض المسائل كضبط الأشخاص المشتبه فيهم من الأجانب بدون أن يتداخل القناصل، فهلا سمحت بمثل ذلك لرجال الإدارة في المسكر، فتعهد إليهم أن يفتشوا المحال المشتبه في أنها تبيع المسكرات بلا رخصة أو تبيعها من الأجناس الرديئة، ولا يتوقف ذلك على أخذ الشراب المشتبه به وانتظار شهرين ريثما يحلل التحليل الكيماوي، فإن شوهد أنه رديء فيكون صاحبه قد صرف ما كان عنده منه، وإن ثبت أنه جيد يحق للبقال أو الخمار أن يرفع قضية على رجال الإدارة والصحة، وربما ربح القضية خصوصا إذا كان من غير رعايا الحكومة المحلية.
نعم، كيف يسوغ لرجال النيابة أن يفتشوا أي مكان يرتابون أن فيه أمرا محظورا وعملا يخل بالراحة، فإذا لم يجدوا فيه شيئا يعفون من العقاب ولا تقام عليهم القضايا، وكيف تقام القضايا على رجال الإدارة إذا فتشوا محلا عموميا، ولم يجدوا فيه شيئا من المسكرات وغيرها، فكما عهد لمأموري الإدارة أن ينظروا في المسائل البسيطة مباشرة بدون توسط القضاة وحسنت نتيجة ذلك، فقد كان الأحرى أن يعهد إليهم النظر في مسائل المسكرات لمطاردتها وتخفيف ويلاتها عن البلاد.
إذا أطلقت يد رجال الصحة والشرطة للبحث في الحانات، وعين مثلا يوم للكشف عن المشروبات، ورأى البوليس شبهة قوية في فساد الفاسد منها، وأساغت له الحكومة أن يحجزها كلها، حتى تتضح نتيجة التحليل الكيماوي، وجوزت الحكومة للبوليس إذا اشتبه في أي زجاجة كانت أن يفتحها في الحال، ويعمل بما يراه طبيب الصحة بدون تسويف ولا إمهال، إذا أساغت الحكومة ذلك فقل: إن هذه المسألة سارت الخطوة الأولى نحو الإصلاح.
كل هذه الملاحظات سهلة الإجراء، ولا يظن أن الامتيازات الأجنبية تحول دون تحقيقها، بل إن اللوائح والقوانين الموجودة لو جرى العمل بها، ولم تكن كعلم جابر - اقرأ تفرح جرب تحزن - توقف تيار المسكرات عن جريه بعض الشيء.
تقرأ في القانون المصري الجديد أنه يعاقب السكران ولو لم يعربد، وكان القانون القديم مثل القانون الفرنساوي لا يعاقبه إلا إذا عربد، فكم سكران يعربد كل يوم وليلة يا ترى، وكم سكران يقبض عليه ليعاقب فيكون عبرة لغيره؟
وكذلك ترى في لائحة المحال العمومية أنه لا يجوز فتحها قبل الساعة 6 صباحا من 15 أكتوبر إلى 14 أبريل، وقبل الساعة 5 صباحا من 15 أبريل إلى 14 أكتوبر، وأن ميعاد إقفال هذه المحال يكون في نصف الليل ابتداء من 15 أكتوبر إلى 14 أبريل، وفي الساعة الواحدة بعد نصف الليل من 15 أبريل إلى 14 أكتوبر، وفي المادة السابعة عشرة من هذه اللائحة لا يجوز لأصحاب المحال العمومية أو لمستخدميها أو للخدمة فيها قبول أشخاص في حالة السكر، أو بقاؤهم فيها، ولا صرف المشروبات لهم، ولكن متى نفذت هذه اللائحة؟ وإذا لم تنفذها الحكومة حتى الآن فمتى يكون تنفيذها؟ أو أنها من جملة اللوائح التي هي حبر على ورق طول بلا طول ولا طائل.
ويا ليتنا نعرف على وجه الصحة كم يدخل المواني المصرية كل سنة من الخمور المغشوشة وغيرها، وكيف تكثر سنة عن سنة، ويا ليت الحكومة تضرب على واردات الخمر ضرائب فاحشة كالتي ضربتها حكومة السودان ليصعب تناولها على الفقير، ويوكل - كما قلنا - أمر المشروبات التي تصنع في القطر لرجال الإدارة والصحة ينظرون فيها، ويضيقون على شاربيها وبائعيها تضييقا فعليا لا اسميا، فقد ثبت لأهل النظر أن الخمور المصنوعة في معامل الغرب الكبرى هي أجود ما يعمل من نوعها في المعامل الصغرى، وكذلك ما يصنع في هذه لا نسبة بينه وبين ما يصنع منه في القطر.
وليت شعري لم لا تجري عليه حكومة مصر في مسألة المسكر على نحو ما تجري حكومة السودان، ولو فعلت ذلك لما أتى بضع سنين حتى يخف شاربوه، ويقل بائعوه بيننا، ولكن حكومة تلك الجهات تريد هناك رجالا يعملون وهم صحاة لا سكارى، وفي مصر لا يهمها سكر القوم أم عربدوا، نعم ، إن إنكلترا نفسها في بعض الأقاليم من أفريقيا منعت المسكرات بتاتا، ولكن حكومتنا المباركة عندنا لم تتسامح بالكحول، بل أضافت إليه الحشيش، فتأمل حالة أمة ينخر سوس فساد هذه المواد القتالة عظمها، ويعبث في دمها ولحمها. •••
ماذا عرفنا من مضار الخمور؟ عرفنا أنها تحدث نشوة في النفس، وطربا في الفؤاد، ونفعا في الصحة، ونشاطا في الجسم، ونضرة في الوجه، وعرف الغرب منذ أوائل القرن التاسع عشر مضارها في إزهاق الأرواح، وتشويه الخلقة الطبيعية، وتأثيرها في النسل والعقل، وأنها يزيد بها عدد المعتوهين، بل كاد بعضهم لا يرى استعمالها حتى في الأدوية، يكثر السكر في الأصقاع الباردة مثل روسيا والسويد وشمالي فرنسا ونورمنديا وإنكلترا، ولكن يكثر مناهضوه وتفكر حكوماته في الخلاص منه، فأين هي مجتمعاتنا التي نخطب فيها بمضاره؟ وأين حكومتنا من مناهضته؟ بل إنك ترى زعيم الاحتلال في تقريره مغتبطا بأن الخمور التي دخلت السودان في العام الماضي «كانت ولله الحمد» من النوع الجيد، أي الذي لا يضر بصحة المأمورين والموظفين من الإنكليز والوطنيين.
آه، متى يكون شأن الشرق في السعي وراء المنافع سعي الغرب فيها؟ الغرب لم يكتف بتأليف المجتمعات لمقاومة المسكرات، والنعي على شاربيها، والتنفير منها بالقدوة والتعليم والإرشاد، بل عمد إلى سن القوانين، فاستعان بها لإنقاذ أبناء الجيل الحاضر والجيل الآتي من مضار الألكحول، وكانت أبدا قوانينه تابعة للزمن سائرة بحسب سنة التكامل.
هذه بلاد السويد، وهي من البلاد التي يقرص فيها البرد إلى التي لا فوقها، ومع هذا نراها كما وصفها مكاتب الطان هذه الأيام بعد أن كان يصيب الفرد فيها سنة 1830م 40 ليترا من المكسرات، أصبح لا يصيبه أكثر من 6 ليترات سنة 1895 بفضل ما قام به قادة الأفكار وتابعتهم عليه حكومتهم، أي إنه نزل معدل مقطوعية كل فرد في السنة من المسكر إلى سدس ما كان عليه قبل 65 سنة.
بدأ الإفراط في تعاطي المسكرات ببلاد السويد منذ أواخر القرن الثامن عشر، لما احتكرت الحكومة الألكحول، فاسترسل أهل البلاد في تعاطيها حتى كاد سيلها يجرف كل ما وقف في سبيله، ولم يسكر إلا بسكر منيع أقامته فئة من أهل الخير، وفي مقدمتهم رجل اسمه بطرس ويزلكران عميد مدينة غوتمبورج، جاهد هذا الرجل ثلاثين سنة حتى وفق عام 1855 إلى وضع حد لهذا السم القتال، فبدأ دور الإصلاح، وكان ما عرضه من الأفكار أساسا لوضع القوانين الحاضرة في هذا السبيل، وكلها ترمي إلى معاملة بائعي المسكرات وصانعيها بالقسوة الزائدة.
ضربت الحكومة السويدية على صانعي المسكرات ضرائب فاحشة، وأخذت تزيدها الحين بعد الآخر حتى بلغت سنة 1888م 138 فرنكا على كل هكتولتر، أي مائة لتر، فعجزت المعامل الصغيرة عن صنع المسكرات إذ قضي على كل معمل، إما أن يخرج أربعة هكتولترات في اليوم من الألكحول الخالصة أو يغلق أبوابه، ولم تسمح الحكومة بتنزيل هذا المعدل إلى هكتولترين ونصف إلا سنة 1871، وحظرت أيضا صنع الألكحول إلا في شهرين من السنة فقط، ثم تسامحت ورخصت على توالي السنين بأن تصنع سبعة أشهر في السنة.
وكان من نتائج هذه الذرائع الشديدة أن قل في البلاد عاصرو الخمر، فبعد أن كان سنة 1829م 124 و172 معملا في السويد نزل سنة 1898 إلى 128 معملا.
وجعلت تلك الحكومة بيع المسكرات حرا في الجملة، إلا أنها جعلت معدل ما يباع منه بالجملة 250 لترا، وألا يباع بالمفرق أقل من لتر واحد؛ ليأخذها المبتاع معه، ولا يشربها في المحل الذي يشتري منه، وعاملت الحانات بالشدة الزائدة، وكذلك محال بيع المسكرات، فأمرت أهلها أن يغلقوا محالهم الساعة الثامنة مساء في القرى والساعة العاشرة في المدن، ولم تسمح لبائع أن يتقاضى مالا من رجل ثمن خمر باعه إياه بالنسيئة.
وجعلت السويد 42 فرنكا ضريبة على كل هكتولتر من الألكحول الصافي وهي ضريبة فاحشة، ومنعت كل مديرية من بيع الخمر في دائرة اختصاصها، فأدى ذلك إلى إلغاء معظم المحال التي تبيع بالمفرق، بحيث أصبحت لا ترى في قرى بلاد السويد - وسكانها نحو خمسة ملايين - سوى 123 محلا لبيع المسكرات، بل إنك تمر في أربع ولايات، ولا تجد محلا واحدا لبيعها.
وابتدعت مدينة غوتمبرغ طريقة لفتت إليها الأنظار في جميع الأقطار ألا وهو أن تعهد بتجارة العرقى في كل مقاطعة إلى جمعية تضع منها رأس المال، ولكنها لا تأخذ من الأرباح إلا الفائدة المعتدلة المتعارفة، وتترك ما زاد عن ذلك يصرف في أعمال نافعة؛ فنتج من ذلك أن كل جمعية من هذه الجمعيات لم تر من مصلحتها أن تطلب المزيد في توسيع أعمالها، وبلغت الحال بكثير من أمثال هذه الجمعيات أنها لم تعط جانبا عظيما من الرخص التي يحق لها إعطاؤها، وإذا كانت كل حانة تقدم طعاما أصبح صاحبها لا يربح من الشراب بقدر ما يربح من الطعام؛ ولذلك كان من مصلحته ألا يكثر من بيع الألكحول.
وأنشأت هذه الجمعية في مدينة غوتمبورغ مثلا مطاعم حسنة لا تقدم فيها للمستطعمين غير نوع من المشروبات فقط، رأت أنه يعين على اشتهاء الطعام، وأنشأت في أنحاء كثيرة من المدينة غرفا للمطالعة، يدخلها في السنة نحو ثلاثمائة ألف مطالع، وبهذه الطريقة نزل معدل تناول المسكرات في العشرين سنة الأخيرة إلى 40 في المائة بمدينة أستوكهلم وإلى 45 في مدينة غوتمبورغ، وسنت السويد عام 1892 قانونا إجباريا يقضى فيه على جميع المدارس أن تلقي دروسا في طبيعة المشروبات الروحية وتأثيراتها المضرة.
هذا ما قامت به حكومة السويد، التي لا يحظر دينها تعاطي المشروبات، وهي البلاد المشهورة ببردها وزمهريرها، فما الذي قامت به الحكومة المصرية التي تحظر شريعتها كل مسكر وحرارة إقليمها لا تعذرها في الاستهتار والاسترسال في كرع كل ما يخترعه المخترعون من أنواعها، وما يصنعه الصانعون في أرضها ليبيعوا من فقيرها الكأس بمليم، فيورده موارد الهلاك في دار الجحيم، فليت أهل شمالي أفريقيا يعملون هم وحكومتهم ببعض ما عملت به حكومة السويد في شمالي أوروبا.
فإن قالوا في الإحصاء الأخير: إن في نيويورك وسكانها ثلاثة ملايين ونصف 10820 محلا لبيع المسكرات بالمفرق، وفي باريز وسكانها مليونان ونصف 30000، وفي لندرة وسكانها أربعة ملايين ونصف 5860 محلا، فأنا أقول: إن في هذه العاصمة الأسيفة أكثر من هذا العدد، يبيع لأهلها الصبوح والغبوق من فاسد الألكحول، فيفسد الأجسام والعقول.
المآدب والإسراف1
في الشريعة السمحة آداب اجتماعية عالية لو عمل بها المسلمون، لما لحقت غبارهم أمة في مكارم الأخلاق وتهذيب النفوس، فلو عمل المسلم بشريعته فأخرج الزكاة مثلا لما رأيت اليوم فقيرا ولا جائعا ولا عريانا، ولو تجانف الكذب والتزوير وأكل المال بغير حق لما اشتغل القضاة طول النهار بفض الخصومات بين الناس.
البشر الآن في ضائقة، لم ينلهم بعضها من عهد حفظ التاريخ، أمن المروءة أن ينعم بعض أفراده ويسرفوا على حين تكفي فضلات طعامهم والزوائد من رفاهيتهم ومظاهرهم لأن تعول كثيرين من المحاويج؟! وأغرب طرق الإسراف أن يفضل المتوسط الذي هو أقرب إلى الفقر من الغنى على الأغنياء والمنعمين ليقال عنه إنه كريم، وهو يرى في أهل محلته والمحتفين به مئات يطوون الليالي على الطوى ولا راحم لأنينهم.
كثير من أوضاعنا وعاداتنا يحتاج إلى أن يعالج بالإصلاح لنعود به إلى هدى الإسلام، أو إلى أساليب المدنية الحديثة، فقد أصبحنا في معظم حالاتنا لا إلى القديم ننسب ولا بالحديث نعرف أو نعرف، فغدا مجتمعنا وفيه كثير من الغث والرث وضروب من سخيف العادات والمراسم.
دعا منذ أيام أحد المنتسبين للمعارف مائة وثلاثة أشخاص من أهل بلده إلى حضور مأدبة لهم أقامها في داره، وأطعمهم أجود الطعام، وضروب الحلواء والمعجنات، ولولا لطف المولى لأصيبوا بالتخمة وسوء الهضم ! وقد كان المدعوون أشتاتا لا تجمع بين كثير منهم إلا جامعة السكنى في بقعة ولدة، ومن العادة أن يجتمع في المآدب الخاصة عند المتمدنين أهل طبقة معينة من الناس حتى يأنس المدعوون، يتساوون في الجلوس إلى الخوان بحيث يكلمهم صاحب الدعوة ويكلمونه، ولكن هذه الدعوة كانت كما هي معظم الدعوات في هذه الديار لمجرد إملاء بطون المدعوين، كأنهم في مطعم اجتمعوا بالعرض، ولا جامعة بينهم إلا جامعة الأكل.
فتأمل أمشاجا من الناس يشتركون على طعام، وهو ساعة مؤانسة ومباسطة، هل يجدون حديثا يلذهم على السواء، وينفض عقد اجتماعهم على لا شيء، اللهم إلا قشور من حديث معاد، وأمور لاكتها الألسن، فلا تنفع في دين ولا دنيا.
قد يضطر بعض أرباب المروءات إلى عشرة المتخالفين في الأذواق والمشارب، وتدعوه الحال إلى مباسطتهم والأنس معهم أحيانا، فإذا أراد أن يجمعهم كلهم في صعيد واحد في يوم واحد، يكون قد أساء إليهم في الحقيقة أكثر مما أحسن، خصوصا من علت عاداتهم عن مستوى العادات العامية، التي لا ترجع إلى أصل من الأصول المتعارفة، فقد قال حجة الإسلام في باب آداب المآدب من إحياء العلوم: وينبغي للداعي ألا يدعو من يعلم أنه يشق عليه الإجابة، وإذا حضر تأذى بالحاضرين بسبب من الأسباب، والغربي اليوم إذا دعا في الغالب إنسانا يقول له أو يكتب أن مأدبته يكون عليها معه فلان وفلان، فالمدعو إذا لم يرقه الاجتماع بأحدهما يكتب قبل ميعاد الدعوة بالاعتذار عن الحضور.
وليمة فيها زهاء مائة مدعو، لو أدبت في أرقى عواصم الأرض لما حوت إلا أخلاط الزمر، فعلى من اضطر إلى دعوة هذا العدد الدثر أو السرية الكاملة أن يقسمها إلى خمس مآدب ويقسم الأطعمة وما يتبعها، والنفقات وما يتشعب منها، على تلك النسبة، وهناك تحصل الفائدة من الاجتماع، ويعرف كل مدعو أنه حضر واستأنس حقيقة، وإذا كان صاحب الدعوة يريد مظهرا، فمظهر الخمسة أكبر من مظهر الواحد على كل حال.
أقبح ما يقبح من أحوالنا أن نسرف في موطن نحتاج فيه كل الحاجة إلى الاقتصاد وصرف المال في سبيله المشروعة، نطعم أرباب المظاهر، ونسرف في المأكل والمشرب والملبس، ثم نشاهد عباد الله يتضورون جوعا، ولا تأخذنا بهم رحمة، وقد قال
صلى الله عليه وسلم : «شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها الأغنياء دون الفقراء.»
التمدن الأنثوي1
أرى فئة كالغانيات تدللا
تميل مع الأهواء كل مميل
تخال الفتى منهم على ظلمة النهى
لألوان ثوبيه سماء أصيل
ملول كما شاء الهوى واقتداؤه
بمن حوله من خلة وخليل
وما وجد الأعمال يوما وإنما
ليستحسنوا فيه دلال ملول
وظن الفتى أن التمدن «أنثوي»
فتابع فيه كل ذات حليل
تماجن في أشكالها من مصبغ
إلى كل مجلو وكل صقيل
إلى اللفظ حتى ما تكاد شفاهه
تبين بلفظ منه غير نحيل
إلى اللحظ حتى ما تكاد جفونه
تطارح لحظا منه غير عليل
دلال جميل بالجمال مهنأ
فآه عليه من دلال جميل
أولئك هم شباننا لو عرفتم
وهم كل من في مصر غير قليل
مظاهر نبل نافقوا في اصطناعها
ألا قبحت من صنعة لنبيل
هذا ما وصف به الرافعي شباننا، وكلامه يصدق على بعض من يتأنقون في الزينة، فيصففون شعورهم، ويحففون خدودهم، ويفتلون سبلاتهم، وينغمون بأصواتهم، وربما مزجوا كلامهم ببعض الألفاظ الإفرنجية، ويختارون من الألبسة آخر زي من صدرة ملونة مخرمة، صنعت من القطيفة المزركشة، وسترة مشقوقة وسروايل ضيقة، وخاتم ماس في اليد، وعصا عقافتها من الذهب، وحذاء ملونا ملمعا، وطربوشا مقرنا مكويا، وبالجملة كل ما فيه ظاهر مموه، ممن تراهم إذا جمعك بهم الاتفاق وقد عبقت منهم رائحة الطيوب والعطور، وقد حرصوا على الأزياء حرصهم على أعز الأشياء.
التطيب والتزين والتجمل باللباس الجيد الجديد حسن في ذاته مباح عقلا وشرعا، أحل لنا كما أحلت الطيبات، ولكن إذا جاوز صاحبه فيه الحد كان أجدر بربات الحجال منه بالرجال؛ لأنه مشغلة عن ارتياد الفضائل والسعي في سبيل الكمال الحقيقي، وناهيك بأن من شبابنا من يصرفون ساعتين كل يوم في التبرج «التوالت»، كأنهن بعض النساء يتزين لبعولتهن.
وهذا مما يسجل علينا ضعف النظر في كل ما اقتبسناه من عادات الغربيين، فقد اقتدينا بسرف المسرفين منهم، ولم نهتد بهدي أهل القصد والاقتصاد، وجاريناهم في التبرج والتزين بعد أن كانا غير معهودين في الشرق إلا للمخنثين، وشايعناهم على تعاطي المسكر والميسر، فأضعنا آدابنا وديننا طمعا في إحراز هذا التمدن الذي لا يقوم بزعمنا إلا بالانسلاخ من وطنيتنا وعاداتنا المستحسنة، واقتباس كل عادة تأتينا من طريق الإفرنج.
أخذنا عاداتهم بل عادات السفلة والشعوب النازلة منهم بيننا، وليتنا لما أخذنا ما أخذنا ميزنا بين الصحيح والزيوف، والضعيف والمضعوف، والشريف والمشروف.
عميت علينا السبل، فلم نقتد بأمثل من جعلناهم قدوتنا في حياتنا، بل مددنا اليد إلى ما وجدناه عرضا، فلم نسقط إلا على الملوث القذر من العادات والأخلاق.
أكثرنا من الإسراف في الملبس مثلا، حتى نسينا كل نسبة بين الدخل والخرج، فإمبراطورة ألمانيا في أوروبا، وهي من جلال المكانة ما هي لا تستنكف أن تدير ألبسة كبار أولادها لصغارهم عندما تضيق عنهم حتى لا تطرح شيئا جزافا، وهو مما يحسن الانتفاع به، والرجل منا قد يصرف على لباسه ربع دخله فيستلف ويمطل ويهون عليه ما يأتي ولو باع الطين ورهن العقار ليلبس كل أسبوع بل كل يوم بذلة جديدة كأنه من نساء الأغنياء في نيويورك، لا يهدأ له بال إلا أن يظهر غناه ليصدق عليه قولهم في الأمثال: «أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها.»
ماذا يقول الكاتب عن مغالاة بعض شبابنا في الزينة، وإغراقهم في السرف والترف، وما تجلببوا به من عادات لا تلائم الشرق وفقره ودينه، والغرب يشكو من بقائها بين ظهراني أبنائه إلى اليوم، ويتمنى لو نزعت آخر جرثومة منها عنده لتكون له مدنية تامة كاملة، وحضارة رجولية لا نسائية.
هم يفكرون ويكتبون وينصحون، ونحن تركنا حبل آدابنا على غواربنا، ولا نبالي بما يدخل علينا من غرائبها وسخائفها، ولكن القوم في أوروبا على ما بلغوه من أسباب التقدم مما نغبطهم على أكثره لم يفتئوا يحاربون نقصهم، ويسعون إلى كمالهم، ونحن نحارب كمالنا، ونسعى إلى نقصنا.
