Gangar Tsoho
النبع القديم: لوحات قصصية
Nau'ikan
قال الشيخ، الذي بدأت ملامحه تتضح مع انقشاع أستار الضباب والدخان: وهل بينت لهم خطر المحاولة وجسامة المجازفة؟ إن معلمي وأعز الناس وأطهرهم عندي قد راح كما تعلم ضحية المحاولة. حاول أن ينقذ سكان الكهف فانقضوا عليه، واتهموه وحاكموه وأعدموه.
قلت مؤكدا كلامه: لم يغب هذا عني، وسيبقى سقراط هو الرمز المجسد للمنقذ الشجاع المستنير، المنقذ الباسل والمقبل على الموت وهو يبتسم. لكن الأمر اليوم لم يعد سهلا كما كان على أيامكم ...
سأل أفلاطون وهو ينظر في وجهي: ولماذا يكون اليوم أصعب مما مضى؟ أليس الإنقاذ ضروريا في كل يوم وكل لحظة وكل زمان ومكان؟ أليس القلم الذي تحمله أنت وأمثالك المتمردون والحالمون بواقع أفضل وأجمل وأعدل من أهم أدوات الإنقاذ؟ أمنت على كلامه، وقلت بنغمة حزينة لم تغب عنه: لكن الخروج من الكهف والدعوة له أصبحت أصعب، والكاتب من أمثالي ينادي ويصرخ ولا يملك غير كلماته العاجزة. وفي الوقت الذي يصور فيه عذاب السجناء في الكهف، تدور عجلة الأحداث التي لا يستطيع أن يوقفها ...
قال الشيخ، قبل أن يتلاشى شبحه ويذوب تحت أشعة الشمس: ومع ذلك لا تتوقفوا عن محاولة الإنقاذ. لهذا عشت ولهذا أدعوك أنت وكل من يحمل قلما في يده أو ريشة أو إزميلا ... تذكروا أن الفكر إنقاذ والشعر إنقاذ والفن إنقاذ. ولا تنس يا صديقي أنه لن ينقذك سواك، ولن يغير العالم إلاك أنت وأمثالك.
سألت، قبل أن يختفي تمام الاختفاء: برغم الشيخوخة وفساد الأحوال وتعاسة الأوضاع والبشر؟
قال بصوته المتحشرج والمتهدج: وبسببها وفي غمارها، تشتد ضرورته وتتحتم المغامرة في سبيله.
محرقة الشعر
أما الشين في هذا العنوان فهي بالكسر لا بالفتح، ومن ثم فهو الشعر الذي خطر لي الآن أن أكتب عن حياتي معه أو بالأحرى عن مأساة حياتي. وأما المحرقة فهي مبالغة بلاغية، أرجو ألا تثير في الذهن أو الخيال شيئا من الفواجع التاريخية والإنسانية المرتبطة بهذه الكلمة البشعة. ذلك أن المحرقة التي أتحدث عنها لم تزد على أن تكون نارا بسيطة أوقدتها أمي، وأطعمتها بمسودات أشعاري التي تحولت في «الكانون» إلى دخان ورماد. كان ذلك في الإجازة السنوية التي أعقبت امتحان الشهادة التوجيهية (الثانوية العامة بلغة اليوم). رجعت إلى البلد من القاهرة، فوجدت في انتظاري صدمتين مروعتين. كانت الأولى اختفاء الدفاتر الصغيرة التي تضم أشعاري التي كتبتها عبر عدة سنوات، وخبأتها في الخزانة الخشبية القديمة التي خصصت أمي رفها العلوي الضيق لصف كتبي وكراساتي وأدواتي المدرسية، واحتفظت بالخانة السفلية الواسعة لتخزين التموين من الزيت والأرز والسكر. اكتشفت غياب الدفاتر الصغيرة العزيزة، وحين سألت أمي، قالت إن أبي وأخي الأكبر أبلغاها بأنها مملوءة بكلام فارغ، وأن أفضل ما يمكن عمله معها هو أن تصبح وقودا لتسوية شيء أجدى وأنفع ... لم أنطق بكلمة واحدة، ولم أجادل أمي التي لم تكن تقرأ أو تكتب، ولا تفرق بين الشعر والنثر. ذهبت إلى حجرتي، وقطي الأسود بستان يتمسح في قدمي ويموء ويئن كأنه يعزيني في مصابي، وأخذت أفكر فيما جرى. هل قضت أمي وأسرتي على حلمي الطموح بأن أكون شاعرا كبيرا قدوته ومثله الأعلى شعراء كبار قرأت لهم ما أمكنني قراءته، بل وعارضت بعضهم مثل شوقي والمعري وجوته ودانتي؟ وهل كان في الأشعار التي احترقت بيت واحد موزون أو بناء شعري بالمعنى الحقيقي؟ وإذا كان قد تردد فيها نفس شعري واحد، فلماذا رفضت الجريدة المحلية في البلد أن تنشر شيئا منها، ولماذا لم أسمع لها أي صدى في مجلة الرسالة التي تجرأت في العام نفسه بإرسال بعضها إلى إدارة تحريرها بالبريد المسجل؟ هكذا بدأ الشك والتفكير في التراجع عن طريق ربما لم أخلق له منذ اشتعلت تلك المحرقة الصغيرة ...
