6
وهكذا لا يكاد المرء يجد مفرا من فكرة العالم الآخر التي فرضت على الإنسان بشتى الصور. فإذا لم يقتنع بذلك العالم على الصورة التي ترسمها له الأديان، فسوف يجده في الميتافيزيقا مرة أخرى على صورة أدق وأكثر إقناعا، مغلفا بإطار منطقي دقيق، وموصوفا بأرفع الصفات وأعلاها؛ فهو عالم المثل أو الأفكار أو العقل الخالص، وله ثبات ونقاء لن تجد لهما في عالمنا نظيرا، فمن يستطيع أن يقاوم إغراء الالتجاء إلى مثل ذلك العالم، وإغراق يأسه وعجزه فيه؟
ولا تكتفي الميتافيزيقا التقليدية بخلق ذلك العالم، ومحاولة البرهنة على وجوده، بل إنها تؤكد أنه هو «العالم الحقيقي». أما عالمنا هذا فعالم ظواهر فحسب. وهنا تصل تلك الميتافيزيقا إلى أعلى درجات التطرف؛ إذ إن مجرد التسليم بوجود عالمها الخاص أمر ليس بالهين، وعواقبه على السلوك الإنساني وخيمة، فما بالك بالقول إن ذلك العالم هو الحقيقي، وإن عالمنا عالم ظواهر وخداع؟ الحق أن الفكرة بأسرها يجب أن تجتث من جذورها.
7
فوجود ذلك العالم الميتافيزيقي لا سبيل إلى القطع به، وكل البراهين التي تقدم لإثباته براهين واهية سرعان ما تنهار إذا ما تعرضت للبحث الدقيق. وحتى لو سلمنا بوجود هذا العالم الميتافيزيقي، فلن يكون لنا من سبيل إلى معرفته؛ ذلك لأن الطابع المطلق الذي يضفى عليه، والصفات الأزلية التي تنسب إليه، تجعله يعلو على الأفهام الإنسانية ويتجاوز حدودها. فبين ذهننا وبين ذلك العالم - على افتراض وجوده - حواجز لا يمكن تجاوزها. وهكذا يظل العالم الميتافيزيقي بالنسبة إلى الإنسان كأنه لم يكن، وفي وسعنا أن نلمس في نقد نيتشه للعالم الميتافيزيقي تشابها قويا مع النقد الوضعي المنطقي الحديث، وخاصة حين يؤكد أن معرفتنا بذلك العالم مستحيلة، حتى لو وجد؛ فهو في هذه الفكرة يكاد يقترب من الموقف الوضعي القائل إن القضايا الميتافيزيقية تقدم إلينا دون أن يكون هناك سبيل إلى الاهتداء للشروط التي نتحقق بها منها؛ أعني أنها قضايا لا يمكن اختبار صحتها عمليا، لأن شروط هذا الاختبار مستحيلة التحقق.
وحين ينتقل نيتشه إلى النقد التفصيلي للأفكار الميتافيزيقية الرئيسية، نلمس بينه وبين الموقف الوضعي والتجريبي بوجه عام مزيدا من التشابه، وهو تشابه بلغ من الوضوح، وخاصة في الجانب النقدي من تفكير نيتشه، حدا يؤدي بنا إلى أن نعجب لعدم اهتمام الباحثين بإجراء مثل هذه المقارنة، على الرغم مما تؤدي إليه من نتائج إيجابية مثمرة.
أولى هذه الأفكار فكرة الجوهر؛ فحولها تركزت الميتافيزيقا التقليدية، وعن طريقها أضفت على الكون صفة الثبات وأنكرت عليه التحول والصيرورة. والحق أن الصراع القديم بين الصورتين اللتين رسمهما هرقليطس وبارمنيدس للكون، قد انتهى بانتصار الصورة الثانية، فأصبح الكون كله يعد موجودا ثابتا، وإذا اعترف فيه بالكثرة، فتلك هي كثرة من الجواهر الثابتة أيضا. أما صورة هرقليطس فقد اندثرت، ولم يحاول أحد من الفلاسفة أن يبعثها ويدعو إلى قبولها بنفس الحماسة التي دعا بها إليها مبدعها.
والحق أن هذا التجاهل لفلسفة هرقليطس ينم عن شعور بالخوف من التحول والصيرورة؛ ذلك لأن تصور الكون منقسما إلى «جواهر» و«أشياء» يضفي عليه ثباتا يريح العقل والحواس، ويجعل إدراكه والتعامل معه أمرا هينا. أما لو تصورنا أن التغير الدائم هو الذي يسود، فعندئذ يفر كل شيء من أمامنا، وينجرف في تيار الصيرورة، فلا تستطيع أن تثبت منه جزءا لتتعامل معه أو تسيطر عليه. وعلى ذلك، ففكرة الشيء، التي فيها ينظر إلى مكونات العالم من خلال مقولة الجوهر، هي بدورها فكرة ترجع إلى نفس الأصل الذي يتحكم في طريقتنا في المعرفة؛ أعني إلى النفع الحيوي؛ فبدونها لم يكن في وسع الحياة أن تستمر وتواصل طريقها.
وإذا كان انعكاس فكرة الجوهر على العالم يولد فكرة الشيء، فإن لها انعكاسا آخر على الإنسان، يولد فكرة «الذات»؛ ففي هذه الحالة ينظر إلى الذات على أنها هي الأخرى جوهر ثابت، له كيانه الخاص الذي يقوم من وراء كل مظاهره الجزئية؛ فالذات هي المصدر الأول الذي تنبعث عنه مختلف الأفكار والمشاعر والإحساسات، وهي المركز الباطن في الشخصية الإنسانية، والعلة المنتجة لكل أفعالها. وطبيعي أن ينقد نيتشه فكرة الذات مثلما نقد فكرة الجوهر بوجه عام. فإذا شاء أن يهتدي إلى فيلسوف يتمثل لديه الإيمان بفكرة الذات واضحا، فلن يجد في ذلك خيرا من ديكارت؛ ذلك لأن ديكارت قد لخص الميتافيزيقا التقليدية كلها، وطبقها على الوجود الإنساني الباطن، حين قال: «أنا أفكر، إذن أنا موجود.» فهذا الأنا الذي يستدل على وجوده هو الذات الجوهرية الباطنة، التي هي أصل يرتد إليه كل فكر وشعور، وهي المركز الذي تلتقي عنده كل مظاهر فاعلية النفس الإنسانية، بل هي العلة المسببة لهذه المظاهر. وهنا يسارع نيتشه فيتساءل: هل هناك ما يبرر القول بوجود هذا الجوهر المركزي في النفس الإنسانية، من وراء مظاهره المختلفة؟ إن المبرر الذي يرتكز عليه ديكارت، هو اليقين المباشر للكوجيتو، ولكن نيتشه يسخر من الاعتقاد بوجود يقين مباشر لمثل هذه القضية الفلسفية ؛ إذ إنها في واقع الأمر تنطوي على سلسلة من المعتقدات التي يكاد يكون من المستحيل البرهنة عليها؛ «ففيها اعتقاد بأنني «أنا» الذي يفكر، وبأنه لا بد أن يوجد شيء يفكر، وبأن الفكر نشاط صادر وناتج عن كائن ينظر إليه على أنه علة وسبب، وبأن هناك «أنا»، وبأن معنى كلمة الفكر ثابت، وبأنني «أعرف» ما هو الفكر.»
8
Shafi da ba'a sani ba