أكتب هذا وأمامي مبحث جليل لأحد علماء التربية في فرنسا، نشره بمناسبة قيام اثنتي عشرة ألف معلمة مؤخرا في نيويورك، يطالبن حكومتها بأن تنصفهن في الرواتب كما تنصف المعلمين؛ لأنهن يقمن بمثل هذه الأعمال التي يقوم بها الرجال في التربية والتعليم، فاضطرت الحكومة إلى إجابتهن إلى مطالبهن، وزادت ميزانيتها ثلاثة ملايين دولار عن مدينة نيويورك وحدها.
قال: إن تسليم مقاليد التربية للنساء دون الرجال مما يؤخر؛ لأن حب التجمل ينغرس في الصبيان كما لاحظت ذلك اللجنة المؤلفة من مئات من أساتذة الإنكليز، الذين انتدبهم المستر موسلي أحد أغنيائهم منذ بضع سنين للبحث عن طريقة التربية في الولايات المتحدة، فكتبوا في ذلك تقريرا قالوا فيه: إن من تأثير تربية المعلمات قلة أخلاق الرجولية في الأمة الأميركانية. ولم تكن ملاحظة هذه اللجنة الأولى من نوعها، بل إن غير الأميركيين كثيرا ما كانوا يدهشون مما يبدو لأنظارهم من هذا القبيل في أميركا، ولكن القول يغلو على قدر قائله، ومكانة لجنة ولسلي بمن تألفت منهم.
قال: وكيف لا تحكم هذه اللجنة على الأميركان، ورجالهم يعنون من وراء الغاية في المحافظة على الست والثلاثين ألف قاعدة في مصطلحات التمدن (الإتيكيت)، فيبالغون في التأنق بلباسهم مبالغة مفرطة، ويدققون كل التدقيق في القيام بأقل ما تقتضيه سنة الأزياء، ويرققون ألفاظهم ترقيقا يقربها أبدا من التكلف، ولا ينسب ذلك إلا لتسليم مقاليد التربية للمرأة، ولو استطاع المرء أن يكون تاما في هذا المعنى لما كان في ذلك بأس، بل قد يحدث كثيرا أن المبالغة في التزيي والمنافسة في الحصول على صفات الظرف الذي لم تجعله الطبيعة من خصائصه تعبث بمروءته، قال: ومن سوء أثر هذه التربية في الأميركان أن الرجل يرى في نفسه أحط من المرأة مهما تصنع لها، ويرى من كرمها أنها تعطف عليه، وهكذا حتى أصبح المجتمع الأميركي أنثويا، فيه من ضروب التكلف والغرابة أشكال وألوان. ا.ه.
هذا ما قاله كبير من كبار علماء التربية في الحكم على التربية الأميركية، فإذا جاء فوصف تربيتنا ، فأي حكم يصدر علينا يا ترى؟! تلك التربية الملفقة التي ورثناها من مربية رومية، أو فتاة طليانية، أو جارية زنجية، أو كرجية، أو بربري ذي زبيبة، أو ماجن ذي أطوار غريبة.
إن قالت لجنة ولسلي بأن التمدن الأميركي أصبح أنثويا، فماذا تقول لو رحلت إلينا، وحكمت علينا بدون مشايعة لغرض سياسي، ولا بدافع هوى نفسي، لا جرم أنها تقول ما قاله شاعرنا الرافعي:
وظن الفتى أن التمدن أنثوي
فتابع فيه كل ذات حليل
تكريم النزاهة1
توفي منذ أيام رجلان عظيمان من عمال الحكومة، أحدهما كامل بك والي سيواس الأسبق، والثاني كامل بك الصلح رئيس محكمة استئناف سورية سابقا، واحد خدم في أرقى مناصب الإدارة في الولايات، وطاف يمنها وحجازها وطرابلس غربها وأناضولها، والآخر بلغ أرقى مناصب القضاء في الولايات، وتقلب في أعطافها شرقا وغربا، فخدم كل منهما الحكومة زهاء خمس وأربعين سنة، ورائده أمانته وصدقه، وتفانيه في مسلك النزاهة والعفة.
ولد هذان الموظفان الكاملان في مدينة صيدا (الشام)، وماتا في يوم واحد في هذه المدينة (دمشق)، وشبا وشابا في حسن الخدمة، وتشابها في أكثر الوجوه، وماتا ولم يخلفا وراءهما من حطام الدنيا إلا ما لا يكاد يرضى به من كان في عمله بعدهما بعشر درجات من الكتاب والحساب، ولكن الكاملين خلفا ثروة لا ينضب على الأيام معينها، ونعني بها كنز استقامتهما وعزة نفسيهما، فعفا عن كل ما يقال له الرشاوى والهدايا والصلات من أموال الأمة، وخدماها خدمة صادقة رائدها الإخلاص وسداها ولحمتها العلم والعمل الحقيقي.
كثير من الناس من يتولون من المناصب أرقاها، ويجمعون من المال أوفاها، وينالون من مراقي العز منتهاها، ولكنهم يذهبون بقبح الأحدوثة وسوء القالة، وتلعنهم القلوب إذا لم تلعنهم الألسن، وهم عند ظنهم قد عاشوا بنعمة، والحال أنهم عاشوا أشقياء مرذولين وقضوا كذلك؛ فنالوا الخزي في هذه الدار وفي الدار الأخرى.
لا يقاس في نظر التاريخ احترام الرجال بقدر ما ملكت أيمانهم وضمت خزائنهم، بل بقدر ما أنتجت عقولهم وشرفت أعمالهم، وأعظم سلوى يرتضيها المستقيم في عمله، ويؤثرها على كل فاقة، ويستعين في سبيلها بكل صعب هو أنه يحيا غير معذب الوجدان مستقل الفكر، ويموت قرير العين؛ لبعده عن الخيانة والعبث بدماء الناس والعبث في أموالهم وحقوقهم.
يتهمنا بعض أرباب الأغراض من الجاهلين، بأنه يقل فينا معاشر العثمانيين المستقيم العفيف من رجال الجيش والإدارة والقضاء، وأنه إذا وجد العامل الكامل بيننا يعيش مضطهدا، ويؤخر عن قصد في سلاسل الترقي، والحال أن في هذا الأمر نظرا؛ لأنه لا يعقل أن تخلو الأمة من كملة، ومتى غلب فاسدوها على صالحيها فهناك الخراب المحتم، أما أن النزيه يضطهد ولا يرقى فإن في ماضي هذه الدولة وحاضرها مئات من الأمثلة على خلاف ذلك، ولو كانت الحال على ما يدعون ما ارتقى فقيدانا العربيان في الولايات هذا الارتقاء، فثبت أن للاستقامة أناسا يقدرونها قدرها، وأن النزيه العفيف من العمال يحترمه، ويخافه حتى الذي هو أرقى منه في سلسلة المراتب وتقدم الميلاد.
ما اجتمعت بعامل مرتش مهما كانت درجته إلا ووجدته خائفا ذليلا صغيرا في نفسه يصانع وينافق، وما اجتمعت بعامل من أهل الصنف الآخر إلا وقرأت عزة النفس في وجهه والشمم والرفعة الحقيقية في أطواره، والجد غالبا عليه في أقواله وأفعاله.
ومن الغريب أن كل من جمعوا المال وبالغوا في إضاعة حقوق الناس ليغتنوا بزعمهم، أصابهم الفقر قبل موتهم، وبقيت أنسالهم معذبة، ولم تنل حظا من التربية، وهي إلى الدثور والعفاء أقرب منها إلى الحياة والعلاء، أما الذين ثبتوا على عفة أيديهم، فلم يتناولوا المال إلا من طريقه الذي شرع لهم وهو رواتبهم ومخصصاتهم ونفقات تنقلهم، فقد رأيناهم عاشوا سعداء منعمين، موسعا عليهم، وتركوا لأولادهم تربية سليمة هي أثمن من كل ثمين.
مظاهر الحياة كثيرة، والعمال أقرب إلى الغرور من غيرهم؛ لأن بأيديهم قوى لا يمنعهم عن إساءة استعمالها وازع غير الوازع النفسي، فمن غلبت شقوته سعادته كان من المغرورين بمظهرهم، وعبث بالأمانة التي اؤتمن عليها، وأي أمانة أعظم من مصالح الناس وحقوقهم ودمائهم؟ ومن كانت سعادته غالبة شقوته ارتضى بإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وعامل الرعية وهي وديعة الله بين يديه معاملة الأب المشفق الرحيم، وهذا هو الذي يقدسه الناس ويرحمونه، ويدعون له حيا وميتا في ظاهرهم وباطنهم، والله لا يضيع عمل عامل.
الحاج مصطفى حولا1
ربما يستغرب القارئ إيراد هذا الاسم في هذا المكان، ولكن متى ظهر السبب بطل العجب، هو يستغربه لأن صاحبه ليس ذا مظهر ديني ولا دنيوي، ولم يحرز لقب باشا ولا بك ولا أفندي ولا شيخ ولا سيد؛ لأن الظاهر من حاله أنه رجل من عامة المسلمين.
نعم، هو مسلم هدته الفطرة إلى آداب الإسلام بدون أن يدرس في مدرسة دينية أو دنيوية، ولا تشبع بمدنية الغرب ولا الشرق، وما كان أبوه رب عقار ومزارع، ولا خلف له أو أحد أقاربه أموالا اكتسبت من غير حلها من مثل وقف أو رشوة أو ظلم أو سرقة، بل هو عصامي عاش من تجارته المشروعة وأملاكه القليلة.
يعرف الرجال أيام المحن ولو لم تنشب الحرب، ما كان رجل كهذا عاش في ساحل من سواحل البحر الأبيض يقل الواردون إليه يصبح موضوع الحديث ومحل تجلة الأقلام، ويتناقل خبر إحسانه الخاص والعام، وكم خمل في الحرب رجال ونبه رجال.
عادة مستحكمة في كثير من الناس أن يولوا الجميل ليقال عنهم ويروى، ويمدوا أيديهم بالعطاء؛ لأن السخاء خلق محمود، يحبب صاحبه إلى القلوب، وتطيب نفوس أرباب الغرائز السليمة لسماع أخباره، بيد أن الرجل الذي ننوه به هنا انبسطت يده بالعطاء مدفوعا إلى ذلك بعامل الدين والإنسانية، لا طلبا لشهرة ولا إيثارا لمظهر، ولا توقعا لدنيا مريضة يحاول نيلها.
من كان يظن أن تاجرا متوسطا من تجار ميناء طرابلس الشام، يأخذ على نفسه بسائق حميته الوطنية وغيرته الدينية أن يطعم منذ أعلن النفير العام مائتي إنسان كل يوم، يطعمهم المآكل الطيبة، ويفرح قلوبهم بالحلواء أحيانا، وقد أنفق في هذا السبيل أرباحه زمن الحرب وجانبا من رأس ماله، وعاهد الله في باطنه أن ينفق على هاتين السريتين من جنده الفقراء حتى آخر درهم من عقاره، أفلا يجب على كل إنسان أن ينادي بارك الله بهذا الإنسان؟!
ثلاث سنين ونصف مضت على الحرب العامة، ونفس الحاج مصطفى الكاملة، لم ينضب معين قوتها في تعهد البائسين، وثلاث سنين ونصف على الحرب العامة، ونفوس أرباب الاحتكار من التجار والمتمولين من أرباب المزارع والعقارات في مدن الشام لم تشبع من جمع المال ولو بإيذاء البلاد وساكنيها، أفلا نقدس الأول ونحتقر الآخرين؟!
عرفت في دمشق وبيروت وحيفا خصوصا أناسا ليسوا في الطبقة العليا بغناهم، يطعمون الفقراء ويلبسونهم ويئوونهم، ومنهم أناس من أرباب المظاهر الدينية، وآخرون من أشراف التجار والموسرين، ولكنني لم يبلغني أن رجلا من مثل طبقة هذا فادى بماله ووقته في سبيل الله، وحاول أن يسد من الفقير جوعته، ويطفئ في قلب البائس لوعته، على صورة منظمة لم يهتد إليها العالم النحرير، ولا الغني الشهير، ولا الزعيم والأمير.
صاحبنا لا يتوقع إلا وجه الخالق وبر الخلق بما يسدي، جعل نفسه خادما للفقراء بالعمل، واستلذ العطاء وتخفيف البلاء استلذاذ تلك الطبقة التي غلظت أكبادها، فلا ترى المصلحة إلا بالجمع والمنع، حتى يخلفوا الأموال لأعقابهم يفسقون بها ويفجرون، فلا هم بها مستمتعون ولا الناس بها منتفعون.
يوصي الأغنياء والمتوسطون على الغالب بوصايا مختلفة بعد موتهم، كأن ينشئ الموصي جامعا أو مدرسة أو تكية أو يجري ماء أو يعبد طريقا، أو يتعهد طبقة مخصوصة من الناس بشيء من الدراهم يرضخ لهم بها، أو يطعم أناسا يعينهم، أو قراء فقراء يذكرهم، أو يتامى وأيامى يبرهم، وذلك بعد أن يكون نفض يده من الحياة، وفارق الدنيا اضطرارا لا اختيارا، فلا يسخو بماله على الأغلب إلا يوم يتجرد منه بدافع طبيعي، ولكن الحاج مصطفى حولا يسخو بماله في حياته يخلص به من الموت أهل البؤس والشقاء، غير مشفق على نفسه ولا على عياله.
لا جرم أن مدبر الأكوان، وخالق الإنسان، والعدل في الخليقة من آياته، سيعيد له بتيسيره القرش الذي أنفقه في البقاء على حياة كثيرين ألفا ويصطفيه ويرحمه، ويبدد شمل تلك الأموال التي اكتسبها أربابها من طرق دنيئة في الأكثر، ولا رحموا بجزء ضئيل منها أهل حيهم وعشيرتهم في زمن يموت فيه العاجزون جوعا وعريا.
المستشرقون ومؤتمرهم1
الاستشراق أو علم المشرقيات هو كما عرفه لاروس علم من العلوم الحديثة ودائرته الحالية واسعة، فإذا نظرنا إلى الألفاظ من حيث مفهومها، نرى أن التعبير عن اللغات الشرقية لا يتناول غير اللهجات التي يتكلم بها في شرقي أوروبا، أي في آسيا وفي جزء من أفريقيا المتصل بآسيا، ولكن لفظ الاستشراق يطلق اليوم بتجوز على لغات أميركا وأفريقيا الجنوبية والبلاد الشمالية وآدابها وأخلاق سكانها، فترى اللغة اليونانية الحديثة واللغة الرومانية والروسية تدرس في مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريز كما تدرس لغات الشرق أي العربية والفارسية والتركية والصينية واليابانية والهندستانية والعبرانية والسريانية والحبشية والقبطية والأمحرية، بل إن اللغة المجرية نفسها بالنظر لعلاقتها باللغة التركية والمغولية تدرس هناك كما تدرس اللغات الشرقية.
لم يدخل علم المشرقيات في أسلوب علمي إلا في القرن التاسع عشر، وقد كان اليونان واللاتينيون يدعون اللغات الشرقية التي كانوا يعرفونها (كالفارسية والفينيقية وغيرهما) لغة البربر ولذا يهملون دراستها، وشاعت في القرون الوسطى لغتان فقط من لغات الشرق بين العلماء، وهما اللغة العبرية التي كانت تعتبر لغة الإنسانية الأصلية، واللغة العربية التي كانت مهمة لكثرة البشر الذين يتكلمون بها ولشهرة فلاسفة الإسلام أمثال ابن رشد وابن سينا؛ ولذلك أنشئ في باريز منذ أواسط القرن الثالث عشر للميلاد درس عام لتدريس اللغة العربية.
ثم إن المذهب البرتستانتي توخى البحث عن النص الأصلي للتوراة، فحمل أشياعه على درس العبرية والكلدانية والسريانية، وأنشأ بعد ذلك البابا غريغوريوس الثالث عشر وأوربانوس الثامن دروسا لتعليم اللهجات الشرقية بالعمل ليستفيد منها المبشرون بالنصرانية، وفي سنة 1627 أنشئت مدرسة انتشار الإيمان، وطفق المبشرون منذ ذاك العهد يأتون بالآثار النفيسة لخدمة الدروس الشرقية، ونشر اليسوعيون في القرن الثامن عشر في العالم الغربي مدنية الصين واليابان ولغتيهما، وأنشأ الوزير كولبر في فرنسا مدرسة الشبان؛ لتعليم اللغات قاصدا بها تخريج تراجمة تستخدمهم حكومتهم في الشرق، وأنشئوا يدرسون اللغة الفارسية والتركية، وانتشرت القصص والحكايات الشرقية أمثال قصة ألف ليلة وليلة، والرسائل الفارسية وغيرها، ثم إن فتح فرنسا وإنكلترا للهند قد دعا إلى اكتشاف اللغة السنسكريتية.
وبعد نحو عشر سنين تأسست طريقة نحو المقابلة، فدخل درس اللغات في طور جديد حسن الأساليب، وفي الجزء الأخير من القرن الثامن عشر اكتشف أنكتيل دوبرون اللغة الزندية والبهلوية، وكان من حملة بونابرت على مصر (1798-1799) أن بدأ بها دور السياحات العلمية الكبرى، التي اشتهر بها القرن التاسع عشر، وجيء إلى أوروبا من مدينة رشيد في مصر بالحجر المشهور، وكان حل خطه مبدأ درس الآثار المصرية، وانحلت لغات دثرت منذ ألوف من السنين كاللغة الآشورية، وشرعت الحكومات تنفق على البعثات العلمية، وتؤسس دروسا لتعلم تلك الأبحاث واللغات، فترى فرنسا تعلم اللغات الشرقية الحية في مدرسة خاصة لذلك، كما أن للغات الشرقية القديمة دروسا في كوليج دي فرانس «مدرسة فرنسا»، وكذلك في مدرسة الدروس العليا في الكليات. ومن أعظم العلماء الذين ساعدوا على الاستشراق في القرن التاسع عشر شامبوليون «في الآثار المصرية» وأبوبرت ولفورمان وراولنسون وهنكس «في الآثار الآشورية» وبورنوف وجايمس دار مستتر وموللر ولاسن «في الآثار الهندية» وسانيسلاس جولين «في الآثار الصينية».
وكانت رغبة الأوروبيين أولا في تعلم اللغات الشرقية عن باعث ديني، فقد قضى مجمع فينا سنة 1311م (المقتبس م7 ص695)، وكان برئاسة إكلمنتس الخامس أن تؤسس في باريز وأكسفورد وبولون وصلمنكة دروس عربية وعبرانية وكلدانية؛ لتخريج وعاظ وأهل جدل أشداء؛ لتنصير المسلمين واليهود، وأنشأ الفرنسيسكانيون والدومينيكانيون من الرهبنات الكبرى في أديارهم دروسا في هذه اللغات، فأصبحت إيطاليا مهد حركة نجحت في المشرقيات، وأخذوا بنوع خاص يدرسون العبرية؛ للتعمق في فهم أسرار التوراة وتنصير اليهود، واللغة العربية لتنصير المسلمين، يأخذون العبرية عن أعلم العلماء الربانيين، والعربية عن أناس من المسلمين أو من السوريين الموارنة أمثال بني السمعاني، ومن مدارس إيطاليا نشأ العلماء الأول في اللغات القبطية والحبشية والأمحرية، ولكن دراسة اللغة العربية بقيت الحاكمة المتحكمة في شبه جزيرة إيطاليا، فكان ينظر إلى تعلمها أنه من الحاجات الماسة لكل تجار المدن البحرية كالبندقية وجنوة ونابل وبيزا، وظلت اللغة العربية مألوفة في عدة أماكن من إيطاليا الجنوبية عقيب احتلال العرب صقلية، فكانت في بلاط ملوك تلك الأصقاع لغة العلم العالي والشعر والأدب.
كانت رومية أول مدينة في العالم طبع فيها كتاب عربي عقيب اختراع الطباعة وهو قانون ابن سينا، وظلت حركة المشرقيات تختلف ضعفا وقوة في بلاد الطليان بحسب الحكومات وهمم الأفراد والمقصد الأصلي ديني والعلميات بالعرض، وكان لأسرة ميديسيس فضل على الآداب العربية، كما لها فضل على الشعر والموسيقى والتصوير والهندسة.
وفي أواسط القرن الثامن عشر لما أخذت أوروبا تتحفز لاستعمار الشرق، أخذ علماؤها يبحثون في تأليف جمعيات لهذه الغاية، فأنشئت جمعية العلوم والفنون في جاوة (1778)، والجمعية الآسياوية في البنغال (1784)، والجمعية الآسياوية في بومباي (1805)، وأنشئت منذ ذاك العهد في أوروبا وأميركا عدة جمعيات للمستشرقين، وأقدمها عهدا الجمعية الآسياوية في باريز التي أسست سنة 1822 بمعرفة شيخ المستشرقين من الفرنسيس سلفسترودي ساسي، وهو أعظم من خدم اللغة العربية من الأوروبيين والفرنسيس خاصة، وربما كان أعظم مستشرق نبغ ونفع (راجع كتابنا غرائب الغرب)، فأنشأت هذه الجمعية المجلة الآسياوية، وهي خاصة بلغات الشرق وتاريخه وعلومه وآثاره، تصدر مرة كل شهرين، فيتألف منها مجلدان كل سنة، ومن حواها فكأنما حوى أعظم مكتبة في هذه الأبحاث الجليلة.
تخرج في مدرسة اللغات الحية في باريز كثير من مستشرقي الفرنسيس والألمان والطليان والسويسريين، وأنشأت معظم عواصم أوروبا مدارس على مثالها، وإن سبقت هولاندة، فكانت أول من أسس جمعية شرقية في باتافيا كما تقدم سنة 1778، وكانت مطبعة ليدن الشرقية أقدم مطبعة طبعت الأمهات من كتب المشارقة والعرب منهم خاصة، وذلك منذ زهاء ثلاثمائة سنة.
أنشأ المستشرقون عدة جمعيات في أوروبا، وأسسوا عدة مطابع شرقية، وطبعوا بها ألوفا من كتب الشرق ولا سيما اللغة العربية، فإن ما طبع من أمهاتها عندهم هو القسم المهم من كتبنا العلمية والتاريخية والأدبية، وما زالت الكتب التي طبعتها مطابع باريز وأكسفورد ولندن وليدن وغوتنغن وليبسيك ورومية ومجريط وغيرها من حواضر العلم والمدنية في أوروبا باللغات العربية هي المفخر الذي يحق لمدنية القرن التاسع عشر والعشرين في ديار الغرب أن تباهي به الأعصار والأمصار.