أما الصدمة الثانية، فنزلت على رأسي في الإجازة نفسها نزول الصاعقة. لقد بحثت وبحث الأهل والأصدقاء عن اسمي في قوائم الناجحين في التوجيهية فلم يجدوه، وذهلت إلى حد الجنون حين عرفت بعد ذلك أن المادة الوحيدة التي رسبت فيها هي اللغة العربية. كيف، وأنا شاعر كما تصورت وصور لي الأستاذ علام مدرس اللغة العربية في الإبراهيمية الثانوية؟ ألم يشجعني الرجل على قراءة بعض قصائدي أمام الفصل وفي المناسبات الدينية والسياسية المختلفة مثل: المولد النبوي وعيد جلوس الملك على العرش والاحتفال بذكرى عرابي ومصطفى كامل وسعد زغلول؟ أكان ذلك كله وهما وخداعا للنفس وتقليدا بائسا لشعراء حقيقيين بيني وبينهم بعد ما بين الأرض والسماء؟ فكرت أن رسوبي ربما يرجع لموضوع الإنشاء، الذي أغرقته في بحر من الصور والرموز المتأججة باقتباسات من بستان جبران المتوهج بالحرائق المجازية، وبدأت أعيد النظر في شاعريتي المستعارة التي لم ترق لسدنة اللغة الرسميين، كما لم أكن أنا نفسي حينما كتبت ما كتبت في ورقة الامتحان، فلم يخرج عن كونه أصداء باهتة وأضواء خافتة انعكست من مراياهم الصافية على مرآتي المظلمة المشوشة. كانت تلك فرصة ثانية لمراجعة أخرى صادقة، وإن لم تكن جذرية بالقدر الكافي. ورجعت إلى نصوص «المنتخب» الرائعة، فقرأتها بتأن وحفظت الكثير منها، وإلى النحو والصرف اللذين كانا على الدوام شوكة تدمي صدري وتمزق وجداني، فعكفت على تجويدها والتمكن منهما. وتواضعت خجلا أمام معبود الشعر القاسي، فلم أره وجهي طوال الإجازة الصيفية، واقتصرت على كتابة بعض القصص والحوارات المسرحية التي لم يغب عنها التأثر بالكبار، ولم تكن - كشعري الرديء الركيك - أكثر من محاولات رومانسية فجة وبلا أي قيمة. ونجحت بالطبع في الملحق، ودخلت كلية الآداب لأدرس الفلسفة وأتخصص فيها.
من الغريب حقا أن المحاضرات والقراءات الواسعة في التراث الفلسفي، حركت في نفسي روح الشعر التي تصورت أنها خمدت وأخلدت لنوم أهل الكهف. كانت القصائد القليلة التي كتبتها خلال السنوات الأربع بمثابة صياغات شعرية لآراء وأفكار وتأملات فلسفية تراكمت في نفسي نتيجة قراءات مستفيضة في بعض الفلاسفة الأدباء وبعض الأدباء الفلاسفة: محاورات أفلاطون الذي ملك علي كل حياتي، وصممت على قراءة ما استطعت من محاوراته في ترجماتها الإنجليزية والفرنسية (لجويت ودييس وغيرهما) لأكون ظلا وفيا له من ناحية، وأجيد هاتين اللغتين من ناحية أخرى، زرادشت نيتشه وبعض ما كتب عن بجانب ما أمكنني التوصل إليه من كتابات كافكا وكامي وغيرهما ممن لا أذكر الآن، باستثناء بعض أعلام المسرح اليوناني القديم والمسرح الحديث وبالأخص شو وأوسكار وايلد.
Shafi da ba'a sani ba