وهكذا يتضح لنا مقدار تعقيد هذه القضية التي ظن ديكارت أنها ذات يقين مباشر؛ فهي في الواقع تتضمن في ذاتها معظم المشاكل الميتافيزيقية وتتركها دون حل؛ ومن هذه المشكلات: من أين أتيت بكلمة التفكير؟ ولم أومن بالعلة والمعلول؟ وعلى أي أساس أتحدث عن «أنا»، وعن «أنا» ينظر إليه على أنه علة، بل على أنه علة للتفكير؟ لا شك أن كل ما يمكن أن يستخلص من قضية ديكارت هذه هو: «ثمت تفكير، إذن فثمت مفكر.» ولكن حتى لو أخذت العبارة بهذا المعنى الذي ينطوي على تناقض أقل، فإنها عندئذ تنطوي على اعتراف بفكرة الجوهر، وتأكيد أنها صحيحة أوليا، وهنا يسارع نيتشه إلى نقد هذا الاعتراف قائلا: «أما الاعتقاد بأنه عندما يفكر في شيء فلا بد من وجود شيء هو الذي يفكر؛ ذلك الاعتقاد الذي جعل ديكارت يقول: «أنا أفكر» حين شعر بتفكير؛ فإنه ليس إلا تعبيرا عن الاستعمال النحوي الذي اعتدنا عليه، والذي يضع لكل فعل فاعلا. وبالاختصار، فهنا نكون إزاء افتراض سابق ذي صبغة منطقية ميتافيزيقية، لا إزاء قضية مباشرة. فاتباع الطريق الذي سلكه ديكارت لا يوصل إلى أي شيء يقيني، وإنما يوصل إلى اعتقاد راسخ شاع طويلا بين الناس.»
9
وفي هذا النقد الذي وجهه نيتشه إلى قضية ديكارت؛ أعني إلى فكرة الذات بوصفها جوهرا قائما بالتفكير، نلمس مثلا آخر من أمثلة الاقتراب بين تفكير نيتشه وبين المذاهب الوضعية الحديثة. فعند «آير
Ayer »، ذلك المتحدث المعروف بلسان الوضعية المنطقية، نجد نقدا مشابها لفكرة ديكارت؛ إذ يؤكد أن كلمة «أنا أفكر» كان يجب أن تحل محلها كلمة «هناك فكرة الآن»، ولو قيل هذا، فليس في وسعنا أن نستنتج منه وجود الأنا، لأن حدوث فكرة في لحظة معينة لا يستدعي أن تكون هناك أفكار أخرى قد حدثت من قبل، وبالأحرى لا يؤدي إلى ربط متسلسل بين الأفكار، وتكوين ذات واحدة جامعة بينها.
10
ولا يقتصر التشابه الذي نشير إليه هاهنا على فكرة الذات المفكرة فحسب، بل إنه يمتد إلى نقد فكرة العلية؛ فالقول بالعلة والمعلول ليس إلا محاولة منا لتنظيم العالم على نحو يجعله معقولا ومقبولا، وما هو إلا بعث لإيقاع منظم وسط عالم خلا من كل نظام وغائية. والقول بالعلية هو تنسيق لتلك الحوادث المتعاقبة التي تجري في نهر التحول الدائم، وهو بعث للمعقولية فيها، والهدف الغائي في هذه الحالة هو بدوره نفع الحياة، ومحاولة السيطرة على الأشياء، أو على الأقل وضع العالم في صورة قريبة من أفهامنا، ملائمة لنا، وفي نقد يشبه كثيرا ذلك النقد الذي بدأ به هيوم، والذي ورثته عن الوضعية المنطقية، يؤكد نيتشه أن مجرى الحوادث المتعاقبة لا يسمح لنا على الإطلاق بأن نقف عند البعض لنسميه عللا، وعند البعض الآخر لنسميه معلولات، ومجرد توالي الحادثتين ليس دليلا على أن في إحداهما القوة التي تولد الأخرى، وهي القوة التي تنطوي عليها فكرة العلية.
وليس لفكرة القوة هذه من مصادر إلا التشبيهات الإنسانية، التي تجعلنا نعتقد بأن بين الحوادث علاقة تشبه علاقة الإرادة الإنسانية بما يصدر عنها من آثار. فكل من لا يفكر، يعتقد أن الإرادة وحدها هي الفاعلة، والإرادة عنده شيء بسيط، مجرد معطى، لا يرد إلى غيره، مفهوم في ذاته، وهو على يقين عندما يفعل شيئا، كأن يسدد ضربة مثلا، أنه هو الذي ضرب، وأنه ضرب لأنه أراد أن يضرب ... فهو لا يعرف شيئا عن آلية الحادث، وعن مئات الأفعال الدقيقة التي لا بد أن تكون قد تمت حتى تحدث تلك الضربة، وعن عجز الإرادة في ذاتها عن أن تقوم بأبسط جزء من هذه الأفعال ... فالإرادة عنده قوة سحرية فعالة، والاعتقاد بالإرادة، بوصفها علة لمعلولات هو الاعتقاد بقوى سحرية فعالة. على أن الإنسان في الأصل كان يؤمن كلما صادف حادثا بأن ثمت كائنا شخصيا ذا إرادة، يؤثر في ذلك الحادث خفية؛ وكانت فكرة الآلية أبعد الأفكار عن ذهنه ... فالقول بأنه لا معلول بلا علة ولكل معلول علة ... هو تعميم لقول آخر أضيق نطاقا هو: «حيثما يقع فعل، تكون هناك إرادة ...»
11
ومما لا شك فيه أن نظرية التحول الدائم عند نيتشه كانت دعامة قوية من دعائم نقده للعلية، وقد أعانته كثيرا في تصويره لحوادث العالم بصورة التيار المتواصل الذي لا يسمح بتثبيته وتنظيمه من خلال مقولة العلة والمعلول.
وهكذا يوالي نيتشه نقده للمقولات الميتافيزيقية الرئيسية، ويهدم كل الأفكار المتفرعة عن هذه الأسس، مثل فكرة الشيء في ذاته،
Shafi da ba'a sani ba