وما برحت أسماء دي ساسي ووستنفيلد وفلوغل وريسك وبوركهار وكارليل وكاترمير ودي سلان وغوليوس وشولتنس وأربنيوس وهيتسما وشيد ودي بومباي ونيبوهر وزوزاريو وكولنبرك وجنستون وستونتن وفين وهوغتن وهامر ورازموسن وفلمت وبيبر ودي روسي وإيفلد وغابلنتس وروديغر وسيدليو وكوسان دي برسفال وجوبرت وروزنمولر وكلابروت وهابخت وبولس وفراهن ومهرن وهماكر وفرينل ودي لاغرانج ودي فرجه ورينو ومونك وبرنيه وكمباريل وبرون وموله وكازميرسكي ووفريتاغ وكسغارتن ووابك وبرنستين وأرنلد ووتستشتين وفتزر وفولف وهاربوكر وبورغستال وجوينبول وروردا وفايرس وكورتون وتاسوليس وجونس وغوتوالد وكولسون وكريستيانوفتش وخانيكوف وكاينكوس وكودرا وموهل وبلن ودي تاسي وسولسي وإيفلد وديمانج وشرموا وبوتجانوف وبولديراف وسيانكوفسكي وسافلياف وغريغورياف وبافسكي ونفروتسكي وبرازين وسبنرجر وتورنبرغ وخانيكوف ودوزي ووريخت، ما برحت أسماء هؤلاء الرجال تذكر بالحمد، ويطلب لها ثواب عملها.
هؤلاء بعض أئمة المستشرقين في القرن التاسع عشر من الألمانيين والنمساويين والهولانديين والفرنسويين والإيطاليين والروسيين والإنكليز والإسبانيين والدانيمركيين والأسوجيين والبولونيين والبلجيكيين والأميركيين،
2
ولو جئنا نعدد مشاهيرهم في هذا الربع الأول من القرن العشرين لطال بنا المطال، ومن مشاهير شيوخهم بروكلمان وولهاوزن وغويدي وغولدصهير وهوار وبراون ومرجليوث وفمبري وهوتسما وباسه وزترستين وسكيابارللي وناللينو وهوداس ودرانبرغ ونيكلسون وموسل وسيبولد وهور وفيتز وبيكر وهرتمن ودي فو وموتلنسكي ولتمان ولامنس ومنسيون وهرغروني ودي كوي وآماري وكاركسماريك وفولرس وشادوبوير وأرنولد ورسكا ودامس وجيز وبارتولد ومورتمان ولشاتليه وبوفا وكاباتون وكور وهاليفي وماسبرو وشيفر ومكدوبل ودوفال ودي منار وبارت وسينار وليفي وكازانوفا وروزن وشوفين وشافان ودوسو ومونتيه وسبيرو وشيل وماهفي ودلبروك وكولنيون ودي غوبرنانتيس وبزنبرجر ودافيدس وهوبت وكوهن وكايتاني ولامبروز ونافيل وأولدنبرع، هؤلاء بعض من اشتهروا بآثارهم من علماء المشرقيات، وأتوا على الخاطر ساعة كتابة هذه العجالة، وهناك مئات منهم المشهور وآخر الخامل، وما منهم ومن سبقوهم من الأعلام إلا الذي نشر الآثار النافعة بالعربية أو منقولة من العربية أو عن إحدى اللغات الشرقية، وفيهم من نشر عشرات من المصنفات كانت بصحتها وفهارسها مادة الآداب العربية، وخدم بها بلاده أولا وهذه اللغة الشريفة ثانيا، ومنهم من ينشر الكتاب لقدماء مؤلفي العرب بنصه، ويعلق عليه حواشي باللاتينية لغة العلماء، أو يترجمه إلى اللاتينية وينشره بهذه اللغة فقط، ومنهم من يعلق عليه أو يترجمه بلغته كالهولاندية والألمانية والإنكليزية والإفرنسية والإيطالية والإسبانية والروسية والسويدية، ولمستشرقي كل أمة كبرى عدة جمعيات مهمة راقية، وأقدمها جمعية باريز وتلتها جمعيات ألمانيا، والاستشراق أرقى ما يكون في بلاد الجرمان الآن، وإلى علماء المشرقيات منهم ومن الهولانديين يعزى الفضل الأكبر في نشراهم كتب أجدادنا في العلم والتاريخ والجغرافيا والأدب واللغة والدين، والجرمانيون والهولانديون أقدر الأوروبيين على النطق بالعربية، وبالنظر لاختصاصهم أو أخصائهم جاء منهم أئمة قل نبوغ أمثالهم في الأمم الأخرى، ومجلة المستشرقين الألمانية راقية جدا، وتتألف منها مكتبة مهمة بحثت كالمجلة الآسياوية الإفرنسية في علوم الشرق وآدابه ولغاته، ولم تترك شاردة إلا أحصتها ولا مبحثا إلا محصته، وتجيء بعدها مجلة المستشرقين النمساويين ومجلة المستشرقين الإنكليز والطليان وغيرهم من أمم الحضارة والولوع بالمشرقيات.
وقد اعتاد المشتغلون بالمشرقيات منذ سنة 1873 أن يعقدوا مؤتمرا لهم، يحضره جلة منهم، ويكون مقره في إحدى العواصم المشهورة، وتنتدب الحكومات من يمثلها في تلك المؤتمرات، فتتلى فيها الخطب المفيدة والمحاضرات التي تنم عن فضل بحث ودرس في لغات الشرق وعلومه وتاريخه واجتماعه، ويتنافس أئمة هذا الشأن في هذا السبيل المحمود، وكانت الحكومة العثمانية والحكومة المصرية تنتدب أناسا يمثلونها في المؤتمرات التي عقدت حتى الآن، وكان بعضهم من العلماء والأدباء.
وقد عقد المؤتمر الأول سنة 1873 في باريز، والثاني سنة 1876 في لندن، والثالث سنة 1877 في بطرسبرج، والرابع سنة 1878 في فلورنسة، والخامس سنة 1881 في برلين، والسادس سنة 1883 في ليدن، والسابع سنة 1886 في فينا، والثامن سنة 1889 في أستوكهلم، والتاسع سنة 1892 في لندرا، والعاشر سنة 1894 في جنيف، والحادي عشر سنة 1897 في باريز، والثاني عشر سنة 1899 في رومية، والثالث عشر سنة 1902 في هامبورغ، والرابع عشر سنة 1905 في الجزائر، والخامس عشر سنة 1909 في كوبنهاغ، والسادس عشر سنة 1912 في أثينة، ويعقد السابع عشر سنة 1915 في أكسفورد.
وسيكون هذا المؤتمر برئاسة رئيس كلية أكسفورد، وعهد برئاسة اللجنة المنظمة إلى الأستاذ مكدونلد، واللجنة العامة مؤلفة من أساتذة اللغات الشرقية، أو من مدارس الدروس الشرقية في كليات إبردين وبريستول وكمبردج ودوبلين وأديمبرغ وغلاسكو وليفربول ولندرا ومنشستر ووسانت أندري وبلاد الغال في بريطانيا العظمى، ومن لجان الجمعيات العلمية الإنكليزية مثل الجمعية الأفريقيا، والجمعية التوراتية الأثرية، والجمعية البوذية، وجمعية آسيا الوسطى، والجمعية الصينية، وجمعية آثار مصر، والجمعية اليابانية، وجمعية الأبحاث الفلسطينية، والجمعية الفارسية، والجمعية الآسياوية الملكية وغيرها، وستبدأ مداولات المؤتمر يوم 13 أيلول 1915 وتنتهي 18 منه، وستكون أبحاثه في علم تعريف الإنسان والآثار، وفي علم الآثار الآشورية، وفي آثار آسيا الوسطى والشرق الأقصى ومصر وأفريقيا والهند واللغات والآداب الإسلامية، وفي اللغات السامية والآداب السامية، وفي آسيا الغربية وإيران، وتكون اللغة التي يجوز استخدامها الإنكليزية أو الإفرنسية أو الألمانية أو الإيطالية، ومن أراد أن يتكلم بلغة غير هذه وجب عليه أن يطلب الترخيص له بذلك من رئيس اللجنة التي هو أحد أعضائها، أو يريد التكلم فيها.
هذا ما نشرناه في المجلد الثامن من مجلة المقتبس، بيد أن الحرب العالمية نشأت ولم يعقد المؤتمر فيما نظن، وعقد علماء المشرقيات من الألمان ومن والاهم من النمساويين والهولنديين والسكانديناويين مؤتمراتهم بعد الهدنة في مدينة ليبسيك لم تحضره أعضاء الخلفاء من الإنكليز والفرنسيس وغيرهم، وكانت السياسة مانعة من اجتماع العلماء فقبحت السياسة.
الألقاب العلمية1
ليس في الأيدي مستند يركن إليه في تاريخ حدوث الألقاب العلمية في الملة الإسلامية، والظاهر أنها حدثت في النصف الأخير من عهد بني العباس، وشاعت وتأصلت زمن ملوك الطوائف، ثم على عهد الدولتين الجركسية والعثمانية في هذه الديار أيام أصبح العلم عبارة عن رسوم، والعلماء هم الذين يقر بهم الملوك والحكام، ولو كانوا أجهل من قاضي جبل، بل أصبح أمر الألقاب أقرب إلى الهزل منه إلى الجد، فصارت جملة «أعلم العلماء المحققين» تطلق على كل صعلوك نال منصبه في القضاء أو الإفتاء أو التدريس بالشفاعة أو القرابة أو الإرث؛ لأن العلم في الثلاثة القرون الأخيرة أصبح يورث كما يورث الماعون والخرثي والعقار والمزرعة.
نعم، غدت الألقاب العلمية التي لم تطلق على أبي حامد الغزالي، وأبي عمرو الجاحظ، وأبي الوليد بن رشد، وأبي النصر الفارابي إلا بشق الأنفس تطلق على من يحتاجون أن يرجعوا إلى الكتاب، بل على عامة ليس لهم من أدوات العلم إلا أنهم اعتموا بالبياض، ولبسوا الجبة على الزي المتعارف لهم.
وإن ألفاظ العالم والعلامة والإمام والرباني
2
والحبر
3
التي لم تطلق على أكثر حملة الشريعة والعلم أيام نضارة الدين، أصبحت تطلق على الجهلاء لعهدنا بعد أن كانت هذه الألفاظ تجعل لأفراد في الأمة امتازوا ميزة ظاهرة بعقولهم وعلومهم، وقد تستعرض القطر بل الأقطار بل العصر والأعصار، ولا تجد واحدا استحق هذه الألقاب، وصرت إذا دخلت في عهدنا إلى مدينة صغيرة كطرابلس الشام تظن نفسك وجميع من لهم شيء من الذكر قليل أو تولوا منصبا ولو حقيرا في خدمة الحكومة، يعطون لقب «العالم الفاضل» و«العلامة الفاضل» و«الإمام المحدث» بدون نكير.
كان يقال لجبير بن زهير الحضرمي: «عالم أهل الشام»، وللخليل بن أحمد «علامة البصرة»، ولمالك بن أنس «إمام دار الهجرة»، ولعبد الله بن عباس «رباني هذه الأمة»، أما اليوم فإن ألفاظ عالم وعلامة وإمام تطلق على الممخرقين والمتنطعين الذين لم ينفعوا الأمة بشيء، فقد كان يلقب بالعلامة الأول قطب الدين الشيرازي، كما يطلق لقب العلامة الثاني على سعد الدين التفتازاني على نحو ما أطلق على أرسطو لقب المعلم الأول، وعلى الفارابي لقب المعلم الثاني.
تشدد القوم في إطلاق ألقاب التفخيم حتى على العلماء صيانة لألقابهم من الابتذال، فرأينا العصام في حاشيته علي الجامي لا يوافق الجامي بإطلاقه على ابن الحاجب لفظ «العلامة المشتهر في المشارق والمغارب»، فقال: إن في وصف ابن الحاجب بالعلامة نظرا؛ لأن هذا اللفظ إنما يناسب فيما بين العلماء من جمع جميع أقسام العلوم كما هو حقه من العلوم العقلية والنقلية، وليس ابن الحاجب إلا من العلماء في العلوم النقلية؛ ولذا خص من بين العلماء قطب الملة والدين والشيرازي بالعلامة، حيث سبق العلماء كلهم في جميع أقسام العلوم.
هكذا كان أدب سلفنا، أما اليوم فقد استرسل عباد المظاهر في هذا الشأن، فسموا إلى تلك الألقاب الشريفة التي لم يجوزوا إطلاقها على مثل ابن الحاجب الإمام المحقق في فنه، وبلغت الحال ببعضهم أن صاروا يكتبونها بأيديهم عن أنفسهم كأن العلامية والعالمية والإمامية لا تثبت في الأذهان إلا بمثل هذا العمل.
وعندنا أن الأحرى بمن تدور معارفه على الفقه وحده أن يسمى فقيها إن كان ممن برزوا حقيقة في أصوله وفروعه، ومن اقتصر على الأصول وحده أن يسمى أصوليا، ومن غلب عليه علم الحديث أن يقال عنه حديثيا، وإلا فإن كلمة عالم لا تقال إلا لمن يعمل بما يعلم كما قال بعضهم، وإن شئت فقل لمن يظهر فيه أثره، ويمتزج بأجزاء نفسه أي امتزاج، قال ابن جني: لما كان العلم قد يكون الوصف به بعد المزاولة له وطول الملابسة صار كأنه غريزة، ولم يكن على أول دخوله فيه، ولو كان كذلك لكان متعلما لا عالما.
جرت على هذه القاعدة الأمم الراقية قديما وأمم المدنية الحديثة لعهدنا، فلم يطلق على سقراط وأفلاطون وأرسطو الفلاسفة ألقاب العلماء في بلاد اليونان إلا بعد أن قضى كل منهم سنين في التعلم وسنين في التعليم، وهكذا رأينا الأمم الحديثة لم تطلق على نيوتن وهكسلي وكونت وكانت وكيتي اسم عالم إلا بعد أن درسوا الدروس النظامية كلها، وبرزوا على رجال عصرهم بفنون مخصوصة أبرزوا فيها آثار علمهم وأثروا في محيطهم.
ومن عجيب الأخلاق أن من ينتسبون لشيء من علوم الدين في عهدنا يعز عليهم إلا أن تبقى ألفاظ العالم والمحقق والعلامة محصورة بأهل طبقتهم، كأن من يعلم الهندسة أو الطب أو الحقوق أو الصحافة أو السياسة لا يستحق أن يعد في العالمين، ولو أيدت علمه أمثلة كثيرة، يريدون أن تبقى هذه الألفاظ لهم، وكذلك بعض المشتغلين بهذه العلوم الدنيوية، يعز عليهم أن يطلقوا الألقاب العلمية على من لا يعلمون علومهم، في حين رأينا صاحب إرشاد القاصد وصاحب كشف الظنون عدا العلوم كلها دينية ودنيوية، وسمياها كلها علوما حتى السحر والطلسمات والشعبذة، فذكر الأول من أنواعها مائة نوع والثاني مائة وخمسين نوعا.
وغريب كيف أخرج بعضهم في القديم إسحاق بن إبراهيم الموصلي من سلك الفقهاء، وكان أحرى أن يعد بينهم؛ لأنه يلحن الأنغام، ويخترع ضروب الغناء، ويشتغل بآلات الطرب مع أنه ليس دون علماء عصره بعلومهم، ولكن غلب عليه الغناء فعدوه في الندماء، كما غلب الشعر على بعضهم فعدوه في الشعراء أمثال أبي نواس، وما هو في الحقيقة إلا من كبار علماء العربية.
وإنا إذا استقرينا التاريخ على اختلاف العصور نجد أن المنصفين من المؤرخين يذكرون العالمين بغير العلوم الدينية كما يذكرون علماء الدين؛ لأنهم كلهم أعضاء نافعون في المجتمع، فقد كان خالد بن يزيد الأموي من أهل القرن الأول عالم قريش بالكيمياء والطب بصيرا بهذين العلمين، وكان أبو الفضل الحارثي من أهل القرن الخامس عالما بالهندسة والفلك والحساب والتقسيمات والهيئة ونقش الرخام وضرب الخيط والطب، ومحمد القيسراني من أهل القرن الخامس أيضا عالما بالمساحة والميقات والفلك، ورضوان الخراساني من أهله أيضا عالما بالرياضيات، وأبو المجد ابن أبي الحكم من أهل السادس عالما بالطب والهندسة والنجوم والموسيقى والعدد والغناء والإيقاع والزمر وسائر الآلات، عمل أرغنا وبالغ في إتقانه، وكان ابن الصلاح من أهل السادس عالما بالحكمة متميزا بالطب، وموفق الدين بن المطران من السادس عالما بالطب والفلسفة، وابن المؤيد العرضي ورفيع الدين الجيلي وعز الدين الأربلي من أهل السابع علماء بالفلسفة والرياضيات.
وهكذا لو استقصينا كتب التراجم لعثرنا من أسماء المشتغلين بغير العلوم الدينية على سلسلة طويلة، وكلهم أطلق عليهم اسم العالم والمحقق والإمام والعلامة على رغم أنوف المكابرين، وذكرتهم الأعصار بآثارهم أكثر ممن جعلوا مناصب الدين وألقابه سببا إلى الدنيا ونيل الحظوة من العامة، والزلفى من السلاطين والأمراء، وقد رأينا بعض المشتغلين بعلوم الشريعة لعهدنا يتخلصون من إطلاق لفظ عالم، وعلامة على من لم يتزي بزيهم الخاص بأن يطلقوا عليه اسم الكاتب، على أن لفظة كاتب التي يحتقرونها قل في المعدودين من يستحقها، قال ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر: ينبغي للكاتب أن يتعلق بكل علم، حتى قيل: كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه، فيقال: فلان النحوي وفلان الفقيه وفلان المتكلم، ولا يسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة، فيقول فلان الكاتب، وذلك لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن. ا.ه.
وهذا التحكم البارد في الحط ممن أخصوا في بعض الفنون التي يجهلها أكثر المتعممين، ولا يعدونها علما في نظرهم تخرج كثيرا من الأئمة من عداد العلماء بحسب عرفهم، ممن لم تكن الكتابة إلا من جملة ما يعلمون أمثال الجاحظ، فإنه بحسب عرفهم كاتب فقط؛ لأنه مجيد في الإنشاء للغاية، وكذلك القاضي الفاضل وابن خلدون وابن فضل الله وأبو الفدا وغيرهم من مشاهير العلماء الذين كانوا أئمة في الإنشاء؛ هذا لأن أولئك الأعلام لم يؤلفوا أو لم يريدوا أن يؤلفوا في الفقه والأصول والكلام والحديث، على حين ورد في الكتاب العزيز:
يعلمه علماء بني إسرائيل
فأطلق تعالى عليهم لفظ علماء، وجاء فيه:
والذين أوتوا العلم درجات ، قال الراغب: إن هذا تنبيه منه تعالى على تفاوت منازل العلوم وتفاوت أربابها.
ولقد شاهدنا ما يضحك من تحكم بعض أرباب الصحف السيارة في الألقاب العلمية، حتى آل الأمر ببعض الفضلاء أن يستنكفوا من ذكر أسمائهم بين أناس لا يلحقون غبارهم بحال؛ لأن منشئ كل صحيفة يعطي من الألقاب لمن يحبه ما يستحي العاقل من إطلاقه على أفضل أهل العصر، ويمنع ذلك عن المستحق، يريد بذلك إسقاطه، حتى قال بعضهم: من العلامة ألا تكون للمرء علامة، فما دامت لفظة علامة تطلق على المغفلين من الطلبة، فأجدر بمن يستحقون هذه اللفظة أن يزهدوا فيها، وهكذا لفظ «الأستاذ» و«المعلم» و«الفاضل»، وهذه اللفظة اليوم تطلق على تسعة أعشار من يقرءون ويكتبون.
وبعد، فإن سلسلة الارتقاء وسلسلة الانحطاط نمط واحد، يتبع بعضها بعضا في كل أمة، والتغالي في الألقاب من جملة تعلق الأمة، بل من يطلق عليهم الخاصة منها بالقشور دون اللباب، وما أجدر أرباب الصحف والمجلات أن يتخلوا عن هذه الألقاب التي لا ميزان لها ولا مقياس، وأن يذكروا الأسماء مجردة كما هو اصطلاح الأمم الراقية كالإنكليز والأميركان والفرنسيس والألمان، بل كما كان اصطلاح أجدادنا العرب صدر الإسلام، والجديرون بالوصف تنم أوصافهم عنهم من مثل التعليم زمنا، وتخريج طلبة راقين، أو الإجادة في التأليف، وغير ذلك من سمات الفضل والعلم، قال المقدسي: إن مراتب السادات مثل جليل وفاضل رسم الرسائل لا رسم التصانيف، والجرائد والمجلات كالكتب لا تخرج عن حد التأليف في صورة أخرى؛ ولذا وجب أن تعرى من ألفاظ التمجيد، ولا سيما إطلاق الألقاب العلمية على من تذكرهم؛ لأن في ذلك تضليلا للعقول واستهزاء بمقادير أهل الأقدار.
التمييز في الألبسة1
ليس أغرب من هذا الشرق ترى فيه الاختلاف في الأفكار، كما تراه في الأديان، بل تراه في اختلاف الهواء والماء، وقد وفق الغرب إلى توحيد ألبسة أهله في القرون الأخيرة، أما الشرق فلم يزل بتخالفه في ذلك على نحو ما كان عليه في القرون الوسطى قرون الظلم والهمجية.
اختلاف المشارقة في ألبستهم قديم، فقد كان للقضاة وللأجناد وللعلماء والعامة ألبسة خاصة بهم، بل كان اللباس تابعا للأقاليم، فابن الحجاز يلبس ما لا يلبسه ابن الشام، وهكذا تجد لو طفت الأقاليم ودرست المدنيات.
وكان لأهل الذمة في الإسلام لباس خاص بهم، وهو من التحكمات السياسية التي دعا إليها العرف لا الدين، وليس في الدين ما يدل على تمييز المسلمين بلباس خاص، فقد اشترط الخليفة الثاني في كتاب الجزية الذي كتبه لأهل الذمة أن يؤخذوا بلبس الغيار وهو علامة لهم كالزنار ونحوه، ولما تبسط الفاتحون في مناحي السلطان كان من جملة واجبات المحتسب، كما في نهاية الرتبة في الحسبة أن يأخذ الذميين بلبسهم، فإن كان يهوديا عمل على كتفه خيطا أحمر أو أصفر، وإن كان نصرانيا عمل في وسطه زنارا أو علق في حلقه صليبا، وإن كانت امرأة لبست خفين، أحدهما أبيض والآخر أسود، وإذا عبر الذمي إلى الحمام ينبغي أن يكون في حلقه صليب، أو طوق من حديد أو نحاس أو رصاص ليختبر عن غيره.
وفي كتاب الخراج لأبي يوسف ألا يترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في لباسه ولا في مركبه ولا في هيئته، ويؤخذوا بأن يجعلوا في أوساطهم الزنارات مثل الخيط الغليظ، يعقده في وسطه كل واحد منهم، وبأن تكون قلانسهم مضربة، قال: وإن عمر بن الخطاب أمر عماله أن يأخذوا أهل الذمة بهذا الزي؛ أي إن تكون قلانسهم طوالا مضربة، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامل له، فلا يلبس نصراني قباء ولا ثوب خز ولا عصب، وقد ذكر لي أن كثيرا من قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم وتركوا المناطق على أوساطهم، واتخذوا الجمام والوفر وتركوا التقصيص، ولعمري لئن كان يصنع ذلك فيما قبلك، إن ذلك بك لضعف وعجز ومصانعة.
