وقلت لأتأكد: أظنهم نقلوهم بقى من حوالي عشرة أيام كده؟
فعادت إليه العصبية وهو يقول: لا لا لا، عشرة أيام إيه؟ أنت نايم حضرتك؟ دول من زمان، زمان خالص، من ثلاثة أشهر، لا لا لا، ييجي من أربعة أشهر!
وكدت أتوقف عن التنفس.
وكالتائه سألت: الله! بس ده فيه ناس في «العنبر»؟
فقال: آه! فيه ناس أيوه، بس دول تراحيل، مرة رجالة مرة ستات. تراحيل، يومين، أسبوع، أسبوعين وأنت وحظك.
وكدت أقهقه قهقهة من فقد العقل، وفي ألف ناحية جرى عقلي يفكر: أليس من الجائز رغم آلام الحب المروعة ألا تكون هناك فردوس بالمرة، بل من يدري؟ أليس من الجائز أن الهمس المسحوق كان همس رجل، ربما كان يعتقد أنه يخاطب به أنثى؟ أو ربما فعلها أو فعلتها للتسلية وكسر الملل في وقت طويل، طويل متشابه؟
ليلتها، قبل أن أنام قلت لنفسي: أليس هذا أروع ختام لقصة ذلك الحب؟ إنه على الأقل سيعفيني من آلام النهاية ومرارتها.
غير أن الشيء المذهل الغريب، الشيء الذي لم أتوقعه أبدا، ولا يمكن أن يصدقه إنسان، حتى أنا نفسي لا أكاد أصدقه، أن الغصة ظلت تعتريني وظل الألم ممدودا طويلا يعكر طعم الحياة في نفسي، وظلت «فردوس» حية في خاطري أكثر حياة من كل من عرفت من النساء.
ما خفي أعظم
لم يكن أحد قد رأى وجه امرأته رأي العين. كانت إذا خرجت ترتدي فستانا لامعا أسود، طويلا إلى حد يجرجر خلفها على الأرض، وطرحة سوداء ملتفة حول الرأس والوجه، ومن نسيج ضيق لا يظهر أبدا ما وراءه، وإذا خرجا سويا لا يسير بجوارها إنما أمامها بمشوار يسير، وبعد أمتار كثيرة تجدها وراءه كظله الأسود الذي انفصل وتجسد ودبت فيه الحياة، ولكنها لم تكن تماما كظله، فقد كانت سمينة تخينة مدكوكة، وكأنها أربع نساء أدمجن معا. وكان الشيخ «فقر» بعد فصله من الأزهر لرفعه الكرسي على أستاذه، وبعد صرمحته زمنا وإدمانه ل «دومينو والكوتشينة» إلى آخر مليم ورثه عن أبيه، وبقائه في البلدة يقتات من النفحات، حتى ضاق به الكرام قبل اللئام، قد أخذ في وجهه وصمم على أن يذهب للعمل في الإسكندرية. وقد ظل أسبوعا يجمع في أجرة السفر، ثم ذهب، ولكن أخباره لم تنقطع كلية عن مواطنيه، بين كل حين وحين يفد إلى البلدة عنه خبر، مرة أنه عمل كاتبا في الميناء، ومرة فتح «كشكا» للسجاير، ومرة ربح ورقة يانصيب بعشرين جنيها. ومضت سنوات وأخيرا فوجئوا به وقد عاد، ولكنه لم يكن وحده. لقد تزوج وجاءت معه زوجته، وما كاد يهبط من المحطة وهي خلفه ويراها الناس، حتى كتموا الضحكات؛ فرغم لثامها الشامل التام الذي أحالها إلى شبح أسود، فاللثام والسواد لم يستطيعا أن يخفيا تخنها، بل ربما أسهما في فضحه أكثر، تخنا لم يره أحد من قبل أو من بعد؛ فنساء القرية عجفاوات كعيدان القطن الجافة، وهذه «باسم الله ما شاء الله» ككيس القطن، أقصر منه قليلا إنما في تخنه بل ربما أتخن. ولا يدري أحد سر هذا الأمر بتاتا؛ فما يكاد الإنسان يراها إلا ويتصور الشيخ «فقر» معها في فراش واحد، بعصبيته التي لا حد لها، وعصاه الغليظة التي يسميها «الحكمدار»، وغضبه الذي ينشأ كالظواهر الكونية بلا سبب، وينفثئ كالظواهر أيضا بلا سبب، ووجهه المملوء بحفر قديمة نصف مردومة من آثار هجوم جدري قديم فاشل، تنبت بينها شعرات ذقن قليلة متباعدة، ولكنها كأشجار السنط البرية ناشزة مسنونة. وما يكاد الناظر يتصورهما معا في فراش واحد على هذا النحو، هي بتخنها وهو بحدته وعصبيته، حتى يظل يضحك ربما إلى أن يصاب بالمغص. والشيخ «فقر» لم يكن طبعا اسمه الشيخ «فقر» إنما كان اسمه الشيخ رابح، وحتى لقب الشيخ كان تجاوزا؛ فهو لم يكن يرتدي عمامة، إنما كان يمنحه الناس له، أو بالأصح يصر هو على أن ينادى به، وكأنما إمعانا في انتصاره على مدرسه السابق بالأزهر، ذلك الذي أكد له أنه أبدا لن ينجح في حياته أو يربح أو يحمل لقب شيخ من هنا إلى يوم الدين.
Shafi da ba'a sani ba