أيها السادة، إذا قام مجمعنا بتعداد بعض مآثر نابغة الشرق في الآثار، فإنه يقضي واجبين: واجب للعلم بتكريم أحد حملته وأساطينه، وواجب آخر أعم وهو التنويه بذكر النابغين من المصريين، وتمجيد النهضة العلمية المصرية التي لها الفضل الأعظم على نهوض العرب النازلين في أرجاء القارتين العظيمتين آسيا وأفريقيا.
لمصر ولرجال مصر، ولا نكران للجميل، أثر ظاهر في الأمة العربية والإسلام، فإذا ذكرنا مصر فإننا نذكر آخر دولة انحطت من ممالك العرب وأول دولة نهضت فيه، إننا بترداد اسم مصر نذكر أمة حفظت لنا تراث الأجداد، ننوه بشعب كريم احتفظ بلساننا ومشخصاتنا، ولولا مصر بعد عهد الجراكسة والترك لاضمحلت العربية ومقوماتها، ولتأخر نهوض العرب قرونا، وكنا أقرب إلى الاندماج في غيرنا من العناصر المتغلبة، ولساءت حالنا العلمية أكثر مما ساءت، وشاهدنا ونشاهد تخريباتها في جسم جامعتنا ومجتمعنا.
انتفع الشام - وهو القطر الشقيق الأصغر لمصر المحبوبة - بالنهضة المصرية أكثر من عامة الأقطار العربية للجوار وأواصر القربى وكثرة التشابه بينهما، ولأن أقدارهما في عهد الدول الإسلامية كانت واحدة وحياتهما الاجتماعية متجانسة، هكذا كانت مصر والشام في دولة الراشدين والدولة الأموية فالعباسية فالطولونية فالفاطمية فالأيوبية، فدولة الأتراك المماليك، فدولة الجراكسة، فدولة الترك العثمانية، وكانت مصر منبعث حضارة في معظم أزمانها، كما كانت في العقود الأخيرة من حياتها ملجأ ومعتصما للأحرار، ومباءة ممتازة للعلم الإسلامي تأخذ عنها الأقطار والأمصار.
نعزي مصر بفقيدها النابغة ونحييها بهذه المناسبة، ونرجو لها حياة طيبة بأبنائها النجباء، نحيي بها أهم جزء من بلادنا العربية طالما حنى على العرب وحمل النور إليهم مغتبطا، مصر اليوم باريز العرب وعاصمتهم الأدبية تشبه إيطاليا في عهد النهضة أواخر القرون الوسطى، وكان سرى منها ضياء المعارف والفنون إلى سائر ممالك أوروبا، فقامت بتأثيرها المدنية الغربية الحديثة، ومن مصر سار أمس ويسير اليوم وسيسير غدا شعاع من هذا النور النافع، فيعم خيره الأصقاع العربية كافة، ويومئذ يغتبط العرب، ويهنئون لإبرازهم بفضل قرائح بنيهم آثارا حسنة في العلم والصناعة، كما فعلت يابان في القرن الماضي، وعندئذ يعيد الشرق إلى الغرب ما كان استبضعه من بضائع العلوم والصناعات، ويقضي الدين مع الشكر وبرد القرش عشرة، فنعد شيئا من مجموعة المدنية الحاضرة، كما كنا في العصور السالفة كل شيء، وكان لنا الأثر المحمود في تكوين المدنية الغابرة.
والآن أترك الكلام لرصيفي الأستاذ معلوف يتلو على مسامعكم صورة مصغرة بل مجسمة من عمل عضونا الذي فجعنا بفقده، يتمثل لكم فيها النبوغ المصري أحسن تمثل، ونرفع تعازينا وأسفنا من ضفاف بردي إلى بني قومنا على شطوط النيل المبارك لفقد رجلهم ورجلنا العزيز، ونطلب له من المولى تعالى العفو والرضى والرحمة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
Shafi da ba'a sani ba