وفيما اطلعنا عليه من الكتاب إشارات طفيفة لاختلاف أزياء الذميين في العصور الإسلامية، وما هذا الاختلاف في الحقيقة ناتج إلا من التحكم البارد غالبا، قال ابن الأثير في حوادث سنة 235: إن المتوكل أمر أهل الذمة بلبس الطيالسة العسلية، وشد الزنانير، وركوب السروج بالركب الخشب، وعمل كرتين في مؤخر السروج، وعمل رقعتين على لباس مماليكهم مخالفين لون الثوب، كل واحد منهما قدر أربع أصابع، ولون كل واحدة منهما غير لون الأخرى، ومن خرج من نسائهم تلبس إزارا عسليا، ومنعهم من لبس المناطق، وأمرهم بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب، ونهي أن يستعان بهم في أعمال السلطان ولا يعلمهم مسلم، وأن يظهروا في شعانينهم صليبا، وأن يستعملوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، وكتب في ذلك إلى الآفاق.
وقال الذهبي في حوادث 398: وفيها هدم الحاكم كنيسة القمامة بالقدس، وكانت فيها أموال وجواهر ما لا يوصف، وألزم النصارى بتعليق صلبان كبار على صدورهم، واليهود بتعليق مثل رأس العجل على صدورهم، وكان الصليب رطلا بالدمشقي من خشب، ومثال رأس العجل كالمدقة وزنها رطل ونصف، وأن يشدوا الأجراس في رقابهم عند دخول الحمامات، قال: وألزم الحاكم صاحب المغرب والحجاز ومصر والشام أهل الذمة بالصلبان في أعناقهم، وألبس اليهود العمائم السود نكاية واهنة لبني العباس، قال ابن خلكان: وفي سنة اثنتين وأربعمائة أمر الحاكم النصارى واليهود إلا الخيابرة بلبس العمائم السود، وأن تحمل النصارى في أعناقهم الصلبان ما يكون طوله ذراعا ووزنه خمسة أرطال، وأن تحمل اليهود في أعناقهم قرامى الخشب على وزن صلبان النصارى، وأن يكون في أعناق النصارى إذا دخلوا الحمام الصلبان، وفي أعناق اليهود الجلاجل ليتميزوا عن المسلمين، قلنا: وكان في الحاكم لوثة وجنة، يأمر اليوم بأمر فينهى عنه في الغد على ما قال المؤرخون.
وذكر الذهبي في حوادث سنة سبعمائة أن النصارى واليهود ألبست بمصر والشام العمائم الزرق والصفر واستمر ذلك، وسنة 734 ألزمت النصارى واليهود ببغداد بالغيار، ثم نقضت كنائسهم ودياراتهم، وأسلم منهم ومن أعيانهم خلق كثير منهم سديد الدولة وكان ركنا لليهود، وروى لسان الدين بن الخطيب أن إسماعيل بن فرج الخزرجي من ملوك الأندلس اشتهر في إقامة الحدود، وإراقة المسكرات، وحظر تجلي القينات للرجال في الولائم، وقصر طربهن على أجناسهن من الناس، وأخذ لليهود الذمة بالتزام سمة تميزهم، وإشارة تشهرهم، وليوفي حقهم من المعاملة التي أمر بها الشرع في الخطاب والطرق، وهو شواش (جمع شاشية) أصفر. وذكر صاحب المعجب في سيرة أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن أنه أمر في آخر أيامه أن يتميز اليهود الذين بالمغرب بلباس يختصون به دون غيرهم، وذلك ثياب كحلية وأكمام مفرطة السعة تصل إلى قريب من أقدامهم، وبدلا من العمائم كلوتات على أشنع صورة كأنها البراديع تبلغ إلى تحت آذانهم، فشاع هذا الزي في جميع يهود المغرب، ولم يزالوا كذلك بقية أيامه وصدرا من أيام ابنه أبي عبد الله إلى أن غيره أبو عبد الله بعد أن توسلوا إليه بكل وسيلة، واستشفعوا بكل من يظنون أن شفاعته تنفعهم، فأمرهم أبو عبد الله بلبسان ثياب صفر وعمائم صفر، فهم على هذا الزي إلى وقتنا هذا وهو سنة 631، وإنما حمل أبا يوسف على صنعه من أفرادهم بهذا الزي وتمييزه إياهم به شكه في إسلامهم، وكان يقول لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، وجعلت أموالهم فيئا للمسلمين، ولكني متردد في أمرهم، ولم تنعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة، ولا في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة، إنما اليهود عندنا يظهرون الإسلام، ويصلون في المساجد، ويقرئون أولادهم القرآن جارين على ملتنا وسنتنا، والله أعلم بما تكنه صدرهم وتحويه بيوتهم. ا.ه.
وقال ابن أبي أصيبعة: حدثني الشيخ موفق الدين بن البوري الكاتب النصراني قال : لما فتح المالك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الكرك أتى إلى دمشق الحكيم موفق الدين يعقوب بن سقلاب النصراني، وهو شاب على رأسه كوفية وتخفيفة صغيرة، وهو لابس جوخة ملوطة زرقاء زي أطباء الفرنج، وقصد الحكيم موفق الدين بن المطران، وصار يخدمه ويتردد إليه لعله ينفعه، فقال له: هذا الزي الذي أنت عليه ما يمشي لك به حال في الطب في هذه الدولة بين المسلمين، وإنما المصلحة أن تغير زيك وتلبس عادة الأطباء في بلادنا، ثم أخرج له جبة واسعة عنابية وبقيارا مكحلا وأمره أن يلبسهما. وكان والد المهذب المعروف بالخطير مرتبا على ديوان الإقطاعات وهو على دين النصرانية، فلما علم أسد الدين شيركوه في بدء أمره بمصر أنه نصراني، وأنه يتصرف في (عمله) بلا غيار نهاه، وأمره بغيار النصارى، ورفع الذؤابة، وشد الزنار، وصرفه عن الديوان، فبادر هو وأولاده، فأسلموا على يده فأقره على ديوانه مدة ثم صرفه عنه فقال فيه ابن الذروي:
لم يسلم الشيخ الخط
ير لرغبة في دين أحمد
بل ظن أن محاله
يبقى له الديوان سرمد
والآن قد صرفوه عن
ه فدينه فالعود أحمد
ولما أمر شيركوه النصارى بلبس الغبار، وأن يعمموا بغير عذبة، قال عمارة اليمني:
يا أسد الدين ومن عدله
يحفظ فينا سنة المصطفى
كفى غيارا شد أوساطنا
فما الذي يوجب كشف القفا
هذا ما كان عليه الاختلاف في الأزياء بين أهل الوطن الواحد، وأكثره كما ترى ناشئ من ملوك أو فقهاء متعصبين تعصبا ظاهرا مثل المتوكل والحاكم بأمر الله، ولم يسمع بأن رجال الجد في الإسلام مثل الرشيد والمأمون وصلاح الدين ونور الدين تحكموا هذه التحكمات والله أعلم. ا.ه.
السلطتان1
رحم الله السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ما كان أعقله في الملوك وأبصره بعواقب الأمور، فقد كان أول العارفين بأن مزج الدين بالدنيا من أضر ما ينهك قوى الأمم، فتفقد الصفقتين ولا تفوز بالحسنيين؛ ولذلك كان لا يعتمد في تدبير ملكه وقتال عدوه إلا على أهل الرأي من الساسة في زمنه، ممن استخلصهم في تدبير ملكه كالقاضي الفاضل ومن كان على شاكلته.
ولطالما أراده فقهاء عصره على أن يعمل بمشوراتهم في زحزحة الصليبيين عن البلاد، ولو وجدوا منه مصغيا لأقوالهم لالتوى عليه القصد، ولما وفق إلى ما لم يوفق إليه سلطان قبله ولا بعده من دفع صائل تلك الجيوش الجرارة، التي انكفأت على الشرق الأدنى واستباحته واستصفته أو كادت. والله وأعلم ماذا كان مصير الحرمين الشريفين وبيت المقدس الآن لو كانت دخلت أصابع السياسة الخرقاء في طرد أهل الصليب عن مصر والشام.
كان صلاح الدين صلاحا للدين والدنيا، يعرف من يعمل بآرائهم من رجاله، ولذلك ترك الجامدين من أدعياء العلم جانبا يغدق عليهم من مكارمه ما يقطع به ألسنتهم، ويريحهم من عناء الطلب والنصب، وإذا رفعوا رءوسهم، وأشاروا إليه بأنه نبذ مشوراتهم ظهريا، أشار إليهم بلسان الحال بأن السياسة ليست من شأنهم، وأنه يكفيهم أن يحسنوا الاضطلاع بشئونهم الخاصة، وما يفرض عليهم المجتمع العمل به، وهم إذا جودوه وأحسنوه يحسنون للأمة كل الإحسان.
هكذا كان السلطان صلاح الدين في القرون الوسطى يعرف من أين تؤكل الكتف في فصل السلطتين الدينية عن الدنيوية. وسلطان المغرب الأقصى الحالي وهو في هذا العصر، وناهيك به يقيم على أبواب أوروبا، وتؤثر فيه عوامل أرباب السلطة الدينية من إضراب ماء العينين، ومن لف لفه من مشايخ الطرق وزعانفة المتفقهة، وغوغاء الممخرقين ممن يدعون الكشف والسحر والطلسمات.
ما نظن أن غلو مولاي عبد العزيز في الإفضال على أولئك الجامدين وتقريبهم منه، والعمل بمشوراتهم ناتج عن تدين حقيقي، فالله أعلم بما هنالك، ولكن تلك الفئة توصلت بدهائها على توالي العصور أن تجعل لها موقعا من نفوس سلاطين المغرب، فأثرت فيهم بما تريد، وصرفتهم على أمرها في تدبير ذاك الملك الضخم، وفض شئونه الداخلية والخارجية.
يشهد أولئك الجامدون لسلاطين المغرب بإمارة المؤمنين، ويقر هؤلاء لأولئك بأنهم ورثة الأنبياء والمرسلين، وهكذا فالنفع متبادل والمصلحة مشتركة، فهم على حد المثل السائر: «أضئ لي أقدح لك.»
جاء عهد على المملكة العثمانية في التاريخ، كادت تمنى بما منيت به مملكة المغرب الأقصى من دخول رجال الدين في السياسة، والعبث بضعف عقولهم في شئون الأمة، وعقد سلمها وحربها والهينمة على عمرانها، والإشراف على خصوصياتها وعمومياتها، ولكن بعض سلاطينها ووزرائها أدركوا عاقبة تأثير رجال التكايا في عقول أهل السياسة والرأي، ومذ ذاك العهد وأظنه كان على زمن السلطان سليمان القانوني دخلت الدولة في طور الحكومات المدنية.
ولو ظلت العناية بساكني التكايا والأخذ بآرائهم في المملكة العثمانية لما كنا اليوم نلبس الطربوش ولا السراويل والسترات الإفرنجية، بل ولا نطبع الكتب والمصاحف؛ لأن الفقهاء في الآستانة حرموا كل ذلك عندما أراد السلاطين إدخاله في بلادهم!
نعم، لو ظل العمل بتلك الآراء الغريبة لما كانت الدولة العثمانية بجنديتها، وتنظيم شئون إدارتها بأرقى من حكومة الأفغان الآن، وما العهد ببعيد بتحريم أهل الجمود على أميرها في العهد الأخير اجتماعه بحاكم الهند أيام رحلته مؤخرا إليها، وتناول طعام الإفرنج ولبس لباسهم ومعاشرتهم بالمعروف. ولو لم يكن للأمير جيش يستميت في الدفاع عنه إذا طرأ طارئ، لكنا سمعنا بأن ذاك الدهماء من الأغبياء، تمكن من التغلب على أميرهم، ووسدوا الحكم إلى من ترضيهم سياسته وحالته وشايعهم على أفكارهم، وهي لو صحت مرة لكذبت مرات، وأفسدت على الناس أمرهم.
من لنا بمن يلقي على مسامع مولاي عبد العزيز هذه النصيحة ليتخذ له بطانة من أهل الرأي الرجيح، حتى ولو بجلبهم من مملكة أخرى للاستعانة بهم على تدبير مملكته، ليت من يقرأ له هذه الكلمات القليلة ولو ينقلها في قطعة من الورق؛ لأن قراءة الجرائد محرمة عند السلطان بفتوى من علمائه، فما الحال فيما تخوض فيه من الأفكار؟!
حرية الأمم1
البشر سائرون في طريق النظام والحرية، آخذون نحو الكمال، ينشئون في حياتهم القومية على غير نشأة الجاهلية، ويرون السعادة الأبدية في احترام الحقوق الشخصية والعمومية، والقيام على أسباب الحياة المادية والمعنوية.
ما أتى على الناس دهر مثل هذا، دخلت فيه مصالحهم تحت قوانين مقررة وأصول محررة، وما عهدت للعلم سلطة عمت البحر والبر ، والفاجر والبر، والأبيض والأسود، بل والنبات والجماد، مثل هذا القرن الغريب في شأنه، الغريب في سلطانه، فكأن روح الارتقاء كالنسم تسري في الهواء والماء، وتنزل أحشاء الكبير، كما تحل في صدر الصغير، ولكنها نسمات محيية لا مميتة، وجراثيم نافعة لا ضارة.
العلم نور يصعب بعد الآن أن يعم فريقا دون آخر، وينير بلدا أو يغفل آخر، وبتأثيره لن يقوى الظالمون على إتيان ما كانوا يأتونه من هضم حق المستضعفين والمغلوبين.
هذا النور يتقبله أفراد من علية كل أمة، ممن رجحت أحلامهم، وسلمت أبصارهم وبصائرهم، فيوليهم ارتقاء يتقلب في أدواره كالجنين، حتى تضعه أمه ثم تربيه وتغذيه إلى أن يكون منه رجل تام الأدوات أو ناقصها بحسب محيطه وبيئته.
ما ارتقت أمة بصعاليكها ارتقاءها بأعاظمها، ما فنيت أمة في واحد إلا ضعف أمرها واستبيح حماها، وما وكلت شأنها لأهل العقول الكبيرة إلا قويت، وما سعادة الأمة إلا بقدر ما لديها من هذه العقول المثقفة التي تفكر وتمخض وتدبر وتدرب، وعلى نسبة غنائهم ومضائهم يكون ارتقاء أمتهم.
كل أمة نام خيرة أبنائها عن الطلب بحقوقها، يضيعها مرور الزمن، وكل شعب استسلم وسالم تفقد منه غريزة الشجاعة اللازمة في عراك هذا العالم فيذل ويخزي، بل كل أمة لا يتولى أهل الرأي منها أمرها تضعف، وتصير في مؤخرة السفينة البشرية مقطورة بغيرها مستعبدة له.
فالأمة التي لا تسعى إلى تكثير سواد أرباب الرأي وتأخذ بأيديهم، ليتم لهم ما هو أرقى ما تنصرف إليه أطماعهم من حياتهم، من تحسين حال المحتفين بهم، هي أمة ميتة شريرة ظالمة عاملة على دمارها.
ولو جئت تستفتي التاريخ في هذا الشأن؛ لقرأت فيه مئات الأمثلة مما فيه عبرة لمعتبر، وزاجر لمزدجر، وما لنا وإلا يغال فيه إلى القديم، ففي التاريخ الحديث أمثلة كثيرة، فقد نالت الولايات المتحدة ما نالت من الاستقلال بفضل فئة من رجالها، تعلموا على الأمة الإنكليزية، وهم خيرة أبنائها فبزوها وتخلصوا منها، وكذلك كان من جمهوريات الجنوب، فإنها نزعت ربقتها من حكم إسبانيا والبرتغال لما ارتقت عقول أبنائها وتولى زعامتها عقلاؤها.
ولو تقصيت تاريخ كل أمة صغيرة كانت أو كبيرة شرقية أو غربية نالت حظها من نور العلم والسعادة الحقيقية، لا تجده نشأ إلا بفضل أهل الرأي منها، ممن تجردوا عن سفساف الأمور وتنزهوا عن الأهواء النفسية.
وتاريخ إنكلترا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا واليابان شاهد عدل أبد الدهر بأن العقل هو الذي دبر ما دبر، وأن ما نراه ونعجب به من آثار اجتماعهم ونظامهم هو من عمل السنين، ونتيجة الانكماش والتوفر وحسن التدبير. ولقد نرى العقلاء يصرفون الأمر بواسع حكمتهم، ويدبرون أمور قومهم تدبير من طب لمن حب.
الأمم تقتبس بعضها عن بعض، فإن كانوا قادة حركتها عقلاء، تأخذ عنهم النافع، وإن كانوا جهلاء يختلط عليها الأمر، وتتناول الغث والسمين بلا تمييز، فقد كان من نتائج الثورة الفرنسوية سنة 1848 أن انعكست صورة منها على ألمانيا، وكانت العقول قد تخمرت والنفوس قد استعدت، فحدث فيها انقلاب عام، وقام العامة بتدريب الخاصة يطالبون الحكومة بالإصلاح، فاستسلمت لمطالبهم؛ لأنها رأت الحركة عامة، ومن عادة الحكومات ألا تحرك ساكنا إذا رأت السواد الأعظم عليها متألبين.
قال صاحب كتاب ألمانيا الحديثة ونشوبها:
2 «فخاف الأمراء وطأطئوا رءوسهم من عاقبة هذا الانتقاض، وخف ملك ورتمبرغ وكبار دوقات بادوهيس ومجلس الشيوخ في فرنكفورت، فأصدروا أمرا بإطلاق حرية الصحافة، وأصاب مجلس الأمة في فرنكفورت دوار عظيم، فعزم على إعادة النظر في صك الوحدة الوطنية وجمع شتات الأمة الألمانية، ودعا الحكومات الألمانية لإرسال مندوبين عنها ليتفاوضوا في هذا الشأن.»
ونشأت اضطرابات في مونيخ أدت إلى تنازل الملك لويز الأول عن الملك، وارتقاء ماكسيمليان الثاني إلى العرش وتأليف وزارة حرة، وتعدى الحال إلى فينا، فنشأت فيها ثورة قضت على طريقة مترنيخ في الحكم، ونهضت كل من المجر وإيطاليا إلى مثل هذا الغرض، ونشبت الفتنة في برلين، وأصبح الملك والعاصمة تحت أمر الثائرين، واندكت معالم الحكم المطلق.
وكان في رأس تلك الأعمال جماعة من أهل الطبقة الوسطى المهذبة من الأساتذة والكتاب والمحامين والأطباء والتجار وأرباب المعامل، كلهم يطالبون باتحاد كلمة الإمارات الألمانية، وإحلال الحرية محل العبودية، وتدور أهم مطالبهم على دعوة دار ندوة وطنية، وإطلاق حرية الصحافة وإنشاء مجلس محكمين، والاستعاضة عن جيوش دائمة بتسليح الأمة.
وكان بين تلك الصفوف من الحزب الحر فريق عظيم، يرى الاعتدال خيرا من التطرف، وأن يعمد إلى مخاطبة الملوك والأمراء في تحقيق مطالب الإصلاح، وفريق يرى إلغاء سلطة الأشراف والملك وإنشاء نظام جمهوري، ووراء تينك الطبقتين سواد عظيم من السكان، يطالبون ما عدا الإصلاحات السياسية بإصلاحات اجتماعية، تكون فيها السعادة العامة، ويراد بها مساواة الجميع وإلغاء امتيازات كبار المزارعين في القرى، وإصلاح القانون الصناعي في المدن، وحماية أرباب الصنائع من منافسة المعامل، وحماية رجل المعمل من مديره.
كل هذه الحركة الثورية أدت إلى اجتماع دار الندوة في فرنكفورت، وقد طلب الشعب تنظيمها واجتماعها بنفسه وبواسطة أهل الثقة والرأي منه، ولم يسع الحكومة إلا أن تدير هذه الحركة، ولكنهم طلبوا اجتماع دار الندوة، ورخصوا بالانتخاب، ورضوا بأن يجتمع النواب الذين ينتخبون بالانتخاب العام، ليجتمعوا ويتفاوضوا في مصالح البلاد العامة، ويساعدوا الأمراء، وصار القول الفصل للأحرار، ومن ذلك نشأت الوحدة الألمانية التي بهرت آثارها.
هذا ما جرى في ألمانيا في سبيل التحرير من رق العبودية، وغريب في أمر الألمان والإنكليز فإنهم نالوا حريتهم من ملوكهم بالتدريج، ولم يريقوا فيها دما، على العكس في الفرنسيس فإنهم نالوا ما نالوا بعد أن بذلوا مهجاتهم، فليت كل أمة قضي عليها بالاستعباد تنال حريتها على أيدي عقلائها بدون فتنة كما نالتها ألمانيا وإنكلترا، فلا خير في الفتن مهما كانت النتائج، ولا خير في أمة لا يتولى عقلاؤها شئونها.
صلاح الدين ومدونو سيرته
لو كان تاريخ العرب يدرس في مدارسنا على أصوله لوجب أن تدرس سيرة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب مصر والشام واليمن والجزيرة، كما تدرس سيرة الخلفاء الراشدين، فقد مضت القرون بعد الخليفة المأمون العباسي، ولم ينشأ للعرب ملك كصلاح الدين بعقله وعدله وحلمه وحسن بلائه، وقد دونت سيرته في عهده، فكان عند المشارقة والمغاربة أنموذج الملك الحازم العاقل، وأحق ما يرجع إليه في سيرته - رحمه الله - من الكتب كتاب النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية لبهاء الدين بن شداد من قضاة الملك الناصر، وكتاب الفتح القسي في الفتح القدسي لعماد الدين الكاتب أحد كتاب ديوانه، ثم يؤخذ عمن كان في عصره أو قريبا منه أمثال ابن الأثير صاحب الكامل، وأبي الفدا صاحب حماة، أو عن صاحب تاريخ الروضتين في أخبار الدولتين لأبي شامة وذيله له.
أما كتاب النوادر فهو على أسلوب المؤرخ كتب بعبارة مرسلة لا تكلف فيها، صيغ فيه اللفظ على قدر المعنى بخلاف الفتح القسي، فإنه راعى فيه السجع من أوله إلى آخره، حتى يكاد يمل قارئه، وتشغله الألفاظ والجناسات والترصيع وعويص اللغة عن تدبر المعنى ودخوله الآذان بلا استئذان؛ على أنه من سجعه في الأحيان ما يجيء عفو القريحة، فيكون المعجب المطرب مثل فصل «ذكر حال نساء الفرنج»، فإنه أبدع فيه كل الإبداع، وإن كان على ما يظهر ركب مركب الغلو في تمثيل حالهن.
