المعنى الآخر والكلام منبئان عما أراد أن يشير إليه.
مثال ذلك قول الرماح بن ميادة:
ألم تك في يمنى يديك جعلتني ... فلا تجعلني بعدها في شمالكا
ولو أنني أذنبت ما كنت هالكًا ... على خصلة من صالحات خصالكا
فعدل عن أن يقول في البيت الأول: إنه كان عنده مقدمًا، فلا يؤخره، أو مقربا، فلا يبعده، أو مجتبى، فلا يجتنبه، إلى أن قال: إنه كان في يمنى يديه، فلا يجعله في اليسرى، ذهابًا نحو الامر الذي قصد الإشارة إليه بلفظ ومعنى يجريان مجرى المثل له، وقصد الإغراب في الدلالة والابداع في المقالة، وكذلك قول عمير بن الأيهم:
راح القطين من الثغراء أو بكروا ... وصدقوا من نهار الأمس ما ذكروا
قالوا لنا وعرفنا بعض بينهم ... قولًا فما وردوا عنه وما صدروا
فقد كان يستغنى عن قوله: فما وردوا عنه ولا صدروا، بأن يقو: فما تعدوه، أو فما تجاوزوه، ولكن لم يكن له من موقع الإيضاح وغرابة المثل ما لقوله: فما وردوا عنه ولاصدروا.
ومن هذا قول بعض بني كلاب:
دع الشر واحلل بالنحاة تعزلا ... إذا هو لم يصبغك في الشر صابغ
ولكن إذا ما الشر ثار دفينه ... عليك فأنضج دبغ ما أنت دابغ
فأكثر اللفظ والمعنى في هذين البيتين جار على سبيل التمثيل، وقد كان يجوز أن يقال مكان ما قيل فيه: دع الشر ما لم تنشب فيه، فإذا نشبت فيه فبالغ، ولكن لم يكن لذلك من الحظ في الكلام الشعري والتمثيل الظريف ما لقول الكلابي، ومن هذا قول الآخر:
تركت الركاب لأربابها ... وأكرهت نفسي على ابن الصعق
جعلت يدي وشاحًا له ... وبعض الفوارس لا يعتنق
وفي قوله: جعلت يدي وشاحًا له، إشارة بعيدة لغير لفظ الاعتناق وهي دالة عليه.
ومنه قول يزيد بن مالك الغامدي:
فإن ضجوا منا زأرنا فلم يكن ... شبيهًا بزأر الأسد ضبح الثعالب
1 / 59