وفي كل مرة انتهت لي فيها قصة حب كنت - حين أتأكد من النهاية، وبرغم إطباق المأساة - أحس بنوع من الراحة، وكأن حملا ثقيلا انزاح عن كاهلي، ولكن حتى ذلك الشعور لم يعترني أو يخفف عني، بل ليت ما اعتراني أخذ شكل الحزن القاهر الواضح الحاد! إن هو إلا ذهول مستمر ذو نوبات. فجأة تتوقف اللقمة في حلقي، وأنا - وكأنما لأول مرة - أدرك أن ما حدث لن يعود، وأني أبدا لن أسمع مرة أخرى ذلك الحفيف الواهن الداق يأتيني صادرا تماما عن القلب إذ أحس به تماما في قلبي. انتهى وجودنا معا، وأصبحت وحدي نصف شيء لا يصلح للبقاء، ألم مستمر متصل لا ينقطع ولا يزول.
المؤلم أكثر أني كنت متأكدا أنه حتى ذلك الألم وتلك النوبات مصيرها إلى زوال، ومصيري إلى العودة إلى حياة السجن ذات اليوم المستمر الواحد، ولن أعود أنعم بالتذكر، حتى لو جاء على هيئة غصة أو ألم.
المؤلم أني مستمر، والحياة مستمرة، والكون كله قائم وموجود ومستمر، وما أبشع أن يستمر هذا كله بغيرها، بغير وجودها وحديثها وروحها وظلها!
بعد مرور تلك الفترة من أيام الحدة الأولى، كان شغلي الشاغل هو تلك الرغبة العارمة التي لم أكن أستطيع مقاومتها، الرغبة في الحديث عنها لإنسان، لأي إنسان، وإن لم يكن بالذات عنها، فعلى الأقل عنهن جميعا، عن المسجونات النساء، أو حتى عن النساء بشكل عام.
وجاءت مرة فرصة حين انتهت النوبة، وجاءت نوبة جديدة، وأصبح «الأومباشي عبد الفتاح» العصبي الرفيع ذو العصا حارسا لليل في الدور الذي أحتل إحدى زنازينه.
جاءت الفرصة لأني أعرف أن عبد الفتاح العصبي المتعجل في النهار غيره عبد الفتاح حارس الليل، حيث لا توجد عيون الشاويشية والضباط، وحيث لا عصا، وحيث يعود إلى طبيعته الصعيدية البسيطة، ويصبح الطريق إلى قلبه كوب شاي مصنوع على السبرتو المهرب، والطريق إلى لسانه سيجارة بلمونت.
وعبر باب زنزانتي المصنوع من عمدان حديدية متينة وقفنا بعد العشاء ندردش ونتحدث، وبمهارة قدت الحديث إلى قصة اللومنجي الذي ثقب الحائط ضاحكا، قائلا إني أنا نفسي طالما فكرت أن أصنع مثله، وشخشخ صدر عبد الفتاح وهو يضحك ويقول: بس المرة دي ح يطلع نقبك على شونة. أمال، على شونة.
وسألته: كيف؟
فقال: دول خلاص عزلوا، كل الحريم راح القناطر، كله كله عزل، كله، كله.
ودق الخاطر في رأسي، إذن هذا هو السبب في رحيلها المفاجئ لا بد.
Shafi da ba'a sani ba