ولقد تدبرنا سيرة الملك الناصر صلاح الدين منذ ولد في قلعة تكريت (532ه)، وكان والده أيوب بن شاذي واليا بها إلى أن جاء الموصل مع والده، وقد ترعرع إلى أن انتقل معه إلى الشام، وأعطى والده بعلبك إلى أن اتصل بالملك العادل نور الدين محمود بن زنكي إلى أن ذهب صلاح الدين مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر إلى أن ملك مصر، وأزال دولة العاضد الفاطمية، وخطب للدولة العباسية إلى أن فتح الشام، واستخلص أكثر بلاد الساحل الشامي والقدس من الإفرنج إلى أن توفاه الله في دمشق بعد جهاد أربع سنين في الصليبيين، تدبرنا كل هذا فلم نحص له زلة ولا شهدنا له إلا ما ينطبق على مكارم الأخلاق والعدل المتناهي والحلم الذي دونه حلم أحنف ومعاوية، ولولا ما دسه الفقهاء عليه من تزيين قتل الشهاب السهروردي الفيلسوف؛ لخرجت صحيفة حياته كلها بيضاء نقية، قال ابن شداد: إن هذا السلطان كان «مبغضا للفلاسفة والمعطلة ومن يعاند الشريعة. ولقد أمر ولده صاحب حلب الملك الظاهر - أعز الله أنصاره - بقتل شاب نشأ يقال له السهروردي، قيل عنه: إنه كان معاندا للشرائع معطلا، وكان قد قبض عليه ولده المذكور لما بلغه من خبره وعرف السلطان به فأمر بقتله، فطلبه أياما فقتله.» هذه رواية ابن شداد وهو من الفقهاء أورد هذه القصة في معرض أن السلطان يعظم شعائر الدين وإثبات أنه يقول بالبعث والنشور، ومجازاة المحسن بالجنة والمسيء بالنار.
إلا أن ابن أبي أصيبعة قال في حقيقة قتل الشهاب السهروردي: إنه لما أتى إلى حلب وناظر بها الفقهاء ولم يجاره أحد كثر تشنيعهم عليه، فاستحضره السلطان الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، واستحضر الأكابر من المدرسين والفقهاء والمتكلمين؛ ليسمع ما يجري بينهم وبينه من المباحث والكلام، فتكلم معهم بكلام كثير، وبان له فضل عظيم وعلم باهر، وحسن موقعه عند الملك الظاهر وقربه، وصار مكينا عنده مختصا به، فازداد تشنيع أولئك عليه، وعملوا محاضر بكفره، وسيروها إلى دمشق إلى الملك الناصر صلاح الدين، وقالوا: إن بقي هذا، فإنه يفسد اعتقاد الملك الظاهر، وكذلك إن أطلق فإنه يفسد أي ناحية كان بها من البلاد، وزادوا عليه أشياء كثيرة من ذلك، فبعث صلاح الدين إلى ولده الملك الظاهر بحلب كتابا في حقه بخط القاضي الفاضل وهو يقول فيه: إن هذا الشهاب السهروردي لا بد من قتله، ولا سبيل إلى إطلاقه، ولا يبقى بوجه من الوجوه، ولما بلغ شهاب الدين السهروردي ذلك، وأيقن أنه يقتل، وليس جهة إلى الإفراج عنه اختار أن يترك في مكان مفرد، ويمنع من الطعام والشراب إلى أن يلقى الله تعالى، ففعل به ذلك، وكان في أواخر سنة ست وثمانين وخمسمائة بقلعة حلب، وكان عمره نحو ست وثلاثين سنة، قال صاحب طبقات الأطباء: إن السهروردي صار له شأن عظيم عند الملك الظاهر، وبحث مع الفقهاء في المذاهب وعجزهم، واستطال على أهل حلب، وصار يكلمهم كلام من هو أعلى قدرا منهم، فتعصبوا عليه، وأفتوا في دمه حتى قتل، وقيل: إن الملك الظاهر سير إليه من خنقه، ثم إن الملك الظاهر بعد مدة نقم على الذين أفتوا في دمه، وقبض على جماعة منهم واعتقلهم وأهانهم، وأخذ منهم أموالا عظيمة.
هذه الغلطة الوحيدة هي التي أحصيت لصلاح الدين، وهي في الحقيقة انتقام المتفقهة من المتفلسفة أو النقل من العقل، وهذا الانتقام ما برح على أشده في كل زمان، ولا سيما منذ القرن السادس إلى آخر العاشر، فإنه قتل في بلاد الإسلام كثير من الأعاظم، أو اضطهدوا، وأوذوا من قبل أعداء الفلسفة، وما عدا ذلك فإن صلاح الدين لا يلام على قتل أحد من الصليبيين؛ لأنهم أفحشوا هم في أسراه، وعاهدوا فخانوا، ومثل من قتلهم من المصريين للقضاء على الدولة العبيدية، أو من قاموا يدعون إليهم بعد أن زالت دولتهم، وفي جملتهم عمارة اليمني الشاعر، كل ذلك يغتفر له؛ لأنه في سبيل تأييد سلطانه، والملك عقيم كما قيل.
ومما ذكره ابن شداد في عدله أنه كان رءوفا رحيما ناصرا للضعيف على القوي، وكان يجلس للعدل كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرا وحضرا على أنه كان في جميع زمانه قابلا لجميع ما يعرض عليه من القصص في كل يوم، ويفتح باب العدل، ولم يرد قاصدا للحوادث والحكومات، وكان يجلس مع الكاتب ساعة إما في الليل أو في النهار، ويوقع على كل قصة بما يجريه الله على قلبه، ولم يرد قاصدا أبدا ولا متنقلا ولا طالب حاجة، وما استغاث إليه أحد إلا وقف وسمع قضيته، وكشف ظلامته، واعتنى بقصته. ولقد رأيته واستغاث إليه إنسان من أهل دمشق يقال له ابن زهير على تقي الدين ابن أخيه، فأنفذ إليه ليحضر إلى مجلس الحكم، وكان تقي الدين من أعز الناس عليه وأعظمهم عنده، ولكنه لم يحابه في الحق.
وأعظم من هذه الحكاية مما يدل على عدله قضية جرت له مع إنسان تاجر يدعى عمر الخلاطي، وذلك أني كنت يوما في مجلس الحكم بالقدس الشريف، إذ دخل علي شيخ مسن تاجر معروف يسمى عمر الخلاطي معه كتاب حكمي يسأل فتحه، فسألته: من خصمك، فقال: خصمي السلطان، وهذا بساط العدل، وقد سمعت أنك لا تحابي، قلت: وفي أي قضية هو خصمك؟ فقال: إن سنقر الخلاطي كان مملوكي، ولم يزل على ملكي إلى أن مات، وكان في يده أموال عظيمة كلها لي، ومات عنها، واستولى عليها السلطان وأنا مطالبه بها، فقلت له: يا شيخ! وما أقعدك إلى هذه الغاية، فقال: الحقوق لا تبطل بالتأخر، وهذا الكتاب الحكمي ينطق بأنه لم يزل في ملكي إلى أن مات، فأخذت الكتاب منه، وتصفحت مضمونه، فوجدته يتضمن حلية سنقر الخلاطي، وأنه قد اشتراه من فلان التاجر بأرجيش اليوم الفلاني من شهر كذا من سنة كذا، وأنه لم يزل في ملكه إلى أن شذ عن يده في سنة كذا، وما عرف شهود هذا الكتاب خروجه عن ملكه بوجه ما، وتم الشرط إلى آخره، فتعجبت من هذه القضية، وقلت للرجل: لا ينبغي سماع هذا بلا وجود الخصم، وأنا أعرفه وأعرفك ما عنده، فرضي الرجل بذلك واندفع، فلما اتفق المثول بين يديه في بقية ذلك اليوم عرفته القضية، فاستبعد ذلك استبعادا عظيما، وقال: كنت نظرت في الكتاب، فقلت: نظرت فيه ورأيته متصل الورود والقبول إلى دمشق، وقد كتب عليه كتاب حكمي من دمشق، وشهد به على يد قاضي دمشق شهود معروفون، فقال: مبارك، نحن نحضر الرجل ونحاكمه، ونعمل في القضية ما يقتضيه الشرع.
ثم اتفق بعد ذلك جلوسه معي خلوة، فقلت له: هذا الخصم يتردد ولا بد أن نسمع دعواه فقال: أقم عني وكيلا يسمع الدعوى، ثم يقيم الشهود شهادتهم، وأخر فتح الكتاب إلى حين حضور الرجل ها هنا، ففعلت ذلك، ثم أحضر الرجل واستدناه حتى جلس بين يديه وكنت إلى جانبه، ثم نزل من طراحته حتى ساواه وقال: إن كان لك دعوى فاذكرها، فحرر الرجل الدعوى على معنى ما شرح أولا، فأجابه السلطان: إن سنقر هذا كان مملوكي، ولم يزل على ملكي حتى أعتقته، وتوفي وخلف ما خلفه لورثته، فقال الرجل: لي بينة تشهد بما ادعيته، ثم سأل فتح كتابه ففتحه فوجدته كما شرحه، فلما سمع السلطان التاريخ: قال عندي من يشهد أن سنقر هذا في هذا التاريخ كان في ملكي وفي يدي بمصر، وإني اشتريته مع ثمانية أنفس في تاريخ متقدم على هذا التاريخ بسنة، وأنه لم يزل في يدي وملكي إلى أن أعتقته، ثم استحضر جماعة من أعيان الأمراء والمجاهدين فشهدوا بذلك، وذكروا القصة كما ذكرها التاريخ كما ادعاه، فأبلس الرجل، فقلت له: يا مولاي! هذا الرجل ما فعل ذلك إلا طلبا لمراحم السلطان، وقد حضر بين يدي المولى ولا يحسن أن يرجع خائبا للقصد، فقال: هذا باب آخر، وتقدم له بخلعة ونفقة بالغة قد شذ عني مقدارها، قال ابن شداد: فانظر إلى ما في طي هذه القضية من المعاني الغريبة العجيبة والتواضع، والانقياد إلى الحق، وإرغام النفس، والكرم في موضع المؤاخذة مع القدرة التامة. ا.ه.
مثل هذا الفاتح العظيم مات ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة، فإن صدقة النفل استرقت جميع ما ملكه من الأموال، فملك ما ملك ، ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهما ناصريا وجرما واحدا ذهبا، ولم يخلف ملكا ولا دارا ولا عقارا ولا بستانا ولا قرية ولا مزرعة ولا شيئا من أنواع الأملاك، وكان - رحمه الله - يهب الأقاليم وفتح آمد (ديار بكر) وطلبها منه ابن قره أرسلان، فأعطاه إياها، وهو يعطي في وقت الضيق كما يعطي في حال السعة، وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئا من المال حذرا أن يفاجئهم مهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه، قال ابن شداد: وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب، فما سمعته قط يقول: أعطينا لفلان، وكان يعطي الكثير، ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئا، وما سمعته قط يقول: قد زدت مرارا فكم أزيد، وأكثر الرسائل كانت تكون في ذلك على لساني ويدي، وكنت أخجل من كثرة ما يطلبون، ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم؛ لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك، وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره، وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي: قد تجارينا عطاياه، فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا، فكان عشرة آلاف فرس، ولم يكد يركب فرسا إلا وقد وعد بأن يعطيها لأحد طلاب عطاياه، وبالجملة فإن ما ذكره العماد وابن الشداد عن خلال صلاح الدين ومواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية وعدله وكرمه وشجاعته واهتمامه بأمر الجهاد وصبره واحتسابه وحلمه وعفوه ومحافظته على أسباب المروءة هو العجب العجاب، وقرة عين المسلمين والعرب على مر السنين والأحقاب.
يرى الناظر في كتاب العماد الكاتب الأصفهاني أنه لم يكد يغفل تفاصيل الوقائع الصلاحية، أو يشذ عنه نادرة من النوادر اليوسفية الأيوبية على ضيق عطن النثر والسجع عن قبول هذه المعاني بجملتها، ويعاب على الأصفهاني كثرة تبجحه بكتابته، فقد ذكر غير ما مرة من كتابه أنه كان هو الفرد المقدم في الديوان الصلاحي، مع أن ابن شداد ذكر عن نفسه شيئا من ذلك بالعرض، أورده - كما رأيته - في معرض الكلام عن منائح صلاح الدين، ولكن صاحبنا العماد جرى على عادة الفرس في المبالغة سامحه الله.
فقال في فتح بيروت: «وكنت يومئذ في مرض قد أزعجني وأعجزني، ومضض أجفاني، ولعيون العواد أبرزني، وانقطعت عن الحضور عند السلطان، وضعفت عن تحرير كتاب الأمان، فطلب السلطان كل كاتب في ديوانه، وكل من يمسك قلما من أفاضل الملك وأعيانه، فلم يرضه ما كتبوه، ولم يكفه ما رتبوه، فجاءني في تلك الحالة من استملاه مني، ومرضت أذهان الأصحاء، ولم يمرض ذهني، فتسلم بيروت بخطي، وأصبحوا وأنا الآخذ والمعطي، وكان الناس قد أنسوا بما أسطره وأزبره، وأنسوا سوى ما أذكره وأحبره وألفوا الصحة فيه فألقوه، ولقوا السقم في غيره فأنفوه، فلم يكن في ذلك التوقيع تعويق، بل كله بتوفيق من الله توثيق، فما فتح فتح إلا بمفتاحه، ولا رتق فتق إلا بإصلاحه، ولا جلي ظلام إلا بإصباحه، ولا وري زند إلا باقتداحه.» ا.ه.
وقال من فصل: وكان قد عرض له مرض، فانقلب إلى دمشق يداوي مزاجه، فلما عاد إلى الحضرة سأله السلطان: «أين كنت؟ ولم أبطأت؟ وحيث أصبت في المجيء فما أخطأت، وقد كنا في انتظارك والسؤال عن أخبارك، وهذا أوان إحسانك، فأين إحسان أوانك، فأجر بنانك بجرأة بيانك، وأجز في ميدانك، وما للبشائر (بفتح القدس) إلا واصفها، وللفرائد إلا راصفها، وللفصاحة إلا قسها وللحصافة إلا قيسها، وكان قد جمع أمس كتاب دواوينه على إنشاء كتب ما ارتضاها واقتضاب معان ما اقتضاها، وكانوا سألوه في كتاب الديوان العزيز فقال: لهذا من هو أقوم به. وعناني، فلما ساءني ناداني واستدناني، فصرفت إلى امتثال أمره عناني، وسلم إلي الكتب التي كتبوها بالألفاظ التي رتبوها، وقال: غيرها ولا تسيرها. وغرضه أني أعدل معوجها، وأبدل مثبجها، وأفترع المعنى البكر للفتح البكر، وأوشح ذكر آياته بآيات الذكر. فاستجديتها فما استجدتها، واستلمحتها فما استملحتها، وشممتها وبها سهك، وكشفتها وسترها هتك، وكانوا قد تعاونوا عليها وفيها لهم شرك، فشرعت في افتضاض الأبكار، واقتضاء الأفكار، واقتراح القريحة، واقتراء رحاب الكلم الفصيحة الفسيحة، وافتتحت في بشرى الفتح بكتاب الديوان العزيز، وأوردت المعنى البليغ في اللفظ الوجيز، ووشحت ووشعت، وشعبت وأشبعت، وأطلت وأطبت، وصبت وأصبت، وأعجزت وأعجبت، وأطريت وأطربت، وأبعدت وأبدعت، ورصعت وصرعت، وطابقت وجانست، ووافقت وأنست ...» ا.ه.
وقال في الوقعة العادلية: «ولما عرفت بالواقعة والنصرة الجامعة صدرت ثلثين أربعين كتابا بالبشارات بأبلغ المعاني وأبرع العبارات، وقلت: إذا نزل السلطان وجد الكتب حاضرة والبشائر شائرة، وركبت أنا والقاضي بهاء الدين بن شداد لمشاهدة ما هناك من أشلاء صرعى وأجساد، فما أعجل ما سلبوا وعروا وفروا وقروا، وقد بقرت بطونهم وفقئت عيونهم، ورأينا امرأة مقتولة لكونها قاتلة، وسمعناها وهي خامدة بالعبرة قائلة، وما زلنا نطوف عليهم، ونعبر ونفكر فيهم ونعتبر، حتى ارتدى العشاء بالظلام، فعدنا إلى الخيام، وأخذت الكتب التي نمقتها بالبشائر التي حققتها، وجئت وإذا السلطان قد استبطاني وعدم إجابتي لما دعاني، فما صبر ولا انتظر ولا ترقبني أن أحضر، ولا أمهل أن أعطي البشارة حقها، وأجلو بأنوار المعاني أفقها، وأبلغ بالبلاغة مداها، وأصبغ بتقليص الضلالة ثوب هداها، وأصف بحدود الأقلام ما صنعته حدود السيوف، وأروج نقودي عند السلطان وأغنيه عن الزيوف، فأبصرت عنده مشرفي المطابخ والأبيات ومدوني الجرائد بالإثبات، وقد كتبوا تلك البشارة الثقيلة الجليلة في رقاع خفيفة بعبارات سخيفة، وقد عطلت الحسناء من حليتها، وعروها من بزتها، وشوهوا جمالها وأحالوا حالها، فذهب بها المبشرون وسار القاصدون، فما كان لتلك الوقعة عند من وقعت عليها وقع، ولا تم لغليل من رام الاطلاع على حقيقتها نقع، وأرادوا بدمشق قراءتها على المنبر فما استحسنوها، ولو وردتهم بزينة عبارتي وبراعتي زينوها، وفي تلك الحال التفت السلطان إلي وقال: اكتب بهذه البشارة إلى بغذاذ، وعجل لها الإنفاذ، فقلت في سبيل العتب: أنتم تريدون ما أكتبه، ولا ترغبون فيما أرتبه وأهذبه، فقال: كأنك كتبت البشائر فهاتها حتى تهدي إلى طرقاتها، فقلت: ما فات فات، وهيهات هيهات، وأخرجت له ما بقي من بشارات البلاد التي أنشأتها، بالألفاظ والمعاني التي ابتدعتها وابتدأتها، فسارت فسرت البعيد والقريب، وخصت من جداها بالخصب الجديب، وصدحت بأسجاعها المنابر، وصمت بسماعها المفاخر، وظهرت بعباراتها العبر، وبهرت بزبرها الزبر، وعمرت بمعانيها المغاني، وعمت مباهجها مناهج الأقاصي والأداني.» ا.ه.
وقال من هذا البحر والقافية: «في ذكر لطف من الله في حقي خفي كان السلطان قبل استيلاء الفرنج على عكا بسنة قد عمل ترجمة تفرد بها القاضي ابن قريش لمكاتبة الأصحاب؛ ليكتب بها إليهم، ويعود بها الجواب، فلم يبق المكاتبة ابتداء وجوابا بخطي، وخرج حكم عكا في الكتابة عن شرطي، فقلت لأصحابي: ما صرف الله قلمي عن عكاء، إلا وفي علمه أن الكفر إليها يعود، وأن النحوس تحلها، وترحل عنها السعود، واستعاذني الله من استعادتها، وردها إلى شقاوتها بعد سعادتها. ولقد عصم الله قلمي وكلمي، وعرف شيم مخايل الطاقة من شيمي، وهذا قلم جمعت به أشتات العلوم مدة عمري، وما أجراه الله إلا بأجري، فالحمد لله الذي صانه وعظم شانه، وما ضيع إحسانه، وهو للفقير والفتيا، ومصالح الدين في الدنيا، وما عرف إلا بعرف، فما صرف إلا عن صرف، وما صفارته إلا في نجح، وما أسفاره إلا عن صبح، وما تجارته إلا لربح، فهو يمين الدولة وأمينها، ومعين الملة بل معينها، بمداده يستمد إمدادها، وبسداده للثغور سدادها، ودواته دواء المعضلات، وبعقده حل المشكلات، وبخطه حط عوادي الخطوب، وبقطه قط هوادي القطوب، وببريه برء الأمراض، وبدرئه درء الأعراض، وبدره انتظام عقود العقول، وبداريه ابتسام الإقبال والقبول، وبجريه جري الجياد للجهاد، وبسعيه سعي الأمجاد للأنجاد، وبحركته سكون الدهماء، وببركته ركون الرجاء، فما كان الله ليضيعه في صون ما لا يصونه وعون ما لا يعينه، فخفت على عكاء من وقوف قلمي عنها، وكان قد ألهمني الله، فإنه صانه ولم يصنها، وشكرت الله على هذه اللطيفة والعارفة الطريفة.» ا.ه.
وقال من فصل في وفاة السلطان، وكيف كانت حاله بعده: «وبقيت تلك الأيام لا أفرق بين الدجى والضحى، ولا أجد قلبي من سقم الهم وسكره صح ولا صحا، وحالت حالي، وزال إدلالي، وزاد بلبالي، وبطل حقي، واتسع خرقي، وتنازل جاهي، وتنازق أشباهي، وأعضلت أدواء الدواهي، وبقيت المعارف متنكرة، والمطالع مكفرة، والعيون شاخصة، والظلال قالصة، والأيدي يابسة، والوجوه عابسة، وعادت أبكار خواطري عانسة، ونجوم قرائحي وشواردها الآنسة خانسة كانسة، وبقي باب كل مرتجى مرتجا، ومنهج كل معروف منهجا، وظعن الغني عني، واختلف في حسن الأخلاف بي ظني، حتى تولى الملك الأفضل بدمشق مقام أبيه، وقام بالأمر بعزم تأنيه وحزم تأتيه وعز تأبيه، فعرف افتقاره إلى معرفتي وفقري، وإلى عطل الملك ومحله من غزارة حلب دري ونضارة حلي دري، فكتبت له، وحليت من الملك عطله، ووشيت الكتب ووشعتها، وجليت الرتب ووسعتها، وهززت اليراعة، وأغزرت البراعة، وهجرت الجماعة، ولزمت القناعة.» ا.ه.
هذا هو الإعجاب بالنفس، بل إعجاب الفرس تراه ماثلا من أول كتابه إلى آخره، فقد قال في مقدمته: «وأودعته من فوائد الكلام، والفرائد الفذ والتؤام، در السحاب، ودر السخاب، وسميته الفتح القدسي تنبيها على جلالة قدره وتنويها بدلالة فخره، وعرضته على القاضي الأجل الفاضل، وهو الذي في سوق فضله تعرض بضائع الفضائل، فقال لي: سمه «الفتح القسي في الفتح القدسي»، فقد فتح الله عليك فيه بفصاحة قس وبلاغته، وصاغت صيغة بيانك فيه ما يعجز ذوو القدرة في البيان عن صياغته.» ا.ه.
وأظن أن القاضي الفاضل على جلالة شأنه ما كان يستحق هذا الإعظام من العماد لو لم يكن نوه له بكتابه، على أن للعماد من المزايا التي يفاخر بها ما قد يغفر له هذا التبجح، ولكن كثيرين يفاخرون، وليس عندهم شيء من المزايا. نشأ العماد بأصبهان، وقدم بغداد في حداثته، وتفقه بالمدرسة النظامية، وأقام بها مدة (ابن خلكان)، ولما تخرج ومهر تعلق بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة ببغداد، فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط، فلما توفي أقام العماد مدة في عيش منكد وجفن مسهد، ثم انتقل إلى دمشق (562ه) وسلطانها يومئذ الملك العادل نور الدين، وعرفه والد صلاح الدين، فأحسن إليه وأكرمه وميزه من الأعيان والأماثل، وعرفه صلاح الدين ومدحه بقصيدة، ثم إن القاضي كمال الدين الشهرزوري نوه بذكره عند السلطان نور الدين، وعدد عليه فضائله ، وأهله لكتابة الإنشاء، قال العماد: فبقيت متحيرا في الدخول فيما ليس من شأني ولا وظيفتي ولا تقدمت لي به دراية. ولقد كانت مواد هذه الصناعة عتيده عنده، لكنه لم يكن قد مارسها، فجبن عنها في الابتداء، فلما باشرها هانت عليه، وأجاد فيها وأتى فيها بالغرائب، وكان ينشئ الرسائل باللغة العجمية أيضا، وحصل بينه وبين صلاح الدين في تلك المدة مودة أكيدة وامتزاج تام، ولما أخذ صلاح الدين دمشق حضر بين يديه، وأنشده قصيدة أطال نفسه فيها، ثم لزم الباب ينزل لنزول السلطان ويرحل لرحيله، فاستمر على عطلته مديدة، وهو يغشى مجالس السلطان، وينشده في كل وقت مدائح، ويعرض بصحبته القديمة، ولم يزل على ذلك حتى نظمه في سلك جماعته واستكتبه، واعتمد عليه، وقرب منه فصار من جملة الصدور المعدودين والأماثل المشهورين، يضاهي الوزراء ويجري في مضمارهم، وكان القاضي الفاضل في أكثر أوقاته ينقطع عن خدمة السلطان، ويتوفر من مصالح الديار المصرية والعماد ملازم للباب بالشام وغيره وهو صاحب السر المكتوم، وصنف التصانيف الفائقة من ذلك كتاب خريدة القصر وجريدة العصر جعله ذيلا على زينة دمية الدهر تأليف أبي المعالي سعد بن على الوراق الخطيري، والخطيري جعل كتابه ذيلا على دمية القصر وعصرة أهل العصر للباخرزي، والباخرزي جعل كتابه ذيلا على يتيمة الدهر للثعالبي، والثعالبي جعل كتابه ذيلا على كتاب البارع لهارون بن علي المنجم.
وقد ذكر العماد في خريدته الشعراء الذين كانوا بعد المائة الخامسة إلى سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، وجمع شعراء العراق والعجم والشام والجزيرة ومصر والمغرب، ولم يترك أحدا إلا النادر الخامل، وأحسن في هذا الكتاب وهو في عشر مجلدات، وصنف كتاب البرق الشامي في سبع مجلدات وهو مجموع تاريخ، وبدأ فيه بذكر نفسه وصورة انتقاله من العراق إلى الشام، وما جرى له في خدمة السلطان نور الدين محمود، وكيفية تنقله بخدمة السلطان صلاح الدين، وذكر شيئا من الفتوحات بالشام، وهو من الكتب الممتعة، وإنما سماه البرق الشامي؛ لأنه شبه أوقاته في تلك الأيام بالبرق الخاطف لطيبها وسرعة انقضائها، وصنف كتاب الفتح القسي في الفتح القدسي في مجلدين يتضمن كيفية فتح البيت المقدس، وصنف كتاب السيل على الزيل جعله ذيلا على الذيل لابن السمعاني، وهو ذيل على كتاب خريدة القصر، وصنف كتاب نصرة الفترة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية (مطبوع)، وله ديوان رسائل وديوان شعر في أربع مجلدات، ونفسه في قصائده طويل، وله ديوان صغير جميعه دوبيت، وكان بينه وبين القاضي الفاضل مكاتبات ومحاورات لطاف.
ولم يزل العماد الكاتب على مكانته ورفعة منزلته إلى أن توفي السلطان صلاح الدين - رحمه الله تعالى - فاختلت أحواله، وتعطلت أوصاله، ولم يجد في وجهه بابا مفتوحا، فلزم بيته، وأقبل على الاشتغال بالتصانيف، وكانت ولادته يوم الاثنين ثاني جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وخمسمائة بأصبهان، وتوفي يوم الاثنين مستهل شهر رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية خارج باب النصر.
أما ابن شداد مؤلف السيرة الصلاحية فقد ولد بالموصل سنة 539 وحفظ بها القرآن الكريم في صغره، وتخرج بضياء الدين القرطبي وبابن الشيرجي والطوسي الخطيب وغيرهم، قرأ عليهم القراءات والتفسير والحديث والفقه والخلاف والأدب واللغة، وأعاد بالمدرسة النظامية وحج في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، وزار بيت المقدس والخليل، ثم دخل دمشق والسلطان صلاح الدين محاصر قلعة كوكب، فذكر أنه سمع بوصوله فاستدعاه إليه فظن أن يسأله عن كيفية قتل الأمير شمس الدين، وكان أمير الحاج في تلك السنة من جهة صلاح الدين وقتل على جبل عرفات، فلما دخل عليه ذكر أنه قابله بالإكرام التام وما زاد على السؤال عن الطريق ومن كان فيه من مشايخ العلم والعمل وسأله عن جزء من الحديث ليسمعه عليه، فأخرج له جزءا جمع فيه أذكار البخاري وأنه قرأه عليه بنفسه، فلما خرج من عنده تبعه عماد الدين الكاتب الأصبهاني وقال له: السلطان يقول لك: إذا عدت من الزيارة وعزمت على العود فعرفنا بذلك فلنا إليك مهم، فأجابه بالسمع والطاعة، فلما عاد عرفه بوصوله فاستدعاه، وجمع له في تلك المدة كتابا يشتمل على فضائل الجهاد، وما أعد الله سبحانه وتعالى للمجاهدين، يحتوي على مقدار ثلاثين كراسة، فخرج إليه واجتمع به ببقعة حصن الأكراد وقدم له الكتاب الذي جمعه، وقال: إنه كان عزم على الانقطاع في مشهد بظاهر الموصل إذا وصل إليها، ثم إنه اتصل بخدمة صلاح الدين في مستهل جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وخمسمائة، ثم ولاه قضاء العسكر والحكم بالقدس الشريف، ولما توفي صلاح الدين كان حاضرا وتوجه إلى حلب لجمع كلمة الإخوة أولاد صلاح الدين وتحليف بعضهم لبعض، وكتب الملك الظاهر غياث الدين بن صلاح الدين صاحب حلب إلى أخيه الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين صاحب دمشق يطلبه منه فأجابه إلى ذلك، فأرسله الملك الظاهر إلى مصر لاستخلاف أخيه الملك العزيز عماد الدين عثمان بن صلاح الدين، وعرض عليه الظاهر الحكم بحلب ، فلم يوافق على ذلك، ثم ولي قضاءها ووقوفها، وكانت حلب في ذلك الزمان قليلة المدارس، وليس بها من العلماء إلا نفر يسير، فاعتنى ابن شداد بترتيب أمورها وجمع الفقهاء بها وعمرت في أيامه المدارس الكثيرة، وكان الملك الظاهر قد قرر له إقطاعا جيدا يحصل منه جملة مستكثرة، ولم يكن له خرج كثير فإنه لم يولد له ولا كان له أقارب، فتوفر له شيء كثير فعمر مدرسة للشافعية ودارا للحديث في حلب، ولما صارت حلب على هذه الصورة قصدها الفقهاء من البلاد، وحصل بها الاشتغال والاستفادة وكثر الجمع بها.
وكان بيد القاضي أبي المحاسن بن شداد حل الأمور وعقدها، ولم يكن لأحد معه في الدولة كلام، وكان سلطانها الملك العزيز أبو المظفر ابن الملك الظاهر ابن السلطان صلاح الدين، وهو صغير السن تحت حجر الطواشي شهاب الدين أبي سعيد طغرل وهو أتابكه، وتولى أمور الدولة بإشارة القاضي أبي المحاسن لا يخرج عنهما شيء من الأمور، وكان للفقهاء في أيامه حرمة تامة ورعاية كبيرة، خصوصا جماعة مدرسته، فإنهم كانوا يحضرون مجالس السلطان، ويفطرون في شهر رمضان على سماطه.
قال صاحب وفيات الأعيان بعد إيراد ما تقدم تحصيله: وكان القاضي أبو المحاسن المذكور سلك طريق البغاددة في ترتيبهم وأوضاعهم، حتى إنه كان يلبس ملبوسهم والرؤساء يترددون إليه، وكانوا ينزلون عن دوابهم على قدر أقدارهم لكل واحد منهم مكان معين لا يتعداه، ثم إنه تجهز إلى الديار المصرية لإحضار ابنة الملك الكامل ابن الملك العادل للملك العزيز صاحب حلب، وكان قد عقد له عليها، فسار في أول سنة تسع وعشرين وستمائة وعاد وقد جاء بها، ولما وصل كان قد استقل الملك العزيز بنفسه، ورفعوا عنه الحجر، ونزل الأتابك طغرل من القلعة إلى داره تحت القلعة، واستولى على الملك العزيز جماعة من الشباب الذين كانوا يعاشرونه ويجالسونه فاشتغل بهم، ولم ير القاضي أبو المحاسن وجها يرتضيه، فلازم داره إلى حين وفاته، وهو باق على الحكم وإقطاعه جار عليه، غاية ما في الباب أنه لم يبق له حديث في الدولة، وكانوا يراجعونه في الأمر، فكان يفتح بابه لأسماع الحديث كل يوم بين الصلاتين، واستمر على ذلك حتى توفي سنة اثنتين وثلاثين وستمائة بحلب، وصنف كتابه ملجأ الحكام عند التباس الأحكام يتعلق بالأقضية في مجلدين، وكتاب دلائل الأحكام تكلم فيه على الأحاديث المستنبط منها الأحكام في مجلدين، وكتاب الموجز الباهر في الفقه، وكتاب سيرة صلاح الدين وغير ذلك، وجعل داره خانقاه للصوفية.
هذان هما الرجلان اللذان تعلقا بخدمة صلاح الدين، وحرص عليهما مع إدلالهما عليه، فنفقت بضاعتها في سوقه، والدولة سوق يحمل إليها ما يروج فيها، ومع ما كانا فيه من السعة لم تلههما الدنيا عن التأليف والتدريس وإحياء معالم العلم والأدب، فأثرا بفضلهما في حياتهما، وبعد موتهما كتب العماد السيرة الصلاحية ممزوجة بالأدب، ومع هذا لم يفته الغرض من التاريخ، حتى إنه قال فيما تم على الأسطول من فصل: «فانشقت مرائر الفرنج، وأزاحت سفنها عن النهج، وقرنصت بزاة البيزانية، وتقلصت جباه الجنوية، وكرثت أدواء الداوية، وكثرت أسواء الإسبتارية، وزادت آلام الألمانية، وعادت أسقام الإفرنسيسية.»
مما دل على أنه كان يعلم أجناس المحاربين، ومما ذكره أيضا في ذكر ما تجدد لملك الإنكتير (إنكلترا) من المراسلة والرغبة في المواصلة قال: وصلت رسل ملك الإنكتير إلى العادل بالمصافحة على المصافاة، والمواتاة في الموافاة، وموالاة الاستمرار على الموالاة، والأخذ بالمهادات، والترك للمعادات، والمظاهرة بالمصاهرة، وترددت الرسل أياما، وقصدت التئاما، وكادت تحدث انتظاما، واستقر تزوج الملك العادل بأخت ملك الإنكتير، وأن يعول عليهما من الجانبين في التدبير، على أن يحكم العادل في البلاد، ويجري فيها الأمر على السداد، وتكون المرأة في القدس مقيمة مع زوجها، وشمسها من قبوله في أوجها، ويرضي العادل مقدمي الفرنج والداوية والاستبار ببعض القرى، ولا يمكنهم من الحصون التي في الذرا، ولا يقيم معها في القدس إلا قسيسون ورهبان، ولهم منا أمان وإحسان، واستدعاني العادل والقاضي بهاء الدين بن شداد، وجماعة من الأمراء من أهل الرأي والسداد، وهم علم الدين سليمان بن جندر، وسابق الدين عثمان، وعز الدين بن المقدم، وحسام الدين بشارة، وقال لنا: تمضون إلى السلطان وتخبرونه عن هذا الشأن، وتسألونه أن يحكمني في هذه البلاد، فلما جئنا إلى السلطان عرف الصواب، وما أخر الجواب، وشهدنا عليه بالرضا، وعاد الرسول إلى ملك الإنكتير بفصل أمر الوصلة وإراحة الجملة وإزاحة العلة، واعتقدنا أن هذا أمر قد تم إلى أن قال: وبلغ الخبر إلى مقدميهم ورءوسهم، فقصوه على قسوسهم، وعسروا على عروسهم، فجبهوها بالعذل واللذع، ثم رضيت على شرط الموافقة في الدين، فأنف العادل إلى آخر ما ذكر.
بيد أن الصراحة في كلام ابن شداد أكثر؛ لأنه لم يتقيد بالسجع والترصيع وأنواع البديع المريع، فقال في ذكر ملك الإنكتار: وهذا ملك الإنكتار شديد البأس بينهم، عظيم الشجاعة، قوى الهمة، له وقعات عظيمة، وله جسارة على الحرب، وهو دون الفرنسيس عندهم في الملك والمنزلة، لكنه أكثر مالا منه، وأشهر في الحرب والشجاعة، وكان من خبره أنه وصل إلى جزيرة قبرص، ولم ير أن يتجاوزها إلا وأن تكون له وفي حكمه، فنازلها وقاتلها فخرج إليه صاحبها، وجمع له خلقا كثيرا، وقاتلهم قتالا شديدا ... ولما كان يوم السبت ثالث عشر الشهر قدم ملك الإنكتار بعد مصالحته لصاحب جزيرة قبرص والاستيلاء عليها، وكان لقدومه روعة عظيمة، ووصل في خمس وعشرين شانية مملوءة بالرجال والسلاح والعدد، وأظهر الإفرنج سرورا عظيما حتى إنهم أوقدوا تلك الليلة نيرانا عظيمة في خيامهم. ولقد كانت النيران مهولة عظيمة تدل على عدة عظيمة كبيرة، وكان ملوكهم يتواعدوننا به، فكان المستأمنون منهم يخبروننا عنهم أنهم موقنون فيما يريدون أن يفعلوا من مضايقة البلد (عكا) حتى قدومه، فإنه ذو رأي في الحرب مجرب، وأثر قدومه في قلوب المسلمين خشية ورهبة.
وقال من فصل: كنت ذكرت وصول رسول منهم يلتمسون من جانب الإنكتار أن يجتمع بالسلطان، وذكرت عذر السلطان عن ذلك، وانقطع الرسول وعاد معاودا في المعنى، وكان حديثه مع الملك العادل ثم هو يلقيه إلى السلطان، واستقر أنه رأى أن يأذن له في الخروج، ويكون الاجتماع في المرج والعساكر محيطة بهما ومعهما ترجمان، فلما أذن في ذلك تأخر الرسول أياما عنده بسبب مرضه، واستفاض أن ملوكهم اجتمعوا عليه، وأنكروا عليه ذلك، وقالوا: هذه مخاطرة بدين النصرانية، ثم بعد ذلك وصل رسول يقول: لا تظن تأخري بسبب ما قيل، فإن زمام قيادي مفوض إلي، وأنا أحكم ولا يحكم علي، غير أني في هذه الأيام اعترى مزاجي التياث منعني عن الحركة، فهذا كان العذر في التأخير لا غير، وعادة الملوك إذا تقاربت منازلهم أن يتهادوا، وعندي ما يصلح للسلطان، وأنا أستخرج الإذن في إيصاله إليه، فقال له الملك العادل: قد أذن في ذلك بشرط قبول المجازاة على الهدية، فرضي الرسول بذلك، وقال: الهدية شيء من الجوارح قد جلب من وراء البحر وقد ضعف، فيحسن أن يحمل إلينا طير ودجاجة حتى نطعمها لتقوى ونحملها، فداعبه الملك العادل، وكان فقيها فيما يحدثهم به، فقال الملك: قد احتاج إلى فراريج ودجاج، ويريد أن يأخذها منا بهذه الحجة، ثم انفصل حديث الرسالة في الآخر، على أن قال الرسول: ما الذي أردتم منا إن كان لكم حديث، فتحدثوا به حتى نسمع، فقيل له عن ذلك نحن ما طلبناكم أنتم طلبتمونا، فإن كان لكم حديث فتحدثوا به حتى نسمع، وانقطع حديث الرسالة إلى سادس جمادى الأخرى، فخرج رسول الإنكتار إلى السلطان، ومعه إنسان مصري قد أسروه من مدة طويلة، وهو مسلم قد أهداه إلى السلطان فقبله وأحسن إليه، وأعاده مشرفا مكرما إلى صاحبه، وكان غرضه بتكرار الرسائل تعرف قوة النفس وضعفها، وكان غرضنا بقبول الرسائل تعرف ما عنده من ذلك أيضا.
وقال في مشورة ضربها في التخيير بين الصلحين بين الإنكتار والمركيس: واصل التعاقد، إن الملك (الإنكتار) قد بذل أخته للملك العادل بطريق التزويج، وأن تكون البلاد الساحلية الإسلامية والإفرنجية لهما، فأما الإفرنجية فلها من جانب أخيها والإسلامية له من جانب السلطان، وكان آخر الرسائل من الملك في المعنى أن قال: إن معاشر دين النصرانية قد أنكروا علي وضع أختي تحت مسلم بدون مشاورة البابا وهو كبير دين النصرانية ومقدمه، وها أنا أسير إليه رسولا يعود في ستة أشهر، فإن أذن فيها ونعمت، وإلا زوجتك ابنة أخي وما أحتاج إلى إذنه في ذلك، هذا كله وسوق الحرب قائم والقتال عليهم ضربة لازم.
وقال في عود الرسول من قبل ملك الإنكتار: وأدى الرسالة وهي أن الملك يسأل ويخضع لك أن تترك له هذه الأماكن الثلاثة عامرة، وأي قدر لها في ملكك وعظمتك، وما من سبب لإصراره عليها إلا أن الإفرنج لم يسمحوا بها، وقد ترك القدس بالكلية، فلا يطلب أن يكون فيه رهبان ولا قسوس إلا في القمامة وحدها، فأنت تترك له هذه البلاد، ويكون الصلح عاما، فيكون لهم كل ما في أيديهم من الدارون إلى أنطاكية، ولكم ما في أيديكم وينتظم الحال ويروج، وإن لم ينتظم الصلح فالإفرنج لا يمكنونه من الرواح ولا يمكن مخالفتهم، فانظر إلى هذه الصناعة في استخلاص الغرض باللين تارة والخشونة أخرى، وكان مضطرا إلى الرواح، وهذا عمله مع اضطراره، والله الولي في أن يقي المسلمين شره، فما بلونا أعظم حيلة وأشد إقداما منه.
سيرة صلاح الدين
أشار إلينا أحد الأصدقاء أن نزيد القراء من سيرة أبي المظفر الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أحد أفراد الملة الإسلامية وأكبر أبطال القرون الغابرة، من كان يعلم أعداءه كيف تكون الرجولية كما كان قال إمبراطور الألمان الحالي، وأن نتوسع في وقائعه ما أمكن؛ لأن سيرته الشريفة جديرة بأن يتدارسها الملوك والسوقة، ويهتدي بهديها ابن القرن الحاضر والقرون الآتية، فهي مثال الحكمة، كلما كررت حلت، ومهما أطال الناظر بصره فيها زاد بصيرة، وماذا عسانا نقول فيمن جمع الفضائل النفسية، ورزق من الصبر والثبات وحب الموت حبا في إحياء الأمة، وخادنه من أسباب التوفيق ما لم يكتب لأحد، فخدم الإسلام والمسلمين بعقله وجهاده خدمة الخليفة الثاني، ونفعهم بسيرته كما نفع المأمون العباسي، وكان في زهده وشدته على قدم علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز.
اجتمعت لصلاح الدين أرقى صفات تلزم الملوك والسلاطين، وأسمى أخلاق الزاهدين العالمين والكرماء المحسنين، وتربى تربية رشيدة لا يكاد ينشأ عليها ابن أرقى البيوت المالكة لعهدنا في بلاد الغرب مع ما لهم من المدارس الجامعة والمجامع والجمعيات، وأسباب تهذيب النفس، وتربية الملكات، وإثارة العقول.
فلاحت على وجهه مخايل السعادة، وأخذت النجابة منذ نشأته تقدمه من حالة إلى حالة كما قالوا، فنشأ في كنف أبيه في قلعة تكريت، وكان أبوه وعمه بها عمالا لحاكم تلك الديار، وكان أهله من دوبن بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة إيران وبلاد الكرج، وهم أكراد روادية وهي قبيلة كبيرة من قبائل الأكراد، وانتقلوا من هناك إلى تكريت، وفيها ولد صلاح الدين.
قال ابن خلكان: أخبرني بعض أهل بيتهم، وقد سألته هل تعرف متى خرجوا من تكريت فقال: سمعت جماعة من أهلنا يقولون: إنهم خرجوا منها في الليلة التي ولد فيها صلاح الدين، فتشاءموا به وتطيروا منه، فقال بعضهم: لعل فيه الخيرة وما تعلمون فكان كما قال.
قلنا: تشاءموا بولادة صلاح الدين؛ وذلك لأنه صادف أنه أخرج والده من قلعة تكريت بأمر صاحبها بهروز ليلة ولادته. وذكر في الروضتين أن قد اجتمع مرة السلطان صلاح الدين ووالده الأمير نجم الدين في دار الوزارة بمصر، وقد قعدا على طراحة واحدة والمجلس غاص بأرباب الدولتين يوم أراد نور الدين محمود بن زنكي أن تقطع خطبة المصريين، وتقام دعوة بني العباس، وعند الناس من الفرح والسرور ما قد أذهل العقول، فبينا الناس كذلك إذ تقدم كاتب نصراني كان في خدمة الأمير نجم الدين، فقبل الأرض بين يدي السلطان الملك الناصر صلاح الدين، ووالده نجم الدين، والتفت إلى نجم الدين، وقال له: يا مولاي هذا تأويل مقالتي لك بالأمس حين ولد هذا السلطان، فضحك نجم الدين وقال: صدقت والله، ثم أخذ في حمد الله وشكره والثناء عليه، والتفت إلى الجماعة الذين حوله والقضاة والأمراء وقال: لكلام هذا النصراني حكاية عجيبة؛ وذلك أنني ليلة رزقت هذا الولد - يعني السلطان الملك الناصر - أمرني صاحب قلعة تكريت بالرحلة عنها بسبب الفعلة التي كانت من أخي شيركوه - رحمه الله - وقتله النصراني، وكنت قد ألفت القلعة، وصارت لي كالوطن، فثقل علي الخروج منها، والتحول عنها إلى غيرها واغتممت لذلك، وفي ذلك الوقت جاءني البشير بولادته، فتشاءمت به، وتطيرت لما جرى علي، ولم أفرح به ولم أستبشر، وخرجنا من القلعة وأنا على طيرتي به لا أكاد أذكره ولا أسميه، وكان هذا النصراني معي كاتبا، فلما رأى ما نزل بي من كراهية الطفل والتشاؤم به استدعى مني أن آذن له في الكلام فأذنت له، فقال لي: يا مولاي! قد رأيت ما قد حدث عندك من الطيرة بهذا الصبي، وأي شيء له من الذنب، وبما استحق ذلك منك، وهو لا ينفع ولا يضر ولا يغني شيئا، وهذا الذي جرى عليك قضاء من الله سبحانه وقدر، ثم ما يدريك أن هذا الطفل يكون ملكا عظيم الصيت جليل المقدار، فعطفني كلامه عليه، وها قد أوقفني على ما كان قاله، فتعجب الجماعة من هذا الاتفاق، وحمد السلطان ووالده الله سبحانه وشكراه.
ولما ملك نور الدين محمود بن زنكي دمشق لازم نجم الدين أيوب خدمته، وكذلك ولده صلاح الدين، ونور الدين هذا تركي الأصل، وهو صاحب الفضل الأول في تأسيس ملك الشام ومصر، بحيث قوي على رد غارات الصليبيين ودفعهم عن الأرض المقدسة، فصلاح الدين يوسف ليس إذن من أصل وضيع، بل من أصل رفيع جدا، تعلم القدر الذي كان يتعلمه أبناء الكبراء، ونشأ نشأة دينية راقية، وأخذ حسن الخلق والعدل والشجاعة والكرم عن أبيه نجم الدين أيوب بن شاذي، وكان عدلا مرضيا، كثير الصلاة والصلات، غزير الصدقات والخيرات، يحب العلماء، ربي في الموصل، ونشأ شجاعا باسلا، وخدم السلطان محمد بن ملكشاه، فرأى منه أمانة وعقلا وسدادا وشهامة، فولاه قلعة تكريت، فقام في ولايتها أحسن قيام، وضبطها أكرم ضبط، وأجلى من أرضها المفسدين وقطاع الطريق وأهل العيث، حتى عمرت أرضها، وحسن حال أهلها، وأمنت سبلها، ثم أضيفت إليه ولايتها، وكان نجم الدين عظيما في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السياسة، وكان لا يمر أحد من أهل العلم والدين به إلا حمل إليه المال والضيافة الجليلة، وكان لا يسمع عن أحد من أهل الدين في مدينة إلا أنفذ إليه ما يستعين به على صلاح حاله.
وكان أسد الدين شيركوه أخو نجم الدين أيوب في قلعة تكريت مع أخيه، وكان شجاعا باسلا مثل أخيه، فاتفق أن أسد الدين نزل من القلعة يوما لبعض شأنه، ثم عاد إليها، وكان بينه وبين كاتب صاحب القلعة قوارص، وكان رجلا نصرانيا، فاتفق في ذلك اليوم أن النصراني صادف أسد الدين صاعدا إلى القلعة، فعبث به بكلمة ممضة فجرد أسد الدين سيفه وقتل النصراني وصعد إلى القلعة، وكان مهيبا فلم يتجاسر أحد على معارضته في أمر النصراني، فبلغ بهروز صاحب قلعة تكريت ما جرى، وحضر عنده من خوفه من جرأة أسد الدين، وأنه ذو عشيرة كبيرة، وأن أخاه نجم الدين قد استحوذ على قلوب الرعايا، وأنه ربما كان منهما أمر تخشى عاقبته، ويصعب استدراكه؛ فكتب إلى نجم الدين ينكر عليه ما جرى من أخيه، ويأمره بتسليم القلعة إلى نائب سيره صحبة الكتاب، فأجاب نجم الدين إلى ذلك بالسمع والطاعة، وقعد هو وأخوه عند عماد الدين زنكي بالموصل، فأكرمهما وأقطعهما الإقطاعات الحسنة، ثم اتصلا بنور الدين محمود بن زنكي إلى أن أرسل أسد الدين شيركوه إلى مصر ومعه ابن أخيه صلاح الدين، وبنور الدين تخرج صلاح الدين، فقد كان نور الدين يرى له ويؤثره، ومنه تعلم صلاح الدين طرائق الخير، وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد، وسافر صلاح الدين إلى مصر وهو كاره للسفر، فجعله عمه أسد الدين شيركوه مقدم عسكره سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وكان صلاح الدين في السابعة والعشرين من عمره، فعرف أسد الدين حال مصر وكشف أحوالها والدولة الفاطمية فيها مشرفة على الزوال، وقد ضعفت جنديتها ودب الفشل والهرم في البيت العبيدي، وصارت خلافتهم ألعوبة في يد كل ذي قوة.
والسبب في دخول أسد الدين ومعه ابن أخيه صلاح الدين إلى مصر أن الوزير شاور هرب من مصر، واستغاث في الشام بنور الدين من ضرغام بن عامر؛ لأنه قهره وأخذ مكانه في الوزارة، «ولما وصل أسد الدين شيركوه وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها، وقتلوا الضرغام، وحصل لشاور مقصوده، وعاد إلى منصبه، وتمهدت قواعده، واستمرت أموره غدر بأسد الدين شيركوه، واستنجد بالفرنج عليه وحصروه في بلبيس، وكان أسد الدين قد شاهد البلاد، وعرف أحوالها، وأنها مملكة بغير رجال تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال»، طمع في الاستيلاء عليها، فبلغ شاورا أن نور الدين قد زين له الاستيلاء على مصر، وأن أسد الدين لا بد له من قصدها ثانية، فكاتب الإفرنج «وقرر معهم أنهم يجيئون إلى البلاد، ويمكنهم منها تمكينا كليا؛ ليعينوه على استئصال أعدائه، فبلغ نور الدين وأسد الدين مكاتبة شاور للفرنج وما تقرر بينهم، فخافا على الديار المصرية أن يملكوها، ويملكوا بطريقها جميع البلاد؛ فتجهز أسد الدين وأنفذ نور الدين معه العساكر، وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين شيركوه، وكان توجههم من الشام في سنة 562.»
استولى أسد الدين على أزمة الوزارة، وقتل شاورا الوزير قبله بأمر الخليفة الفاطمي جريا على عادة أجداده في الوزراء، وذلك في ربيع الأول سنة 564، كان صلاح الدين «يباشر الأمور مقررا لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته»، ومات أسد الدين بعد شهرين وخمسة أيام من تولية الوزارة للعاضد الفاطمي، فتولاها صلاح الدين بعده «وتمهدت القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع، وبذل الأموال، وملك قلوب الرجال، وهانت عنده الدنيا فملكها، وشكر نعمة الله تعالى عليه، فتاب عن الخمر، وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص بقميص الجد والاجتهاد»، و«من حين استتب له الأمر ما زال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وغيرهما من البلاد، وغشى الناس من سحائب الإفضال والإنعام ما لم يؤرخ من تلك الأيام، وهذا كله وهو وزير متابع القوم، لكنه يقول بمذهب أهل السنة مارس في البلاد أهل الفقه والعلم والتصوف والدين»، وهو يكرم كل وافد، ولا يخيب أحدا قصده.
بهذا الكرم والعقل دانت مصر لصلاح الدين ، وأصبح فيها الحاكم المتحكم واصطناع الفضلاء، وتقريب العقلاء والأفضال على العلماء والشعراء من آكد الطرق في بلوغ المقصود وتهيئة أسباب الملك.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم
فطالما استعبد الإنسان إحسان
ولما ثبتت قدم صلاح الدين في مصر، وأزال المخالفين - كما قال ابن الأثير - وضعف أمر العاضد، ولم يبق من العساكر المصرية أحد، كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية، فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب أهل مصر، وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك؛ لميلهم إلى دولة المصريين، فلم يصغ نور الدين إلى قوله، وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزاما لا فسحة له فيه، واتفق أن العاضد مرض، وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة، فاستشار أمراءه في كيفية الابتداء بالخطبة العباسية، فمنهم من أقدم على المساعدة وأشار بها، ومنهم من خاف ذلك، إلا أنه لم يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين، فلما كان أول جمعة من المحرم (567) خطب للمستضيء بأمر الله تعالى العباسي فلم ينكر أحد ذلك، فلما كانت الجمعة الثالثة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء بأمر الله تعالى ففعلوا ذلك، ولم ينتطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر الديار المصرية.
وكان العاضد قد اشتد مرضه، فلم يعلمه أهله وأصحابه بانقطاع الخطبة باسمه، وقالوا: إن سلم فهو يعلم، وإن توفي فلا ينبغي أن ننغص عليه هذه الأيام التي بقيت من أجله، فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم، ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصره وجميع ما كان فيه، وكان قد رتب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش، وهو خصي يحفظه، فحفظ ما فيه حتى تسلمه صلاح الدين، ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد، ووكل بحفظهم، وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم في إيوان بالقصر، وجعل عندهم من يحفظهم، وأخرج من كان فيه من العبيد والإماء، فأعتق البعض ورهب البعض وباع البعض، وأخلى القصر من أهله وسكانه، وكان ابتداء الدولة العبيدية أو الفاطمية بإفريقية والمغرب في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين ومقامهم بمصر مائتي سنة وثماني سنين، وملك منهم أربعة عشر ملكا، آخرهم العاضد وأولهم المهدي.
أزال صلاح الدين دولة العبيديين على أهون سبب؛ لأنها لم تعد صالحة للبقاء، وكفى أن أمراءها أخذوا يراسلون الإفرنج لتسلم لهم مناصبهم - كما فعل جماعة عمارة اليمني - وأخذوا يراسلون الفرنج في صقلية وساحل الشام ليقلبوا الحكومة الصلاحية، ويعيدوا الدولة العبيدية، فشعر بهم صلاح الدين وصلبهم، وكما فعل غير واحد من ملوك الطوائف في الأندلس، فأنشئوا يحتمون بجيرانهم وأعدائهم، ويستعينون بهم على قتال ذويهم وأبناء ملتهم، فكان ذلك من أهم الأمور في طمع الإسبانيين ببلاد الأندلس واسترجاعها بعد أن حكمها العرب قرونا، عن علي بن عيسى بن الجراح قال: سألت أولاد بني أمية ما سبب زوال دولتكم قال: أربع خصال، أولها: أن وزراءنا كتموا عنا ما يجب إظهاره لنا، والثانية: أن جباة خراجنا ظلموا الناس، فارتحلوا عن أوطانهم، فخربت بيوت أموالنا، والثالثة: انقطعت الأرزاق عن الجند فتركوا طاعتنا، والرابعة: أيس الناس من إنصافنا فاستراحوا إلى غيرنا، فهذا كان سبب زوال دولتنا. قلنا: وهو سبب ذهاب أكثر الدول، وهذه الخصال كانت - ولا شك - موجودة في الفاطمية.
قال صاحب الكامل: ولما استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد، ووهب أهله ما أراد، وباع منه كثيرا، وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفسية ما لم يكن عند ملك من الملوك، قد جمع على طول السنين وممر الدهور، فمنه القضيب الزمرد طوله نحو قصبة ونصف، والحبل الياقوت وغيرهما، ومن الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد، وهكذا عادت إلى مصر الخطبة والسكة باسم الخليفة العباسي بعد أن انقطعت دهرا طويلا، فأرسل المستضيء بأمر الله خلعة إلى نور الدين في الشام، وأخرى أقل من خلعته إلى صلاح الدين في مصر.
ثم حصلت وحشة بين نور الدين وصلاح الدين؛ وذلك أن الأول طلب إلى الثاني أن يجمع العساكر المصرية، ويأتي إلى الكرك ليجمع هو العساكر الشامية، ويأتيها ليخلصوها من الإفرنج، فبعد أن صدع بالأمر أرسل إليه كتابا يعتذر فيه عن الوصول باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين، وأنهم عازمون على الوثوب بها، وأنه يخاف عليها مع البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلف بها، فلم يقبل نور الدين هذا الاعتذار منه وتغير عليه، وكان سبب تقاعد صلاح الدين أن أصحابه وخواصه خوفوه من الاجتماع بنور الدين، فإذا لم يمتثل أمر نور الدين شق ذلك عليه وعظم عنده، وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين منها، فبلغ الخبر إلى صلاح الدين فجمع أهله ومنهم والده نجم الدين وخاله شهاب الدين الحازمي، ومعهم سائر الأمراء وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه، واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء، فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين وقال: إذا جاء قاتلناه ومنعناه عن البلاد، ووافقه غيره من أهله، فشتمهم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك واستعظمه، وكان ذا رأي وفكر وعقل وقال لتقي الدين: اقعد وسبه، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك أتظن أن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا، فقال: لا، فقال: والله لو رأيته أنا وخالك شهاب الدين نور الدين لم يمكننا إلا أن نترجل له، ونقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا فكيف يكون غيرنا، وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر من الثبات على سرجه، ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه، وهذه البلاد له، وقد أقامك فيها، وإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا، والرأي أن تكتب إليه كتابا وتقول: بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد، فأي حاجة إلى هذا يرسل المولى نجابا يضع في رقبتي منديلا ويأخذني إليك، فما ههنا من يمتنع عليك، وقال لجماعته كلهم: قوموا عنا، فنحن مماليك نور الدين، وعبيده يفعل بنا ما يريد، فتفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر، ولما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع الكثير، وتطلعهم على سرك وما في نفسك، فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه عن البلاد جعلك أهم الأمور وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم تر معك أحدا من هذا العسكر، وكانوا أسلموك إليه، وأما الآن فبعد هذا المجلس سيكتبون إليه، ويعرفونه قولي وتكتب أنت إليه وترسل إليه في المعنى، وتقول: أي حاجة إلى قصدي يجيء نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي، فهو إذا سمع عدل عن قصدك، واستعمل ما هو أهم عنده، والأيام تتدرج، والله كل وقت في شأن، والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب سكرنا لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل، ففعل صلاح الدين ما أشار به والده، فلما رأى نور الدين الأمر هكذا عدل عن قصده، وكان الأمر كما قال نجم الدين أيوب، وتوفي نور الدين ولم يقصده، وملك صلاح الدين البلاد، قال ابن الأثير: وهذا كان من أحسن الآراء وأجودها.
هذا هو التوفيق الذي حالف صلاح الدين، دخل مصر كارها مع عمه، فصار قائد جندها، ثم تولى وزارتها، فملكها وقلب دولة العبيديين، وكل ذلك بأخذه بالحزم في أموره، واستشارته العقلاء من أهله ورجاله ، وكان من طبعه ألا يبت أمرا بدون مشورة، هكذا كان منذ ابتدأ شابا إلى أن استولى بعد وفاة نور الدين سنة 569 على الشام، إلى أن استخلص بيت المقدس من أيدي الإفرنج، وطردهم من أكثر مدن ساحل الشام، يعمل بقول بشار:
إذا بلغ الرأي النصيحة فاستعن
برأي لبيب أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة
فإن الخوافي رافدات القوادم
وكان نور الدين قد خلف ولده الملك الصالح إسماعيل، وكان بدمشق عند وفاة أبيه، فسار إلى حلب من دمشق، فلما علم صلاح الدين أن الملك صالح صبي لا يستقل بالأمر، ولا ينهض بأعباء الملك، واختلت الأحوال بالشام، تجهز من مصر في جيش كثيف، وترك بها من يحفظها، وقصد دمشق مظهرا أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم سلخ سنة سبعين وخمسمائة وتسلم قلعتها، ففرح الناس به، وأنفق مالا جزيلا، وسار إلى حلب، فنازل حمص وأخذ مدينتها، ثم استولى على تلك البلاد إلى الفرات وما بعد الفرات، وتوفي الملك الصالح بعد مدة قليلة، فأخذ حلب ابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل، ثم عاد صلاح الدين سنة 577 واستولى على حلب ودانت له البلاد، وفتح بيت المقدس بعد أن ملكه الإفرنج نحو مائتي سنة، ولم يفشل في واقعة من وقائعه مع الصليبيين على كثرة عددهم وعديدهم، اللهم إلا في عكا، فاستعادوها منه بعد أن فتحها بواسطة ملك الإنكليز إذ ذاك ريشاردس قلب الأسد.
إن عدل الملك الناصر صلاح الدين يوسف قد أدهش الأوروبيين في ذاك العهد، فكانوا هم يعاهدون فينكثون أما هو هو، فما عاهد ونكث قط، وكثيرا ما كان بعض خاصته من متعصبة المشايخ الذين لا يعرفون سياسة الملك ولا حسن إدارة الفتوحات، يريدونه على أن يعامل الصليبيين بعملهم في الانتقام من أسراهم عنده كما فعل أولئك، وقتلوا مرة مئات من أسرى المسلمين، فما كان جوابه إلا الإعراض عن مقترحاتهم، والعمل بسنة اللين واللطف حتى استهوى القلوب الشاردة وأحبه أعداؤه قبل أوليائه، وهذا من أندر النوادر في الملوك، وناهيك بعصره الذي كان عصر التعصب الديني في الغرب والشرق أيضا، فالصليبيون جاءوا هذه الديار مدفوعين بعوامل الدين واستنقاذ بيت المقدس من المسلمين، وهؤلاء قاموا باسترجاع البلاد بهذا العامل القوي أيضا.
قال عبد المنعم الجلياني أحد شعراء الملك الناصر صلاح الدين من قصيدة يعلل فيها السبب الذي من أجله أحب الفرنج صلاح الدين:
وفيت لهم حتى أحبوك ساطيا
بهم ووفاء العهد قيد المخاصم
فخانوا فخابوا فانتدوا فتلاوموا
فقالوا خذلنا بارتكاب الجرائم
وخص صلاح الدين بالنصر إذا أتى
بقلب سليم راحما للمسالم
فحطوا بأرجاء الهياكل صورة
لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم
يدين لها قس ويرقى بوضعها
ويكتبه يشفى به في التمائم
ملك مصر والشام والجزيرة والعراق واليمن، والملك لما يستتب له على ما يجب، فاستطاع بعقله وإخلاصه لأمته ووطنه أن يدفع غارات الأوروبيين عن أرض الشام ومصر بعد أن رسخت أقدامهم قرنين كاملين، واستجاشوا لهم الأنصار وحشروا من جميع أمم أوروبا العدد الكثير، وبذلوا في ذلك من المال والرجال ما يقدر بالملايين والربوات أن هذا من عجائب التاريخ، تقف كتائب من العرب والترك والأكراد في موقف القتال مع الفرنسوي والألماني والإنكليزي والمجري والإيطالي والإسباني والنمساوي والسويسري وغيرهم من أمم الإفرنج، فيبز الأولون الآخرين على قلة عددهم، ولكن الجيوش قد لا تؤتى من قلة أكثر مما تؤتى من سوء السياسة وعتو القواد والاستهانة بالشورى، وما كان المدافع كالمهاجم في وقت من الأوقات.
ومع هذا الملك الضخم الذي كان لصلاح الدين كان يعيش عيش المتوسطين، وينفق بحيث تكاد تعده إلى الإسراف، فقد كانت قطيعة الصلح بينه وبين الإفرنج في القدس مثلا أن يؤدوا عن كل رجل عشرين دينارا، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، وعن كل ذكر صغير أو أنثى دينارا واحدا، فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أخذ أسيرا، فأقام صلاح الدين يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال، ويحبو بها الفقهاء والعلماء والزهاد والوافدين عليه، ولم يرحل عن القدس ومعه من المال الذي جبي له شيء، وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألف دينار، قال في البرق : سمعت الملك العادل (أخو صلاح الدين) يوما في أثناء حديثه في ناديه، وهو يجري ذكر إفراط السلطان في أياديه يقول: إني توليت قطيعة القدس، فأنفذت له ليلة سبعين ألف دينار، فجاءني خازنه بكرة وقال: نريد اليوم ما نخرجه في الإنفاق، فما عندنا مما كان بالأمس شيء، فنفذت له ثلاثين ألف دينار أخرى في الحال، قالوا: وكان يرضى من الأعمال بما تحمل صفوا عفوا، وكله يخرج في الجود والجهاد.
وكان يكتفي من اللباس بالكتان والقطن والصوف، ومجلسه منزه عن الهزء، ومحافله حافلة بأهل الفضل، قال العماد: وما سمعت له قط كلمة تسقط ولا لفظة فظة تسخط، يؤثر سماع الأحاديث، ويكلم العلماء عنده في العلم الشرعي، وكان لمداومته الكلام مع الفقهاء ومشاركته القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية، وكان من مجالسه لا يعلم أنه مجالس السلطان، بل يعتقد أنه مجالس أخ من الإخوان، وكان حليما مقيلا للعثرات متجاوزا عن الهفوات تقيا نقيا، وفيا صفيا، يغضي ولا يغضب، ما رد سائلا، ولا صد نائلا، ولا أخجل قائلا، ولا خيب آملا.
أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء، بحيث كان إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولا حسنا، وإن لم يكن بعبارة الفقهاء، وكان شديدا على الفلاسفة والمعطلة والدهرية، وكان مواظبا على صلواته وصيامه عادلا رحيما ناصرا للضعيف على القوي، وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرا وحضرا على أنه كان في جميع أوقاته قابلا لما يعرض عليه من القصص كاشفا لما ينهى إليه من المظالم.
كان من عظماء الشجعان، قوي النفس، شديد البأس، عظيم الثبات، لا يهوله أمر، وصل في ليلة واحدة من الإفرنج نيف وسبعون مركبا إلى عكا، وهو لا يزداد إلا قوة نفس وكان يعطي دستورا (أي يسرح عسكره) في أوائل الشتاء، ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عدتهم الكثيرة، إذ كان عدد جيشهم لا يقل عن خمسمائة إلى ستمائة ألف، ومع هذا تراه صابرا هاجرا - في محبة الجهاد في سبيل الله - أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه، قانعا من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تضربها الرياح يمنة ويسرة، وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو كل يوم مرة أو مرتين إذا كان قريبا منهم، وإذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة، يرتب الأطلال ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها، وكان يشارف العدو ويجاوره.
انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا، حتى القلب ورجاله، ووقع الكوس والعلم، وهو ثابت القدم في نفر يسير، فانحاز إلى الجبل يجمع الناس، ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا، ولم يزل كذلك حتى عكس المسلمون على العدو في ذلك اليوم، وقتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس، ولم يزل مصابرا لهم، وهم في العدة الوافرة إلى أن ظهر له ضعف المسلمين فصالح وهو مسئول من جانبهم، فإن الضعف والهلاك كان فيهم أكثر، ولكنهم كانوا يتوقعون النجد والمسلمون لا يتوقعونها، وكانت المصلحة في الصلح.
ولقد كان بركب للحرب وهو على غاية المرض كما فعل يوم عكا، وقد اعترته دمامل ظهرت عليه من وسطه إلى ركبته بحيث لا يستطيع الجلوس، وكان مع ذلك يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر يطوف على الأطلاب، ومن العصر إلى صلاة المغرب وهو صابر على شدة الألم وقوة ضربات الدمامل، وكان يعجب من ذلك فيقول: إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل.
ومع كل هذه الصفات التي نعدد منها ولا نعدها لكثرتها وإجماع المؤرخين من العرب والإفرنج عليها، كان السلطان حسن العشرة، لطيف الأخلاق، طيب الفكاهة، حافظا لأنساب العرب ووقائعهم، عارفا بسيرهم وأحوالهم، حافظا لأنساب خيلهم، عالما بعجائب الدنيا ونوادرها، بحيث كان أصحابه يستفيدون في محاضرة منه ما لا يسمعون من غيره، وكان يستحسن الأشعار الجيدة، ويرددها في مجالسه، وكثيرا ما ينشد قولهم:
وزارني طيف من أهوى على حذر
من الوشاة وداعي الصبح قد هتفا
فكدت أوقظ من حولي به فرحا
وكاد يهتك ستر الحب بي شغفا
ثم انتبهت وآمالي تخيل لي
نيل المنى فاستحالت غبطتي أسفا
وكان يعجبه قول ابن المنجم في خضاب الشيب:
وما خضب الناس البياض لقبحه
وأقبح منه حين يظهر ناصله
ولكنه مات الشباب فسودت
على الرسم من حزن عليه منازله
وكان يسأل الواحد منهم عن مرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أحواله، وكان طاهر المجلس لا يذكر بين يديه أحد إلا بالخير، وطاهر السمع فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا بالخير، وطاهر اللسان فما شوهد مولعا بشتم قط، حسن العهد والوفاء، فما أحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على مخلفه وجبر قلبه وأعطاه خبز مخلفه، وسلمه إلى من يكفله ويعنى بتربيته، وكان لا يرى شيخا إلا ويرق له، ويعطيه ويحسن إليه.
قال ابن شداد: ولقد رأيته، وقد مثل بين يديه أسير إفرنجي قد أصابه كرب بحيث أنه ظهرت عليه أمارات الخوف والجزع، فقال للترجمان: من أي شيء يخاف؟ فأجرى الله على لسانه أن قال: كنت أخاف قبل أن أرى هذا الوجه، فبعد رؤيتي له وحضوري بين يديه أيقنت أني ما أرى إلا الخير، فرق له ومن عليه وأطلقه، قال: ولقد كنت راكبا في خدمته في بعض الأيام قبالة الإفرنج، وقد وصل بعض اليزكية ومعه امرأة شديدة التخوف كثيرة البكاء متواترة الدق على صدرها، فقال اليزكي: إن هذه خرجت من عند الإفرنج، فسألت الحضور بين يديك وقد أتينا بها، فأمر الترجمان أن يسألها قصتها، فقالت اللصوص: المسلمون دخلوا البارحة إلى خيمتي وسرقوا ابنتي، وبت البارحة أستغيث إلى بكرة النهار فقال لي المملوك: السلطان هو أرحم، ونحن نخرجك إليه تطلبين ابنتك منه، فأخرجوني إليك وما أعرف ابنتي إلا منك، فرق لها، ودمعت عينه، وحركته مروءته، وأمر من ذهب إلى سوق العسكر يسأل عن الصغيرة من اشتراها، ويدفع له ثمنها ويحضرها، وكان قد عرف قضيتها من بكرة يومه، فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه، فما كان إلا أن وقع نظرها عليها، فخرت إلى الأرض تعفر وجهها في التراب والناس يبكون على ما نالها، وهي ترفع طرفها إلى السماء ولا نعلم ما تقول، فسلمت ابنتها إليها، وحملت حتى أعيدت إلى عسكرهم.
ولقد كان يسمع من المستغيثين والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع، ويلقى ذلك بالبشر والقبول دلالة على حرية وسعة صدر، وقد كان يوما بعض خدمه يلعبون بسرموزة (بانتوفل) في ناحية، فوقعت على رأسه، فأدار وجهه كأنه لم يحدث شيء، وتظاهر بأنه لم ير شيئا، وكان الحافظ بن عساكر يدخل قصره يقرأ الحديث، فكانت جلبة الخدم ترتفع، فتكرر ذلك حتى قال الحافظ يوما: ما هذا؟ كنا في عهد نور الدين ندخل هذا المكان، والناس كأن على رءوسهم الطير، إشارة إلى أن صلاح الدين يتساهل مع خدمه ملقيا حبلهم على غاربهم.
لما فتح صلاح الدين القدس وغيرها من السواحل، ولم يبق في أيدي الصليبيين إلا عكا وصور وغيرها من البلاد التي لا شأن لها، ورأى أن المشيب أنذره بقرب الأجل عقد العزم على الحج إلى بيت الله الحرام، فلما بلغ القاضي الفاضل كتب إليه مشيرا بتبطيله: إن الفرنج لم يخرجوا بعد من الشام، ولا سلوا عن القدس، ولا يوثق بعدهم في الصلح، فلا يؤمن مع بقاء الفرنج على حالهم وافتراق عسكرنا وسفر سلاطيننا سفرا مقدرا معلوما مدة الغيبة فيه أن يسيروا ليلة، فيصبحوا في القدس على غفلة، فيدخلوا إليه بالعياذ بالله، ويفرط مد يد الإسلام، ويصير الحج كبيرة من الكبائر التي لا تغتفر، ومن العثرات التي لا تقال إلى أن يقول: يا مولانا! مظالم الخلق كشفها أهم من كل ما يتقرب به إلى الله، وما هي بواحدة في أعمال دمشق من المظالم من الفلاحين ما يستغرب معه وقوع القطر، ومن تسلط من المقطعين على المنقطعين ما لا ينادي وليده، وفي وادي بري والزبداني من الفتنة القائمة والسيف الذي يقطر دما ما لا زاجر له، وللمسلمين ثغور تريد التحصين والذخيرة، ومن المهمات إقامة وجوه الدخل وتقدير الخرج بحسبها .
ملأت أوقاف صلاح الدين مصر والشام وهي غير منسوبة إليه، قال ابن خلكان: ولقد فكرت في نفسي من أمور هذا الرجل، وقلت: إنه سعيد في الدنيا والآخرة، فإنه فعل في هذه الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها، ورتب هذه الأوقاف العظيمة، وليس فيها شيء منسوبا إليه في الظاهر. ا.ه. مات صلاح الدين ولم يخلف مالا عن 57 عاما، وخلف سبعة عشر ولدا ذكرا وابنة، ولم يخلف سوى دينار واحد بعد أن دخلت في يديه ثروة الفاطميين، وجبي إليه خراج البلاد المفتتحة، وحاز مغانم الصليبيين مرات.
تغيب السلطان صلاح الدين أربع سنين في فتح القدس وغيرها من بلاد الساحل وفلسطين، لم يدخل خلالها دمشق مع أنه «كان يحب البلد، ويؤثر فيه الإقامة على سائر البلاد»، فرأى أولاده الأفضل والظاهر والظافر وأولاده الصغار، وأقام في دمشق أياما يتصيد هو وأخوه الملك العادل أبو بكر بن أيوب وأولاده «ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الصبا، وكأنه وجد به راحة مما كان فيه من ملازمة التعب والنصب وسهر الليل ونصب النهار، وما كان ذلك إلا كالوداع لأولاده ومرابع نزهه»، وبينا هو على ذلك ونفسه تحدثه بزيارة مصر بعد طول الغيبة عنها ناداه مولاه فلباه فأبكى المقل وأدمى الحناجر.
مات - رحمه الله - والألسن تذكره بالمحمدة حتى قيام الساعة، فكان رجلا يعد بعشرات الملايين، وكم من ألوف لا يساوون واحدا وواحد يساوي ألوفا، مات وقد زلزل المسلمون لفقده، كما كتب القاضي الفاضل في ساعة موته إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب من بطاقة: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، كتبت لمولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه، وجبر مصابه، وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة، وقد زلزل المسلمون زلزالا شديدا، وقد حفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر، وقد ودعت أباك ومخدومي وداعا لا تلاقي بعده، وقد قبلت وجهه عني وعنك، وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضيا عن الله عز وجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء، وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك يا يوسف لمحزونون، وأما الوصايا مما يحتاج إليها، والآراء فقد شغلني المصاب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم، والسلام.
مصطفى كامل1
في وفاة فقيد الوطن والصحافة التي اهتم لها أهل القطر عامة، وأبانوا في احتفالهم بتشييعه ومأتمه عن عواطف شريفة وشعور حي نام، أعظم درس يتدارسه المصريون، ولا سيما النابتة الجديدة منهم.
وصف الفقيد العزيز بما وصف به من الأوصاف التي هو جدير بها، وذرفت الدموع لهول المصاب به في إبان شبابه، وأكبرت الأمة أعماله وأقواله، وقامت بالواجب من إكرامه وإجلاله، كل هذا حق وكل هذا بزعماء النهضات وقادة الأفكار جدير، ولكن إذا صارت تلك الروح التي كانت بالأمس تهيج العواطف، وتلعب بالقلوب إلى جوار ربها، فالواجب علينا أن نبحث في السر الذي اهتدى إليه صاحبها الراحل، فأثر هذا الأثر المحمود في هذه الحقبة القصيرة من الزمن.
كثيرون مثله كانوا يدخلون المدارس ويتعلمون ويتهذبون، فتراهم وهم صغار في المدرسة نفوسا تتلهب غيرة، وقلوبا تتأوه على قرب أوقات العمل لتأتي بما يجب عليها نحو أمتها ومجتمعها ونفسها، فما هو إلا بضع سنين حتى تتبدل أفكارهم وينطبعون بطابع غير الذي كنت تعهده فيهم.
التاريخ - كما يقولون - يحكم لمصطفى كامل فيما أتاه من الخير لهذه البلاد، وإن كانت أعماله عند المنصفين أعظم شاهد حي على أن الرجل لم يكن مبرأ من العيوب، ولكن محاسنه تربو كثيرا على نقائضها، وهذا ما ننشده في رجالنا، ونتمنى لو يكثر الأفراد الذين على شاكلته من أكثر الوجوه في كل فرع من فروع العمل في هذا الجهاد العالمي.
مصطفى كامل قال وكتب وخطب وجاهد وناضل ونافس وقاوم وتعب، وقد كافأته أمته على حسن صنيعه بأن بذلت نحوه عواطفها حيا وميتا، فذهب مأسوفا عليه مذكورا بالرحمة، وطوي بساطه بما عليه، ولكن أمته حية كبيرة كل يوم تلد ولاداتها، وكل يوم يدفن رجالاتها.
إن غاب مصطفى كامل فلا ينبغي أن تغيب عنا سيرته الذكية، وكيف وصل إلى المجد المؤثل والعز الأقعس، هو لم يؤت من المواهب ما لم يؤته أحد من العالمين، بل امتاز بامتياز واحد، ويا له من امتياز امتاز «بإرادة» تعمل، والإرادة هي رأس ماله، وهي في أفراد الشرق قليلة، ويا للأسف إرادة مصطفى كامل هي التي بلغت به ما بلغت، وهو فتى قبل الثلاثين، فما بالك لو كان بلغ السبعين والثمانين.
صحة الإرادة هي التي تنقص أبناء الشرق؛ ولذلك تراهم - وإن تعلموا وتهذبوا - يظلون وراء الغربيين في جهاد الحياة، وإن فاقوهم بعض الأحيان في الذكاء والنشاط، وكلما كانت الإرادة في صاحبها أقوى كان تأثيره أشد وعمله أسد.
يحزنني والله أن أرى كل يوم في مصر من الأفاضل المهذبين ما لم أحلم بوجود أمثالهم من قبل، ثم تراهم - وبعضهم ممن تهيأت لهم أسباب النعمة - خاملين خائفين ضعافا في الإرادة إلى حدائهم، إذا قاموا ببعض الواجبات يخشون أن تزول عنهم نعمتهم، ويحل بهم الويل والثبور.
لو كان المتعلمون منا يعلمون كل بما فيه من إرادة ما يجب عليهم عمله، لما أتى علينا ربع قرن إلا وقد نشأ لمصر عشرات من أمثال مصطفى كامل، منهم في السياسة، ومنهم في العلم، ومنهم في الأدب، ومنهم في المال، ومنهم في إصلاح الأخلاق، ومنهم في إصلاح البيوت، ومنهم في غير ذلك. وليس معنى هذا أن يكون في الأمة ألوف مثل مصطفى كامل في السياسة، فإن أفرادا فيها يكفون، ولكن يجب أن يكون عشرات في كل فرع من فروع المجتمع، فالعالم الذي يعلم الناس فيخرجهم من الظلمات إلى النور، والأديب الذي يرقق شعورهم، والكاتب الذي يؤثر فيهم، والكيماوي الذي يعلمهم صنع الأسمدة ومعالجة التربة، والزارع الذي يتوفر على البذر والغرس، والمهندس الذي يحفر الأقنية والترع ويتعهد السدود والجسور، والصانع الذي يحيك النسيج، ويصنع الصفيح والمصفح، كل هؤلاء ومئات من غيرهم ممن يتعاطون الحرف الضرورية في العمران ليسوا إذا كانت لهم إرادة كإرادة مصطفى كامل في الفرع الذي توفر على خدمة حياته إلا نافعين، يرتفع بهم الرأس كما يرتفع الآن رأس المصري الوطني بذكر مصطفى كامل.
حب الشهرة من العوامل القوية في قيام المجتمعات، فمن كان ولعه بالشهرة على أصوله تلحقه عن استحقاق ولا يلحقها، كانت شهرته نافعة له ولأمته، ولا يلام في حب الشهرة إلا من يغالي فيها ويجعلها ديدنه ودينه، كما لا يلام في حب الأثرة إلا المغالي فيها أيضا، والأثرة أو حب الذات موجودة في فطر البشر وإن اختلفت درجاتها، فصحة الإرادة هي التي نطلب أن تنتشر بين هذه الأمة انتشار العاطفة الوطنية، فإذا كثرت فينا ففيها ولا شك عن مصطفى كامل أكبر عزاء، وإذا لم تنم في أفرادنا فنقول ما يقوله بعضهم: إن مصطفى كامل كان فلتة من فلتات مصر، ولمصر في كل مدة رجل كبير تمتاز به يرتجل بين الرجال، وتنصره على أي حال، ويكون موضوع عجب الأجيال بعد الأجيال.
النبوغ المصري1
يا سادتي ويا إخواني
منذ نحو مائة سنة والقطر المصري ينهض نحو الترقي، ويحتذي مثال الغرب في نهوضه، وكان من قبل لولا جامعة الأزهر الدينية أشبه بكثير من بلاد العرب في قلة العلم والنور، وبالأزهر المعمور لم ينفك المصريون على اختلاف أعصارهم وأدوارهم أن يكون فيهم من إذا سئل سدد في علوم الشريعة وما يلزمها من علوم اللسان.
ولقد خلد التاريخ اسم «محمد علي الكبير» جد الأسرة المالكة الحالية بما أسداه إلى مصر من الأيادي البيضاء، فأنعشها من سقطتها، وأيقظها من طويل رقدتها، ولو كتب له تحقيق جميع أمانيه الشريفة لكان العرب اليوم من أرقى الدول الكبرى في العالم، فإنه - رحمه الله - لم يترك بابا من أبواب النهوض المادي والعلمي إلا وطرقه على أجمل صورة، وعمل بجميع الأسباب لحياة مصر.
وكان لعلماء الفرنسيس الذين استصحبهم نابوليون في حملته على مصر والشام يد طولى في وضع أساس هذه النهضة المباركة على النظام الأوروبي، وعد علماء فرنسا من بعد العامل الأقوى في معاونة محمد علي على إسعاد القطر، ثم جاء علماء الإنكليز والألمان والطليان وغيرهم من أمم أوروبا، وخدموا مصر بتنظيم سككها وإصلاح ريها، وإحياء زراعتها، واستخراج آثارها وإنماء القوى المفكرة العاملة في بنيها.
نعم، كان العلم في مصر حتى الثلث الأخير من القرن الماضي لا يتعدى إلا قليلا دائرة الدينيات والأدبيات، ولمحمد علي الكبير يرجع الفضل الأكبر في بث مبادئ العلوم التي يسمونها خطأ الحديثة، إذ كان لأجدادنا فيها القدح المعلى، وهم الذين نقلوها إلى أمم الحضارة الحديثة مشفوعة بأبحاثهم وزياداتهم واختراعاتهم، وبعد عهد محمد علي ضعفت العناية بالعلوم كان انقطع سندها دهرا طويلا، وكادت البلاد تدخل في سبات مؤلم وتنبت مميت، كان ضعف العلم بعد عهد شارلمان في فرنسا، وبين محمد علي وشارلمان شبه كبير في التناغي بحب المعارف والفضائل، وكذلك حدث في الآستانة بعد دور الفاتح، فانقطعت الرغبة في العلم بموت السلطان محمد الثاني، وكاد يزال كل ما أسسه لإحياء معالمه. والارتقاء والانحطاط، ولا سيما في هذا الشرق القريب تبع للفرد أكثر من الجماعة، فإن أسعد الحظ الأمة بسلطان عاقل عادل سعدت ونجحت والعكس بالعكس.
ولما انتهى في مصر دور الناقلين والمترجمين والجامعين والمقتبسين في بعض ضروب العلم، جاء دور الباحثين والمؤلفين والمبدعين، واستطاع المصريون بإصلاح شئونهم الاقتصادية أن يتلقوا العلم الصحيح في جامعات الغرب، فكان لهم على الدوام بضع مئات من الطلبة، وكثر ارتحال الأوروبيين إلى مصر، وطواف المصريين إلى أوروبا، واشتد التمازج بين المصري والغربي، فاقتبس المصري بعض ما ينقصه من أساليب النهوض، وكان لإدخال الإصلاح على الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي والحقوق والزراعة والهندسة وغيرها من المدارس العالية والثانوية والابتدائية، ولا سيما الكتاتيب في القرى والمزارع، ما نراه من آثار نهوضها، فندهش له ونهش، وكلما كثر سواد المتعلمين هناك جاءت منهم طبقة أمثل من التي سبقتها، وتراجع كل نتفة في العلم والصنائع، وأصبحت الكلمة للأخصائيين والمفننين، وكلما استحكمت حلقات هذا الرقي استغنت مصر عن الغريب، واكتفت بعقول العاملين من رجالها، سنة الخالق في النشوء والارتقاء.
تطورت مصر في نهضتها الأخيرة أطوارا كثيرة، فكان الضعف يعروها تارة والقوة تصاحبها أخرى، وكان يعد نوابغ رجالها بادئ بدء بالآحاد، فأمسوا يعدون اليوم بالمئات، وكلما امتزج المصري بعنصر آخر من العناصر الشرقية حسنت ملكاته، وصحت على الترقي إرادته ونياته، وقد نبغ لعهدنا رجال ليسوا مفخرا من مفاخرها فقط، بل هم مفخر العرب والشرق عامة، ومنهم والحق يقال أفراد لا يقلون عن أرقي علماء الغرب في ذكائهم ومضائهم وبحثهم ودرسهم، وذلك في مجموع العلوم البشرية، ولا سيما في الهندسة والكيمياء والتصوير والطبيعة والحقوق والطب والجراحة والسياسة والإدارة، ومن أعظم نوابغها زميلنا - أحد أعضاء المجمع العلمي العربي - المرحوم أحمد كمال باشا، الذي نحتفل الآن بتكريم اسمه، واستمطار الرحمات عليه، فقد كان أجزل الله ثوابه مثال النبوغ المصري وآخر طراز كامل من أفراد الدهر، رزق صفات العالم العامل، وصرف نقد عمره في خدمة الآثار، ولا سيما علم الآثار المصرية حتى أصبح على صعوبة هذا الفن وحداثته الحجة الثبت فيه، فكان إذا كان ذكر في الغرب والشرق علم الآثار المصرية يتمثل في شخصه ويتجسد في جهاده، عمل هذا بعيدا عن الجعجعة في زاوية صغيرة من بلده، فعمت شهرته الخافقين، ولم تخف جلائل أعماله على الغريب دع القريب.
أيها السادة، إذا قام مجمعنا بتعداد بعض مآثر نابغة الشرق في الآثار، فإنه يقضي واجبين: واجب للعلم بتكريم أحد حملته وأساطينه، وواجب آخر أعم وهو التنويه بذكر النابغين من المصريين، وتمجيد النهضة العلمية المصرية التي لها الفضل الأعظم على نهوض العرب النازلين في أرجاء القارتين العظيمتين آسيا وأفريقيا.
لمصر ولرجال مصر، ولا نكران للجميل، أثر ظاهر في الأمة العربية والإسلام، فإذا ذكرنا مصر فإننا نذكر آخر دولة انحطت من ممالك العرب وأول دولة نهضت فيه، إننا بترداد اسم مصر نذكر أمة حفظت لنا تراث الأجداد، ننوه بشعب كريم احتفظ بلساننا ومشخصاتنا، ولولا مصر بعد عهد الجراكسة والترك لاضمحلت العربية ومقوماتها، ولتأخر نهوض العرب قرونا، وكنا أقرب إلى الاندماج في غيرنا من العناصر المتغلبة، ولساءت حالنا العلمية أكثر مما ساءت، وشاهدنا ونشاهد تخريباتها في جسم جامعتنا ومجتمعنا.
انتفع الشام - وهو القطر الشقيق الأصغر لمصر المحبوبة - بالنهضة المصرية أكثر من عامة الأقطار العربية للجوار وأواصر القربى وكثرة التشابه بينهما، ولأن أقدارهما في عهد الدول الإسلامية كانت واحدة وحياتهما الاجتماعية متجانسة، هكذا كانت مصر والشام في دولة الراشدين والدولة الأموية فالعباسية فالطولونية فالفاطمية فالأيوبية، فدولة الأتراك المماليك، فدولة الجراكسة، فدولة الترك العثمانية، وكانت مصر منبعث حضارة في معظم أزمانها، كما كانت في العقود الأخيرة من حياتها ملجأ ومعتصما للأحرار، ومباءة ممتازة للعلم الإسلامي تأخذ عنها الأقطار والأمصار.
نعزي مصر بفقيدها النابغة ونحييها بهذه المناسبة، ونرجو لها حياة طيبة بأبنائها النجباء، نحيي بها أهم جزء من بلادنا العربية طالما حنى على العرب وحمل النور إليهم مغتبطا، مصر اليوم باريز العرب وعاصمتهم الأدبية تشبه إيطاليا في عهد النهضة أواخر القرون الوسطى، وكان سرى منها ضياء المعارف والفنون إلى سائر ممالك أوروبا، فقامت بتأثيرها المدنية الغربية الحديثة، ومن مصر سار أمس ويسير اليوم وسيسير غدا شعاع من هذا النور النافع، فيعم خيره الأصقاع العربية كافة، ويومئذ يغتبط العرب، ويهنئون لإبرازهم بفضل قرائح بنيهم آثارا حسنة في العلم والصناعة، كما فعلت يابان في القرن الماضي، وعندئذ يعيد الشرق إلى الغرب ما كان استبضعه من بضائع العلوم والصناعات، ويقضي الدين مع الشكر وبرد القرش عشرة، فنعد شيئا من مجموعة المدنية الحاضرة، كما كنا في العصور السالفة كل شيء، وكان لنا الأثر المحمود في تكوين المدنية الغابرة.
والآن أترك الكلام لرصيفي الأستاذ معلوف يتلو على مسامعكم صورة مصغرة بل مجسمة من عمل عضونا الذي فجعنا بفقده، يتمثل لكم فيها النبوغ المصري أحسن تمثل، ونرفع تعازينا وأسفنا من ضفاف بردي إلى بني قومنا على شطوط النيل المبارك لفقد رجلهم ورجلنا العزيز، ونطلب له من المولى تعالى العفو والرضى والرحمة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
Shafi da ba'a sani ba